إسلاميَّةُ المعرِفَةِ أيديولوجيا وليستْ معرفةً١
١
اكتشافُ هويَّةٍ دينيَّة وأيديولوجيَّة للعلم والمعرفة أحدُ الأحلام الكبيرة للجماعات الدينيَّة في عالم الإسلام. وقد ظهرت الدعوةُ لذلك قبل أكثر من نصف قرن في كتاباتِ أبي الأعلى المودودي، وتقي الدين النبهاني، وغيرِهما، ممن حاول أن يخلع غطاءً دينيًّا على علم الاقتصاد الحديث وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.
انخرطَ بهذه الدعوةِ جماعةٌ من المفكِّرين المسلمين في البلاد العربية وإيران وباكستان وماليزيا وإندونيسيا وتركيا والولايات المتحدة، وأخذتْ عدَّةُ مؤسسات على عاتقها النهوضَ بهذه المهمَّة، وعُقِدَتْ عشراتُ الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشيَّة، لدراستِها. وحسب رصدنا للمشهد الثقافي في العالم العربي وإيران والإنتاج الفكريِّ الإسلاميِّ بالعربية والفارسيَّة في السنوات ١٩٨٠–٢٠٠٠م، وجدنا أنَّ جماعةَ «إسلاميَّة المعرفة» في العالَم العربي يمثِّلون أبرزَ جماعةٍ تعمل على خلق هُوية دينيَّة وأيديولوجيَّة للعلم والمعرفة، وكانت خلاصةُ جهودِهم تأسيسَ «المعهد العالمي لإسلامية المعرفة» سنة ١٩٨١م، وتكفَّل المعهدُ بإقامة الكثير من الحلقات النقاشيَّة والندوات والمؤتمرات، وأصدر عِدَّةَ دوريات، وعددًا وفيرًا من الكتب في مجالات المعرفة البشرية المختلفة مع دمغها بصفة الإسلاميَّة.
قضيَّةٌ فلسفيَّةٌ وليست دينيَّةً
منذ ظهور الفكرِ الفلسفيِّ تمحورتْ جهودُ الفلاسفةِ والباحثين في الفلسفة حول قضايا المعرفة والوجود والقِيَم. وقد سبق نضوجَ الوعي الفلسفي ظهورُ الحركة السوفسطائيَّة التي أشاعتْ نوعًا من الاستدلال المُخَاتِل، الذي يُبْتَنَى على أنَّ «المعرفةَ نسبيَّةٌ وليستْ مطلقةً، وأنَّ لكلِّ قضيَّة جانبين يناقض أحدُهما الآخرَ، ولا شيء أصدق من شيء، لكنَّه قد يكون أفضل منه بالقياس إلى منظور الفرد» كما يقول بروتاغوراس، وهو أحدُ أعلامها. فكانتِ المشكلةُ المركزيَّة لها مشكلةً معرفيَّة، ويعود الفضلُ للفيلسوف الأثيني سقراط ثم تلميذه أفلاطون ومن بعدهما أرسطو في تحرير العقل اليونانيِّ من سطوة هذه الحركة، التي أشاعت الاضطرابَ في الرُّؤية والشكَّ والارتياب في التفكير. وفي العصر الوسيط نقض القدِّيسُ أوغسطين دعاوى الشُّكَّاك الذين ذهبوا إلى عدم قدرة العقل للوصول إلى حقيقة مطلقة، فدلَّل على أنَّ هناك حقيقةً مطلقةً لا يرقى إليها الشكُّ.
وكانت قضيةُ المعرفة من أبرز القضايا التي واكبت الفلسفةَ منذ مطلع التفكير الفلسفي، وظلَّت على الدوام واحدةً من المشاغل المركزيَّة للعقل الفلسفيِّ، كما نلاحظ في التُّراثِ الفلسفيِّ للعصر الهيلنستي، والمدارسِ التي سادَتْ فيه (المدرسة الأبيقورية، المدرسة الرواقية، مدرسة الإسكندرية)، والعصر الوسيط مع «آباء الكنيسة» و«الفلسفة المدرسية» و«الاسمية».
ومنذ بداية عصر النهضة طَغَتْ مسألةُ المعرفةِ في التفكير الفلسفيِّ الغربي على غيرها من مشاغل الفلسفة، وأصبحت هي القضية الأساسية، وما سواها من قضايا تتفرع عليها؛ ذلك أنَّ المقولات والأفكار والمؤلفات المهمة في هذا العصر وما تلاه اهتمَّت بالدرجة الأولى بالمعرفة وقواعد التفكير المنطقيِّ السليم، كما نلاحظ في «الأورغانون الجديد» لفرنسيس بيكون، الذي يتناول أُسُسَ الاستقراء والمنطقَ التجريبي، و«الكوجيتو» الذي عرضَهُ ديكارت في كتابه «مقال في المنهج».
وفي عصر التنوير واصل الفلاسفةُ في مؤلَّفاتهم الاهتمامَ بمسألة المعرفة وعدَّها المسألةَ الأهمَّ، مثلما نجد في كتابِ جون لوك «محاولة في الإدراك الإنساني»، والعملِ الرائد «نقد العقل المحض» للفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، ثم الاتِّجاهاتِ الفلسفية في القرن التاسع عشر، إلى المدارسِ والحلقاتِ الفلسفيَّة في القرن العشرين، وأشهرها «حلقة فيينَّا» التي أَرْسَتْ «الوضعية المنطقية» وبشَّرتْ ﺑ «التصور العلميِّ للعالم» من خلال مَجلَّتها «المعرفة»، وسادتْ مقولاتُها عالميًّا في النصف الأول من القرن العشرين، ولم تَزَلْ رؤاها مصدرَ إلهام فلسفة العلم ومناهجها المتنوعة حتى عصرنا الرَّاهن.
