الفصل الخامس

اختزالُ الدِّين في الأيديولوجيا

لاهوتُ التَّحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي١

١

لاهوتُ التَّحرير
«لاهوتُ التحرير» مصطلح تداوله الباحثون في الستينيات من القرن الماضي، وإنْ كان مدلولُه يواكب الأديانَ في مُخْتَلِفِ العُصُورِ، فالأديانُ تسعى إلى مناهَضَةِ الظُّلْمِ والتَّسَلُّط والاستبداد والطغيان، وعبَّر عن لاهوت التحرير في القرن العشرين جماعةٌ من رجال الدين والكنائس في أمريكا اللاتينيَّة، بعد أنْ حاولوا اكتشافَ المضمون الاجتماعيِّ الثوريِّ للعقيدة، وتوظيفها في مقاومة الاستعمار، واعتمادها كمرجعيةٍ في النِّضال والتحرير. انخرط الراهبُ كاميو توريز ورهبانٌ شبابٌ آخرون في المقاومة الوطنيَّة، بدوافع إيمانيَّة، وفهم ديني للثورة، «فنشأ لاهوت التحرير كأيديولوجيَّة ثوريَّة تحرُّرِيَّة شعبيَّة للجماهير؛ تربط بين الدِّين والثورة، والإيمان والعدالة، والله والشعب، والعقائد والمطالب الاجتماعية، والوحي من ناحية والحرية والإخاء والمساواة من ناحيةٍ أخرى.»٢ ومنذ القرن التاسع عشر كان الإسلامُ وميراثُه منبعَ إلهامٍ محوري استقتْ منه حركاتُ المقاومةِ في بلادِنا، واستلهم الثوارُ من فقه الجهاد مشروعيةَ كفاحِهم، ومن مفاهيمِ التَّضحية والشهادة وقودَهم وشعاراتِهم النِّضالية.
وفي السبعينيَّات من القرن العشرين اهتمتْ مجموعة من المفكرين بصوغ رؤيةٍ للمقاومة، تتخطَّى الفقه، وتعمل على الاستناد إلى العقيدة كمنطلقٍ للثورة، بتحليل المدلولِ الاجتماعيِّ لأصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة. وأبرز مُمَثِّلي هذا الاتِّجاه الدكتور حسن حنفي من مصر، من خلال كتابه: «من العقيدةِ إلى الثَّورة»، والدكتور علي شريعتي من إيران (ت١٩٧٧م)، من خلال: «بناء الذَّات الثورية» بتحويل الدين إلى أيديولوجيا للثورة، والسيد محمد باقر الصدر من العراق (ت١٩٨٠م)، عبر اكتشاف «المدلول الاجتماعي لأصول الدين»، والتعرُّف على أثر العقيدة في مسار التاريخ البشري.٣

هنا سنقصر الحديث بإيجاز عن الملامح الأساسيَّة لرؤية علي شريعتي وحسن حنفي لتحويل الدِّين إلى أيديولوجيا واختزاله في لاهوتِ التحرير.

