الفصل السادس

محمد عبده رؤية للإصلاح ومحمد إقبال رؤية للتجديد١

١

جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده

بدأت محاولاتُ الإصلاح الديني والاجتماعي بأُفُق جديدٍ في العصر الحديث في مصر مع جهود رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م)، الذي درس على يد الشيخ حسن العطار في الأزهر، ثم ابتُعِثَ إلى باريس وتعرَّف على الغرب مباشرة، وبعد عودته عمل مترجمًا ورئيسًا لمدرسة اللغات الجديدة، ورئيسًا لتحرير الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية». غير أنَّ عمله الأهم كان في حقل الترجمة، فضلًا عن مؤلفاته العديدة.

وفي مرحلة لاحقة وفد جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٩٧م) إلى مصر سنة ١٨٧١م، وأمضى فيها ثمانيَ سنوات، توصف بأنها من أخصب سنوات حياته، احتضنَ فيها مجموعةً من الشباب الذين تعلَّموا على يديه مبادئَ علم الكلام والفلسفة والتصوُّف والفقه، وكان من أبرزهم السياسي المعروف سعد زغلول، ومحمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥م) الذي اقترن به، واشتركا معًا في عدَّة أعمال، من أهمِّها نشر مَجلة في باريس، صدر منها ثمانية عشر عددًا باسم «العروة الوثقى»، وكانت كتاباتُ هذه المَجلة بصياغةِ محمد عبده، أمَّا أفكارُها فكانت أفكار الأفغاني.

يوصَفُ الأفغانيُّ بأنه «عنيف يستحيل ترويضُه، أو على حد تعبير بلنط «عبقري بَرِّيٌّ»، وأنه كان خطيبًا يثير الجماهير، غير أنَّه لم يكن يحب الكتابة، ولم يكتب بالفعل إلا القليلَ.»٢
تأثَّر محمد عبده بأستاذه الأفغاني، وتفاعل معه، وحاول أن يترسم خطاه، ويتمثل تعاليمَه، ويقتبس أفكاره، حتى إن جمال الدين عندما ودَّع أصدقاءه وتلاميذه في السويس حين مغادرته لمصر سنة ١٨٧٩م قال لهم: «لقد تركتُ لكم الشيخَ محمد عبده، وكفى به لمصر عالمًا.»٣ لكنَّ محمد عبده لم يصاحب الأفغانيَّ حتى النهاية، بعد أن تردَّد في اعتبار الإصلاح السياسي بوابة لكلِّ عملية إصلاح، كما يرى أستاذُه، وأدرك أنَّ الإصلاح ينبغي أن يبدأ بالإصلاح التربويِّ والثقافي، كما يقول محمد رشيد رضا إن محمد عبده ضعُف أملُه في الإصلاح السياسي، ووجَّه التفاتَه إلى الإصلاح القوميِّ في التربية والتعليم، فصارحَ جمال الدين في أوروبا، بأنَّه يرى أن الوسائل السياسية لن يُرْجَى منها خيرٌ، لأنَّ تأسيس حكومة عادلة مصلحة، لا يتوقَّف على إزالة الموانع الأجنبيَّة فقط، وأنه خير لهما لو عَكَفَا على تربية أفرادٍ على ما يحبُّون، في مكان هادئ بعيد، لا سلطان للسياسة فيه، ثم يذهب هؤلاء الرجال بدورهم إلى الأقطار المختلفة لتربية مثلهم على ما رُبُّوا عليه.٤

ولا نريد أن نؤرِّخ لحياةِ محمد عبده، ونلاحق سيرتَه الفكرية والسياسية، والمنعطفات التي مرَّتْ بها، لأنَّ ذلك خارج غرضنا، وإنما أردنا الإشارة إلى أنَّه سعى إلى الاستقلال عن مشاغل الأفغاني السياسية في المرحلة اللاحقة من حياته، وكثَّف جهوده في الحقل العلمي والتربوي والثقافي. غير أنه لم يستطع الانسلاخَ عن تبعات الشعارات والمفاهيم التي تلقَّاها عن أستاذِه.

واستأثرت الجهود الإصلاحية للشيخ محمد عبده وآثاره بالكثير من الدراسات، وطغى على معظمها الطابعُ التبجيليُّ، بالشكل الذي «أصبح محمد عبده بالنسبة إلى مصر والإسلام، نبي عهد جديد»، حتى وصفه بعضُ الدارسين بأنه: «أحد مؤسِّسي الإسلام الحديث.»٥

من أجل التعرُّف على المكاسب الحقيقيَّة لجهود محمد عبده، ومكانتها في تجديد الفكر الديني، نجد مقارنتَها بآثار محمد إقبال معيارًا مناسبًا لاكتشاف حجم مساهمات محمد عبده والقيمة المعرفية لآثاره؛ لأنهما عاشا في محطَّتَيْن لعصرٍ واحد، واهتمَّ كلاهما بمشاغل إصلاحيَّة متقاربة في منطلقاتها، وإن تنوعت ما تنشده مطامحُها ومدياتها وآثارُها ومصيرُها ومآلاتُها. مضافًا إلى أنَّ محمد عبده ينتمي إلى مصر والفضاء الديني والاجتماعي والثقافي العربي، بينما ينتمي محمد إقبال إلى شبه القارَّة الهندية، وفضائها الديني والاجتماعي والثقافي المختلف.

كان سيد أحمد خان بهادر (١٨١٧–١٨٩٨م) سَلَفًا لمحمد إقبال في الهند، وكان أحمد خان واحدًا من أبرز رواد الإصلاح هناك، فهو مؤسس جامعة عَلِيكره سنة ١٨٧٥م، التي أراد لها أن تحتضن الاتجاهات الحديثة في الإسلام، وتهتمَّ بإعداد نخبة تكتسب مهارات وخبرات في العلوم الإنسانية الجديدة، وتعمل على توظيف معطياتها في الدراسات الإسلامية.