المعرفة عند الإسلاميِّين في العصر الحديث
على الرغم من أنَّ المحورَ المركزيَّ للبحثِ والتفكير في الفلسفة الإسلاميَّة هو «الوجود»، لأنَّ الحكمةَ الإلهيَّة كما عرَّفوها هي «علم يُبْحَثُ فيه عن أحوالِ المَوْجُودِ بما هو موجود»، غير أنَّ الفلاسفةَ المسلمين عالجوا حقيقةَ العلم والمعرفة، وأنواعَها ومراتبَها، ومصادرَها، وحكايتَها عن الواقع وقيمتَها، وغيرَ ذلك في مباحث «النفس، والعقل والعاقل والمعقول، والمقولات، والكُلِّي، والوجود الذهني»، وإن لم يفردوا بابًا خاصًّا بمباحث المعرفة في مؤلَّفاتهم.
وهكذا اهتمَّ بقضيَّة المعرفة علماءُ الكلام والمتصوفةُ والعارفون، كلٌّ على وَفق مسلَّماته وآلياته. ففي حين عَدَّ المتصوفةُ المعرفةَ حالةً ذاتيَّة، ذوقيَّةً ووجدانيَّةً، مصدرُها الإلهامُ أو الفيضُ الإلهيُّ، وأدواتُها القَلْبُ والإرادةُ من خلال تصفية النَّفس والرياضات الرُّوحية، اتَّجَهَ المتكلِّمون نحو تفسير موضوعيٍّ للمعرفة عمادُه الاستدلالُ بقياس المُمَاثَلة (قياس الغائب على الشاهد)، وآلِيَّتَا السَّبر والتَّقسيم والدَّوران، منطلقِين في استدلالاتهم من جملةٍ من المفاهيم والقضايا الصَّادقة في نظرهم، جلُّها جاء القاضي عبد الجبار على ذكرها في الأجزاء المخصَّصة للنَّظر في موسوعته «المُغني»، والتي سترسم جَمِيعَ تركتهم الفِكْرِيَّة في حقول المَعْرِفَة الإسلاميَّة كلها من اللغة والنحو والبلاغة، مرورًا بالفقه وأصوله، وانتهاءً بعلوم القرآن وأساليبهم في تفسيره.
كان الشيخُ محمد عبده من أوائل الذين أشارُوا إلى طبيعةِ المعرفة في الإسلام ومصادرِها، وتلاه الشيخُ مصطفى عبد الرازق في كتابه المعروف «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، ومن بعده تلميذُه علي سامي النشار في «مناهج البحث عند مفكِّري الإسلام» و«نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، لكن الجهْدَ المميَّزَ في هذا المضمار هو جهدُ محمد إقبال في «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، الذي درس بعمق طبيعةَ المعرفة الدينية، وتجلياتِ الرياضة الرُّوحية، والحَيِّزَ الذي تحتلُّه المعرفةُ الذوقيَّةُ الشهوديةُ في المعرفة الدينية.
وكان كتابُ «أصول الفلسفة والمنهج الواقعي» الذي ألَّفه السيدُ محمد حسين الطباطبائي، وكَتبَ تلميذُه الشيخُ مرتضى المطهري تعليقةً موسعةً عليه، هو أوَّلُ كتاب في الفلسفة الإسلاميَّة الحديثة يخصِّص مساحةً واسعةً لبحث «المعرفة». فبعد أن فرغ الطباطبائي في المقالتَين الأولى والثانية من بيان «معنى الفلسفة وحدودها، والعَلاقة بينها وبين العلوم الطبيعية والرياضية» افتتح بحثَ نظرية المعرفة، وأَوْلَاهَا أهميَّةً خاصة، حيث جعلها تتصدَّر مسائلَ الفلسفة الأخرى، وعمل على ترتيب البحث فيها على ثلاثة محاور متسلسلة منطقيًّا، تبدأ ﺑ «قيمة المعرفة»، يليها «مصدر المعرفة»، وتنتهي ﺑ «حدود المعرفة»، مضافًا إلى تقديم البحث في «نظريَّة المعرفة» وما يتَّصل بها من المسائل مثل «الإدراكات» على غيرها، فإنها استوعبت حيِّزًا كبيرًا من كتاب «أصول الفلسفة»، إذ انبسطت على معظم صفحات الجزء الأول، واحتلَّت صفحاتِ الجزء الثاني بتمامها، بينما اشتملت الأجزاءُ الثلاثة التالية من الكتاب على المسائل الفلسفية الأخرى، وبذلك يغدو «أصول الفلسفة» أوَّلَ مؤلَّف في الفلسفة الإسلاميَّة الحديثة يعالج مسألةَ المعرفة بهذه الكيفية، ويخصُّها بعناوين ومباحث مستقلَّة مفصَّلة، وتتبلور فيه الصيغةُ النظريةُ لها، ويُولِيها هذا القدرَ من البحث والتحليل.
