١
المرجعية الكلامية لأصول الفقه
تغلغلتِ الرؤيةُ العقائديَّةُ في مختلِف العلومِ
الإسلاميَّة، وظلَّت المفاهيمُ العقائديَّةُ التي
تبلورَت في مقولات المتكلمين فيما بعد، أحد أبرز
مرجعيات ومسلَّمات المفسِّرين والأصوليين والفقهاء
في صوغ آرائهم، واستند الكثير من الاختلافات في
اجتهاداتهم إلى تنوع مواقفهم الاعتقادية ومقولاتهم
الكلامية. وتخطَّى أثرُ المقولات الكلامية هذه
المجالات، وامتدَّ ليحسم اختيارات اللغويين لمعاني
الألفاظ في مدوَّناتهم أحيانًا، فقد يرجِّح أحدُ
اللغويين معنًى محدَّدًا للفظ من عدَّة معانٍ
متداولة له؛ حين يكون ذلك المعنى قريبًا من رؤيته
الكلامية، بينما يستبعد كلَّ ما لا يقترب من شبكة
آرائه العقائديَّة.
وبالرغم ممَّا نالَهُ المتكلِّمون من تبجيلٍ
واحترام في القرون الأولى، خاصَّة عند الخليفةِ
المأمونِ في العصر العباسي، غير أنَّ الاشتغالَ
بعلم الكلام أضحى مغامرةً بعد المحنة، فانحسر نفوذُ
المتكلِّمين في البلاط العباسيِّ، وانصرف الدارسون
إلى الفقه، باعتبار الاختلافِ في الفتاوى
والاجتهادات الفقهية، لا يفضي إلى المقاضاة، أو
الخروج على «الاعتقاد القادري»، الذي جرى بموجِبه
تسييج المعتقَد في إطارٍ مغلَق، لا يصحُّ تجاوزُه
أو التفكير خارج مداراته.
تغلغلتْ أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي
عامَّة المسلمين، فبدا الكثيرون منهم ينظر بارتياب
إلى الفكر الكلاميِّ، بل تنامتْ هذه الحالةُ، وصارت
العلومُ العقليَّةُ برمتها يُنظر إليها بتوجُّس
ورِيبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه
العلوم، حتى اضطر ذلك بعضَ المهتَّمين بها للتمسُّك
بالتقيَّة والتكتُّم على معارفه، خشية إثارة حنَق
العامَّة، خاصةً وأن بعض خصوم الكلام عمَدوا إلى
صوغ خطاب تحريضيٍّ ضد علم الكلام ومن يتعاطاه، وهذا
ما ظهر في أسماء كتبِهم. فمثلًا كتب أبو إسماعيل
عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي (٤٨١ﻫ) كتابًا
بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ)
كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفَّق
الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) كتاب «تحريم النظر
في كتب أهل الكلام».
٢
ومع ذلك بقي علمُ الكلام حيًّا، وواصل نموه
وتطوُّره، وتكرَّست أنساقه المعروفة بعد المحنة،
فالنَّسق المعتزلي عُرف كبار متكلميه، ودُوِّنت أهم
مصنَّفاته في الفترة اللاحقة على المحنة، وهي
الفترة التي تكاملت وتبلورت فيها المنظومةُ
الكلاميةُ للاعتزال على يد أبي الحسين الخياط
(ت٣٠٠ﻫ/٩١٣م)، وأبي علي الجُبَّائي (ت٣٠٣ﻫ/٩١٥م)،
وابنه أبي هاشم (ت ٣٢١ﻫ/٩٣٣م)، وأبي القاسم
البَلْخي (ت٣١٩ﻫ/٩٣١م)، وأبي بكر بن إخشيد
(ت٣٢٦ﻫ/٩٣٨م)، وأبي عبد الله البصري (ت٣٦٩ﻫ/٩٨٠م)،
وأبي إسحاق بن عياش (ت٣٨٦ﻫ/٩٩٦م)، وأبي رشيد
النيسابوري (ت٤٠٠ﻫ/١٠٠٩م)، والقاضي عبد الجبار بن
أحمد (ت٤١٥ﻫ/١٠٢٥م)، وأبي الحسين البصري
(ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م)، وأبي محمد الحسن بن مَتُّوَيْه
(ت٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م) … وغيرهم.
كما أنتج التشيُّع الإماميُّ أبرزَ متكلِّميه في
هذه الفترة، مثل: أبي سهل النُّوبَخْتي
(ت٣١١ﻫ/٩٢٤م)، والشيخ المفيد (ت٤١٣ﻫ/١٠٢٢م)،
والشريف المرتضى (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٥م)، والشيخ الطُّوسي
(ت٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م)، والقاضي أبي الفتح محمد بن علي
الكَرَاجكي (ت٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م)، ونصير الدين الطُّوسي
(ت٦٧٢ﻫ/١٢٥٢م)، والعلامة الحِلِّي
(ت٧٢٦ﻫ/١٣٠٦م).