٢

علي شريعتي: الدِّين أيديولوجيا الثَّورة (١٩٤٥–١٩٧٩م)
كان انتهاءُ الحرب العالميَّة الثانية إيذانًا بتدشينِ مَحَطَّةٍ مهمَّة في مسارِ حركةِ التَّحْديثِ في إيران، تنامت فيها فاعليةُ الأفكار والتيارات السياسيَّة والاتِّجاهات الأيديولوجيَّة المتنوعة، ونشطت الحلقاتُ النقاشيَّة، وتطوَّر الحَراك الثقافيُّ، وانبعثتْ طائفةٌ من التَّساؤلات اللاهوتيَّة والرؤى الدينيَّة التي تخطَّت التفكيرَ التقليديَّ. في هذه المرحلة واصل محمد رضا شاه جلوسَه على العرش خلفًا لوالده (١٩٤١–١٩٧٩م)، حتى خروجه من إيران. لم يتحرَّر محمد رضا من النهج الشموليِّ الاستبداديِّ، الذي اختَطَّه سلفُه، ولم يتمكَّن من تشييد نظامٍ سياسي مَرِن ومنفتح، تتسع فيه مساحةُ مشاركةِ المجتمع في السُّلطة، وبالرغم من التَّرقيعات التحديثية الاقتصادية، خاصة مشروع الإصلاح الزراعي الذي أطلقه مطلع الستينيات من القرن العشرين، غير أنَّه فشل في كسب ودِّ النخبة، فضلًا عن الجماهير، التي كانت تَدين بالولاء والطَّاعة للمرجعيَّات الدينيَّة. اهتمَّ الشاه بالتَّبشير بأيديولوجيا قوميَّةٍ، تُبْتَنَى على مركزيَّة إيرانيَّةٍ، تبشِّر باسترداد الماضي السحيق للأخمينيين وغيرهم من الأقوامِ الأوائل، ممن شادوا التمدُّن الإيراني، وبذل جهودًا واسعةً من أجل إحياء الرموز والميثولوجيا الفهلويَّة العتيقة. واتَّسم نظامُه بطابع استعلائيٍّ غارق بالمحاكاة الشكليَّة للغرب، وحالة نرجسيَّة حادَّة منكفئة على ذاتها، واضطهاد وقمع جهاز الأمن «السافاك» للمعارضين له، وخنق الأصوات الحرَّة الجريئة في المجتمع، مضافًا إلى استبعاد محمد رضا لرئيس الوزراء محمد مصدَّق، المعروف بتبنِّيه للقضايا الوطنية. كلُّ ذلك عمل على منع المواطنين من المشاركة السياسيَّة، ولم يُذَكِّ شعورَهم بالحماسة لأيِّ مبادرة من قبل السُّلطة، فانعزل النظامُ بالتدريج، واتَّسَعَت الهُوَّةُ، بين النظام والمجتمع بمرور الزَّمن، وأفضتْ إلى أن يجد الشاه محمد رضا نفسَه ونظامَه غريبَيْن في بلده، بعد طغيان الغضب الجماهيريِّ، وتفجُّر الثورة الإسلامية، واضطراره للخروج قُبيل انتصارها.٤ إن تعسُّف رضا شاه ومن ثَمَّ خَلَفه ولده محمد رضا في فرض النموذج الشكلانيِّ الغربي قسرًا على المجتمع الإيراني، ولجوءَه إلى العُنف أحيانًا في ذلك، كما في خلع زيِّ رجال الدين، وإكراه النساء على عدم ارتداء الحجاب، كل ذلك في عصر الأب. تدابر الابن والأب مع الميراث الإسلامي لإيران، وأصرَّا على استدعاء الذاكرة الغارقة في التاريخ، ومختلِف المفاهيم والإشارات والرموز والعناصر المكوِّنة لها؛ بغية القطع مع السياقات الإسلامية والماضي القريب للمجتمع الإيراني. نجم عن هذا السلوك تكريس الشعور بالانتماء إلى الإسلام، وكشف المكاسب الهائلة التي أنجزها الإيرانيُّون بعد اعتناقهم لهذه الديانة. وبموازاة ذلك انخرط بعضُ المثقَّفين في دعوةٍ لتأصيل «الهُوية» و«الذاتية»، أو «العودة إلى الذات»، ونقد كافة صور التغريب في الحياة الإيرانية، وبلغ النقدُ حدَّ الاتهام بالخيانة للمثقَّفين المتأثرين بالغرب، المنادين بضرورة استعارة ثقافته ونمط تمدُّنه. وظهرتْ في هذه الحقبة مجموعةٌ من الحركات السياسيَّة، ترتكز مرجعيتُها على قراءةٍ أيديولوجيَّة نضاليَّة للإسلام، وتستلهم مشروعيَّة الاحتجاج والثورة على النِّظام القائم من العقيدة والشريعة. وأسرف بعض الحركات في تأويلها للنص فاختزلتْه في لافتات وشعارات للتعبئة الجماهيرية والكفاح والمقاومة.
أسَّس الدكتور محمد نخشب (١٩٢٣–١٩٧٦م)، وهو مثقف ومناضل اشتراكي إيراني، بمعيَّة حسين راضي «نهضة الموحِّدين الاشتراكيين»،٥ وهم جماعة من الشباب المتديِّنين ذوي نزعةٍ اشتراكيَّة، وانصبَّ اهتمامُ نخشب وجماعته على الأبعاد الأخلاقية والإنسانيَّة في الدين، وعمل على إنتاج قراءة إسقاطيَّة للنصِّ والماضي والتُّراث، فخلع عليه صورةً اشتراكيَّةً، وكان يحسب الاشتراكية الإنسانيَّة العمليَّة تجسَّدت في صدر الإسلام، أمَّا الاشتراكيةُ الأوروبيَّة فهي اشتراكيَّة خياليَّة. أنجز نخشب آثارًا عدَّة، منها: «الإنسان المادي»، «صراع الكنيسة والمادية»، «قاموس المصطلحات الاجتماعية»، «إيران على أعتاب تحوُّل كبير»، ونشرها في الأربعينيات والخمسينيات. وكان يُقيم اجتماعًا أسبوعيًّا في منزله، يحضره الكثيرون من الشَّباب، الذين أصبحوا من الفاعلين الناشطين سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا فيما بعد، منهم الدكتور إبراهيم يزدي (١٩٣١–٢٠١٧م) وزير الخارجية في أول حكومة بعد الثورة. تعرَّضتْ هذه الجماعةُ إلى انشقاقاتٍ عدَّة واندماجاتٍ بأحزابٍ ومجموعاتٍ أُخرى، وارتبط بها بعضُ رجال الدين الشَّباب. لجأتْ نتيجة للصراعات الداخلية وضغوطات السلطة إلى تغيير اسمها إلى: «جمعية حرية الشعب الإيراني»،٦ وأصدرت نشرةً تحت عنوان: «الشعب الإيراني»،٧ وأسَّس كاظم سامي وعلي شريعتي في مشهد فرعًا للجمعيَّة. دافعتْ عن محمد مصدَّق ومواقفه الوطنية، وانضمت إلى «نهضة المقاومة الوطنية»٨ بعد الانقلاب عليه، وغيَّرَت اسمها إلى «حزب شعب إيران»٩ بقيادة نخشب الذي سُجِنَ، ثم سافر إلى الولايات المتحدة، وعمل هناك في الأمم المتحدة، وأصبح رئيسًا لفرع «نهضة الحرية»١٠ في أمريكا، وظل يدافع عن أفكاره الدينية. تُوُفِّيَ في الولايات المتحدة عام ١٩٧٦م.
تأثَّر بأفكار نخشب ومنحاه الاشتراكي في تأويل الإسلام علي شريعتي (١٩٢٣–١٩٧٧م) في بداية حياته، فترجم كتاب «أبو ذر الغفاري» لعبد الحميد جودة السحار، تحت عنوان «أبو ذر المُوَحِّد الاشتراكي».١١ كان شريعتي من أبرز دعاة القراءةِ الأيديولوجيَّة النضاليَّة للإسلام؛ ذلك أنَّه عاش في عصر طغى فيه صوتُ مقاومةِ الاستعمار، والثورة على الأنظمة التَّابعة له، وتسابق المثقَّفُون لتأييدِ ومساندةِ الانتفاضات والحركات الثوريَّة، ومنذ بداية حياتِه أغواه بريقُ الشعارات، وشُغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذَّبين. وانصبَّ اهتمامُه وتمحورتْ جهودُه على تأويل النصِّ والتراث الشيعيِّ تأويلًا ثوريًّا، وملاحقة والتقاط مواقف المعارضين والثوار في التَّاريخِ الإسلامي، وتمجيد ذكراهم، والإشادة بشعاراتهم، واعتبارهم الممثِّلين الحقيقيين للدين والإنسان في الإسلام، والتهكُّم على سواهم، أو الانتقاص من نتاجاتهم، مهما كان عطاؤهم. فمثلًا: يكرِّر أنَّ مكانة أبي ذر الغفاري أهمُّ، وأثره أعظم في تاريخ الإسلام من الفيلسوف ابن سينا.١٢
يكتفي شريعتي بقراءةٍ سريعةٍ وانطباعاتٍ عاجلة لمعطيات المعرفة الحديثة، يتوقَّف فيها عند السَّطح في دراسته ومطالعاته للفكر الغربي، ولم يشأ اكتشافَ البنية العميقة لهذا الفكر، وأُسُسه الفلسفيَّة، وآفاقه ومدياته الواسعة، ومجالاته المتنوعة، والتباساته وتناقضاته وثغراته، واكتفى بفهم مبسَّط، وتَعَاطٍ شعاراتيٍّ أحيانًا مع المقولات والمفهومات والأنساق المتشابكة للفكر الحديث. مضافًا إلى ضعف تكوين شريعتي في الدين ومعارفه ومختلِف علوم التراث العقلية والنقلية. وهو ما تحكيه آثارُه الكثيرة عندما يطالعها الخبيرُ المتخصِّص، التي هي في معظمها محاضراته نفسها، مع تحريرٍ سريع، من دون أن يتحوَّل فيها الشفويُّ إلى مكتوب. وبحسب رأي داريوش شايغان، فإنَّ «شريعتي يكتب لنا وصفاتٍ طبيَّة، ويعطينا إيَّاها قبل تشخيصِ المَرَض.»١٣

لكنَّ شريعتي تميَّز ببراعةٍ في إثارةِ وتعبئةِ الوجدان الشعبيِّ من خلال محاضراته الجريئة في حسينية «إرشاد» في طهران؛ بنحوٍ كان يُهَيْمِنُ به على مشاعر المستمعين، ويغرقهم في أحلام رومانسية، ويصوغ لهم يوتوبيا دنيويَّة فاتنة، ينسجها من عناصر ومفردات وأفكار موروثة وحديثة متنافرة، تَخفق لها الأفئدةُ، وتُشغَف بها الأذهانُ، يعزِّزُ قبولَها الإيقاعُ الخاصُّ لنبرات حديثِه، وطبقاته الصوتية الحزينة، المشْبَعة بالشغف لدنيا ودولة القسط والعدل والحرية، والمباشِرة في تعبيرها عن الاستغاثة واللوعة والشجى والتراجيديا، والشجاعة في عدم التردُّد في اقتحام الممنوع، والمجازفة في عبور محرَّمات السُّلطة والمجتمع والمؤسَّسة الدينيَّة.

