جدل العَلاقة بين الاستبداد والعبوديَّة الطوعيَّة١
١
إن الحُكم أو النظام الاستبداديَّ يمثِّل شكلًا من أشكالِ الاحتلال الكامل للشخص، والاستعمار الدَّاخلي للمجتمع، بنحوٍ يستقلُّ فيه فردٌ طاغية في التسلُّط على بقيةِ أفراد الشَّعب، من دون أن يخضع لقانونٍ، ويتحكم في حياة المواطنين، ويحرص على صوغِ وعيهم، وتكييف مشاعرِهم، وتلوين أحلامِهم، بما يكرِّس سلطتَه ويمدِّدها على كلِّ شيء، من دون أن يستثنيَ حقلًا في البلد من هيمنتِه.
تطغى في فضاء الاستبداد غلبةُ الفرد على المجتمع، وغلبةُ القوة على الإجماع، وغلبةُ الأيديولوجيا على الواقع، وغلبةُ الكاريزما على المسار الموضوعيِّ للتاريخ، وغلبةُ الواجب على الحقِّ، وغلبةُ الحكومي على الاجتماعي، واتساعُ مفهوم السلطة واضمحلال مفهوم الحرية. وبكلمة موجزة يُفضي الاستبدادُ إلى اختزال الفردِ في المجتمع، واختزالِ المُجتمع في الدولة، واختزالِ الدولة في السلطة، واختزال السلطة في شخص الحاكم.
يتغلغلُ الاستبدادُ في المجتمع، وفي العائلةِ، والجماعات والأحزاب، والمجتمعاتِ، والدُّول، وإنَّ الخلاص من الاستبدادِ لا يتحقق إلا عبر تفكيك نسيجِه الكامن في بنية العائلة، وفي كافَّة التنظيمات السياسيَّة والنقابيَّة والمهنيَّة.
كما يتطلَّب التحرُّرُ مِنَ الاستبدادِ اكتشاف أنماطِه في: السياسة، والاقتصاد، والدين، والفكر. فالاستبداد السياسي وإنْ كان أبشع ألوانه، لكنه يتوكَّأ على الاستبداد الديني والاقتصادي والثقافي، فلا خلاصَ من الاستبدادِ إلا بالخلاص من ثقافةِ الاستبداد، والمعتقدات والمقولات والمفاهيم، ومجموع الروافد المعرفية التي يستقي منها. وتكمن في الإلهيَّات الموروثة أبرز روافد ثقافةِ الاستبداد.
٢
يرتبطُ الاستبدادُ ارتباطًا عضويًّا بالعبوديَّة الطوعيَّة، واستعداد الناس للانصياع للطَّاغية، وتمجيده، وتبجيله، ورغبتهم في الخضوع له، واستعارة أسماء وصفات الله وخلعها على المستبدِّ. وبحسب ما يراه المختصُّون في سيكولوجيا السُّلطة، فإنَّ الجماهيرَ هي التي ترضخ للاضطهاد وتطلب السيطرة عليها، وإنَّ الذي يقودها إلى ذلك هو متعةُ الخضوع، ولذَّة الانقياد الرَّاسخة في النفس البشرية، أي إنَّ الناس هم الذين ينذرون أنفسهم للخدمة والعبودية الطوعية.