كما تناولَ السيِّدُ محمد باقر الصدر قضيةَ المعرفة في كتاب «فلسفتنا» في الفصل الأول، فبحث «المصدرَ الأساسيَّ للمعرفة» وأشهرَ النظريات في تفسير المعرفة التصوريَّة والتصديقيَّة، ثم أوضح موقفَ الفلاسفة المسلمين حيال ذلك، وفي الفصل الثاني درس «قيمةَ المعرفة» واستعرض بشكل نقديٍّ مسارَ الموقف الفلسفيِّ الغربيِّ إزاء قيمة المعرفة وإمكان كشفها عن الحقيقة، منذ النَّزَعات الارتيابيَّة المبكرة في الفكر الغربي إلى العصر الحديث. وفي مرحلة لاحقة عالج الصَّدْرُ الأساسَ المنطقيَّ للاستدلال الاستقرائيِّ الذي تقوم عليه جُلُّ المعارف البشريَّة، دارسًا ذلك — تحليلًا ونقدًا — من خلال معالجة مشكلة التعميم الاستقرائيَّة لدى كلٍّ من المدرسةِ الأرسطية ومصادراتِها العقلية، ونظرياتِ المنطق الحديث وتفسيراتِه لنظرية الاحتمال، فكشف في كتابه «الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء» محدوديةَ نظرية البرهان الأرسطية في تشكيل المعرفة، وخطأَ الفكر الغربي في تفسيره لنظرية الاحتمال، مقدِّمًا اتجاهًا جديدًا في نظرية المعرفة يفسِّر الجزء الأكبر منها تفسيرًا استقرائيًّا من خلال محاولة بديلة في تفسير حساب الاحتمال، شكَّلت أساسًا لفهم آخر لنظرية المعرفة بكلِّ تفاصيلها، اصطلح عليها ﺑ «المذهب الذاتي للمعرفة».
المعرفة عند الإسلاميين في الربع الأخير للقرن العشرين
لا يشكُّ أحدٌ في أن العَقدين الأخيرَين من القرن العشرين كانا من أشدِّ سنوات ذلك القرن في المخاضات والإرهاصات السياسية والاجتماعية والثقافية في عالمنا، والمتابعُ لحركة الفكر الإسلامي في هذه الحقبة يستطيع أن يرصد عدةَ تحوُّلات ومنعطفات مهمة في مسائل: «فلسفة الدين، وعلم الكلام، والتأويل، وقراءة النص، وفلسفة الفقه، ومقاصد الشريعة، والنظام المعرفي».
ففيما يتعلق بقضية المعرفة ظهرت جماعةٌ إسلاميةٌ أشهرت مشروعَها من خلال معهد أبحاث، وعبَّرت عن نفسِها ﺑ «إسلامية المعرفة» ومعهدِها ﺑ «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» الذي تأسَّس سنة ١٩٨١م، وهي ترى أنَّ العلومَ الإنسانيَّةَ والاجتماعيةَ الغربيةَ علومٌ متحيِّزة، اصطبغتْ بلون المحيط الذي نشأتْ وتطوَّرتْ فيه، وما يحفل به ذلك المحيطُ من ملابسات، وقيم ثقافيَّة، ومعايير منهجيَّة، تستند إلى قراءةٍ أُحَادِيَّةٍ هي «قراءة الكون» فقط، وهذه القراءة تجسِّد حالةَ فِصام حادٍّ، لأنَّها تستبعد قراءةَ الوحي التي تتكامل بها قراءةُ الكون، من خلال منهج «الجمع بين القراءتين». كذلك تعتقد جماعةُ «إسلاميَّة المعرفة» بأنَّ فلسفةَ «العلوم الطبيعية» و«العلوم البحتة» هي فلسفةٌ وضعيَّةٌ قاصرة، أفضتْ إلى منهج وضعيٍّ مادِّي، يفسِّر ما يجري في العالم على أساس الجَدَل بين الإنسان والطبيعة، من دون وعيٍ لدور الله في العالم، وباستبعاد دورِ الله يُختزل الإنسانُ والعالَم إلى مجموعةِ موجوداتٍ وأشياء ماديَّة لا غير.
وتتلخص المرتكزاتُ المنهجيَّةُ لإسلامية المعرفة، كما يرى دعاتُها، بما يلي:
-
(١)
صياغة النظام المعرفي الإسلامي.
-
(٢)
اكتشاف المنهجيَّة القرآنية.
ولكي يتحقق ذلك، تعملُ على:
-
(٣)
بناء منهج للتعامل مع القرآن الكريم.
-
(٤)
بناء منهج للتعامل مع السنَّة النبوية.
-
(٥)
بناء منهج للتعامل مع التراث الإسلامي.
-
(٦)
بناء منهج للتعامل مع التراث الغربي والتراث الإنساني.
وقد توسَّلت جماعةُ «إسلامية المعرفة» لبلوغ هدفها بعقد حلقاتٍ نقاشيَّة وندوات ومؤتمرات، وإصدار دوريات، وكتابة دراسات وكتب، وتأسيس مراكز بحوث، ومؤسسات أكاديمية.
وبموازاةِ هذه الجماعة كانت هناك جماعةٌ أخرى تتشكل في إيران، وتعمل على تقديمِ صياغة مختلفة لفهمٍ يفسِّر طبيعةَ المعرفة الدينية، ويشرح آليَّةَ فهم الدين وكيفيَّتَه، والتأشيرِ على خصائص المعرفة الدينيَّة بالمقارنة مع سائر المعارف البشرية، ودراسةِ أبعاد العَلاقة بين المعرفة الدينية والمعارف البشريَّة الأخرى، والكشفِ عن أسباب تحوُّل وثبات المعرفة الدينية على امتداد التاريخ.
وكان الدكتور عبد الكريم سروش، قد درس ذلك في كتابه «القبض والبسط النظري للشريعة» وعبَّر عنه ﺑ «نظرية تَكَامُلِ المعرفة الدينية». وتستند نظريةُ تكامُل المعرفة الدينيَّة إلى الأركان الآتية:
-
(١)
الدين والمعرفة الدينية أمران متغايران (وليسا متعارضَين أو متضادَّين).
-
(٢)
الدين ثابت، ولا يطرأ عليه أيُّ تغيير أو تحوُّل.