وعرَف التشيُّع الزيدي كبار متكلِّميه زمن المحنة
وبعدها، مثل: القاسم بن إبراهيم الرَّسِّي
(ت٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)، والحسن بن زيد (ت٢٧٠ﻫ/٨٨٤م)، ويحيى
بن الحسين الهادي إلى الحق (ت٢٩٨ﻫ/٩١١م).
أما التسنُّن فقد ظهرت فرقُه الكلامية وأبرز
متكلِّميه يومذاك، كأبي الحسن الأشعري
(ت٣٢٤ﻫ/٩٣٥م)، وأبي منصور الماتُرِيدي
(ت٣٣٣ﻫ/٩٤٤م)، وأبي بكر الباقِلَّاني
(ت٤٠٣ﻫ/١٠١٢م)، وأبي بكر بن فُورَك (ت٤٠٦ﻫ/١٠١٥م)،
وأبي المعالي الجُوَيني (ت٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م)، وفخر الدين
الرازي (ت٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م)، وعضد الدين الإيجي (ت٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م).
٣
لقد توارَى المتكلِّمون عن الحضور في بلاطات
السلاطين وأروقة قصور الخلفاء، واستأثر جماعة من
الفقهاء والمحدِّثين بامتيازات، وحظوة عالية في تلك
الأماكن، وانصرف معظمُ الدارسين لتعلُّم الفقه
والاستغراق في مذاهبِه، والتعرُّف على مواطن الخلاف
بين الفقهاء، وتعلُّم أساليب استدلالهم ومناهج
الاستنباط المتعارَفة لديهم، ومقدماتها من العلوم،
حتى أمسى الفقهُ ملاذًا آمنًا لمن يروم التفرُّغ
للدراسات الشرعية.
إلا أنَّ المقولات الكلاميَّة واصلت حضورها في
التفكير الفقهي، وترسَّخت بالتدريج كإطار مرجعي
يوجِّه هذا التفكير، بعد استعارة أصولِ الفقه لهذه
المقولات، وتشكيل قواعد استنباط الأحكام الشرعية في
ضوئها. وواصلت مفاهيمُ علم الكلام نفوذَها على
الدوام في التفكير الأصولي، واستمرَّت مهيمنةً على
مسارات هذا التفكير وموجِّهة له، وإن كانت لا
تتبدَّى بوضوح في مساحات عريضة منه، لكننا نعثر
عليها مستترةً خلف أصول الفقه.
فمثلًا: نلاحظ في كتاب «الرسالة» للإمام للشافعي،
وهو الكتاب الأول الذي وصلنا في أصول الفقه،
والأهمُّ في صوغه لمبادئ ومنطلقات ومقولات هذا
الفن، أنَّ المباحث التي بنى على أساسِها قواعدَه
وترسيماته هي مرتكزات عقائديَّة، كالبحث في مفهوم
الحُكْم، وتصور الله سيِّدًا ونحن عبيده، وافتراض
وجود أحكام وأوامرَ ونواهٍ صادرةٍ عن الله إلى
عبيده، وأن الإنسان إذا علم بأمرٍ صادرٍ عن الله
تجبُ عليه طاعتُه، باعتبار اللهِ سيِّدًا والإنسان
عبدًا، والسيد هو من تجب طاعتُه على العبد، أي إنَّ
الدافع الذي يجعلُ الإنسانَ يطيع الأمرَ هو
الإقرارُ للهِ بالسِّيادةِ، والإقرار بالسِّيَادَةِ
قضيَّة كلاميَّة. فعندما يقرر الأصوليُّون قاعدةَ:
«إنَّ الأمرَ يدلُّ على الوُجوب»، تبتني هذه
القاعدة على حُكْمِ العقل بلزوم امتثال الأمر، إنْ
كانَ صادرًا عن ذروةٍ وجِهة عليا، أي من مَولًى
مثلما يصطلح القدماء، ومضمون كونِ جِهةٍ ما مَولًى
هو أنَّه واجبُ الطاعة، مضمون المَولَوية وجوب
الطاعة والانقياد والامتثال، فافتراض المَولَوية
يعني افتراض حق الطاعة، وافتراض وجوب الامتثال،
واستحقاق العقاب على المخالفة. بمعنى أنَّ مجرد
علمنا بصدور الأمر عن الله بوصفه المولى تعالى يعني
أنَّ هذا الأمر حُجة، والحُجيَّة هي وجوب الامتثال،
فبمجرد افتراض صدور الأمر عن مولًى يعني وجوب
الامتثال في رتبة سابقة، وهذه مسلَّمة اعتقاديَّة
مفروضة في رتبة سابقة، تستقي منها صيغةُ الأمر
الدلالةَ على الوجوب.