إنَّ العَلاقاتِ في هذا النَّوع من المجتمع هي عَلاقاتٌ عموديَّة وليستْ أفقيَّة؛ بمعنى أنَّ تصور العَلاقة بين الله والإنسان دائمًا يتَّخذ نمطًا عبوديًّا، يكون فيه الإنسانُ خانعًا ذليلًا، بينما يبدو الإلهُ قهَّارًا جبَّارًا متكبرًا، لا تحضر في هذه العَلاقة صورةُ اللهِ الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، ووسعتْ رحمتُه كلَّ شيء، وسبقتْ رحمتُه غضبَه، وإنما صورة السيد المُتَعَالِي، المتمرِّس في البطش والتَّنكيل والعقاب والعذاب. ويجد هذا النمطُ العموديُّ للعَلاقةِ بين الإله والعبد مدلولَه الاجتماعيَّ في مختلِف أشكال العَلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافيَّة في المجتمع، فالحاكم غير المحكوم، الحاكم يأمر بما يشاء، وليس للمحكوم إلا السَّمع والطاعة، من حقِّ الحاكم أنْ يفعل ما يريد في رعيَّتِه، إرادته إرادة مطلقة لا يضبطها قانونٌ أو تقيِّدها تشريعاتٌ، هو في القمَّة والرعيَّة في القاعدة، لا يرتقي شخص إلى مقامِه السَّامِي، إلا حينما يفيض عليه بمننه وعطاياه، فيدنيه من قربه، ويمنحه من مكرماته. ذلك أنَّ كافَّة رعاياه هم ممتلكاته يتصرف بهم بما يحلو له. أمَّا العَلاقة بين الأب والابن، والمعلم والتلميذ، والضابط والجندي، والتاجر والعامل، والإقطاعيِّ والفلاح، والرجل والمرأة، فهي دائمًا عَلاقة تبعيَّة وخضوع، عَلاقة امتلاكٍ، الأعلى يمتلكُ الأدنى، يدرِّبه باستمرارٍ على الانصياع والانقياد، ويتفنَّن في تربيته على الامتثال، ويتوسَّل بمختلِفِ الأساليب من أجل تدجينه على التَّنازل عن حريَّته.
٣
في فضاء الاستبداد يسود أسلوبُ التَّلقين في التربيةِ والتَّعليم، ويجري التعاملُ مع الطفل في الأسرة، وهكذا التلميذ في المدرسة، باعتباره وعاءً نملؤه بمصفوفةِ نصوصٍ وشعاراتٍ، ونحرص على أنْ يستظهرَ هذه النصوص ويحفظ تلك الشعارات، من دون أن يبذل أيَّ مجهود عقليٍّ بتدبُّر أو فهم مضمونِها. حتى التربية تتحول إلى تدجين متواصل، والتعليم يتحول إلى تنميطِ وخَلقِ نُسخٍ متشابهة، والعلم هو الحفظ والتَّكرار. ويُفْضِي أسلوبُ التَّلقين إلى ترويضِ المجتمع، فتتَّخذ العَلاقاتُ فيه شكلًا عموديًّا، يمارسُ فيها الأعلى الاستبدادَ على من هو أدنى منه، ويغيبُ الشَّكلُ الأفقيُّ للعَلاقات الذي يُبتنى على المساواة والحرية.
تختنقُ الحياةُ السياسيَّةُ بالاستبداد، بنحوٍ يصبح فيه الكلُّ إمَّا مستبدًّا يمارسُ الاستبدادَ، أو ضحيَّةً يقع عليه الاستبدادُ، ويصير الكلُّ ممارسًا للاستبداد على من هو أدنى منه، الزعيم السياسي على مرءوسيه من وزراء وغيرهم، وهؤلاء يُسقطون الاستبداد على من يليهم في مراتبهم الوظيفية، بنحوٍ يُمْسِي فيه التسلُّط نسيجًا متفشِّيًا في كافَّة طبقات المجتمع ومؤسساته، فالتسلُّط تُنْتِجُه السُّلطةُ المستبدَّة، وتصوغ شخصية رعايا وأتباع مجرَّدين من كلِّ إرادةٍ في الاختيار، إلَّا إرادة التسلُّط التي يسقطونها على من هم دونهم، كما أنَّ هؤلاء الأفراد الذين أنتجتْهم السلطةُ المستبدةُ يمدُّون هذه السلطة على الدَّوام بحياتِها وكِيانها، الذي يفتقر وجودُها واستمرارُها عليه. فلو لم تصنع السلطة هذا النَّمط من الرعايا لما تواصلَ بقاؤُها، بمعنى أنَّ الأتباعَ تتشكل شخصياتُهم في فضاءِ الاستبداد والتسلط، وهم أثر من آثار السلطة ونتيجة لها، مثلما هم المادة الأولى التي يُشْتَقُّ منها تَسَلُّطُ المستبدِّ، وتتكرَّس سطوتُه، ذلك أنَّ السلطةَ تشكِّل بنيةً عامَّةً شاملةً، يتشبع بها المجتمعُ بأسره، ويعادُ تكوينُها باستمرارٍ، في إطار المتغيِّرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وبحسب تعبير فوكو فإن «السلطة ليستْ في مكانٍ واحد، إنها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد، وفي صاحب الفرن الذي يبيع الخبزَ للسجن، ويشعر بالفرح لأنَّ السجن موجود.»