تلاحَم في شخصية شريعتي المثقَّفُ والداعيةُ والمناضلُ، وذابتِ الحدودُ في وجدانه بين النَّموذجَين، بل أمسى الوجهُ الحقيقيُّ للمثقَّف في وعيه هو الداعية، وتحوَّلت الثقافةُ إلى أيديولوجيا، وظلَّتْ أبرزُ مشاغله «أدلجةَ الدين والمجتمع». يقول شريعتي: «سألني أحدُ رفاق الدَّرب: ما هو برأيك أهمُّ حَدَثٍ وأسمى إنجاز استطعنا تحقيقَه خلال السَّنوات الماضية؟ فأجبتُه بجملةٍ واحدة، وهي: تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا.»١٤
ما الذي يقصده بالأيديولوجيا؟ وهل يستطيع أنْ يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث ومثقف، في الوقت نفسه الذي يوسِّع دائرة الأيديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟ قبل الإشارة إلى ذلك نقتبس نصًّا مطولًا من آثاره يضيء هذا المفهوم ويحدِّد ملامحَه كما يفسِّره هو. يكتب شريعتي: «الأيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي رؤية ووعي خاصَّان يتوفَّر عليهما الإنسانُ فيما يتَّصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدْره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوِّغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسئولياتِه، وحلولَه، وتوجهاتِه، ومواقفَه، ومبادئَه، وأحكامَه، وتدفعه بالتَّالي إلى الإيمان بأخلاقٍ وسلوكٍ ومنظومةِ قيم خاصَّة، فعلى أساس رؤيتِك الكونيَّة، وابتناءً على نمط «علم الاجتماع» و«علم الإنسان» و«فلسفة التاريخ» الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي عَلاقتك بنفسك، وبالآخرين، وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعلُه؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نَموذجيٍّ، وما هي مسئولية كلِّ فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيديَّة، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهُويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالأيديولوجيا هي عقيدة تحدِّد الاتجاهَ الاجتماعيَّ والوطنيَّ والطبقيَّ للإنسان، وتفسِّر نظامَه القيميَّ والاجتماعيَّ، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: «كيف تكون؟»، و«ماذا تفعل؟»، و«ماذا ينبغي فعله؟»، و«كيف يجب أن نكون؟».»١٥ ما هي حدود الأيديولوجيا؟ وما هي عَلاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: «الأيديولوجيا تُهدي للإنسان ما تمنحه له الإمكانات التقنية تمامًا. ما التقنية إلا مجموعة الجهود الإنسانيَّة الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعينُ الإنسانُ بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع بحسب ما يشاء.»١٦ ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحوٍ تصبح معه «التقنيةُ عبارة عن فرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة، أو هي استخدام العلم من قِبل الإرادة الإنسانية الواعية، للوصول إلى مبتغاه. العلم هو مسعًى إنساني لفهم الطبيعة واكتشاف ما فيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ما ليس فيها. وَفقًا لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخصِّ للكلمة، تقنية بالمعنى الأعمِّ للكلمة.»١٧ ويبدو أنَّ الهموم النِّضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعيَّة للإسلام، هي الباعث لمسعاه في تحويل الإسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا». وربَّما تأثَّر شريعتي بأطروحاتِ جماعةِ لاهوتِ التَّحرير، ودعواتهم لتحويل الدِّين إلى أيديولوجيا لمناهضةِ الاستعمارِ، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيدًا عن مشاغلِ الفكر الديني التقليدي.

إنَّ هيمنةَ الأيديولوجيا على وعي الباحث والمثقَّف، تحُول بينه وبين الوصول إلى نتائج علمية، أكثر موضوعيَّة وحيادًا في تفكيره وبحثه. ذلك أنَّ الأيديولوجيا تقود أيَّ عمليةِ تفكيرٍ وتوجِّهُهَا الوجهةَ التي تنشدها، وتضاعف التحيُّزات والمسلَّمات اللامسلَّمة في ذهن الباحث، وتسوقه دائمًا إلى مواقف ونتائج محدَّدة سلفًا، باعتبار الوَعْيِ الأيديولُوجيِّ يسعى إلى تغيير العالم لا تفسيره. بحسب شريعتي تتحوَّل الأيديولوجيا إلى أداةٍ «يستعين الإنسانُ بها وبالمعرفة لتوظيف التَّاريخ والمجتمع بحسب ما يشاء». وينشغل أنصارُ الأيديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصَّة، ولذلك يندِّدُون بالتعدُّدِيَّة، ويُكْرِهُونَ النَّاس على تفسيرٍ رسميٍّ للمعتقدات الدينيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، ويخنقون الأسئلةَ الكُبرى، ويعملون على ترسيخ الجزميَّة واليقين، وأخيرًا بناء نظام مغلقٍ للتفكير.

ومع ذلك نعثر في كتابات شريعتي، الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا»، على نزعةِ تفكيرٍ حرَّة وناقدة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى إصلاح عمليةِ التفكير، والانفتاح على مختلِف الأديانِ والثَّقافات. وتحكي آثارُه ذائقةَ فنَّان، ورُوحَ شاعر، وحاسَّة ناقد، ونزعةَ متمرِّد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذَّر على الأيديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض أنَّ مثقفًا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافُت، ويعي الالتباسَ بين الشخصيةِ الأيديولوجيَّة للداعية، وشخصية المثقَّف، والشاعر، والفنان، والناقد، لكن موقفه ظل ملتبسًا بين شفافية الفنان الرومانسي، وبين أحلام وتطلُّعات المُناضل،١٨ فَتَاهَ في تناقُضات ومفاهيم غائمة، صاغها بقوالب شعارات ثورية، هي تعبير شعبويٌّ عن أحلامِ مجتمع غارق بالوعود الخلاصيَّة.
وتورَّط شريعتي بتفسيرٍ ماركسيٍّ لبعضِ الآيات، فأسقط الماديَّة التاريخية على القصص القرآني، وحاول أن يقدِّم أحيانًا تأويلًا وجوديًّا ملتبسًا للإسلام، فمثلًا: صاغ تحليلًا يبتني على الصراع الطبقي في قصة ابْنَي آدم بين هابيل وقابيل، فاعتبر «قابيل ممثِّلًا للنِّظام الزراعيِّ والمِلكيَّة الخاصَّة والفرديَّة، بينما هابيل يمثِّل العصر الرعويَّ والاشتراكيَّة الأولية قبل المِلكية.»١٩ وهكذا فسَّر الكثيرَ من الصراعات الاعتقاديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة تفسيرًا طبقيًّا ماركسيًّا، فهو يرى أنَّ «الثورة الحتميَّة المستقبليَّة تعتمدُ على التَّناقُض الديالكتيكيِّ، الذي بدأ بالمعركةِ بين هابيل وقابيل، وهي تجري على الدوام في كافَّة المجتمعات بين النظام الحاكم والمحكوم، وانتصار العدالة والقسط والحقيقة هو المصير الحتمي للتَّاريخ.» وخلَص إلى أنَّ كافَّة العقائد و«الأديان الحاكمة في التاريخ، إنما هي دائمًا وبلا استثناء تمثِّل الطبقة الحاكمة.»٢٠ وتحيلُ الظواهر الاجتماعيَّة لدى شريعتي إلى مفاهيم عقائدية، فالوحدة الاجتماعية والسياسية، والشِّرك والصِّراع الاجتماعيُّ والسياسيُّ، يعبِّران عن التوحيد والشرك الاعتقادي، «والوَحدة الحقيقية بين الجماعات والطبقات، هي تعبير عن التوحيد.» وهكذا «الشرك الاجتماعي إنما هو انعكاس للشرك الإلهي.»٢١
استلهم شريعتي القواعدَ الأساسيَّة للماركسيَّة، وأقام عليها بناء إسلاميًّا. أولياته ماركسية، يصعب العثور لديه على رؤية إسلاميَّة عميقة. متى وأين كان للإسلام بناء تحتي وبناء علوي؟ بل أين نجد في الإسلام مفهومًا للتاريخ بالنحو الذي تكلَّم عنه؟ إنَّ من العسير مزج كلِّ هذه المفاهيم مع بعضها في مركَّب متجانس.٢٢ شريعتي يملك أجوبةً جاهزةً لكلِّ الأسئلة. إنَّه يضرب لنا المثلَ الصارخَ عن رؤيةٍ ضيِّقةٍ. وكلُّ شيء يمكن أن يُفسَّر عنده ببنًى تحتية وفوقيَّة، برؤية ثنائيَّة للتاريخ، وبشلال من التماهيات المسلسلة. إنَّ فكر شريعتي خليط من الجذرين اللذين يتقيَّأ أحدُهما الآخرَ. يعتقد داريوش شايغان بأنَّ شريعتي: «لئن خلط هيغل المجرد من كل الجهاز المفهومي لمنظومة العقل وظهورية الرُّوح، مع ماركس مجرد من النظرية، من الفعل على إطلاقه Praxis، مع إسلام مبتور من قطبيه، المبدأ Origine والمعاد Retour، فإننا نحصل على حساء دسم، تبدو فيه جميع العناصر المجمَّعة منزوعة ومجردة من كل مضمونها الوجودي، نظرًا لأنَّها فُصلت عن القاعدة التي تكوِّنها وتسوِّغ علة وجودها. إنَّ فكرًا كهذا لا يمكنه أن يكون سوى فكر بلا موضوع، وبالتالي، فكر بلا مكان.»٢٣ إن شريعتي لم يستوعب المضمونَ الفلسفيَّ ﻟ «ديالكتيك» هيغل، وهكذا لم يتوغَّل في اكتشاف البنية المفهومية لفكر ماركس، ولم تسعفه رؤياه أنْ يتخطَّى مقولاتِه الاقتصادية والاجتماعية. كان شريعتي يستعيد معظمَ المقولات الماركسية، ويعطيها معانيَ جديدةً؛ «يُقولبها وَفق البنى التي ينكرها. فالفكرة القائلة إن الرؤية التوحيدية (الإسلامية) للعالم تتحقَّق عبر الإنسان والتاريخ والمجتمع في الأيديولوجيا الإسلامية، لتفضي إلى المجتمع المثالي، هي نوع من هيغلية مشوَّهة، مفصولة عن نظام العقل، وعن كل الجهاز المفهومي للجدل. ومثلما اختزل شريعتي «الرُّوح المطلق» إلى مفهوم توحيديٍّ غائم، فقد ردَّ أيضًا كلَّ الماركسيَّة إلى المقولاتِ الاجتماعية والاقتصادية، من دون أي اعتبار للمعنى الفلسفي للبراكسيس. إنَّ هذه الماركسية الغائمة المتفشِّية في فكره تتكشف في استعماله، كيفما اتَّفق، مصطلحات البنية التحتية والبنية الفوقية والحتمية التاريخية (المسماة أيضًا «علميَّة») والعَلاقات الجدليَّة والمشاعية البُدائية … إلخ. وباختصار، كل الرطانة توجد هنا، بحيث إن شريعتي يلتهم الماركسيَّة في الوقت الذي يدَّعي مناهضتَها. إنَّ إسلام شريعتي المؤدلج — مهما تكن دوافعه الدينية والعاطفية — يشفُّ عن مقولات اجتماعية-اقتصادية مسطَّحة … إنه وهو يُخَفِّض البُعْدَ المقدَّس للإسلام إلى مستوى التاريخ، يُعَلْمِنُه وينهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية.»٢٤