لكنَّ الدارس لحركة الإصلاح الإسلامي في الهند لا يمكنه تجاهل أفكار ومواقف محمد إقبال (١٨٧٣–١٩٣٨م) الذي وُلِدَ لأبٍ ينزع إلى التصوُّف، وأمٍّ لفرط ورعها وتديُّنِها كانت تُحجم عن أن تأكل مما يكتسبه زوجُها، لأنَّها كانت تشكُّ في أن رئيسَه في العمل يتعاطَى الرشوة.٦ أما «أجداد إقبال فكانوا من البراهمة، وأسلم أحدُهم عند اتِّصاله بصوفي مسلم صادق»٧ كما وردت الإشارةُ إلى ذلك في أحد دواوينه.٨ دخل إقبال مكتبًا لتعليم القرآن في طفولته، وأكمل تعليمَه في مدرسة البعثة الاسكُتلندية في سيالكوت، برعاية أستاذ بارع بالأدب الفارسي وملمٍّ بالعربية، هو مير حسين، الذي تنبَّأ لتلميذه بمستقبل باهر، وظفِر التلميذ بجوائز عدَّة. وفي العام ١٨٩٥م دخل كلية الحقوق في لاهور، ودرس على أستاذ الفلسفة الإسلامية هناك المستشرق السير توماس آرنولد، الذي كان له تأثير عميق على حياته الفكرية. وواصل إقبالٌ تعليمه في هذه الكليَّة حتى نال درجة MOA في الفلسفة. وبعد تخرُّجه اختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكليَّة الشرقية بلاهور، ثم تدريس اللغة الإنجليزية في الكلية التي تخرَّج فيها. وفي سنة ١٩٠٥م سافر إقبال إلى أوروبا، وأكمل تعليمه الفلسفيَّ بجامعة كمبردج، وأنهى دراسة الدكتوراه في الفلسفة بجامعة ميونيخ. واختاره أستاذُه توماس آرنولد ليحل محلَّه في تدريس اللغة العربية في جامعة لندن، بعد توقُّفه عن التدريس. وفي العام ١٩٠٨م عاد إلى موطنه وعمل في المحاماة، ودَرَّسَ في جامعة لاهور، وصار رئيسًا لقسم الفلسفة، وعميدًا لكلية الدراسات الشرقية فترة طويلة.٩
ولعل أهمَّ أثر يلخِّص الرؤيةَ التجديديَّة لمحمد إقبال هو كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، الذي هو حصيلة ستِّ محاضرات ألقاها في مِدْراس وحيدرآباد وعَلِيكره سنة ١٩٢٨-١٩٢٩م، وهي تعبر عن «إسهامه الكبير في مهمَّة إيقاظ أبناء دينه في الهند، وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيَّة، مستمَدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.»١٠ واستهلَّهَا إقبال بقوله: «أحاول بناء الفلسفة الدينيَّة الإسلاميَّة بناء جديدًا، آخذًا في الاعتبار المأثورَ من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوُّر في نواحيها المختلفة.»١١ وتتميز محاولةُ إقبال بكفاءتها النظرية، وهندستها التركيبية، وغناها بحشد وفير من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، وبراعتها في توظيف تراث المتصوفة والعُرَفَاء والفلاسفة والمتكلمين والأصوليين والفقهاء. حتى عدَّها أحدُ الدارسين بأنها: «أول محاولة تامَّة لإعادة بناء اللاهوت الإسلامي على قاعدة اسْتِدْنَائِيَّة.»١٢ وسنعود إلى هذا الكتاب للتعرُّف على منطلقات وآفاق رؤية محمد إقبال في تجديد الفكر الديني، لنقارنها بجهود محمد عبده ورؤيته، خاصَّةً كتابه «رسالة التوحيد» الموازي لكتاب إقبال هذا.

٢

الفكر الديني الحديث في الهند ومصر
يتَّفق الدارسُون على التَّأثيرات العميقةِ لمقولاتِ المودودي في شبه القارة الهندية على الإسلام السياسي في مصر والبلاد العربية، خاصَّة مقولات «الحاكمية، والجاهلية …» التي استقاها سيد قطب من أبي الأعلى المودودي، وصاغ على ضوئِها الكثير من مفاهيمه في الدولة، وحدد في إطارها طائفةً من أحكامه ومواقفه حيال المجتمع. لكن لم يتجلَّ لنا بوضوح تاريخُ التواصل بين الاتِّجاهات الحديثة في الإسلام الهنديِّ والإسلام في مصر، وربما كان جمال الدين الأفغاني أوَّلَ حلقةِ وصل بين هذين الفضاءَين الثقافيين، باعتباره من أوائل الذين تعرَّفوا على الاتِّجاهات الجديدة في الهند، بعد أن أُخْرِجَ من مصر سنة ١٨٧٩م، فغادر مصر إلى الهند وأقام في حيدرآباد الدَّكَن، وهناك صنَّف رسالته الأثيرة في «الرد على الدهريين»، وهي تتضمن مناقشاتٍ لما عُرف ﺑ «النيتشريين» أو الطبيعيين في الهند، وهم أتباع سيد أحمد خان، ونقلها إلى العربية محمد عبده، بمساعدة عارف أفندي الأفغاني المعروف بأبي تراب، الذي كان ملازمًا لجمال الدين. والنيتشرية حركةٌ عصريَّة أطلقها أحمد خان بعد زيارة قام بها إلى إنجلترا في السبعينيات من القرن التاسع عشر، وهي تدعو إلى فهمٍ جديد للإسلام، أطلق عليه الناسُ اسم «النيتشرية»، وهو مأخوذ من كلمة نيتشر الإنجليزية nature ومعناها الطبيعة، وفحوى هذه الدعوة: أنَّ القرآن، لا الشريعة، هو جوهر الإسلام، وأنَّ تأويل القرآن يجب أن يتمَّ وَفقًا لمبادئِ العقلِ والطبيعةِ، وأنَّ النظامَ الخُلُقِيَّ والحقوقيَّ يجب أن يكون قائمًا على الطبيعة.١٣
السياقاتُ التاريخيَّةُ والمحيط الثقافي والفضاء الديني في الهند لا تتطابق مع مصر؛ ذلك أنَّ مكوِّنات الفضاء الرُّوحي والمعرفي والديموغرافي الهندي زاخرة بالتركيب والتنوع، تبعًا لتعدُّد الأديان والإثنيَّات واللغات والتقاليد والثقافات، بينما يفتقر الاجتماعُ المصريُّ لمثل هذا الفضاء الرُّوحي والمعرفي، وأنَّ التنوع الذي تتألَّف منه دياناتُ الهند «ساعد على إيجاد عدَّةِ مبادلاتٍ بين هذه الديانات وبين الإسلام، وأنَّ دخول الجماعات الهندية أفواجًا في الإسلام قد جرَّ في بعض البقاع إلى انتقال الكثير من آرائهم الاجتماعيَّة إلى حياتهم الإسلاميَّة الجديدة.»١٤ وإثر ذلك اتَّسم المسلمُ في الهند بالتَّسامح مع أتباع الديانات في موطنه، وكان أكثر استعدادًا لقبول الآخر والتعايش معه في ذلك العالم، الذي يضجُّ بالاختلاف والتنوع.
لم يجد محمد إقبال ما يحول بينه وبين الإفادةِ من المعارف الإنسانيَّة، بغض النظر عن مصدرها، سواء أكانتْ غربيَّة أم شرقيَّة، ولم يصدر في مواقفه الفكريَّة من معايير عقائدية أو أيديولوجيا اصطفائيَّة تنفي الآخر. وهذه ميزةٌ لا تنفرد بها آثارُ محمد إقبال، وإنَّما طَبَعَت الإنتاجَ الفكريَّ للإسلام الهندي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.١٥ بيد أنَّ تأثيراتِ التيَّار السلفي الوافد إلى الهند في مرحلة لاحقة جنح بالتفكير الإسلاميِّ هناك لاتخاذ مواقف أحادية إقصائيَّة مغلقة، اتخذتْ من «ندوة العلماء» في لَكْهنَو موطنًا لها، وبدأت بانشقاق شبلي النعماني عن سيد أحمد خان، وبلغت ذروة تشدُّدها في آثار أبي الحسن النَّدْوي وأبي الأعلى المودودي، والمودودي هو الأشدُّ في مواقفه والأكثر رفضًا للآخر في أفكاره، فهو يعتقد مثلًا بتحيُّز العلوم التجريبية، ويعتبر العلومَ التي بدأت في الغرب موجَّهة لخدمة المفهوم الغربي والفوضى والإلحاد.١٦