ويسري التَّسلُّط من الحياة السياسية إلى العائلة، فتتغلغل مفاهيمُه في القيم الأبويَّة وعَلاقات القربى، وبين الزوج وزوجته، وبين الأب وأبنائه، ويتفنن ربُّ الأسرة في مهاراتِ ترويض أفرادِ أسرتِه وإخضاعهم، حتى يمسخ شخصيةَ الطفل، ويُمِيت تدفُّق تعبيراتِه عن نفسه بتلقائيَّة وعفويَّة، ويقضي على رُوحِ التَّساؤل الفطري، والنزوع النقديِّ في تفكيره، ويستأصل ممكناتِ الإبداع والابتكار في عقله، وتتواصل عمليةُ التَّرويض والتلقين متوسِّلةً بشتى الأساليب، وطالما تتوكَّأ على العنف الجسدي، والعنف اللفظي، ومختلِف ألوان العنف الرمزيِّ، ويستحيل الناشئةُ إلى وعاءٍ معبَّأ بمقولاتِ الخضوع والاستسلام، ورفض كلِّ ما له صلة بالحرية، وتبنِّي أيديولوجيا الاستبدادِ المناهضة للحرية والتثقيف عليها والدفاع عنها.
تَشِيعُ في فضاءِ الاستبداد شبكةُ مفاهيم تنفي كلَّ ما لا يتطابقُ معها، ويمثِّل نسخةً مكرَّرة عنها، وتشكِّل هذه الشبكة نظامًا ذهنيًّا يتجلَّى في عقليَّةِ ونمطِ تفكيرٍ أحاديٍّ اختزاليٍّ، كما تتكرَّس في ظلِّ الاستبداد بنيةٌ نفسيَّةٌ معوَّقة، تستسيغ الخنوعَ والانسحاقَ، والتهرُّب من أيِّ مسئوليةٍ، إنَّها نفسيَّة عبيد، أبرزُ سماتِها الشعور بالدونيَّة والحقارة، والتبعيَّة وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أيِّ رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسيَّةُ العبيدِ حياةً نيابيَّةً مستعارَة، وكأنَّ صاحبَها يمثِّل دورًا لشخصٍ آخر في حياته، لا يعبِّر فيه عن شخصيته، ولا يمثِّل ملكاتِه وإمكاناتِه، وما أودعتْه الطبيعةُ البشريَّةُ فيه، وإنما يعيش على غرار ما يريده المستبدُّ، وما جرى تدجينُه عليه في الأُسْرَة، ثم المدرسة والمجتمع. في الاستبدادِ يضمحلُّ حضورُ الكرامةِ البشريَّة، وإذا ترسَّخ شعورُ الإنسان بأنه بلا كرامة، وأنه شخصية تافهة، فإنه يعجز عن المساهمة بأيِّ عمليةِ بناء، أو الاضطلاع بمهمَّة مميزة في الحياة، كما ينطفئُ كلُّ ما يمكن أن يحلم به، وتذبل كلُّ أمنية وأمل يستشرف من خلاله المستقبل، والإنسان كائن لا يمكنه العيش والمشاركة في صوغ العالم ما لم يحلم بمستقبل أجمل، ويتطلَّع إلى غد بديل، ترتسم فيه صورةٌ مغايرةٌ لواقعِه الرَّاهن. وكما يقول إيريك فروم: «لا شيء أكثر تأثيرًا وفاعليةً في سحق معنويات الفرد من إقناعه بأنه تافه ورديء.»