-
(٣)
المعرفة الدينيَّة إحدى أنواع المعارف البشرية.
-
(٤)
المعارف البشرية مترابطة ومتداخلة مع بعضها.
-
(٥)
المعارف البشريَّة متحوِّلة ومتغيرة.
-
(٦)
تحوُّلات المعارف البشرية تكامليَّة، وليست تراجعيَّة وسلبيَّة.
واستنادًا إلى رصدِنا للمشهد الثقافيِّ في العالَم العربيِّ وإيران والإنتاج الفكريِّ الإسلامي بالعربية والفارسية في السنوات ١٩٨٠–٢٠٠٠م، وجدنا أنَّ اتجاهَ «إسلامية المعرفة» في العالم العربي أبرزُ اتِّجاه يسعى لصياغة نظام معرفي من خلال كتاباتٍ عديدة، وهكذا لاحظنا اتجاهَ «تكامُل المعرفة الدينية» في إيران يقف في الجهة الأخرى المقابلة ﻟ «إسلامية المعرفة»، وهو الأبرزُ والأشدُّ إثارة، فما زالت النقاشاتُ التي تجاوز بعضُها حدودَ الحوار العلمي مستمرةً، حول أفكار هذا الاتجاه، خاصة وأنَّ صاحبَها يؤجِّج السِّجَالَ ويغذِّيه، من خلال تلاحُق أطروحاتِه في «التعدُّدِيَّة الدينيَّة» و«البسط في التجرِبة النبوية».
٢
إنَّ إسلاميَّةَ المعرفة واحدةٌ من الموضوعات المحوريَّة في الفكر الإسلاميِّ المُعَاصِر، وبرز تبايُنٌ حادٌّ في مواقف الرافضين لها ودعاتِها، بحيث طَغَتْ في بعض الكتاباتِ حَالَةٌ تشهيريَّةٌ غيرُ علميَّة، وأضحى كلُّ واحدٍ يتَّهم الآخرَ بما يحلو له، وأسرف بعضُ الكُتَّاب في اتِّهام جماعةِ إسلامية المعرفة، فعدُّوها تعبيرًا مقنَّعًا للحالة السلفيَّة، وجرَّدوها من أية أهليَّة للبحث العلمي، وتعاملوا مع الإنتاج الفكري الوفير والمتنوع في هذا الموضوع من منظور واحد، وحكموا عليه بجملته بالأحكام ذاتها، ولم يميِّزوا بين مستوياته المختلفة.
وبُغْيَةَ التعرف على موقفٍ علميٍّ يتجاوز الأحكامَ العاجلة، ويختبر إسلاميَّةَ المعرفة بمنطق يتحلَّى بالإنصاف والموضوعية، تنبغي دراسةُ الموضوع من أبعادِه المختلفة، ومحاولةُ الكشف عن منطلقاته في التراث والمعرفة الحديثة، والبحثُ في مرجعيَّاته ومداخلِه المُتَعَدِّدة. ففي استقراءٍ عاجِلٍ نجد أكثرَ من موقفٍ حِيَال إسلاميَّة المعرفة، ففي الوقت الذي يشدِّد فيه عِدَّةُ باحثين على ضرورتها الحضارية والمنهجية، ويعتقدون بأنها سبيلُنا الوحيد لبناء علوم خاصَّة بنا، تتناسب مع موروثنا وهُويتنا وعقيدتنا، وتتطهر من الرؤية الوضعية للعلوم الغربية، ترفض مواقفُ أخرى هذا الفهم، وتحسبه تفسيرًا مبسطًا للمعرفة الحديثة، ووسيلةً من وسائل التَّعبئة الأيديولوجيَّة المقنَّعة بقناع معرفي.
وتحاول أن تجد الدعوةُ إلى إسلاميَّة المعرفة مبرِّرَها في أنَّ العُلومَ الإنسانيَّةَ لا يمكن سَلْخُها عن مُحِيطِها الحضاريِّ الذي وُلِدَتْ في فضائِه الخاصِّ، كما أنَّه ليس بوسعنا نفي تأثير العوامل الأيديولوجيَّة والثقافيَّة والتاريخيَّة والجغرافيَّة في صيرورتها وتشكُّلها. ومن ثَمَّ تصطبغ هذه العلومُ بصِبغة معيَّنة، تغدو فيها متحيزةً وليست محايدةً؛ ذلك أنَّها تتلوَّن بلَون المُحيط، وما يسودُه من رؤيةٍ كونيَّة، وفهمٍ وضعي للكون والإنسان والحياة. وكما يرى الدكتورُ عبد الوهَّاب المسيري، فإنَّ علمانيَّةَ العلوم التي ظهرتْ في القرن السابع عشر عملتْ على فَصْلِ العُلُوم عن المنظومة القيمية، ونزعِ القداسة عن كلِّ شيء، وسحبِ الأشياء من عالم الإنسان، ووضعِها في عالم الأشياء، ثم انتهتْ بِسَحْبِ الإنسان من عالم الإنسان ووضعِه في عالَم الأشياء، وبذلك يَسُودُ مَنْطِقُ الأشياء. ويحذِّر الدكتورُ حسين نصر من شيوعِ الطابع المعرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو إلى الاهتمامِ بالعِلم المقدَّس، والمزاوجةِ بين المعرفة والأمرِ القدسي. لكنَّ دعوةَ نصر إلى ما يُسَمَّى بالعلم المقدَّس يكتنفها الإبهامُ، ولا تخلو من هجاء ونفيٍ لكلِّ ما هو غربي، ويتمدَّد فيها مدلولُ المقدَّس، فيستوعب التراثَ، والتمثُّلاتِ المتنوِّعةَ للاجتماعِ الإسلامي، وهو مَدْلُولٌ يستقي مرجعياتِه من آثارِ المُتَصَوِّفة والعُرَفَاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانيَّة في الغرب.