حذَّر شريعتي من المثقَّف الانهزاميِّ المنقطع عن جذوره، المقتلَع من عالمه، وذهب إلى أنَّ المثقَّف المستنير، هو من يعمل على تغيير الواقع، وتوعية المجتمع بذاته الحضاريَّة وميراثه. وشبَّه المستنيرين بالأنبياء، باعتبار طبيعة المهمَّة العظمى والمسئولية الاستثنائية المناطة بهم، والتي تتركز حول إيقاظ شعور الناس بذاتهم. وطفِق يُدين المثقَّفين المسلمين المعجبين بنماذج التنمية الغربية، ويصفهم بالاغتراب عن الذات، وخسران الهُوية، وزعم أن ما بعد القومية، والنزعة الإنسانية العالمية، أكاذيب كبرى، ينشد من خلالها الغرب محو الهُوية الثقافية للشرق.

تأثَّر شريعتي بمناخاتِ المقاومة والعودة إلى الذات، وسط المثقَّفين والطلاب المبتعثين في باريس من العالم الثالث، وأُعجب بخطاب «المعذَّبين في الأرض» لفرانز فانون، وسعى إلى محاكاته في كتابه «العودة إلى الذات»، لكنه تجاوز خطاب فانون الذي تمحور حول الخصوصيَّات العرقية والسياقات التاريخية والثقافية للعالم الثالث، وأكد على تكريس الجذور الإسلامية. يكتب شريعتي: «حينما نتحدَّث عن العودة إلى جذورنا، نتحدث في الواقع عن العودة إلى جذورنا الثقافية … إنَّ العودة لا تعني إعادة اكتشاف إيران ما قبل الإسلام، وإنما تعني العودة إلى جذورنا الإسلامية.»٢٥ وتتكرر في آثار شريعتي مفهوماتُ الأصالة، والهُوية الحضارية، والذاتية، حتى إنَّه خصَّص لها «العودة إلى الذات» أحد أهم كتبه، وعالجها في موارد مختلفة من أعماله. وطغتْ في هذه المرحلة فكرة الذاتية والسياقات الاجتماعية والثقافية والدينية للاجتماع الإيراني في خطاباته وآثاره.

٣

حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة

يمكن القولُ إنَّ مشروع التراث والتجديد للدكتور حسن حنفي من أكثر الكتابات الفكرية بالعربيَّة شعاراتٍ ووعودًا، وأضعفِها إبداعًا وبناءً وتركيبًا منطقيًّا. إنها محاولة تتكلَّم كثيرًا عن إعادة بناء العلوم الإسلامية من دون أن تعيد بناء أيِّ علم منها.

حسن حنفي مسكونٌ بالكمِّ والتَّكديس، وليس من المبالغة أن يُصَنَّفَ بوصفه يُمَثِّلُ الحلقةَ الأخيرة لنمطٍ من الموسوعيين المسكونين بتصنيفِ موسوعاتٍ كبيرةٍ، ممن انبسطتْ آثارُهم على مختلِف حقول المعارف المتداولة في عصورهم. إنَّه من أغزر المفكِّرين العرب المعاصرين إنتاجًا، لكنه من أشدِّهم تهافتًا والتباسًا في التعبير عن وعوده. إنه يكتب في التراث والحداثة، والإسلام والعصر، والمعقول والمنقول، والماضي والحاضر، والفكر الغربي، والاجتماع والاقتصاد والسياسة. لكنه يكرِّر نفسه على الدوام، وتحتشد كتاباتُه المتواصلة بمواقف متضادَّة، وآراء متهافتة، ومعالجات مبتذَلَة للقضية ذاتها، بنحوٍ تكذِّب آراؤُه بعضها بعضًا.

يعطي حنفي لمشروعه عنوانًا عامًّا، هو «التراث والتجديد»، ويقسِّمه إلى أقسامٍ ثلاثة: الأول يحدد: «موقفنا من التراث القديم»، ويشمل ثمانية أجزاء، كل جزء منها يختص — كما يقول — بإعادة بناء أحد العلوم الموروثة، فالجزء الأول مثلًا، الذي هو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، يعطيه عنوانًا بديلًا لعلم الكلام أو أصول الدين أو العقائد أو الفقه الأكبر، بحسب تسمياته الموروثة، فيعبِّر عنه: «من العقيدة إلى الثورة». ويلخِّص ما يهدف إليه من ذلك بقوله: «هو العلم الذي يمكن بواسطته سدُّ النقص النظري في واقعنا المعاصر، والذي يمكنه أن يمدَّنا بأيديولوجية عصرية، تشتمل على لاهوت الثورة، ولاهوت الأرض، ولاهوت التحرُّر، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم.»٢٦ ومنذ ثلاثة عقود يتواصل صدورُ أجزاء هذا القسم، فقد اطَّلعتُ على صدور خمسة أجزاء من القسم الأول، منها: «من العقيدة إلى الثورة»، في خمسة مجلدات؛ و«من النَّقل إلى العقل»، في تسعة أجزاء … إلخ. وهو في كل ذلك يكدِّس مستخلصات مبتسرة للكتب المؤلَّفة في علم الكلام وأصول الدين والعقيدة والمعقول، ويعطيها عناوين بديلة، تشي هذه العناوينُ غالبًا بما هو أرضي ونهضويٌّ ونضالي، وتفرغها من مضمونها الميتافيزيقيِّ، لكنها مجرد عمليَّة شكلية لا تتخطَّى العناوينَ إلى عَمَلِ حفريَّات عميقةٍ في البنية التحتيَّة وتفكيك عناصرها، وإعادة تركيبها بشكل يستجيب لما تنشده وعودُه التي حكاها في خُطَّةِ عَمَلِهِ.