٤
وكان أبرزُ أعلام أصول الفقه كالقاضي عبد الجبار
وأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي
وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والفخر
الرازي من أشهر أعلام علم الكلام وأهم المصنِّفين
فيه، بل يمكن إرجاع أسباب تميُّز أبحاثهم في علم
الأصول وذيوع وصفهم بالإبداع والتجديد فيه إلى
تخصُّصهم بمباحث علم الكلام وانشغالهم بمناقشاته،
وتمكُّنهم من آلياته ومفاهيمه واصطلاحاته. إنَّ
آراء المتكلِّمين ومنحاهم في دراسة المسائل
الأصولية وإنْ تحولت لاحقًا إلى أسلوب خاصٍّ بهم
عُرف ﺑ «طريقة المتكلمين». إلا أنَّ بداية حضورهم
التي رافقتْ تشكيلَ علم أصول الفقه كانت تُدْرَجُ
في مؤلَّفات الأصول المبكرة تحت عنوان: «قول
المتكلِّمين في المسألة».
٥
وفي مراجعةٍ للكتابات المتأخِّرة في الأصول عند
الإماميَّة نلاحظ كثافةَ الاستناد إلى القواعدِ
الكلاميَّة، واشتقاق القضايا والمفاهيم الأصوليَّة
منها. فمثلًا: صارتْ مجموعةٌ من المقولات والقواعد
الكلامية مرتكزاتٍ محوريَّة في بناء فرضيات وقواعد
ومواقف الأصوليين، مثل: قاعدة «اللطف»، و«الحسن
والقبح العقليين»، و«قبح العقاب بلا بيان»، و«حق
الطاعة»، و«عدم التكليف بما لا يطاق»، و«عدم صدور
القبيح عن الحكيم».
٦ كما استلهم الأصوليُّون مفاهيمَهم من
قواعد أخرى، مثل: «الإرادة التكوينية للواجب لا
تكون منافية لاختيارية أفعال الإنسان»،
٧ و«إرادة الواجب علمه بالمصلحة والنظام الأحسن»،
٨ و«تخلُّف مراد الواجب عن إرادته
التكوينية محالٌ لا التشريعية»،
٩ و«حدوث الممكن بلا علة محالٌ»،
١٠ و«صفات الواجب متغايرة مفهومًا
ومتَّحدة مصداقًا»،
١١ و«ما يلزم العجز والجهل في حق الواجب محال»،
١٢ و«ما ينتهي إلى ما لا يكون بالاختيار
فهو غير اختياري»،
١٣ و«وجوب دفع الضَّرر».
١٤
الإنتاج الفقهي هو الأثْرَى والأوسع من بين
كافَّة أنْمَاطِ الإنتاج المعرفيِّ للمسلمين، فهو
المعرفةُ التي انخرط فيها معظمُ المهتمين بالدراسات
الإسلامية في العصور الأخيرة، إذ تسيَّدت على
غيرِها من معارفِ الدين، وصارتْ سلطة معرفية لكلِّ
من يتخصص بدراستها، بها يمتلك تفويضًا لإضفاء
المشروعيَّة على أيِّ معرفةٍ أخرى أو نفيِها، وتضعه
في مقامِ مَنْ يحتكر حقَّ الإذن للغير لدراسة
الحقول الأخرى للمعرفة الدينية.
مضافًا إلى ما يحصل عليه المشتغلون في الفقه من
امتيازات ومكاسب من الأوقاف والفرائض الماليَّة.
لذلك تراجعتْ دراسةُ علوم القرآن والتفسير،
واضمحلَّت دراسةُ المعقول في القرون الأخيرة، ولم
يتفرَّغ التلامذةُ لدراسة المنطق والفلسفة وعلم
الكلام، فضلًا عن العرفان النظريِّ، واضطر
المهتمُّون بهذه المعارف إلى الاختباء والتكتُّم في
تعلُّمها أحيانًا، أو دراستها على هامش دراستِهم
للفقه وأصولِه، في بعض الحواضر المعروفة، التي
عادةً ما تغضُّ النظر عن التعاطي معها.
إثر ذلك تراكمت المدوَّنةُ الفقهيَّة واتَّسعت
أفقيًّا، بعد أن تم تأليف الكثير من المتون الفقهية
في كلِّ مذهب، وتوالت الشُّروح والحواشي والتعليقات
على كلِّ متن، حتى تجاوزتْ أحيانًا عشرين ألف صفحة
تقع في أكثر من أربعين مجلدًا. وكان الفقه يترهَّل
وتستبدُّ به مشكلات مزمنة، يعيد تكوينها على
الدوام، وتتكرس أدواتُه وأساليبُه المتوارثة في
الاستنباط، ويكرِّر ذاتَه باستمرار، من دون أن
ينفتح على فضاءاتٍ أخرى، تمنحه القدرةَ على مواكبةِ
الحياة، والإصغاء لإيقاع المتغيرات الشديدة
التنوع.