يحرص الطاغيةُ على تكريس ثقافةِ استبدادٍ تكبِّل المجتمع، وتشلُّ فاعليتَه، وتميتُ قدراتِ الخلق والإبداع لديه. وتتفشَّى هذه الثقافةُ في مقرَّرات التربية والتعليم، ووسائل الإعلام، والخطاب السياسي، والهياكل الإدارية في المؤسسات، والآداب، والفنون، واللغة، وكافة الرموز والعلامات المستعملة في المجال التداوليِّ. يبني الاستبدادُ نظامًا سيميائيًّا خاصًّا، ويعمل على الهيمنةِ على مجال المتخيَّل، ويشدِّد على تحويل كلِّ ذلك إلى بنية راسخة في وعيِ المجتمع ولاوعيِه.
٤
الخوف هو العلامة الفارقة لثقافة الاستبداد، الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من الحداثة، الخوف من الاختلاف، الخوف من الخطأ؛ ذلك أنَّ الاستبداد يبحث دائمًا عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايُزات والاختلاف والمغايرة، يكتب أمبيرتو إيكو: «في الثقافة الحديثة تُطْري التجمعات العلمية الاختلاف، وتَعُدُّه طريقة لتطوير المعرفة. بالنسبة إلى الاستبداد، الاختلاف خيانة. الاستبداد ينمو ويبحث عن إجماع عن طريق استغلال مشاعر الناس، وتكريس خوفهم الطبيعي من الاختلاف.»
الاستبدادُ مسكون بالآخَر، الآخَرُ هو مصدر الرُّعب الأبديِّ، حيثما كان الآخر لا يهدأ ولا يقِرُّ له قرار، الآخرُ هو الشرُّ، هو السرُّ، هو الظلام والموت. لا تولد هُويَّة، ولا تتشكل خصوصيَّة للأمة ما لم يكن هناك عدو، الوحيدون الذين باستطاعتهم أن يمدُّوا الأمة بهُويتها هم أعداؤها، من هنا يغدو التفسير التآمريُّ هو الأسلوب الوحيدُ لفهم كافَّة الخطاباتِ والحوادث والمواقف والقراراتِ الصَّادرة من الغير، ولا يقتصر هذا التفسيرُ على ما يتبدَّى من الأجانب خارج حدود البلد، وإنما يُعَمَّم لكلِّ ما يحدث في المجتمع المحلِّيِّ، ويصنَّف كلُّ قول أو سلوك لا يروق للمستبد داخل البلد بأنه مؤامرة، لا سبيل للتهاون أو المهادنة حيالها، يظلُّ المواطن محاصرًا بتهمة المؤامرة، في يقظته ومنامه، وترتدُّ تلك التُّهمة في نفسه إلى حساسية فائقة وحصار أبدي على الذات، حذرًا من المسِّ بشيء يعود للطاغية أو يرتبط به، مع أنَّ كلَّ شيء في الحياة الاجتماعية والفردية مُتَّصِل ومرتبط به عضويًّا، عبر نسيج معقَّد، متوغِّل في السياسة والإدارة، والتربية والتعليم، والإعلام، والاقتصاد، والثقافة، والأسرة.