٣

رؤية في التجديد ورؤية في الإصلاح

من أين يبدأ تجديدُ الفكر الديني؟ وهل هناك أولويات في سُلَّم المعارف التي ينبغي البدءُ بها؟ ولماذا أخطأ الكثير من محاولات التجديد طريقه؟ من أين نبدأ؟

ليس بوسعنا تقديم إجابات صارمة ونهائية على مثل هذه الاستفهامات، لكنَّنا نحسب أن إخفاقَ الكثير من محاولات التجديد يعود إلى عدم القدرة على إدراك الأولويَّات، والانخراط في مشاغل فكرية واجتماعية تبتعد عن مرمى التجديد، ولا تلامس مرتكزاتِه الأساسيَّة، ولم تظفر بصياغةِ أدواتِه المنهاجيَّة؛ ذلك أنَّ بعض رجال الدين يتقنون فنَّ الإثارةِ، واستفزاز الجمهور، من خلال إطلاق ما يشبهُ المفرقعات التي تصدم وجدانَ المسلم، وتفزع التديُّن التقليدي، وعادة ما تقتصر محاولاتُ هؤلاء على إذاعة مجموعة فتاوى فقهيَّة بديلة، في قضايا حياتيَّة حسَّاسة يُبتلى بها عامَّةُ المسلمين، وتخالف أحيانًا إجماعَ أو مشهورَ الفقهاءِ. فيختزل تجديد الفكر الديني في ذلك، ويخلع الناس ابتداءً على مثل هذه المحاولات ودعاتها عناوين «الانحراف، والتجديف، والتبديع»، وفيما بعد يصفونها ﺑ «الإحياء، الإصلاح، التجديد»، بالرغم من أنَّ التجديد لا يمكن اختزالُه في مجموعة فتاوى، بل إنَّ عملية التجديد تنطلق من موقع آخر، يطول البنى التحتية والهياكل الأساسية والجذور والمنابع، ومصادر الإلهام التي ترفِد الرؤيةَ للعالَم، وتتغذى منها المفاهيمُ الاعتقاديَّةُ، والأفكار الكلامية، والآراء الأصوليَّة، والأحكام الفقهية. فالفقيه مثلًا لا يستطيع أنْ يستنبطَ أحكامًا تستجيب لمتطلبات عصره، إلا إذا تغلَّب على أساليب الاستنباط الفقهي الموروثة واستبدلها بأساليب أُخرى، إذ إن المعرفة الفقهية محصِّلة لمنطق خاص يتمثل بأصول الفقه، وما لم يتمكن الفقيهُ من تجديد أصول الفقه والإفلات من منطق الفقه القديم فليس بوسعه تجديد الفقه. وأصول الفقه معرفة تُشتقُّ من مرجعيَّات فلسفيَّة ومنطقيَّة وكلاميَّة ولغويَّة، وعملية تجديد هذه المعرفة ترتبط بإعادة بناءِ المعطيات المولِّدة لها.

إن تشكيل معرفةٍ دينيَّة موائمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد، أو فلسفةٍ دينيَّةٍ تحدِّدُ لنا مكانَةَ الإنسانِ في العالَم، ونمطَ صلتِه بالله، وبيان ماهيَّة الدين، وحدوده، ومجالات التديُّن، وطبيعة الظاهرة الدينية … إلخ. وهذا النوع من الأبحاث يتطلَّب التحرُّر من منطق المعرفة الموروثة، وتوظيف معطيات الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة في الدراسات الدينية.