وعلى الرغم من أن دعواتِ إعادةِ فتح باب
الاجتهاد، وإعادة بناء المدوَّنة الفقهية انطلقت
منذ أكثر من قرنين، بيد أنَّ معظم هذه الدعوات
تفتقر إلى تشخيص المأزق الحقيقي لانسداد الآفاق،
الذي انتهى إليه الفقهُ، وما زالت تفسيراتُها
تبسيطيَّة، تشدِّد على بعث أصولِ الفقه وتوظيف
العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي. وما خلا
الاتجاهَ الذي اهتمَّ بإحياء مقاصد الشريعة، لا
نعثر على محاولات جادَّة لتشخيص الانسداد الفقهي،
واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، بل إن الاتجاه
المقاصدي الحديث ما انفك يكرِّر كلام الشاطبي، من
دون أن يعمل على توظيف مقاصده في اجتهاد مواكب
للعصر، بل عجز عن الإفلات من تقليد أعلام الفقهاء
واجترار ما قالوه. ويمكن استثناء جهود الشيخ محمد
الطاهر بن عاشور في دروسه التي ألقاها على طلبة
جامع الزيتونة، ثم نشرها في كتابه الموسوم «مقاصد
الشريعة الإسلامية» عام ١٩٤٧م، بوصفها من أفضل
المحاولات جِديَّة في التفكير المقاصدي الحديث، ومع
ذلك فإنها تقف عند حدود التغيير الشكلي في أسلوب
الممارسة التشريعية، كما أنها رهينة الأُطُر
المعرفية الكلاسيكية، والقيم السائدة ضمنها.
١٥
٢
لا يمكن تجديد الفقه من دون تجديد المعارف
المنتجة له
إنَّ إشكالية الفقه مندرجة في إشكالية التراث
بأسره، من هنا ينبغي أنْ يُعَادَ النَّظر في نسيج
المعارف الموروثة المولِّدة للفقه، وتجري غربلتُها
واختبارُ صلاحيَّتها، ومعرفة إمكاناتها وقدرتها على
عبور سياقاتها الزمانية والمكانية، واستجابتها
للوفاء بالمتطلبات التشريعية في هذا العصر. ولا يصح
أنْ نستثني القواعدَ الأصوليَّة من كونِها معرفة
أنتجها عقلٌ ينتمي إلى أُفُقِه التاريخيِّ الخاصِّ،
وإنما يجب أن نتعامل معها في ضوء ذلك الأفق، أي
أنها معرفة تاريخية، لا تتوافر على إمكانات
استثنائية تتعالى بها على الواقع المنتَجة في
داخله، ونمط التفكير الذي صاغها، ومشاغل العصر
المنبثقة منه ومفاهيمه ورُؤاه.
لا يمكن تجديدُ الفقه ما لم نستأنفِ النَّظر في
نمطِ المناهج المتوارثة في دراستنا للدين، وللظواهر
والمعارف المرتبطة به، وتجليات الدين في الحياة،
فبدلًا من أن يكون الدينُ هو المفسِّر الشامل
للأشياء والكون والعالم، لا بدَّ أن يغدوَ ظاهرةً
تخضع لما تخضع له أي ظاهرة تخضع للتفسير، من حيث
إمكان فهمها، وتحليلها، واكتشاف مدياتها، ومنابع
إلهامها، ومعرفة آليات اشتغالها.
١٦ أي إنَّ الدين بدلًا من أن يكون
مفسِّرًا لا بُدَّ أن يكون مفسَّرًا.
إنَّ الدراسات الحديثة للدين ليست بصدد بحثٍ
معياريٍّ له، أو الحديث عن الصِّدق والكذب، أو
الصِّحَّة والبطلان بشأنه، وإنما تُعنَى بتفسير
الدين وتعبيراته الرُّوحية والأخلاقية والنفسية
والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، عبر
تطبيق الباحث لمناهج ومعطيات العلوم الإنسانية
والمعارف الراهنة، على النصوص والموروث الديني
وتجلِّيات الدين في الواقع. إنَّ وصف الظواهر
الدينيَّة وتفسيرها من أهم أهداف البحث في الرؤية
الجديدة للدراسات الدينية. في حين نجد في الرؤية
التقليدية أنَّ البحث الديني يستهدف فهمَ العالم
عبر تعاليم الدين وتفسيرها، وتبريرها، والبرهنة على صدقها.
١٧
وليس هدف هذه الرؤية جحود الدين، أو إنكار وظائفه
الرُّوحية والمعنوية والأخلاقية والنفسية والجمالية
والرمزية والاجتماعية، وإنما هدفها توظيف المكاسب
الراهنة للعلوم في دراسة وتحليل ومُساءلة
التجلِّيات والتعبيرات الدينية في حياةِ الفرد
والمجتمع، واكتشاف منابعها وحدودها وآثارها
ومعطياتها.