أمَّا محاولةُ تحريرِ المَعْرِفَة من التحيُّزات والرؤية الوضعية، فإنها بمقدار محاولتِها الكشفَ عن الأُطُرِ الاجتماعيَّة للمعارف الغربيَّة الحديثة وأثرِ العوامل الماديَّة في المعرفة، تتورَّط في تحيُّز من نوع آخر؛ عندما تتحوَّل المقولاتُ التراثيَّةُ النسبيَّةُ لديها إلى مقولاتٍ مُطْلَقَة وإطارٍ مرجعي للتفكيرِ والبحثِ وإصدارِ الأحكام المختلفة.
إنَّ التعاطيَ النَّقديَّ مع المعرفة الحديثة، والذي طالما أضحى موقفًا هجائيًّا، يتوارى خلفَه موقفٌ تبجيليٌّ يغيب فيه النَّقْدُ إزاء التُّراث، فلا نعثر على دراسات نقديَّة جادَّة للتُّراث لَدَى الإسلاميِّين، في حين تتراكَمُ الكتاباتُ في نقدِ الغرب وهجاءِ حضارتِه وقيمِه وعلومِه، بلا تمييز بين وجوه الغرب «الحضاريِّ، والمعرفي، والعلمي، والتقني، والثقافي، والتاريخي، والسياسي، والاستعماري». وربما كانت وحشيَّةُ الغرب الاستعماري، والتاريخُ المتوحِّش للإمبرياليَّة في التعامُل مع عالمنا، وكذلك ظهورُ النَّزَعَات الماديَّة والعبثيَّة في الاتجاهات الفلسفية والأدبية والفنية، هو الذي أسبغ على العلوم الحديثة الصورةَ الاستعماريَّة، وأدَّى إلى عدمِ التفكيك بين العلمِ والوجهِ الإمبرياليِّ العنصريِّ للغرب.
وتظلُّ المُعْطَياتُ الحديثةُ في العلومِ الإنسانية، والعلومِ الطبيعية، والعلومِ البحتة، أهمَّ مكاسب العصر، وكلُّ ما أنجزه الغربُ من تقدُّم ورفاهية إنما هو ثمرةٌ لامتلاكِه العلمَ الحديث، ومثابرتِه المُتواصلة على تنميتِه ومراجعتِه وتصويب أخطائه وتطويره. في حين يقبع في نَفَقِ التَّخَلُّف من يفتقد العلم، ويبقى على هامش حركة التاريخ، مستهلكًا لما ينجزه غيرُه. وليس هناك من سبيل للخروج من نفق التخلُّف إلا بمواكبةِ أداء العلم، وملاحقةِ الإبداع البشريِّ المستمرِّ في حقول المعرفة كافَّة، والتخلُّصِ من حالة الوَجَل والحساسيَّة في التَّعَاطي مع المعارف الرَّاهنة، تلك الحالة التي تترسخ كلَّ يوم في مجتمعاتنا، بسبب الشعاراتِ التعبويَّة والسياسية التحشيديَّة، والتباسِ مفاهيم «الغرب، والتغريب، والغزو الثقافي، والاختراق الثقافي، والغزو الفكري، والتبعية الفكرية، وغيرها»، والتندُّر بالفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، وعدمِ إدراك أهميَّتِها، ودورِها في دراسة المشكلات الاجتماعية، وقدرتِها على تفسير الكثير من الظواهر، واكتشافِ النسيج المعقَّد للأزمات، ومعرفةِ العوامل المولِّدة لها.
إن ضرورةَ استيعاب المعارف الحديثة واحدةٌ من البداهات التي لا جدال فيها، لكنَّ تحقُّقَ ذلك منوطٌ بدراستها دراسةً تحليليَّةً نقديَّة، وهذا النَّمط من الدراسة يُفْضِي إلى استيعاب المَعَارف استيعابًا نقديًّا، وهو شرطٌ لازمٌ لبناءِ أرضيَّة الإبداع الذاتي، والمساهمةِ في إنتاج المعرفة.
كما تجب دراسةُ التراث، والتوغُّلُ في مداراته، وغربلةُ مكوناته، والعملُ على فهمه وتمثُّله، من دون الوُقوع في أَسْرِه، والحَذَرُ من الانخراط في رؤيتِه، أي محاولة استيعابه استيعابًا نقديًّا، وهذا هو الشرط الثاني للإسهام في إنتاج المعرفة. أما التعاملُ مع التراث بأسلوب يفتقر إلى نقدِه وتفكيكِ عناصره، فإنه سيقودنا للهروبِ إلى الماضي، والدخولِ في متاهاتٍ تُبعدنا عن العصر، كلَّما توغَّلنا في عوالم التراث.
إن غيابَ الموقف النقدي من التراث، وشيوعَ الوفاء التاريخي، وطغيانَ الحالة التبجيليَّة عند الجماعات السلفية لكلِّ ما يَمُتُّ إلى الماضي من سلاطين، وصراعات، وفنون، وآداب، وعلوم، ومعارف، ورموز، وعدمَ القدرة على إدراك التشوُّهات، والعاهات، والثغرات، والانتكاسات، في الموروث، نجَم عنه انسدادُ الآفاق النقديَّة، وإحضارُ الماضي كما هو، وسطوتُه على الوعي، وإعاقتُه التفكير، ومن ثَمَّ العجزُ عن مواكبة متغيِّرات الحياة.