لعلَّ أهم ما يَلفت نظر دارسي تراث محمد عبده والمهتمين بتقييم جهوده الإصلاحية هو مجموعةُ فتاوى جريئة أصدرها في مسائل اجتماعية؛ أباحتْ إيداع الأموال في صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وحِلِّيَّة ذبائح أهل الكتاب، وجواز ارتداء ملابسهم …١٧ مضافًا إلى انتهاج محمد عبده نهجًا يعتمد على العلوم الطبيعيَّة الحديثة في التفسير، إذ يُؤَوِّلُ الجنَّ في القرآن مثلًا بالميكروبات، ويحاول تأويلَ ما ورد في القرآن عن أصل الإنسان تأويلًا يتوافق ونظرية داروين، ويرى أنَّ في القرآن محلًّا لنظريتَي «تنازع البقاء، والبقاء للأصلح» … وغير ذلك.١٨ وقد اقتفى أثرَهُ طنطاوي جوهري، الذي كتب تفسيرًا موسَّعًا في ستة وعشرين جزءًا، بدأ بالظهور منذ ١٩٢٣م، وهو تفسير تكدَّس فيه كلُّ ما اطَّلع عليه من معارفِ عصره، إذ «فسَّر فيه القرآن تفسيرًا علميًّا عصريًّا استوعب مختلِفَ المعارف المعاصرة، من علميَّة وإنسانيَّة وسياسيَّة — بل وصِحافية — بشكل موسوعيٍّ تراكُمِيٍّ، وبأسلوب المصنَّفات العربية القديمة في السَّرْد والاستطراد …»١٩
يجد الدارسُ مساهمةَ محمد عبده في إعادة بناء علم الكلام في كتابه المعروف «رسالة التوحيد»، التي استأثرتْ باهتمام واسع من دارسي فكرِه، واعتبرها بعضُهم مسعًى «في سَبْكِ علم التوحيد في قالب أكثر تمشِّيًا مع طرائق التفكير الحديث.»٢٠ بل وصفها حسن حنفي بأنها محاولة رائدة في تأسيس علم كلام جديد.٢١ لكنَّ قراءةً متأنِّية لهذه الرسالة ترينا أنها تعبِّر عن موقفٍ من علم الكلام أكثر مما تعبِّر عن موقف في علم الكلام، ومحاولة لتجديده بأفق بناء اعتقاد المسلم في ضوءِ أسئلةِ العصر الحديث. وَرَدَتِ المسائلُ الكلاميَّة في «رسالة التوحيد» بشكل مدرسي، لا يتجاوز صياغة القديم ببيانٍ جديد، فهي تفتقرُ إلى التَّجديد في لغة ومصطلحات علم الكلام، كما لا تبتكر منهجًا آخر في البحث الكلامي، أو تعمل على توظيف المكاسب والمناهج الحديثة في العلوم الإنسانية في دراسة وتحليل التراث الكلاميِّ، كما تُخفق في بَلْوَرَةِ أدواتٍ إجرائيَّة مختلفة، أو تركيب هندسة معرفيَّة جديدة للمباحث الكلاميَّة. وإنْ كان محمد عبده كفَّ عن الخوض في مسائل سيطرتْ على علم الكلام، كالسؤال عن الصفات وعَلاقتِها بالذات، وهو موقف مشابه لما فعله الغزالي في «تهافُت الفلاسفة». كما نصَّ فيها على عدم التعارض بين الوحي والعقل، تبعًا لما قاله ابنُ رشد وغيرُه من الفلاسفة، واهتمَّ بطرح بعضِ آراءِ المعتزلة في خلق القرآن والحرِّيَّة والإرادةِ الإنسانية، وإنْ كان قد أسقطَ — هو أو تلميذُهُ رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥م) — مسألةَ خلق القرآن في طبعةٍ تالية، خشية الاحتجاج الذي يمكن أن تثيره هذه المسألةُ.

وعلى الرغم من أنَّ محمد عبده كان في «رسالة التوحيد» أكثر تعبيرًا عن رُوح علم الكلامِ الأشعري، لكنَّه في تعليقاتِه على شرح الدواني للعقائد العضدية حاول أن يقدِّم تفسيرًا جديدًا لمقولة الكَسْب الأشعرية، اقترب فيه من الحريَّة، فكان أكثرَ تعبيرًا عن مفهوم المعتزلة الكلاميِّ للحرية، والأبعد من مقولة الكسب الأشعرية.

يبدو أنَّ إصلاح محمد عبده كان أوضحَ في المسائل الفقهية والتفسيريَّة، من دون المساس بشكل جذري بالقضايا الكلاميَّة النظريَّة الداخلة في نطاق «علم العقائد» أو «علم الكلام».٢٢ ومن دون إعادةِ بناءِ علم الكلام، بوصفه يمثِّلُ البنيةَ التحتيَّة للتفكير الدينيِّ في الإسلام، تظلُّ كلُّ محاولة لتحديث البنى الفوقية محدودة الأثر. فالفتاوى الجديدة في الفقه أو الآراء الجديدة في التفسير لا تخترق الطبقات العميقة، ولا تُحدِثُ تجديدًا عميقًا في الفكر الدينيِّ.
أمَّا محمد إقبال فسعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول بناء فلسفةٍ بديلةٍ للدين، ليستْ مكتفيةً بذاتها، وإنَّما اغتنتْ بما استوعبتْه وتمثلتْه من معارفِ الآخر. خلافًا لمحمد عبده، الذي نهى عن الخوض في الذَّات والصفات والقدر، قال محمد عبده بصراحة: «إنني لا أحب أن أتكلَّم في هذا الأمر أكثر من هذا، وإلا لم أكن من الصَّابرين، ولَخُضْتُ في أعمال القَدَرِ مع الذين خاضُوا فيه.»٢٣ بينما نجد إقبال يستهلُّ كتابَه بقولِه: «إنَّ التفكير الفلسفي ليس له حدٌّ يقف عنده، فكلَّما تقدَّمَت المعرفةُ، وفتحت مسالكَ للفكر جديدةً، أمكن الوصولُ إلى آراء أُخرى.»٢٤

يبدأ إقبال بحثَه بِبَيَانِ إمكانيَّة استخدامِ المنهج العقليِّ الفلسفيِّ في مباحثِ الدِّين، وتحليل جوهر الدِّين، والجذور العميقة للإيمان وما ينطوي عليه. وهذا دعاه إلى الاستعانةِ بآراء جماعةٍ من الفلاسفة والمفكرين الغربيين في تفسير الدين كظاهرة وجدانيَّة وإيمانيَّة واجتماعيَّة، وبموازاةِ ذلك حرص على استنطاقِ التُّراث، خاصَّة آراء المتصوِّفة والعُرَفَاء والفلاسفة.