إنَّ تحليل طبيعة المعرفة الدينيَّة، وتشخيص
مصادر تشكيلها، وكيفية تكوُّنها، والعَلاقة بينها
وبين مختلِف المعارف العلمية والإنسانية، وكيف أنَّ
تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يقود إلى تحولات
مهمة في المعرفة الدينية، ويفضي إلى نمو وتطور
التفكير الفقهي، فإنَّ فهم الدين ليس مستقلًّا عن
فهمِ الطبيعة؛ بمعنى أنَّ للفهم في كل عصر هندسةً
خاصة، والفهم الديني ابن عصره، وأن إضافة ضلع أو
إنقاص ضلع من هندسة المعرفة البشرية المتعددة
الأضلاع، يغيِّر شكلَ هذه المعرفة. ذلك أنَّ العلوم
الجديدة حين تجتاح عالمَنا لا تترك معارفَنا
السابقة على حالها، وإنما تتصرف في مضمونها، بحيث
تسلِّحنا بمنظار بديل يعطيها صورة جديدة، إنها
بمثابة عدساتٍ بديلة لمعاينة العالم واكتشافه من
جديد.
إن المعرفة الدينيَّة كأي معرفةٍ أخرى، هي حصيلة
جهد البشر وتأملاتهم، وهي دائمًا مزيج من الآراء
الظنية واليقينية، والصواب والخطأ، ولا شك في أنَّ
الوعي البشريَّ كلَّما تنامى واعتمد على مقدمات
وأدوات علمية صحيحة، اتَّسعت لديه مساحة الصواب
وتقلَّص الخطأ. وهذا لا يعني أنَّ الوحي الذي أتى
به الأنبياءُ يكمله البشر، وإنما يعني أن فهم البشر
لمضامين الوحي وكلماته يتطور تبعًا لتطور العلوم
والمعارف البشرية، أي إن المقدَّس والكامل هو
الوحي، أمَّا الفهم البشري له فإنه ليس كاملًا ولا مقدسًا.
١٨
إن ما يفهمه البشر من الدين في مختلِف البيئات
الثقافية والاجتماعية ليس كاملًا مَهْما كان.
والقراءة المتأنية العميقة للميراث الفقهي والأصولي
ترينا أنَّ ما تَرَاكَمَ من قواعد أصولية وفقهية
وفتاوى إنما هي معطيات معرفيَّة منجزة في سياقاتٍ
تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعية خاصَّة، ولا يمكن
تجريدُها من بصمات العصر المنبثقة فيه، مثلما لا
يصحُّ فصلُها عن المشروطيَّة الزمانية والمكانية
والثقافية لمن أنتجها، فهي منخرطة في تاريخ أصحابها
وتحمل تواقيع فهمهم وبصمة تفكيرهم، ولا يصحُّ
التعاطي معها بوصفِها حقائق أو جواهر مثاليَّة
تتخطَّى الواقعَ الذي وُلدتْ فيه. إنها ليست عابرةً
للمحدِّدات والظروف والمحيط الذي تبلورتْ في داخله،
فهي مرتهنة بالفضاء الخاصِّ ومسلَّمات الفقيه
والأصولي الذي صاغها ودوَّنها؛ ذلك أنَّ
«المسَبَّقات الفكرية لكلِّ فقيه، ونمط معرفته
بالعالم الخارجي المحيط به، تؤثِّر في فتاواه، بحيث
إن فتوى العربي تفوح منها رائحةُ العرب، وفتوى
الأعجمي رائحةُ العجم، وفتوى القروي رائحة القرية،
وفتوى المدني رائحة المدينة»،
١٩ بحسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري. إنَّ
الفقيه والأصولي يصدران في النتائج التي يخلُصان
إليها، عن النظام المعرفي السائد في عصرهما، وعن
الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسَها
في ذاك العصر.
٢٠ فإنسان اليوم هو إنسان نظرياتِ
ومتطلَّباتِ وظروفِ اليوم، وإنسان الأمس هو إنسان
نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ الأمس، وليس بوسع
الإنسان أن يتجرد منها أو يفكر خارجها، بل يتأثر
بها بدرجةٍ ما.