إن الاحتماءَ بالتُّراث، واتخاذَه ملاذًا أبديًّا، واللجوءَ إليه في كلِّ واقعةٍ من وقائع الحياة، كفيلٌ بأنْ يُحَوِّل التراثَ من مَلَاذٍ إلى سِجْنٍ، ومن كَهْفٍ إلى نَفَقٍ، أو بئر؛ يحجب من يحتمي به عن الحياة، ويُغِيِّبه عن العالم، ويمنعه عن المشاركة في صناعة التاريخ.
٣
لمَّا كانت إسلاميةُ المعرفة تجد مبرراتِها في تحيُّزِ وتمركزِ المعرفة وتنوُّعِها، تبعًا للتعدُّد والتنوُّع في المعتقداتِ والأديان والهُويَّات، فإن هذه الدعوةَ تثير سلسلةً من الإشكالات والاستفهامات التي يمكننا إيجازُها بالآتي:
-
(١)
الوثوقيَّةُ والإطلاقُ في إسلاميَّة المعرفة تنتج تهافتًا في منطلقاتها، ففي حين تشدِّد إسلاميَّةُ المعرفة على أنها ترتكز على تحرير المعرفة من التحيُّزات والتمركزات والرؤى والمواقف الاعتقادية النسبية، تتورط هي في تبنِّي رؤية اعتقاديَّة للمعرفة تُفضي إلى نسبيَّة من نوع آخر، لأنَّ المعرِفةَ عندها تصطبغُ بهُويَّة دينيَّة وأيديولوجيَّة، فبدلًا من معرفةٍ لا دينَ لها، يغدو للمعرفة دين، وبدلًا من معرفةٍ بلا أيديولوجيا، تغدو للمعرفة أيديولوجيا، وبدلًا من معرفة بلا تحيُّز وتمركُز، تغدو المعرفةُ متحيزةً ومتمركزةً، وبدلًا من معرفة ليستْ نسبيَّة، تغدو المعرفةُ نسبيةً. حتى تنتهي إسلاميةُ المعرفة إلى نفيٍ للمعرفة.
-
(٢)
لماذا يتجاهلُ مشروعُ إسلاميَّة المعرفة الأُطُرَ الاجتماعيَّةَ للمعرفة التراثيَّة بالخصوص، ويعمل على تعميمِ الأفكار والمفاهيم التراثية المنتَجة في البيئة الإسلامية، وتأبيدِها للعصور والأزمان كافَّة، فعلى الرغم من أنها معرفةٌ بشريَّةٌ مشتقَّةٌ من فضاء حضاري، وثقافي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي خاصٍّ بها، في حين يذهب إلى تحيُّزِ ونسبيةِ ومحدوديَّةِ المعارِف والعُلوم البشريَّة المنتَجة في بيئات أخرى، ويشدِّد على عدم إمكان سَلْخِها عن محيطها الحضاريِّ الذي وُلِدَتْ في فضائِه؟ أين هي المراجعةُ النقديَّةُ للتراثِ التي تحرِّرنا من الاستسلام لرؤيتِه للعالَم ومناهجِه ومنطقِه، ومشاغلِه ومداراتِه، وقضاياه وهمومِه؟ ولمن ينتصر دعاةُ أسلمة المعرفة حين يسرفون في تبجيلِ التُّراث ومديحِ أعلامِه في ظلِّ الهجاء المتواصل للعلوم والمعارف الحديثة؟ إنْ كان للزمن تأثيرُه في تاريخيَّةِ الفكر الإنساني وتحديدِه بالبيئةِ والحاجات التي أفرزتْه، فلماذا التَّهَاوُنُ، بل إغفالُ النظرة التاريخية في دراسة التراث وتحليله؟ إنَّ «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» لم يُخفق في ذلك فقط، بل وعجز حتى عن مراجعةِ أفكاره وبرامجه التي طرحها بنفسه.
-
(٣)
ألا يفضي تجريدُ العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة من مناهجِها وأدواتها ولغتها ومعاجمِها الاصطلاحيَّة ومرتكزاتها، إلى نفيِها وتفريغها من محتواها، ومن ثَمَّ ستنتهي عمليَّةُ أَسْلَمَتِها إلى تناقُض منطقيٍّ، استنادًا إلى أنَّ ماهيَّةَ العلم تعني موضوعَه، وأنَّ تمايُزَ العلوم بتمايُز موضوعاتها كما قرَّر المناطقةُ من قبل، فإذا جرى تغييرُ موضوعِ العلم وأدواتِه ومناهجِه يَتغيَّر محتوى العلم ويَنتفي، وإنْ أسميناه بالاسم السابق نفسه؟
-
(٤)
حين يصرِّح دعاةُ إسلامية المعرفة بأنَّ العلومَ والمعارفَ لا تنطبق إلا على حالةٍ معيَّنة وجغرافيا بشريَّة وثقافيَّة محددة، وهُويَّة خاصة، فإنَّهم يجرِّدون المعرفةَ من طبيعتها العامَّة الشاملة، أي إنَّ المعارفَ والعلومَ تتعدد وتتنوع لديهم تبعًا لتنوُّع الهُويَّات والمعتقدات والأديان والخصوصيَّات الحضارية، لكنهم لا يتنبهون إلى أنَّ هذه المقولةَ تستبطنُ نفيَ ذاتِها، إذ كيف تكون المعارفُ كافَّة محليةً نسبيةً منبثقةً من بيئتها، ما خلا «إسلاميَّة المعرفة» التي تستثني نفسَها من ذلك، أي إنَّهم عندما يرفضون شمولَ المعرفة وعمومَها، ويتنكَّرون إلى أنَّ المعرفةَ بحدِّ ذاتها، حتى في العلوم الاجتماعية، لا هويَّةَ لها، فإنَّهم يفترضون أنَّ معرفتَهم ومقولاتِهم فقط كونيةٌ عامةٌ شاملة، لا موطنَ لها. ألا تنطوي هذه الدعوةُ على مفارقة وتناقُض؟