لقد توفَّر هذا الكتاب على بناء إطارٍ منهاجيٍّ للدراسات اللاهوتية في الإسلام، تتحدَّد فيه أولوياتُ البحث، ونقطةُ البداية، والمنطلقاتُ الأساسية، وأدواتُ التعاطي مع الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، ووسائلُ اكتشاف البؤر المضيئة في التراث، ومدى الإفادة من عناصره الحية، وتوليفُها مع المعارف الحديثة في هندسة معرفية متناغمة الإيقاع.

ففي استقراء سريع ﻟ «تجديد التفكير الديني في الإسلام» يطالِع القارئُ آراءَ فلاسفة ومفكِّرين غربيِّين، مثل: «لوك، هيوم، هوكنغ، برغسون، فرويد، ديكارت، بركلي، نيوتن، راسل، زينون، دريش، ولدن كار، ماكتاغارت، برود، أوغسطين، منك، ماكدونالد، نومان، برونغ، شوبنهور، برادلي، بلانك، هيغل، لورد هالدين، رونغير، آلكزاندر، رويس، جون ستيوارت مل، روجر بيكون، شبنغلر، هورتن، هيزنبرغ، جورج فوكس، آينشتاين، وليم هاملتون، لايبنتز، يونغ، داروين …»٢٥ وربما لا نجد مفكِّرًا إسلاميًّا يتسع أحدُ مؤلفاته لاستيعاب آراءِ هذا العدد الوفير من المفكِّرين في تلك الفترة. وهذا الحشدُ للمعارف الغربية يشي بموقفٍ علميٍّ من العلوم الحديثة، ويستند إليها كمرجعيَّة مهمَّة في تشريح التراث وغربلته، وتأويل النصِّ ومعرفة مجالاته التداولية، والتوغُّل في دراسة الظاهرة الدينية واستجلاء مدياتها في النفس، وحقلها وحدودها في الاجتماع البشري.

ويحكي لنا هذا الطيفُ من الأسماء عن تنوُّع مرجعيَّات تجديد الفكر الديني عند إقبال، فهو تارة يستلهم مقولاتِ الفلاسفة، وأُخرى يتعاطى مع خبرةِ اللاهوت المسيحيِّ الجديد، وثالثة يستعينُ بعلماءِ النَّفس، أو الاجتماع، وغيرهم. وهو بذلك يتخلَّص من حالة الوجل والخوف حيال معطيات اللاهوت والعلوم الإنسانية الحديثة، التي طبعت تفكيرَ الكثير من الإسلاميِّين اليوم. لكن يُؤْخَذُ على محمد إقبال أنَّه كان يكتفي غالبًا بإشاراتٍ لآراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين من دون أن يقف عند آرائهم ويستوعبها نقديًّا في سياق بحثه.

٤

تَدْيينُ الدُّنْيَوِيِّ
ساد الحياةَ الإسلاميَّةَ عبر التاريخ نمطٌ شعبيٌّ للتديُّن؛ يسمح للإنسان بممارسة كل فعاليَّاته ونشاطاتِه الاجتماعية من دون رقابة ووصاية، إذ يستطيع المتديِّن أن يعبِّر عن مشاعره وعواطفه بعفوية، ويُشبع تطلعاته وأشواقه وأحلامه ورغباته بتلقائية، من غير أن يعيش تناقضًا وجدانيًّا بين إيمانه وطقوسه وأحلامه وأشواقه. إلا أنَّ معظمَ مفكِّري الإسلام في العصر الحديث اتَّخذ من المدوَّنة الفقهيَّة مرجعيَّةً وحيدةً لفهم الدين وتفسيره، فاختزل الدين في أبعاده الدنيوية، وأمسى مفهومُ التديُّن بمثابةِ مجموعةِ توصيفاتٍ وتعليماتٍ ترتبطُ بالشَّأْنِ الدنيويِّ لحياةِ الإنسان، وتركَّزت الجهودُ على التنقيب عن المضمون العمليِّ الاجتماعيِّ والسياسيِّ للدِّين، وانشغل الكتابُ بتأويلِ النُّصوص تأويلًا دنيويًّا، بنحو ما نادى به حسن حنفي، من ضرورة الانتقال «من السماء إلى الأرض، ومن الله إلى الإنسان، ومن الآخرة إلى الدنيا.»٢٦ ونجم عن هذا الفهم تمديدُ مفهومِ الدِّين وجعله مفهومًا شموليًّا يستوعب مجالاتِ الحياة كافة، ويدمغ عوالمَ الذِّهن والتفكير والواقع والفعاليات الاجتماعيَّة والاقتصادية والعَلاقات السياسية والدولية بصِبغةٍ دينيَّة. وتزامنَ مع ذلك تقويضُ المعاني الرمزيَّة للدين، وتقليص أبعاده الميتافيزيقيَّة، وسلخ التديُّن عن أحلامِ وأشواقِ الرُّوح وتطلُّعها للغيب، وذبول الهالة القدسيَّة للعالم لدى المتدين، وتحويل الدين إلى أيديولوجيا تختزله في تفسيرٍ رسمي سطحيٍّ ضيق.

إن أدلجة الدين والتشديد على دنيويتِه يُفْضِي إلى تفريغِه من مضمونه الرُّوحي والميتافيزيقيِّ، ويستغرقه في مجالاتٍ بعيدة عن العوالم الباطنيَّة للإنسان، وبدلًا من أن يعمل الدينُ على تطهير الباطن، وترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية، وتربية الذوق الفني، ومنح العواطف رقَّةً وشفافيةً، بدلًا من ذلك يتحوَّل الدينُ إلى وسيلةٍ للكراهية، وأداةٍ للاحتراب والصراع.