٣
الرؤية الكلامية وأثرها في الفقه
الرؤية الكلامية هي التي تحدِّد رؤيةَ الإنسان
للعالم، وتصوغ موقفَه حيال إلهه، فالمواقف عند
المتكلِّمين والفلاسفة والمتصوِّفة والعارفين
وغيرهم حيال الألوهية ليست واحدة، وهكذا مفهومهم
للإنسان ونمط عَلاقته بالله يختلف تبعًا لذلك، فهو
يتشكل في فضاء رؤيتهم الكونية. فمثلًا: من يستند
إلى مباني أرسطو في إثبات وجود الله، لا يستطيع أن
يفهم الله في القرآن بنحوٍ لا ينسجم مع تلك المباني،
٢١ وهكذا من يتوكَّأ على منظور العارفين
في إثبات وجود الله وعَلاقة الإنسان به، لا يمكن أن
يفهم النص بشكل مغاير لذلك المنظور. هكذا يستقي فهم
النصوص وتأويلها منظوراته من الرؤية الكونيَّة،
ويتحدد في فضائها، ويمدُّ علمُ الكلامِ الفقهَ
وأصولَه بالرؤى والمسلَّمات، التي تشكل وجهة نظره
حيال مجالات الفقه وحدوده، وإمكانات الامتداد
بالأحكام الشرعية زمانيًّا، وفي مختلِف الظروف
والمناسبات، أو ما يُصْطَلَحُ عليه بالإطلاق
الأزمانيِّ والأحواليِّ للأحكام.
ويشدِّدُ أصولُ الفقه على أنَّ إطلاق الأحكام
وشمولها لكافة العصور، ومختلِف الظروف، والحالات،
مستفاد من الأدلة اللفظية الواردة في الكتاب
والسنة، إذ إن عدم تقييد الأدلة وتخصيصها يدل على
استيعابها وعمومها، بناءً على ما يُعرف لدى
الأصوليين في هذا العصر ﺑ «قرينة الحكمة»، وهي
قرينة عامة يفصح عنها حالُ المتكلم، في أنَّ كل
متكلِّم في مقامِ بيانِ تمامِ مرادِه بخطابِه، فما
لم يقلْه لم يُرِدْهُ، ولمَّا لم يُقَيِّدْ ما
نَطَقَ به، إذن فهو لا يريد المقيَّد، وإنما مرادُه
المُطلق، بمعنى أنَّ الظهورَ الحاليَّ الذي تعتمد
عليه قرينةُ الحكمة مفاده هو ألا يكون هناك قَيْدٌ
من القيود دخيلًا في المراد الجِديِّ للمتكلِّم إلا
ويبيِّنه ويذكره في خطابه؛ ذلك أنَّ ظاهر حال
المتكلِّم هو أنَّه في مقام بيانِ تمامِ مرادِه
الجِدِّي بكلامه، فالمعاني التي يريدها يُفصح عنها
في حديثه، بينما ما لا يقوله في حديثه لا يريده، أي
إنَّ كلَّ ما يكون قيدًا في مقصوده عادةً ما يقوله
في الألفاظ الصادرةِ عنه، فإن لم يقله فهو ليس
قيدًا في مقصوده. وهكذا يثبت الاستيعاب والشمولُ من
خلالِ نفي القَيْدِ بقرينة الحكمة، فنفي القيد يعني
إثبات الطبيعة المجردة لموضوعات الأحكام، التي تكون
صالحة للانطباق على أي حالة من حالاتها، أو فرد من
أفرادها، في كلِّ زمان ومكان. وبتعبير أصولِ الفقه
تكون موضوعاتُ الأحكام مأخوذة بنحو القضايا
الحقيقية الشاملة، فمتى توافرتْ تلك الحقيقةُ في أي
زمان أو أي حالة يثبت لها الحكمُ، وليست الموضوعاتُ
مأخوذةً بنحو القضايا الخارجية الخاصة بزمان
معيَّن، وبذلك يستدلون على أبديَّة الأحكام وعمومها
لكافة الأزمان والأحوال.
٢٢
لكنَّ هذا التصورَ غيرُ مكتمل؛ ذلك أنَّ ما يقرر
شمول الأحكام وإطلاقها الأزماني والأحوالي أبعدُ
مدًى مما تكشف عنه الأدلةُ اللفظية، فإنَّه يحيل
إلى أن بنيةَ ذهنية الفقيه مشْبَعة بمجموعة
مسلَّمات، تشكِّل بأسرها مسَبَّقات لاواعية، لم
يلتفت إليها الفقيهُ حينما يمارس عملية الاستنباط،
فهو لا يستخلص فتاواه وآراءَه من تلك النصوص
المتاحة له، بل إن ضيق وسَعَة معاني ومضامين
النصوص، واستيعابها أو اقتصارها على موارد محدَّدة،
تنتجه عدَّةُ مقولات كلامية يعتبرها مسلَّمات،
وتؤطِّر فهمه للإنسان وطبيعة عَلاقته بالله، والوحي
والنبوة وختم النبوة، والأحكام الشرعية. فأبديَّة
الأحكام وامتدادها تصدر عن المواقف الكلامية، وإن
كانت بالنظرة الأولية تبدو أنها مستقاة من الأدلة
اللفظية.