-
(٥)
إنَّ العُلُومَ الحديثةَ تنبثق عن رؤيةٍ للعالَم جديدة، وهناك فارقٌ شاسعٌ بين الرؤية القديمة والرؤية الجديدة، بنحوٍ لا يمكن القول معه إنَّ العلمَ الحديثَ يمثِّل تواصلًا للإرث العلميِّ القديم، فقد انبثق العلمُ الحديثُ من رؤيةِ الإنسانِ البديلة للطبيعة، والإنسان، والحياة، وهي رؤيةٌ انبثقتْ في فضائِها مكاسبُ العلم ومنجزاتُه. فقد تجلَّت الطبيعةُ للعلماء في العصر الحديث بشكل مختلف، فأصبحوا يجدونها مدونةً بلغةٍ جديدةٍ لا تشبه اللغةَ التي قرأ بها القدماءُ الطبيعة. يقول غاليليو: «الإلهُ دوَّن هذه الطبيعة بلغة الرياضيات»، ولا يمكن لغير العارف بها أن يطالع كتابَ الطبيعة. إنَّ الباحثَ الحديثَ اكتشف طبيعةً أخرى، كُتِبتْ بلغةٍ ثانية، فعمَد إلى إتقانِ تلك اللغة، واستطاع قراءتَها، وحقَّق ما نراه من اكتشافات ومكاسب متنوعة. كانَ الإنسانُ يرى هذه الطبيعةَ نفسَها، لكنَّها كانتْ تتجلَّى له بلغةٍ ميتافيزيقيَّة. الطبيعةُ واحدةٌ لكنَّ كِلا الطَّرَفَيْن حاولَا اكتشافَها، وتجلَّتْ لكلٍّ منهما بصورة خاصة، والتحوُّل الذي طال الرؤيةَ إلى العالَم هو الذي أدَّى إلى ظهور العلم الحديث، وقد تجسَّدت العقلانيةُ الغربيةُ بالمضمون ذاتِه، فحقَّقت نتائجَ علمية هامة. إذًا، كيف نستطيع بناءَ منظورٍ علميٍّ حديثٍ للعالَم والإنسان والطبيعة، ما دُمنا ننهل من الرؤية التراثيَّة التقليديَّة التي يريدُ جماعةُ إسلاميَّةِ المعرفة تَكرارَها بأسلوب مُبتذل، بذريعةِ الهُويَّة والأصالة والخصوصيَّة، والتشديد على نفي كلِّ ما هو كونيٌّ في المَعارف والعلوم الحديثة؟
-
(٦)
ربما تُمَثِّل إسلاميَّةُ المعرفة عمليةَ تعويضٍ نفسيٍّ للمسلم الضائع الذي لم يحقِّق ذاتَه في العالم اليوم. المسلمُ لم يُسهم في مكتشفات واختراعات ومكاسب العلم والمعرفة الحديثة بإسهام كبير، لذلك يحتاج أن يعوِّض ذلك بتوهُّم أنه ممن أنجزوا العلم، وأسهموا في إنتاج المعارفِ الحديثة، وممن يسهمون في صناعة العلوم والمعارف.
-
(٧)
لماذا تُتخذ آثارُ ابن تيمية مرجعيةً شاملةً لجماعة إسلامية المعرفة، على الرغم من أنَّ آراءَ ابن تيمية في العقيدة والتفسير وعلوم القرآن والفقه وغيرها، على عُمْقِ بعضها، آراءٌ تنتمي للأُفُقِ التاريخيِّ الذي عاش فيه صاحبُها، مضافًا إلى أنَّها آراء خلافيَّة، وقف منها كثيرٌ من العُلماء في عصرِه والعصور اللاحقة موقفًا ناقدًا، فهي فضلًا عن تاريخيَّتها وتعبيرها عن عصرها، لم تكن موردًا للقبول العام، بل إنَّ الجماعاتِ السلفيَّةَ المتفشِّيَةَ في مجتمعاتنا تستقي مشروعيتَها من ميراث ابن تيمية وتلامذته، وتستند إلى آثاره كمرجعيَّة في تكوينها وتثقيفها ودعوتها، وتستلهم فتاواه في مذابحها الشنيعة؟
-
(٨)
أليستْ دعوةُ «إسلاميَّة المعرفة» قضيةً فلسفيةً في مضمونها؛ ترتبط بتفسير ماهيَّة المعرفة ومَصادرها وحُدودها وقيمتها في المرتبة الأولى، كما ترتبط عضويًّا بمباحث فلسفة العلم، غير أنَّ الدراساتِ التي يكتبها دعاةُ هذه القضية لم تقاربْها من منظور فلسفيٍّ، مضافًا إلى عدم استيعابِهم النقديِّ لآثارِ الفلاسفة والمتصوِّفة والعُرَفَاء والمتكلِّمين والمناطقة، مع أنَّ ميراثَهم يشتمل على آراء تتسم بالتنوُّع في تفسير طبيعة المعرفة، ومصادرها، وقيمتها. وربما كان الاستسلامُ للموقف التراثيِّ السلبيِّ من الحُكَمَاء والمتكلِّمين والمتصوِّفة والعُرَفَاء هو الذي حال بين دعاةِ إسلاميَّة المعرفةِ وبين صياغةِ رؤية حيال هذه المسألة البالغة الأهمية. فهل إسلاميةُ المعرفة قضيةٌ فلسفية من دون مضمون فلسفي، وقضيةٌ معرفية من دون مضمون معرفي؟
-
(٩)