٥
يهتمُّ الاستبدادُ باللُّغةِ اهتمامًا بالغًا، ويحرص على إفقارِها وتحويرها وتشويهها، ويُغرقها بفائض معانٍ، ويمدُّها بقاموس مفردات، وعبارات، وجمل، وشعارات، تشوِّه اللغة وتهشِّم تراكيبها وصياغاتها وبنيتها. لغة الاستبداد تغذِّي كراهيةَ الآخر باستمرار، وتثير الاشمئزازَ والفزع منه، وتعطِّل الوعيَ النقديَّ، وتسدُّ أفق الرؤية المتفائلة للكون والوجود، وتُغرق الذهن بكوابيسَ مرعبة لأعداءٍ مفتعلين، متربِّصين به كلَّ حين، ويُعمَّم مسخُ اللغة وتشويهُها إلى المقرَّرات الدراسية، فإن «كلَّ الكتب المدرسية للفاشية والنازية استخدمتْ طريقةً في الإفقارِ اللغويِّ، وإفقار القدرة الابتدائية على بناء الجمل بطريقة صحيحة، هادفةً من ذلك إلى تحديد أدوات التفكير المعقَّد والانتقادي» بحسب تعبير أمبيرتو إيكو.
البيئة الفقيرة لغويًّا فقيرة عقليًّا، خصوبةُ اللغة وثراؤها بقدر ما تقتل التفكيرَ الساذج البسيط فإنها تُحيي وتنمِّي التفكيرَ المركَّب، ولا يمكن الوثوقُ بولادة أفكار تنفتح على ما يعاندها إلا حين تغتني اللغةُ بمعجمٍ يرفِدها باستمرارٍ بألفاظٍ ومفرداتٍ، تنفتح على فضاءٍ عقليٍّ يتَّسع باستمرار لاستيعاب وتمثُّل كلِّ ما هو جديد في العلومِ والفنون والآداب، ويواكب حركةَ التطوُّر والإبداع في مختلِف مجالاتِ المعرفة، ويساهم في رفدها على الدَّوام.
تطغى في قاموس الاستبداد ألقابُ التَّعظيم، وعباراتُ التَّبجيل والتمجيد، وتتضخَّم الألقابُ وتكبر، ولا تتوقَّف عند حدٍّ، ولا تقتصرُ على كلمات خاصَّةٍ، وإنَّما تواصلُ زحفَها فتبتلع أسماء الله وصفاته؛ ذلك أنَّ المستبدَّ يتطلَّع دائمًا إلى السَّماء، ويتوق إلى انتزاع مكانةِ الإله والاستئثار بها، لأنَّه باللُّغة المشبعة بأسماء الله يصطنع لنفسه عالمًا يُضَاهِي العالَم الربوبي، ويوحي له عالَمُهُ اللغويُّ البديلُ بأنَّه ارتقى إلى مقام إلهيٍّ متسامٍ، وتتعاظم قناعاتُه كلَّ يوم بأنه تجاوَزَ حالتَه البشريَّةَ، وانخرط في مقامِ الإلهِ المُتَعَالِي، الذي لن يصل إليه أحد سواه، ومن الطَّريف أنَّ أحد الطغاة في عصرنا (صدام حسين) أسبغ على نفسه تسعة وتسعين اسمًا، مثلما هي الأسماءُ الحُسنى لله تعالى.
وإثر حرمان الفقهاء من السُّلطة السياسيَّة، استعار بعضُ الفُقَهَاء ألقابَ الخلفاء والسلاطين، بعد إعادة صياغتِها في أُفُقٍ دينيٍّ، واستبدال شيء من كلماتِها بألفاظٍ تَشِي بدلالاتٍ مقدَّسة، فخلعوا على أنفسِهم غطاء لغويًّا لاهوتيًّا يرقى بهم إلى مقاماتٍ ملكوتيَّة عُليا، تُلحقهم بمراتب السلاطين، أو تتيح لهم تجاوزها والعبور إلى مكانة لا يرتقي إليها إلا ملكٌ مقرَّب أو نبيٌّ مرسل.