والقسم الثاني من مشروعِ التُّراث والتجديد يحدِّد «موقفنا من التراث الغربي»، ويشمل خمسةَ أجزاء، كل جزء يختصُّ بفترةٍ للحضارة الغربية. وقد أصدر حنفي: «مقدِّمة في علم الاستغراب» قبل عَقدين تقريبًا تمهيدًا وإيجازًا ﻟ «موقفنا من التراث الغربيِّ». أمَّا القسم الثالث فيصوغ «نظرية التفسير» ويشمل ثلاثة أجزاء، طبقًا لوضع الوحي في التاريخ. وصدر قبل سنوات في مجلَّدَيْنِ، تناول فيهما: «ظاهريَّات التفسير»، و«تفسير الظاهريَّات». وهما إعادة تدوين وترجمة لأطروحتَيْه للدكتوراه في السوربون بالفرنسية، قبل خمسة وأربعين عامًا.

ما يهمنا الحديث عنه هو منجَزه في الجزء الأول من القسم الأول «من العقيدة إلى الثورة»، الذي يتمحور حول «لاهوت التحرير»، والذي يسرد فيه رؤيتَه لإعادةِ بناء علم الكلام. ولا أظنُّ أن حديثي عن الصديق حسن حنفي يضيف شيئًا، لأنَّه معروف لدى المهتمِّين. غير أني سأشير إلى عَلاقتي بحنفي: متى بدأت، وكيف تطورت؟ ومآلاتها في الاجتماع الشيعي، والتفكير الديني في إيران. عساني أُشير إلى راهن العَلاقة الثقافية بين جناحَي العالم الإسلامي، وطبيعة حضور فكر حنفي في الجَناح الآخر.

في عام ١٩٨٢م التقيتُ للمرة الأولى بكتابات حسن حنفي على صفحاتِ جريدة الوطن الكويتيَّة، في سلسلةِ مقالاتٍ نشرها عن «الأصوليَّة الإسلامية» بمناسبة محاكمة المتَّهمين باغتيال الرئيس المصري أنور السادات. لفت نظري تدفُّق السرد في كتابته، وحساسيةُ المفردة اللغوية المستعملة في عباراته، وحماسةُ الجمل وشعلتها، كنتُ أتفاعل مع نصِّه، وكأنِّي أحضر دراما حيَّة، بل أحيانًا أكتوي بلهيبِ شعاراته، أعاد لي حالةَ الاحتراق التي أوقعتْني فيها مطالعتي لكتاب: «معالم في الطريق» قبل هذا التاريخ بعشر سنوات، عندما اضطربتُ وأجهشتُ بالبكاء مراتٍ عدَّة، شوقًا وفَرَقًا على «جيل قرآني فريد»، الذي صاغتْه مخيلةُ سيد قطب. كنت مع «معالم في الطريق» كمن يبتلع جمرًا، لكن مع حسن حنفي كان الموقفُ أقلَّ حماسةً، إذ يتسرَّب خطابه للعقل أيضًا، ولا يقتصر على المشاعر والأحاسيس والعواطف، مثلما تفعل نصوصُ سيد قطب، التي هي بمثابة أناشيد للفداء والاستشهاد. أخرجني حسن حنفي من حالة اليقين إلى شيء من التساؤل، وحرَّرني من سجن «معالم في الطريق»، لكني دخلتُ معه سجنًا جديدًا، هو سجنُ «الأيديولوجيا»، كما أدركتُ ذلك فيما بعد، لكنِّي لن أنسى أثرَ حسن حنفي في إيقاظي من الاستغراق في أحلام رومانسية، حين فتح لي نافذةً على العصر، وشدَّني بقوةٍ إلى الحاضرِ، فحرَّرَنِي من شيء من لَوْعَةِ الاشتياقِ للماضي، والمكوث في كهوفِه، واستعارة مفاهيم السَّلف وأحكامهم ومعاييرهم في كل ما يواجهني في حياتي؛ ذلك أنَّ نصوصَ حنفي شديدةُ التأثير على الشباب، تراها لأول وهلة كأنَّها نسيج ينهل من منابع متنوعة، تحيل إلى الموروث بحقوله الواسعة، والفلسفة والفكر الحديث بمذاهبه وتياراته واتجاهاته المختلفة. لا تفتقر إلى مراجعة جريئة للماضي والحاضر، مسكونة بالواقع ورهاناته. لا تكفُّ عن مساءَلة الماضي، ونقد التراث، والتوغُّل في مساراته، وربط الفكر بحياة الناس ومتطلباتهم وشجونهم وهمومهم، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية. كتاباته هاجسُها تغيير الواقع، لا تتعطَّل في تفسيره، كما هي الآثار الغارقة في الجدل والتفكير المجرد. تنحاز للحرية والعدالة، وتعلن عن أنها صوت المهمَّشين والمحرومين، وكل أولئك المعذَّبين في الأرض الذين يتجرعون العلقم. يرى في الدين رسالةَ نهوض وانعتاق ومقاومة، يستدعي ميراثَ الثُّوار في تاريخ الإسلام ويمجِّده، ويرى فيه النهجَ المضيءَ في الإسلام. لا يكترث بالوظيفة المحورية للدين في إثراء الحياة الرُّوحية والأخلاقية، ولا يشير إلى أبعادِه الميتافيزيقيَّة، بل يحيل كلَّ ما هو سماوي إلى الأرضي، ويفسِّر ما هو ميتافيزيقي بالدنيوي، ويظن كل ما هو أُنطولوجي في الدين أيديولوجي، وكل ما هو فردي مجتمعي. لا يرى في الدين تجرِبةً تتحقق فيها الذاتُ بطور وجوديٍّ تتسامَى فيه، لذلك لا يحضر اللهُ والغيبُ في فهمه للدين إلا بوصفه يرمز للإنسان ونضاله في عالمه الأرضي.

طفِقتُ أفتِّش عن حسن حنفي وألاحق كتاباتِه في الدوريَّات، وما صدر له من مؤلَّفات وترجمات وتحقيقات، كنت أقرأ باستمتاعٍ ما يقع تحت يدي من آثاره، وأُعَرِّفُ به بين زملائي في الحوزة العلمية، أتفاعل معه، أتوهَّج عاطفيًّا، وربما أَسْكَرُ عقليًّا، مثلما سكرتُ من قبل بالتهام أدبيَّات سيد قطب. بدأت أبحث عن أسلوبٍ للتواصل معه، وقتئذٍ لم يكن هناك شبكة إنترنت تتيح لنا العثور على أصدقائنا ومن نودُّ أن نتواصل معهم، كما هو الفيسبوك اليوم وغيره. اكتشفتُ أنه يعمل أستاذًا في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، حاولتُ أن أجرِّب حظِّي في إرسال رسالة من «قُم» — حيث كنتُ مقيمًا هناك، ومشغولًا في الدراسة في الحوزة، مُشَرَّدًا من بلدي — على عنوان جامعة القاهرة، ونسيتُ الرسالةَ بعد عدة أشهر، غير أنِّي فوجئتُ بوصول رزمة صغيرةٍ عليها طوابع مصر، لفتَ نظري إلى أنَّ المرسل هو الدكتور حسن حنفي، ففتحتُها لحظة استلامِها، وجدتُها تحتوي: العدد الأول من مَجلة «اليسار الإسلامي»، وكتابَي الإمام الخميني: «الحكومة الإسلامية» و«الجهاد الأكبر»، كلُّ واحد منهما يشتمل على مقدمة موسَّعة لحنفي، بطبعةٍ مصرية. انصرفتُ لقراءة اليسار الإسلامي، كل شيء فيها مختلف، اسم المَجلة تبدَّى لي بمثابةِ تركيبٍ بين متضادَّيْنِ «يسار، وإسلام»، كلمة التحرير الشاملة تحت عنوان: «ماذا يعني اليسارُ الإسلاميُّ؟»، فوجدتُها تحتوي على سلَّة مفاهيم ملتقطة من التراث، يجمعها الاشتراكُ في العقلانيَّة والحريَّة والعدالة والثورة، وإنْ كانت تختلفُ في مرجعيَّاتها، وربما تمتزج فيها مقولاتٌ تخلط بين الخوارج والشيعة والمعتزلة والأشاعرة، فقد اشتملتْ على إشاراتٍ لعقلانيَّةِ المعتزلة، وعدل المعتزلة والشيعة، والثورات في تاريخ الإسلام، ومعارضة الخوارج، وصولًا إلى معارضة الصحابي أبي ذر. تجلَّت هذه العناصر كمصفوفةِ بُؤَرٍ تبدو مضيئةً وإن كانتْ متضادَّةً. لم يُسَلَّط الضوءُ في مقدمة حسن حنفي المسهَبة لمَجلته اليسار الإسلامي على ما واكب الفتوحاتِ من مظالم، وما خلَّفَتْه من تفاقُمِ تجارَةِ الرَّقيق، وشيوع الجواري والإماء في قُصُورِ الخلفاء والحياة الإسلامية، وما اجتاحَ الاجتماعَ الإسلاميَّ من صراعاتٍ وحروب أهليَّة، ونكبات، قُتِلَ فيها الثوارُ، وشيوع ذهنية التحريم لدى فقهاءِ القصور السلطانية وغيرهم، وفتاواهم في ذبح المفكرين الأحرار كغَيلان الدمشقي، والحلاج، وشيخ الإشراق السُّهْرَوَردي، وما تعرَّض له المعتزلةُ من اضطهاد وملاحقة، وتحريم التفكير الاعتزالي بحسب وثيقة «الاعتقاد القادري» الشهيرة.