وهنا ينبِّهُ محمد إقبال إلى غاية الدين وما ينشده بقوله: «الدين ليس علمَ الطبيعة أو علمَ الكيمياء، الذي يبحث عن الطبيعة في قوانين السببية، ولكن غايته الحقيقية هي تفسير ميدانٍ من ميادينِ التجارب الإنسانية، هو ميدان الرياضة الدينية الذي يختلف عن ميادين العلوم السابقة كل الاختلاف، والذي لا يمكن ردُّ أُسُسِه إلى أُسُسِ أيِّ علم آخر.»٢٧ ويورد إقبال الحديث عن طبيعة الرياضة الدينية في مواردَ متعدِّدةٍ من كتابه، كما يتحدث عن رديفتَيْها: التجرِبة الصوفيَّة والتجرِبة الدينيَّة،٢٨ ويقيم البرهانَ الفلسفيَّ على ظهور التجرِبة الدينية، ويخلُص إلى أنَّ الفرق بين الدين والفلسفة، يكمن في «أنَّ الدينَ يهدف إلى اتِّصالٍ بالحقيقة أقرب وأوثق، فالفلسفة نظريَّات، أما الدين فتجرِبة حيَّة، ومشاركة واتِّصال وثيق … إنَّ الدين في جوهره تجرِبة، وإنه لا بد من أن تكون التجرِبةُ أساسَه وقاعدتَه …»٢٩ ويُشرِّح التجرِبةَ الصوفيَّةَ الفريدةَ للحلاج ولغيره من أعلام التصوُّف. ويمكن القولُ إننا أمام محاولَةٍ علميَّة رائدة لاسترداد المضمون الرُّوحي العميق للدين، وإعادة المضمون التطهُّري الباطنيِّ للتديُّن، وتحريره من التشويه الذي تعرَّض له في هذا العصر.
من نتائج مفهوم محمد إقبال للدين، واستيعابه لتراث الفلاسفة والمتكلِّمين والعارفين، وتمثُّله للتجرِبة الرُّوحية، واطِّلاعه الجيِّد على الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة الحديثة، وأنه تحلَّى ببراعة في تأويل القرآن، وتَعَاطَى مع لغته بوصفها لغة رمزيَّة خاطبَ اللهُ بها الإنسانَ للإشارةِ إلى معانٍ لا تتسع لها قوالبُ الألفاظِ. وأتاح له هذا الأسلوبُ أنْ يغورَ في مداليل النصِّ الخفيَّة، ويتوغل في مضمونه الباطنيِّ باعتباره رموزًا وإشارات وشَفرات لحقائق تضيق عنها العباراتُ. ذلك ما مكَّنه من أن يقدِّم تأويلًا مختلفًا لنماذج من القصص القرآني، فمثلًا يرى: «أنَّ قصة هبوط آدم كما جاءتْ في القرآن، لا صلة لها بظهورِ الإنسان الأوَّل على هذا الكوكب، وإنَّما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بداية الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشكِّ والعصيان.»٣٠ وفي السياق ذاتِه يقدِّم تأويلًا للجنَّة والنَّار لا يتَّفق مع ما هو معروف في تراث المتكلِّمين.٣١

لا ريب أنَّ أيةَ محاولةٍ لتجديد الفكر الديني لا تنفتح على رؤيةٍ مختلفة في تحديد مدلولِ لغة الدين، لا تستطيع أنْ تخطوَ أيَّة خطوة جريئة إلى الأمام، تبلور فهمًا بديلًا، يسهم في بناء تصوُّر للدين يواكب العصر، وبناء نمط للتديُّن يعبر عن متطلَّبات زماننا الرُّوحية والأخلاقية والجمالية.

٥

مَصِيرُ الرُّؤْيَتَيْنِ

ما هو مصير رؤية كلٍّ من محمد إقبال ومحمد عبده في تجديدِ الفكر الديني، وأين التقى المساران، وأين افترقا؟

امتدَّتْ رؤيةُ إقبال في الفكر الديني عبر آراء فضل الرحمن، وهو مفكر باكستاني عمل في الحقل التربويِّ في باكستان، إلا أنَّه اضطر للهجرة من بلاده بعد تعرُّضه لهجمة شرسة من الجماعات السلفية، فأمضى ما تبقى من حياته أستاذًا للفكر الإسلامي في قسم لغاتِ الشرق الأدنى في جامعة شيكاغو، حتى توفي في العام ١٩٨٨م.٣٢
وإثر هيمنةِ الجماعاتِ السلفيَّة على الحياة الثقافيَّة في الهند وباكستان اضمحلَّ المنحى الفكريُّ لمحمد إقبال. وإنْ كان الفكرُ الدينيُّ في إيران في النصف الثاني من القرن العشرين أَعَادَ إنتاجَ المقولات المركزيَّة في فكر إقبال، وعمل على تنميتها وتطويرها، ولا سيما رأيه في ختم النبوة الذي يتلخَّص في «أنَّ النبوة لتبلغ كمالَها الأخيرَ في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوَّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكِها العميق لاستحالةِ بقاء الوجود معتمدًا على مِقود يُقَادُ منه، وأنَّ الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليَعْتَمِدَ في النهاية على وسائله هو.»٣٣ التقطَ علي شريعتي وغيره هذا الرأي، وصاغ على ضوئه عدَّةَ مفاهيم في فكره. وهكذا استعار مرتضى المطهري رأي إقبال في كون الاجتهاد هو «أُسُّ الحركة في الإسلام»،٣٤ وقدَّم على ضوئه تفسيرًا موسَّعًا للثابت والمتغيِّر ودور الاجتهاد في تطوُّر التفكير الديني في الإسلام. كما أفاد مفكِّرون إيرانيُّون آخرون من مقولات إقبال، ووظَّفوها في دعوتِهم لتجديد الفكر الديني.

أما محمد عبده فامتدَّ من خلال تلميذه رشيد رضا الذي عمل على إحياء النَّزعة السلفيَّة وبعثها من التراث، وحرص على الدعوة لها وترويجها عبر مَجلته «المنار» وكتاباته المتنوعة.