تبدو إسلاميَّةُ المعرفة وكأنَّها ضربٌ من موقف تسلُّطي، يهدف إلى هيمنة الإسلاميين على ما تبقَّى من مُعطيات العقل والخبرة البشرية، بعد هيمنتهم على معظم الحياةِ الدنيا، فضلًا عن الاستئثارِ بالآخرة؛ بمعنى أنَّ إسلاميَّةَ المعرفة تظهر وكأنَّها حيلةٌ فكريةٌ للجماعات الدينية، بُغيةَ احتكار الحياة العلمية والفكرية والثقافية، واستبعاد الآخر من الميادين كافَّة؟
-
(١٠)
لماذا لم تتشكل حتى اليوم النواةُ الجينيَّةُ لعلم اجتماعٍ إسلامي، أو علم نفس إسلامي، أو علم اقتصاد إسلامي … إلخ، بالرغم من مُضِيِّ أكثر من ربع قرن على هذه الدعوة، ومعظمُ الكتابات لم تتبلورْ فيها رؤيةٌ نظريةٌ واضحة حيال هذه العلوم، فضلًا عن عدم إنجاز أيَّة محاولة جادَّة لصياغةِ وبناءِ أيِّ علم بصِبغة إسلامية؟
-
(١١)
على الرغم من وجود إنتاجٍ فكريٍّ في الحوزات في النَّجف وقُمَّ وغيرهما، وعلى الرغم من تنوُّع الأفكار الخلافية التي يزخر بها راهنُ التفكير الديني في الحوزات، غير أنَّ «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» لم يزل بعيدًا عن ذلك، مع أنَّ فكرةَ «إسلامية المعارف والعلوم» واحدةٌ من أبرز المسائل إثارةً وأكثرها مناقشةً، حيث يدافع المحافظون عنها، ويعملون على صياغة تصورات ورؤًى وتبريرات بشأنها، من خلال مؤسسات متخصصة في ذلك، في حين لا يقبلها المفكِّرون الإصلاحيُّون ويذهبون إلى أنَّها تستبطن تهافتًا وتناقضًا منطقيًّا.
-
(١٢)
على الرَّغم من أنَّ الملاحظاتِ التي أوردتُها تشتمل على كلِّ محاولاتِ إسلاميَّةِ المعرفة بتسمياتها وعناوينها المختلفة عند المفكِّرين المسلمين السُّنة والشِّيعة على اختلاف مواطنهم، لكنِّي كنتُ أتمنَّى أن يتواصل المعهدُ العالمي للفكر الإسلامي مع المحاولات المبكِّرة لأسلمة المعرفة في أعمالِ السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين الطباطبائي، وتلميذِه الشيخ مرتضى المطهري، ود. محمد نقيب العطاس، ود. حسين نصر، ومحمد أبو القاسم حاج حمد … وغيرهم. مثلما كنتُ آمُلُ أن يتسع صدرُ القائمين على المعهد العالمي للفكر الإسلامي للاستيعاب النقديِّ لبعض آثار أولئك المفكِّرين ممن أسَّسوا هذا المعهد، فلم أعثر حتى اليوم على أيَّة محاولةٍ نقديَّةٍ علمية لكتابات المؤسِّسين من تلامذتهم أو غيرهم من دعاة إسلامية المعرفة.
-
(١٣)
لماذا تُهْمَلُ في مشروع إسلامية المعرفة مباحثُ فلسفة الدين، التي تعالج ماهيةَ الدين وحقيقتَه، وجوهرَ الدين، ومجالاتِ الدين وحدودَه، وآفاقَ انتظار الإنسان من الدين، وماهيةَ التجرِبة الدينية … وغيرها؟ ولماذا لا تهتمُّ إسلاميَّةُ المعرفة بالاتِّجاهات التأويليَّة الجديدة في قراءةِ النصِّ الدِّيني، وما موقفُها من طبيعةِ اللغة الدينية وكيفيةِ التعاطي معها؟
-
(١٤)
هل يمكن تجديد الفكر الديني من دون السَّعْيِ لتجديد علم الكلام، وفتحِ باب الاجتهاد في أصولِ الدين، والسَّعي لصياغة ثيولوجيا تتحرَّر من بعض مقولاتِ الإلهيَّات التقليديَّة، التي كرَّست صورةً مرعبةً للإله، مشتقةً من نَموذج الطغاة والخلفاء والسلاطين الجبابرة، والعملِ على بناء «علم كلام جديد»، يصوغ لنا صورةً رحيمةً للإله، تخلِّصنا من العَلاقة الصراعيَّة المأزومة بين الله والإنسان، وتنقلنا إلى نمطِ عَلاقةٍ حميميٍّ شفيفٍ دافئ، يقوم على المودَّة والشفقة، ويستقي من رُوح المحبة، لأنَّ الإنسانَ بطبيعته لا يستطيع أنْ يودَّ إلهًا مرعبًا؟
-
(١٥)
إن أيَّ حديثٍ عن إسلاميَّة المعرفة دون أن يسبقه تحليلٌ لطبيعةِ الوعي البشري وكيفيةِ تكوين المعرفة، ثم تحديدُ ما هو بديهيٌّ منها والذي تبتني وتشتقُّ منه المعارفُ الإنسانية، هو حديث يكشف عن التباس في استيعاب أساليب التفكير السليم منطقيًّا، في زمنٍ عادَ فيه الوضوحُ المنهجيُّ الشرطَ الضروري لكلِّ تمييز بين الكلام العلميِّ الجادِّ وبين التخليط.