فعندما يفترض محمد إقبال مثلًا، مفهومًا معينًا
عن النبوة وختمها، يقوده ذلك المفهوم إلى نتيجة
مغايرة في إطلاق وأبدية الأحكام لكل العصور. ففي
ومضة سريعة يوجز إقبال رؤيتَه لختم النبوة، بصيغة
لا تكرِّر المفهوم المتداول في علم الكلام، قائلًا:
«إنَّ النبوة في الإسلام لتبلغ كمالَها الأخير في
الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على
إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى
الأبد على مِقودٍ يُقَادُ منه. وإن الإنسانَ لكي
يحصل كمالُ معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في
النهاية على وسائله هو.»
٢٣ إن هذا المفهوم لختم النبوة يفترض أنَّ
الحاجة للنبوة تختص بمرحلة الطفولة البشرية، قبل
نضوج العقل، وتفتُّح ملكةِ النقد لديه، وهو مفهوم
يرتكز على «فهم ختم النبوة أنَّها ختم من الخارج،
أي إن هذا الختم يضع حدًّا نهائيًّا لضرورةِ اعتماد
الإنسان على مصدرٍ في المعرفة، ومعيار في السلوك،
مستمَدَّين من غير مؤهِّلاته الذاتية. إنه إيذانٌ
بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبةً، إنه تدشين
لمرحلة جديدة في التاريخ، لا يحتاج فيها الإنسانُ،
وقد بلغ سنَّ الرُّشد، إلى من يقودُه، وإلى من
يتَّكئ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. وتكون وظيفةُ
نبيِّ الإسلام في هذه الحالة إرشادَ الإنسان إلى
مسئوليته الجديدة، وتحميلَه تبعات اختياراته، مَثله
إذن مَثل من أغلق باب بيته — الذي هو بالنسبة إليه
بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء — وختمَه من الخارج،
فلم يبق سجينًا له، وساح في أرض الله الواسعة.»
٢٤
تستقي رؤيةُ محمد إقبال لتطبيق الشريعة على
الأجيال اللاحقة من تصوُّره هذا للوحي والخاتميَّة،
فهو يحلِّل طريقةَ النبي (ص) وأسلوبه في تطبيق
الأحكام على الأمَّة في عَصْر البعثة، واعتبارها
مثالًا نَموذجيًّا لما يأتي، فالمقصود كما يرى ليس
هو تطبيق الأحكام، وإنما ما يمكن استخلاصه من
مؤشرات قيمية عامة، ورفد وتنمية المشاعر المتسامية
والخبرة والتجرِبة الرُّوحية. يكتب إقبال: «إنَّ
القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسيُّ هو
أنْ يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتبِ الشُّعور بما
بينه وبين الله وبينه وبينَ الكون من صلات.
والطريقة التي يتَّبعها النبي، هي أن يُعَلِّمَ
أمَّة معينة، ويتخذ منها نواةً لبناء شريعة
عالميَّة. وهو في هذه الحالة يؤكِّد المبادئ التي
تنهض عليها الحياةُ الاجتماعية للبشر جميعًا،
ويطبِّقها على حالات معينة في ضوء العاداتِ
المميِّزة للأمة التي هو فيها. وأحكام الشريعة
الناتجة عن هذا التطبيق — كالأحكام الخاصة بعقوبات
الجرائم — هي أحكام يمكن أن يُقال عنها إنها تخصُّ
هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودةً
لذاتها فلا يمكن أن تُفْرَضَ بِحَرْفِيَّتِها على
الأجيال المقبلة.»
٢٥
ويشدِّد محمد إقبال على التجرِبة الدينية
الباطنيَّة، ويعتبرها أحد مصادر المعرفة الثلاثة،
بموازاة الطبيعة والتاريخ، ويشير إلى استغناء
البشريَّة في العصر الحديث عن الحاجة المباشرة إلى
تعاليم الأنبياء، وكأنَّ الإنسان يستغني بالتدريج
عن النبي (ص)، كما يستغني المريضُ عن الطبيب،
والطفل عن حضانة الأبوين. فالإنسانية تتكامل
تدريجيًّا، وتجتاز مرحلة عَقِيب أخرى، كيما تنتهي
إلى مرحلة لا تحتاج معها تعاليمَ الأنبياء. ذلك
أنَّ الأنبياء بشَّروا بتعاليمهم ونشروها بين
الناس، وأضحت متاحةً كالماء والهواء في متناول
الجميع، فانتشرتْ وترسَّخت تلك التعاليم بنحوٍ صارت
معه حياةُ الإنسان مهتديةً بهَدي الأنبياء، إنها
بمثابة المؤشِّرات والمنطلقات العامة، التي أنضجتِ
الوعيَ، فبلغ العقلُ من خلالها مرتبةَ الرُّشد،
وتحرَّرت معها إرادةُ الإنسان.