ويُغرَم الاستبدادُ بالصور والتماثيل، والنُّصُب التَّذكارية، والموسيقى والغناء، والشعارات، والملصقات الجدارية، وكافَّة الرموز الفنيَّة، فيعمل على توظيفها ببراعةٍ ودهاء، فلا تجد ساحةً عامة، أو حديقة، أو شاطئًا يرتاده الناس، إلا وزحفتْ عليه تماثيلُ وصورُ الطاغية، وهي تحكي بقسوةٍ صرامتَه، وبشاعتَه، وفتكَه، وفاشيَّتَه الدمويَّة، فتارةً يتقلد سيفًا، وأخرى يحمل بندقيَّة، وثالثة يتمنطق بمسدس، وربما يجمع بينها، مضافًا إلى أنَّه على الدوام يرتدي بدلةَ القتال، وتصطفُّ على صدره مجموعةُ الإشارات والعلامات والشعارات، الدالَّة على التأهُّب للحرب، والقدرة على البطش بخصومه ومعارضيه.
إن المستبد ينشد حضورًا مستفزًّا، يثير الفزعَ والرهبةَ باستمرار لدى الجماهير، ويطمح بأن تنوب عنه صورُه وتماثيلُه في الأماكن الغائب عنها، فترسل باستمرار خطاباتِه ورسائلَه للشعب، كيما يتحسَّس الناسُ وجودَه الأبديَّ بينهم، ويستشعرون سطوتَه الجاثمةَ على أرواحهم، ولا ينفكُّ الناسُ عن الخشية منه، هو معهم حيثما كانوا وأينما وُجدوا، في النهار والليل، في محل العمل، والمنزل، في الشارع، والسوق، والمقهى، في المتنزهات، والمنتجعات، وأماكن الاستجمام. تُوحِي صورُه وتماثيلُه بتعدُّد حضورِه وشهودِه واطِّلاعه على الجميع، لا تتركُ شخصًا دون أن تداهمَه وتهاجمَه، وتغرق ذهنَه في ضجيجٍ وصخب متواصل، يغيِّب وعيَه، ويُحيل نفسَه إلى نفس معوَّقة. أطياف المستبد وأشباحه لا تبرح مُنَاسَبَةً أو وقتًا دون أن تطارد المواطن، وتزعجه بكوابيس لا تنتهي ولا تتوقف، فتشعره بأنَّ الطاغية كالإله لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء، وكأنه بمثابة من يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى.
٦
يترك المستبدُّ كلَّ شيء حطامًا بعد هلاكه، ويفشل أيُّ نظام بديل، مهما كانت نزاهته وإخلاصه، في الانطلاقِ بعمليَّةِ بناءٍ جديدةٍ؛ ما لم يهتم بمعالجة التشوهات الحادَّة والرضوض العميقة في شخصية الفرد والمجتمع، وهو ما نراه ماثلًا في الأنظمة البديلة في العراق وبلدان ما يُسَمَّى «الربيع العربي». بل إنَّ كلَّ ما يجري من انهيار مريع في أشباه الدول في تلك البلدان، وما صار يمارسه النظامُ البديلُ من فوضى وفسادٍ، إنَّما هو امتداد لتَرِكَةِ النظام الماضي، ولتلك البنية الراسخة للاستبداد؛ التي لا يتوالدُ منها سوى الفشل والفوضى والعجز المُزمن، أي إنَّ الأمطارَ السوداء اليوم إنما هي من غيومِ استبداد الأمس.