وقد كانتْ آثارُ الغزالي من أهم مصادر إلهام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا «فقد تأثَّر الثلاثة بمصنَّفات الغزالي تأثُّرًا بعيد الغور. أما جمال الدين فبالرغم من قلَّة ما وصل إلينا من مؤلفاتِه، نجد في ذلك القليلِ الدليلَ على ما كان لكتب الغزالي من القيمة عنده. ولسنا نخطئ أثر الغزالي في كتابات الشيخ محمد عبده. أمَّا محمد رشيد رضا، فيقرِّر أن الغزالي كان معلِّمَهُ الأوَّلَ العظيم، الذي اهتدى بهداه في باكورة أيامه.»٣٥
اختزلتْ هذه الحركةُ الغزاليَّ في مناهضتِه للمنحى العقلاني الحرِّ في التفكير الديني، وأحكامه الجائرة على جماعة من الحكماء والعارفين المسلمين، في «تهافت الفلاسفة» وغيره من آثاره. فأمسى الإسلامُ الفقهيُّ والإسلام الكلاميُّ الأشعري المستلهم من الغزالي وغيره هما المرجعية لديهم، من دون السعي لإحياء إسلام العارفين والمتصوفة والفلاسفة، أو توظيف الميراث الصوفيِّ للغزالي في بناء رؤيةٍ دينيَّة رُوحية حديثة. بالرغم من أنَّ نشأة عبده الأولى كانت تنزع للتصوُّف، و«كان اللاهوتُ الصوفي أشدَّ استهواء له، فغدا التصوفُ لمدة طويلة درسَه المفضَّل، كما كان موضوعَ أوَّل كتابٍ نُشِرَ له. وعاش لفترةٍ عيشة تقشُّف، قاطعًا العلائق مع الناس.»٣٦ بل إنَّ بداية حياة عبده كانت موغلة في التصوُّف السلوكي، وكانت مشْبَعة بالزهد، لكنها أخذتْ تضمحلُّ بالتدريج، وابتعد في خاتمة المطاف عن هذا الحقل. والمؤسف أنَّ محمد عبده لم يسمح بنشر «الفتوحات المكية» لابن عربي، عندما تَرَأَّسَ، في الفترة الأخيرة من حياته، لجنةً تُشْرِفُ على نشر الروائع الكلاسيكية.٣٧
أما مصدر الإلهام الثاني لهذه الحركة فهو ابنُ تيمية وابن قيِّم الجوزية، فقد أخذ الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا طريقتَهما في الإفتاء من «إعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين» لابن قيِّم الجوزية. وكان رشيد رضا يعتمد على ابن تيمية. وقد نشر في «المنار» طائفةً من مصنَّفات هذين العَلَمَيْن، وأُعيدَ طبع بعضِها بواسطة المنار أو برعايتِه. ويمكن أن نلاحظ بوضوح التشابهَ القويَّ بين الآراء التي كان يقول بها دعاةُ الإصلاح في مصر وبين آراء ابن حنبل وابن تيمية وابن قيِّم الجوزية.٣٨

لقد كان استبعادُ «رشيد رضا – حسن البنا – سيد قطب» لتراثِ الفلاسفة والعارفين والمتصوِّفة، ونعته بأنَّه تراثٌ باطنيٌّ ضالٌّ ومنحرف، ونفي التجرِبة الرُّوحية عن الإسلام، أحد أهم العوامل لتنامِي التيار السلفي، وهيمنته على الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في دنيا الإسلام اليوم. وعجز التفكير الديني لدى الإسلام السياسي، وقصوره في الانفتاح على ما يعانده من الأفكار.

وبعد أن امتدَّ رشيد رضا في حسن البنا ثم سيد قطب، التقَى قطب في تفكيرِه بأبي الأعلى المودودي، والأخير أبرز داعية للإسلام السياسي في الهند وباكستان، وأفكاره تمثِّل في حقل واسع منها النفيَ الكاملَ لرؤيةِ إقبال في تجديد الفكر الديني. إذ تبلورتْ في كتاباتِ المودودي مجموعةُ رؤًى حول الحاكميَّة الإلهيَّة، والجاهليَّة … وغيرها، استوحاها من البيئة الهندية، وما تحفل به من احتراب وصراعات بين المسلمين والهندوس، قبل استقلال المسلمين في باكستان، وما اكتوى به المجتمعُ الإسلامي هناك من جراحات وآلام. فاكتستْ هذه الرؤى على يديه صياغة مفاهيمية، بتوظيف النصوص من آيات وروايات، كمستند لتعميم مصطلح «الجاهلية»، وغيره من المصطلحات، مثل: «الحاكمية، الربوبية»، وضخِّها بمداليل لا تنتمي إلى السياقات الواردة فيها في آيات القرآن، استقاها المودودي من ابن تيمية. ثم تسلَّلَتْ هذه المفاهيم إلى أدبيَّات الإسلاميين خارج الهند، وتغلغلتْ في آثار سيد قطب، خاصة كتابه «معالم في الطريق» وتفسيره «في ظلال القرآن». وأمستْ من المفاهيم المحوريَّة في ثقافةِ الإسلام السياسي، واستبدَّت — إثر القراءة القطبية لمفهوم الجاهلية — ببعض المراهقين رغبة في الخروج على المجتمع وتكفيره.

إنَّ المودوديَّ لم يكن باحثًا معمِّقًا كمحمد إقبال، غير أنه كان ذا تأثير بالغ في أتباعه عبر كتاباته ومحاضراته، فقد لعب خطابُه التعبويُّ دورًا حاسمًا في مسار الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية ومصيرها. لكنَّ خطاب المودودي بالرغم من نفاذه إلى وجدان الجماهير، وتجنيدها في اللحظات الحرجة، لم يعمل على إعداد مثقَّفين جادِّين في إطار جماعته؛ ذلك أنَّه لم يتمكن من التعبير عن أية رؤية فسيحة أو عميقة للدور الذي ينبغي على الإسلام أن يلعبه في العالم، باعتباره كان صحافيًّا أكثر منه مفكرًا جادًّا، كان يكتب بسرعة، ويصل إلى نتائج سطحية، وكان يكتب باستمرار، لذلك لم يصبح أيٌّ من أتباعه دارسًا جادًّا للإسلام، لأنهم كانوا يحسبون أن ما يقوله المودودي هو كلمةُ الإسلام الأخيرة، بحسب توصيف فضل الرحمن.٣٩

ختامًا، أرجو من الباحثين والدارسين المهتمِّين بالشيخ محمد عبده، العودة إلى تراثه وغربلته وتقييمه ونقده، والخلاص من الأحكام التبجيليَّة ومنطق الثناء والمديح الزائف، الذي يشي بتضخُّم الذات أكثر مما يشي بالاستناد إلى معايير علميَّة موضوعيَّة، ولا يميز بين المعرفةِ البسيطة في آثار محمد عبده، والمعرفة المركَّبة العميقة في آثار محمد إقبال، التي تتنوع مرجعياتُها، وتعبِّر عن نسيجٍ من الروافد المنحدرة من منابعَ ثقافية وحضاريَّة متنوعة.