قرأتُ افتتاحيَّة المَجلَّة مراتٍ عدَّة، محاوِلًا القبض على مفهوم واضح ﻟ «اليسار الإسلامي»، ومن أجل الحصول على إجابة محدَّدة لسلسلة من الاستفهامات الحائرة في ذهني، من نوع: هل اليسار الإسلامي علم كلام جديد، أو لاهوت تحرير، أو فرقة كلامية تستوعب ميراث المعتزلة العقليَّ، ونزوع الشيعة والخوارج الثوريَّ المعارض، أو هو مسعًى لفتح باب الاجتهاد في جميع حقول التراث الإسلامي، أو دعوة للاجتهاد في أصول الفقه تُغَلِّبُ المصلحةَ على النص، والعقلَ على النقل، والحاضرَ على الماضي، أو مذهب فقهي يتصالح فيه المسلم مع الواقع، وتستجيب فتاواه لرِهانات العصر، وتواكب إيقاعَ الحياة المتغيِّر، ولا تتجمَّد في لحظةٍ زمانيَّة تاريخيَّة معيَّنة، أو أنَّ «اليسار الإسلامي» كل ذلك وغيره، بنحوٍ يتَّسع ﻟ «موقفنا من الماضي، موقفنا من الآخر، موقفنا من الواقع»، وما يحكيه عنه من بياناتٍ نظريَّة متوالية، بحسب تعبير حنفي. وما ورد من تفاصيل أضحت معروفة لدى الباحثين، بعد صدور مؤلفات عدة في كل واحد من هذه الأقسام. وبحسب حسن حنفي يستوعب اليسارُ الإسلاميُّ: «الإسلامَ المستنيرَ، الإسلامَ العقلانيَّ، الإسلامَ العلميَّ، الإسلامَ الإنسانيَّ، الإسلامَ التقدُّميَّ، الإسلامَ الليبراليَّ، الإسلامَ الديمقراطيَّ، الإسلامَ البراغماتيَّ، الإسلامَ الإصلاحيَّ، الإسلامَ الاشتراكيَّ، الإسلامَ الوطنيَّ، الإسلامَ القوميَّ، الإسلامَ الأمميَّ، الإسلامَ العلمانيَّ …» وهذا مزيج غريب لعناصر متضادة، تسعى إلى دمج تمثُّلات الإسلام في الزمان والمكان والتاريخ، بطريقة ليست مفهومة، بنحوٍ يصير معه الإسلامُ كأنَّه كل شيء في الوقت الذي يكون فيه لا شيء محدَّد الملامح والهُوية. وهكذا يبدو لنا اليسار الإسلامي بمثابة «سوبر ماركت للإسلام»، يضجُّ بتهجين المفاهيم، وتناقضات التراث والحداثة، ويتسع لكل شيء؟٢٧

لم تنبثق هذه التساؤلات بمجموعها في ذهني ساعة مطالعةِ مقالة «ماذا يعني اليسار الإسلامي؟»، لوقوعي تحت تأثير حساسية الكلمة وشحنة العبارة في ما يكتبه حنفي، بيد أنَّها توالدت بالتدريج في كل مرة أعود فيها للنصِّ. وكلَّما طالعتُ جديدًا له، أُصَابُ بالدهشة من فرط اجترار الكلمات والعبارات نفسها، وإصراره على سكب أفكاره في شعارات مبتذلة، تفتقر لرؤيا الباحث المتمرِّس، وتستعجل إطلاق أحكام قيِّمة، بلا تحليل عميق أو تأمُّل، يكشف عن جذور الأفكار وصيرورتها، والحبل السرُّيِّ الذي تنتظم في سياقه نشأتها وتطورها.

كنَّا جماعة من طلاب الدراسات العليا والمدرِّسين في الحوزة نرتبط بحلقات نقاشية عفوية، تضيق بشخصين أحيانًا، فيما تتمدد إلى خمسة أو ستة أشخاص، بحسب وقتنا الفائض، وبرامج كل واحد منا، تشكلت في الثمانينيَّات من القرن الماضي، إثر لقائنا اليومي على هامش حلقات الدراسة والتدريس، نراجع فيها باستمرارٍ أدبيَّات وتجارِب الحركة الإسلامية، وأسباب ونتائج غياب الرؤية النقديَّة لديها، ولا سيما ونحن جميعًا كنَّا من الأعضاءِ فيها، وأفضت المراجعةُ النقديَّةُ إلى تخلِّينا بمرور الزمن عن الحركة الإسلاميَّة. ثم انْتَقَلْنَا في مرحلةٍ لاحِقَةٍ إلى مراجعةِ النِّظَامِ التَّعليميِّ في الحوزة، وسبل تحديثه. وأخيرًا في مطلع التسعينيَّات انتقلنا إلى مراجعةِ التُّراثِ، وعَمَلِ حفريَّاتٍ في المعرفةِ الدينية، بالاستعانة بفلسفة العلم والعلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة. وهنا اقترحتُ على ثلاثةٍ من الزُّملاء أنْ نُصْدِرَ مطبوعةً باسم «الرأي الآخر» نكثرها بإمكاناتنا المحدودة، ناطقة بهمومنا وتطلعاتنا في تحديث التفكير الديني في الإسلام، فصدَر العدد الأول موشَّحًا ﺑ «ماذا يعني اليسارُ الإسلاميُّ؟»، ودراسات أخرى. دهشنا من اهتمام القُرَّاءِ ﺑ «الرأي الآخر»، وتساؤلاتهم عن اليسار الإسلامي وحسن حنفي، نفدت النُّسخُ وكرَّرْنَا الطباعة، في العدد الثالث توقَّفت «الرأي الآخر»، فأصدرتُ دورية نصف سنوية، في حدود ٦٠٠ صفحة، تُعنَى بالدعوة للاجتهاد الشامل في كافة مجالات المعرفة الإسلامية، وتهدف لتحديث التفكيرِ الدينيِّ، سميتُها «قضايا إسلامية». في هذه الفترة تطوَّرت مراسلاتي ومهاتفاتي مع الصديق حسن حنفي، وبعثتُ له بأسئلةِ حوارٍ متنوعةٍ حول الاجتهاد والتجديد عبر الفاكس، فبعث لي بعد مدَّة قصيرة بإجاباته المفصَّلة عن أسئلتي، وعَنْوَنَهَا هكذا: «قُمُّ تسأل والقاهرة تجيب، حوار عبد الجبار الرفاعي مع حسن حنفي.» انزعج بعض القراء من صراحةِ حنفي ومغامراته في الفكر الديني ورُؤاه، ولم يقتصرْ ذلك على المضمونِ بل تَعَدَّاهُ إلى عنوانِ الحوار، مما اضطرني إلى تبديله بعنوان آخر لَمَّا ضَمَمْتُه لكتابي المطبوع بعد سنوات «الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات تقويمية». بعد توقُّف «قضايا إسلامية» في العدد السادس، أصدرتُ دورية سمَّيْتُها «قضايا إسلامية معاصرة» سنة ١٩٩٧م، كان حضورُ أفكار حسن حنفي كثيفًا في أول سنتين، تارة من خلالِ حواراتِ المَجلَّة معه، وأخرى بالتطوُّع بتزويدها بدراساته، بحسب ما ينسجم مع محاوَرِها المتنوعة. عبر مَجلة «قضايا إسلامية معاصرة» تعرَّف الكثيرون من الباحثين والدارسين على فكر حسن حنفي، في إيران والعراق ولبنان والخليج والجزيرة العربية والمغرب، وعُوتِبَت المَجلةُ وصاحبُها على ترويجها لهذا النَّمَط من التفكير غير المألوف، الذي لا ينسجم مع المنطق التقليديِّ الموروث، خاصَّة وأن «قضايا إسلامية معاصرة» أمستْ قناةً تسرَّبَ منها فكرُ حسن حنفي للمجال الشيعيِّ. ذلك أن مطبوعاتنا عادةً ما يطغى عليها لونٌ واحدٌ من التفكير، وتفزع من الاختلاف ووجهات النظر المغايرة، وكأنَّ اجتراحَ مطبوعة لنمط متنوع من التفكير، تصغي لمختلِف الأصوات، ولا تخشى الأفكار مهما كانت تقليدية أو تجديدية، وتنشر بجوار رأي متحيِّز للحداثة رأيًا آخر متعصِّبًا للتراث، وتنفتح على ما يعانده من معتقدات وأفكار؛ كأن انتهاج مثل هذه الطريقة يجسِّد عصيانًا للعقل السكونيِّ، وخروجًا على مشروعيَّة التفكير المحتكَرة والمؤمَّمة مسْبَقًا.