٢٦
من هنا يتجلَّى أنَّ القول بأبديَّة الأحكام
وشمولها لكافة العصور، يرتكز على مسلَّمات الفقيه
الذهنية المضمرة، بمعنى أن المضمرات الكلاميَّة
للفقيه أو أيديولوجيته ورؤيته للعالم، ونظرته
للإنسان، والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي
والاقتصادي المنخرط فيه؛ كلُّ ذلك يساهم في تحديد
خياراته في الفتوى، ويدعوه لتبنِّي وانتخاب أحد
المواقف من دون سواه.
ويرتبط نمطُ فهم النصوص بتطلُّعات الإنسان وأفق
انتظاره من الدين، فالإنسانُ الذي يتوقَّع من
النَّصِّ استيعابه للنُّظم الاجتماعية والمعارف
والعلوم الطبيعية والإنسانيَّة، نراه ينشد انتزاع
كافَّة النُّظم والمعارف والعلوم من الكتاب
والسُّنَّة، خلافًا لمن لا يترقب ذلك، ويفترض أنَّ
النصَّ يستوعب ما يرتبط بهداية الإنسان وسعادته
الأخروية فقط، وأنَّ الدين ليس بديلًا عن العقل، أو
التجرِبة البشرية، وأن العقل وما يتراكم من خبرات
عبر التاريخ، هو ما يتكفل بإدارة وتدبير وتنمية
الحياة البشرية، الثابت هو القيم التي يحتاجها
الإنسانُ بوصفه إنسانًا في كلِّ زمان ومكان، أمَّا
«ما يتضمنه الكتابُ والسنة بشأن العَلاقات العائلية
والحكومية والقضاء والعقوبات والمعاملات، وما إليها
من إمضاءات بحتة أو تهذيبات وتوجيهات، فلم يكن
الهدفُ منها تقنين العَلاقات العائليَّة أو
الاجتماعيَّة أو ما يتعلق بشئون الدولة، بقوانين
ثابتة لا تتغير. فالثابِت والخالد في هذه الإمضاءات
هو القيم، إنها هي المقصودة والمستهدفة من عملية
التعديل التي تمَّت عبر الكِتاب والسُّنة. وهي
المعيار والملهِم لإجراءات من هذا القبيل. إن هذه
القيم ليستْ أمورًا مستقلة، بل هي منبثقة من
ضروراتِ السلوك التوحيدي، فتُفسَّر بجوارها، وتكتسب
قيمتها منها.»
٢٧
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات
الإنسانية، وإنما جاء ليُضفيَ على ما هو موجود
طابعًا جديدًا يسير به صوبَ التَّوحيد، كما أنَّ
الهداية الإلهيَّة لا تبلَّغ للإنسان عن طريق
الأنبياء وحسب، وإنَّما الحلول الإنسانية لمعضلات
الحياة وترتيب شئونها هي الأخرى هداية إلهية. ولم
يكن الانتشارُ السريع للإسلام، وتغطيته لرقعة واسعة
تمتد من الأندلس إلى الصين، بعد أقلَّ من قرن على
ظهوره، إلا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافيَّة
المتنوِّعة للمجتمعات، وقبوله الأساليب المتفاوتة
للحياة الإنسانية لدى الشعوب. وعدم إصراره على
طمسها أو مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها
بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قِيَمِ الإسلام
وعقيدة التوحيد.
٢٨ فقد استطاع الإسلامُ أن يستوعب ويهضم
أشكال التمدُّن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف
والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها
في إطار واحد، ويصوغ منها نَموذجًا عالميًّا
للتحضُّر.
وهكذا نخلُص إلى أن الاستنباط الفقهي يستند إلى
القواعد الأصولية التي تمهِّد لهذه العملية،
وتشكِّل المقدِّمات والأدوات اللازمة لصوغ الفتاوى،
فلا استنباط للأحكام الشرعية من دون الاعتماد على
الأصول، وقواعد أصول الفقه تصدر عن مسلَّمات وآراء
اعتقادية تتشكل في حقل التفكير الكلامي. وبكلمة
موجزة: إن الاجتهاد الفقهيَّ يعتمد على الاجتهاد
الأصولي، ولا اجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدَّد
علمُ الكلام، أي لا معنى لتحديثِ الفقه من دون
تحديث مرجعيَّاته الكلاميَّة.
إن هذه الورقة لا تتحدث عن تاريخ نشأة الفقه، أو
أصول الفقه، أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة أيٍّ
من هذه المعارف، أو تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في
تدوينه على سواه، وإنما هي محاولة للكشف عن شيء من
عناصر البنية العميقة والمضمرات والمسلَّمات
والمرجعيات الاعتقادية الثاويَة والمستترة في
الذهنية الفقهية عند الاستنباط، والتي تتحدد في
سياق الرؤية الكلامية للفقيه.