إن الأحكام العاجلة والمواقف التبجيليَّة لا تكفُّ عن الارتقاء بطائفة من الكتاب الإحيائيِّين، والمبشِّرين بالنهضة، ودعاة الإصلاح، فتجعلهم فلاسفةً كبارًا ومفكرين عمالقة. وهي عاهة ثقافية شائعة في آرائنا وكتاباتنا المتأخرة، كتعويض عن مأزقنا الحضاري، وتخلُّفنا وعجزنا عن المساهمة في أعياد التاريخ، وإنجاز المعطيات العلمية والمعرفية والمدنية للعصر.

هذه هي قراءتي لرؤية محمد عبده في تجديد الفكر الديني، أو ما أراد لها رشيد رضا أن تُجْرَى وتتجسَّد، ورؤية محمد إقبال. وكلُّ قراءةٍ اجتهادٌ ينبثق من خلفيَّات القارئ ومسَبَّقاته ومفاهيمه وثقافته وتطلُّعاته وآماله. ولا أنفي تحيُّزاتي الطبيعية البشرية، ورغباتي في هذه القراءة. وربما ليس هذا هو محمد عبده ولا محمد إقبال، لكنَّ الأكيد أنَّ هذا هو فهمي لهما. وقد يشفع لي أني استندتُ في استخلاص هذه القراءة إلى مراجعةِ تراثنا القريب، ولا سيما آثار عبده وإقبال، التي طالعتُ بعضَها أكثر من مرة.

١  الندوة الدولية بمناسبة الذكرى المئوية لرحيل الإمام محمد عبده، «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، حلب»، ٩-١٠ نوفمبر ٢٠٠٥م.
٢  ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ١٧٩٨–١٩٣٩م، ترجمة: كريم عزقول، بيروت: نوفل، ١٩٩٧م، ص١٢٢.
٣  جرجي زيدان: مشاهير الشرق، القاهرة، ج١، ص٢٨١.
٤  المنار، ج٨، ص٤٥٧.
٥  تشارلز آدمس: الإسلام والتجديد في مصر، ترجمة: عباس محمود، القاهرة، لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية، ص٤.
٦  عطية سلمان أبو عاذرة: مشكلتا الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي الحديث عند كلٍّ من الإمام محمد عبده ومحمد إقبال – دراسة مقارنة، بيروت، دار الحداثة، ١٩٨٥م، ص٣٩.
٧  محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٦٨م، هامش ص٢.
٨  د. عبد الوهَّاب عزام: محمد إقبال، سيرته وفلسفته وشعره من منظومة اسرار خودي، مطبوعات الباكستان، ١٩٥٤م، ص١٦.
٩  عطية أبو عاذرة: مصدر سابق، ص٤٠–٤٤؛ ومحمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، القاهرة، مكتبة وهبة، ١٩٥٧م، ص٣٧٢.
١٠  د. ماجد فخري: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة: د. كمال اليازجي، بيروت، الجامعة الأمريكية، ص٤٧٨.
١١  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٢.
١٢  ﻫ. أ. ر. جيب: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت، دار مكتبة الحياة، ١٩٦٦م، ص٨٩ (الاسْتِدْنَاء: مصطلح يعني به جيب: التوحيد الذي يؤكد استدناء الإله من كل مكان في الطبيعة). لاحظ ص٤٧ من الكتاب.
١٣  ألبرت حوراني: مصدر سابق، ص١٣٣-١٣٤.
١٤  إغناتس غولدتسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: محمد يوسف موسى وصاحباه، القاهرة، دار الكتاب المصري، ١٩٤٦م، ص٢٥١.
١٥  إغناتس غولدتسيهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، بيروت، دار اقرأ، ١٩٩٢م، ص٣٤٧-٣٤٨؛ وتشارلز آدمس: مصدر سابق، ص٤.
١٦  أبو الأعلى المودودي: نحن والحضارة الغربية، بيروت، دار الفكر، ص١٣–١٨.
١٧  تشارلز آدمس: مصدر سابق، ص٧٦.
١٨  المصدر السابق، ص١٣٠–١٣٢.
١٩  د. محمد جابر الأنصاري: الفكر العربي وصراع الأضداد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٩٩م، ص٢٣٢.
٢٠  تشارلز آدمس: مصدر سابق، ص٩٠.
٢١  د. حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، القاهرة، مدبولي، ج١ «المقدِّمة».
٢٢  د. محمد جابر الأنصاري: مصدر سابق، ص٢١٦.
٢٣  المنار، ج٦: ص٥٩٠، ٥٩٨.
٢٤  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٣.
٢٥  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٦، ٧، ١٠، ١١، ١٢، ١٤، ٢٥، ٢٧، ٢٩، ٣٢، ٣٥، ٣٨، ٤١، ٤٣، ٤٤، ٤٦، ٥٤، ٥٥، ٦٩، ٧٠، ٨١، ١٤٨، ١٥٢، ١٨٨، ٢١٠، ٢١٨.
٢٦  د. حسن حنفي: مصدر سابق.
٢٧  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٣٣-٣٤.
٢٨  محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٥، ٢٢، ٢٣، ٢٤، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩، ٣٦، ٧٤، ١١٠، ١٢٦، ١٢٧، ٢١٠.
٢٩  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٧٤، ٢١٠.
٣٠  محمد إقبال: مصدر سابق، ص٩٩.
٣١  محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٤١.
٣٢  حول حياة فضل الرحمن وتفكيره، راجع مقدمتنا لترجمة حسون السراي لكتاب «الإسلام» لفضل الرحمن، نشر الشبكة العربية للأبحاث في بيروت.
٣٣  محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٤٤.
٣٤  محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٧٠.
٣٥  تشارلز آدمس: مصدر سابق، ص١٩٣.
٣٦  ألبرت حوراني: مصدر سابق، ص١٤٠.
٣٧  ألبرت حوراني: مصدر سابق، ص١٥٨. عن المنار، ع٧ (١٩٠٤-١٩٠٥م)، ص٤٣٩.
٣٨  تشارلز آدمس: مصدر سابق، ص١٩٣–١٩٥.
٣٩  فضل الرحمن: الإسلام وضرورة التحديث: نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية. ترجمة: إبراهيم العريس، بيروت، دار الساقي، ١٩٩٣م، ص١٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