٤

مراجعةٌ نقديَّةٌ للَاهُوتِ التَّحرير

لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي، يختزلُ الدِّينَ في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفةَ المحوريَّةَ للدِّين. الدين أعمق من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعيَّان للدين، تحويل الدين إلى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بُعْدٍ واحد، واختزال الرُّوح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهيِّ في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة، والآخرة في الدنيا، والرُّوح في الجسد، والرَّمز في الحرف، والرؤيا في المحسوس، والمَعاد في المعاش، والعبادة في الجسد، والديني في الدنيوي. وحين يتحول الدينيُّ إلى دنيويٍّ تختلط الحدودُ بينهما، فيجري تعميمُ الفهم الدينيِّ لكافَّة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يُفضي إلى التَّضحية بالعَقْلِ والخبرة البشرية المستقلَّة عمَّا هو ديني.

كلُّ دين يتجسَّد في تمثُّلات اجتماعيَّة تعبِّر عن بنية المجتمع، وتتلوَّن بما يحفل به من ثقافة وتقاليد وأعراف وأنماط سلوك، ولا يمكن أن يكون الدين خالصًا وبريئًا من التمثُّلات البشريَّة المتنوعة.

الدين يتشكل في إطار البنية الاجتماعية، فإن كانت تسلطية قمعية يأخذ شكلًا تسلطيًا قمعيًّا، وإن كانت تعددية حوارية يأخذ شكلًا تعدديًّا حواريًّا، بيد أن الدعوة لاختزاله بأيديولوجيا للثورة، وتوظيف طاقته الرُّوحية، وشبكته المفاهيميَّة، ورؤياه الجماليَّة، وجغرافيته الرؤيوية، ونظامه الرمزيَّ، في الثورة، يُفضي إلى إهدار مهمة الدين في إرواء الظمأ الأُنطولوجي البشريِّ للمعنى المقدَّس، وطمس أثر المقدس في إلهام المتدين الخبرة الرُّوحية، وتوليد الحياة الرُّوحية وإخصابها.

الانتحاريُّ الأصوليُّ الذي ينحر نفسه، ويتلذَّذ بالدم المسفوح، حينما يفجِّر نفسَه بمصلِّين في مسجد أو حسينيَّة أو كنيسة، أو أبرياء في الأسواق والشوارع والمباني، هو ضحيةُ فهمِه الخاصِّ للدين، الفهم الذي يُخْتَزَلُ فيه الدينُ في أيديولوجيا نضاليَّة كفاحيَّة، وتوقُّفه عند ذلك، وعدم قدرته على استلهام أيِّ مضمون آخر في الدين، وعجزه عن استبصار واستلهام الكيمياء الرُّوحية، والدلالات الرمزية، والتعبيرات الجماليَّة للدين. لا يستطيع هذا الانتحاريُّ التعرف على صورة الإله الذي «وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ»، وليس بوسعه أن يتحسس محتوى رسالةِ نبيِّه الكريم المبعوث «رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ».

إنَّ البيئة الاجتماعيَّة القمعيَّة تنتج تصوُّرًا للإله قمعيًّا، بينما تنتج البيئةُ الاجتماعيَّةُ الإنسانيةُ تصورًا للإلهِ رحيمًا، وتتحوَّل إلى حاضنةٍ مثاليَّةٍ لنشأةِ وتطورِ «لاهوت الشفقة». وما أحوجَ مجتمعاتنا ﻟ «لاهوت الشفقة» في عصر تضجُّ فيه بلادُنا بدعواتِ الكراهية وإبادة شركائنا في الوطن، ويُجَنَّدُ فيه طليعةُ فتيانِها وشبابها من أجل الموت وليس الحياة، لأنَّ «الموت أسمى أمانينا»، كما يشدِّد شعارُ الإخوان المسلمين، فيغدو القتلُ والقتالُ مهنةً تفوق كلَّ مهنة للشباب في أوطاننا.

٥

مَرْجعيَّاتُ لاهُوتِ التَّحرير

مرجعيات شريعتي وحنفي في تحويل الدين إلى أيديولوجيا للثورة متعددة مختلفة، بل متباينة ومتنافرة، تارة تتوكَّأ على معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، وأخرى تحيل إلى التراث لتنتقي منه ما تشاء، وثالثةً تستعين بالفولكلور والثقافة الشعبيَّيْن، ورابعةً تستقي من الميثولوجيا القابعة في طبقات التاريخ. المرجعيات المتعددة المتنافرة تقود إلى نتائج متعددة متنافرة. إنها مرجعيات حُرَّة براغماتية تنشد تبرير الثورة، والتدليل على ضرورتها وديمومتها بأيِّ ذريعة. تتشابك فيها سياقاتٌ ثقافيةٌ تاريخيةٌ متنوعةٌ، وتختلط فيها أنساقٌ فكريةٌ متباينةٌ، تقفز من منظومة معرفية إلى أخرى على الضدِّ منها. من التوحيد إلى المادية التاريخيَّة، من المعتزلة إلى عقلانيَّة الحداثة، من هايدغر إلى شيخ الإشراق السُّهْرَوَردي، من الإمام الحسين بن علي إلى غيفارا … وهكذا، بأسلوبٍ يجري فيه بناءُ توليفة غرائبيَّة، تعمل على دمج عناصر متناشزة، مقتطعة من أجهزة مفاهيميَّة متنوعة، وتركِّب منها خلطة مبتذلة مشوَّهة. فمثلًا: يستعينُ حسن حنفي بظاهريَّات هوسرل، ولا يكفُّ عن الإشارة إلى مقولات وآراء معظم الفلاسفة والمفكرين الغربيين، ولا سيما في العصور الحديثة، مثلما يتحدث عن المتكلِّمين والفقهاء والفلاسفة والمتصوِّفة، ويخلع على رؤاهم وأفكارِهم أقنعةً مستعارةً من ديكارت وكانط وهيغل وماركس وهوسرل وسارتر … وهكذا، ويلوِّنها كيفما يشاء، بغيةَ توظيفِها كشعاراتٍ في النَّهضة والمقاوَمة.

وهكذا يفعلُ شريعتي، عندما يجول تفكيره في فضاءاتِ مَنْ عاصرهم من المفكرين الأوروبيين في الستينيات من القرن العشرين، حينما كان طالبًا في باريس، مثل سارتر وغيره من الفلاسفة والمفكرين الغربيين. فيخلط مقولاتِهم مع مقولاتٍ مسلوخةٍ من الموروثِ الشيعيِّ، ويخلع على تلك المقولاتِ رداءً منتزعًا من منظوماتِ الفكر الغربي، ويلوِّنها بحسب ما يحلو له، من أجل إنشاءِ مواقف تبرِّر أحلامه ورغباته الثوريَّة. يشدِّد شريعتي على تأويل مسار التشيُّع وميراثه بطريقة معياريَّة، لا تميز بين الأسطورة والتاريخ، مثلما لا تميِّز بين ما ينتمي إلى العالَم الأرضي، وما ينتمي إلى عوالم ميتافيزيقية علويَّة. ويهدف شريعتي إلى وصل مآلات ومصائر التشيُّع باللحظة التدشينية العلوية، وإعادتها باستمرار إلى تلك اللحظة، من دون رؤية للبنية العميقة للاجتماع الشيعي، أو حسٍّ تاريخي يستوعب صيرورة التاريخ وتحولاته الأبدية. وكأنَّ العقائد والقيم والأحكام متعالية على الواقع، كأنَّها عابرة للزمان والمكان، لا تلامس بنية المجتمعات وتكوينها، وطبيعة التمثُّلات الاجتماعية وعَلاقتها بالمحيط والمعطيات المتغيرة في التاريخ. «إن إسلام شريعتي المؤدلج، مهما تكن دوافعُه الدينية والعاطفية، يشفُّ عن مقولات اجتماعية-اقتصادية مسطحة. إنه، وهو يُخَفِّضُ البعد المقدَّس للإسلام إلى مستوى التاريخ، يُعلْمنه ويُنهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية.»٢٨
تنتهي الأدلجةُ التي أنجزها شريعتي وحنفي إلى: «دنيويَّة الدين»، بمعنى إهدار الطاقة الرُّوحية في الشعائر الدينية، وبالتالي إنهاك الدين وتفريغه من محتواه المعنويِّ. إنَّ المفاهيم الدينية في غاية الدقة، وإذا ما خرجت عن حدودها الخاصَّة، فقدت قابلياتها وإمكاناتها. مثال ذلك: أن نعتبر الوضوء ممارسةً تهدف إلى النظافة والصحة! قد يكون للوضوء أثر صحِّي، لكنه أولًا: أثر ضئيل المساحة جدًّا لدى المسلمين؛ وثانيًا: الوضوء ممارسة دينية صرفة. إنه ليس فعلًا صحِّيًّا، وإنَّما هو فعل رمزيٌّ. وبمجرد أن نجعله صحيًّا، نكون قد أسقطنا عنه طابعَه الرمزيَّ الدينيَّ.٢٩
١  ندوة الجمعية الفلسفية المصرية، مساء الأحد ١٦ يناير ٢٠١١م. حضرها جمع من المثقَّفين والباحثين والأكاديميين، أدارها: أ. د. حسن حنفي، وناقش فيها «الرفاعي» عددًا من أعضاء الجمعية وأساتذة الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، بينهم «أ.د. علي مبروك، أ.د. أميرة حلمي مطر، وأ.د. يمنى طريف الخولي، وأ.د. أحمد عبد الحليم عطية، وأ.د. السيد رزق الحجر، ود. أحمد الأنصاري، وأ.د. جوزيبي سكاتولين (إيطالي)، ود. محمد محق (أفغاني)».
٢  د. حسن حنفي: لاهوت التحرير بين علم العقائد والتحرير الاجتماعي، مَجلة الجمعية الفلسفية المصرية، ع ١٥، ٢٠٠٦م، ص٢٦٩-٢٧٠.
٣  د. حسن حنفي: لاهوت التحرير بين علم العقائد والتحرير الاجتماعي، مَجلة الجمعية الفلسفية المصرية، ع ١٥، ٢٠٠٦م، ص٢٦٩-٢٧٠.
٤  د. مهرزاد: المستنيرون الإيرانيون والغرب، ترجمة: حيدر نجف، مراجعة: د. عبد الجبار الرفاعي، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، ٢٠٠٧م، ص٥٨–٦٣.
٥  «نهضت خدابرستان سوسياليست».
٦  «جمعيت آزادى مردم ايران».
٧  «مردم ايران».
٨  «نهضت مقاومت ملي».
٩  «حزب مردم ايران».
١٠  «نهضت آزادى».
١١  «أبو ذر، خدابرست سوسياليست».
١٢  د. علي شريعتي: مجموعه آثار، طهران، ج ٧، ص١٣٤.
١٣  داريوش شايغان: «هنوز اسطوره اي فكر ميكنيم»، حوار مع صحيفة «شرق»، الصادرة في طهران، في ٥ / ٥ / ٢٠١٢م.
١٤  رسول جعفريان: جريان ها وسازمان هاي مذهبي-سياسي ايران «از روي كار امدن محمد رضا شاه تا بيروزي انقلاب إسلامي»، قُم، ط٦، ١٣٨٥ش، ص٧٥–٨١.
١٥  د. علي شريعتي: مجموعه آثار، ج ١٦، ص٥١-٥٢.
١٦  المصدر السابق، ج١٦، ص٦٢.
١٧  المصدر السابق، ج٤، ص٣٨٣.
١٨  د. علي شريعتي: مصدر سابق، ج١١، ص١٣٦.
١٩  المصدر السابق، ج١٤، ص٣١٩.
٢٠  د. مهرزاد بروجردى: مصدر سابق، ص١٧١-١٧٢.
٢١  د. عبد الجبار الرفاعي: مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، ط٢، ٢٠٠٨م، ص٢٧١–٢٧٤.
٢٢  داريوش شايغان: «دين ودين پژوهي در روزگار ما در گفت وگو با دكتور داريوش شايغان». مَجلة هفت آسمان، ع٥، ربيع ٢٠٠٠م.
٢٣  داريوش شايغان: «النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا»، بيروت، دار الساقي، ١٩٩١م، ص٧١.
٢٤  داريوش شايغان: «ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة»، ترجمة وتقديم: د. محمد الرحموني، مراجعة: د. مروان الدايه، بيروت، المؤسسة العربية للتحديث الفكري ودار الساقي، ط١، ٢٠٠٤م، ص٢٧٢-٢٧٣.
٢٥  د. علي شريعتي: مصدر سابق، ج١١، ص١٣٥.
٢٦  د. حسن حنفي: التراث والتجديد، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط٥، ٢٠٠٢م، ص١٧٧.
٢٧  د. حسن حنفي: «الوحي والواقع: تحليل المضمون»، دمشق، مركز الناقد الثقافي، ٢٠١٠م، ص٢٩–٧٤.
٢٨  داريوش شايغان: «ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة»، ص٢٧٢-٢٧٣.
٢٩  داريوش شايغان: «دين ودين پژوهي در روزگار ما در گفت وگو با دكتر داريوش شايغان». مجله هفت آسمان، ع٥، ربيع ٢٠٠٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