بعد ربع قرن تقريبًا من العيش في المنفى، عدتُ إلى وطني العراق أواخر حزيران ٢٠٠٣م، فوجئتُ بحجم الخراب الذي أنهك بلدي، لم أعثر على العراق الذي ولدتُ ونشأتُ وأمضيتُ طفولتي وفتوَّتي ومراهقتي وبداية شبابي فيه. كلُّ شيء جميلٍ اختفى، كلُّ شيء مميزٍ تلاشى، كل شيء مضيءٍ انطفأ، كل شيء منظَّمٍ تبعثر، كل عميقٍ تسطَّح، كل شيء عقلانيٍّ أمسى لاعقلانيًّا، كل شيء إنسانيٍّ لم يَعُدْ إنسانيًّا. الفكرُ لم يَعُدْ فكرًا، الشِّعْرُ لم يَعُدْ شِعْرًا، الأدب لم يعد أدبًا، الفنُّ لم يعد فنًّا، الثقافة لم تَعُدْ ثقافةً، الاقتصادُ لم يعد اقتصادًا، السياسة لم تعد سياسة. لكنَّ ما أذهلني وأحزنني أنَّ التديُّن لم يعد تديُّنًا؛ مكرسًا بالإيمان، ومُلهِمًا لقيمِ المحبَّةِ والتراحم والجمال، والأخلاق لم تعد أخلاقًا، تُنتج فضاءً سليمًا للأمن والسلام في حياة البيت والمجتمع، يحمي الكرامةَ الشخصيَّةَ، ويعزِّز مكانةَ الكائن البشري، ويؤطِّر العَلاقاتِ في العائلة بالسكينة والمودة، ويبني الأساس العادل للعيش المشترك في المجتمع.
وقتئذٍ أدركتُ شيئًا من خطايا الاستبداد، والآثار التدميرية الفتَّاكة للأنظمة التسلطية الشمولية، وتخريبها لبنى الحياة الرُّوحية والأخلاقية والعقلية. وكيف عمل صدام حسين على تشويه كلِّ شيء في العراق وإفساده، من أجل أن يضمن ديمومةَ بقائه في السلطة.
لقد عمل صدام — كما هو كل طاغية مستبد — على إنتاج شبكة مفاهيم تنفي كلَّ ما لا يتطابق معها، ويمثِّل نسخة مكرَّرة عنها، وتشكِّل هذه الشبكة نظامًا ذهنيًّا، يتجلَّى في عقليةٍ ونمط تفكيرٍ أُحادي اختزالي، تكرَّستْ في ظلِّه بنيةٌ نفسيَّةٌ معوَّقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق، والتهرُّب من أي مسئولية.
لقد واصل اللاهوتُ التقليديُّ تأمينَ الرؤية للعالَم الملائمة لإنتاج الاستبداد، وإعادة إنتاجِه باستمرار. كما عمل الاستبدادُ أيضًا على صوغ قراءةٍ للنصِّ الدينيِّ والتراث والماضي، تتفشَّى فيها ثقافتُه ومفهوماتُه، وتشكِّل نسيجًا متشابكًا تُشادُ في سياقِه الحياةُ الدينيَّةُ للفردِ والمُجتمع، ولا يُفلتُ من شباكِه أحدٌ، إلا بمشقَّة بالغة، ومن ينفلت منه يصبح عرضةً للنفي والملاحقة والتشرُّد.
يصنع الاستبدادُ نمطَه الخاصَّ للتديُّن، ويصوغ نموذجًا يضمن بقاءَه للحياة الدينية، وهو نموذج يمثِّل الضدَّ للتديُّن والحياة الرُّوحية والأخلاقية الصحية السليمة. تديُّن ممسوخ يشبه كلَّ شيء إلا التديُّن الحقيقيَّ الأصيل. تديُّن مسموم يفتك بالحياة الرُّوحية والأخلاقية للفرد والمجتمع، ويكوِّن بيئةً مكبوتةً يتوالدُ فيها على الدوام التطرُّفُ والتعصُّبُ والإرهابُ؛ بغطاء وقناع يخلع عليه شكلًا دينيًّا. تديُّن يفزع من الاختلاف والتعددية، ويشدِّد على نفي الآخر واستبعاده. تديُّن لا يعرف أيَّ حق وحرية للإنسان ولا يكترث باحترام كرامةِ الكائن البشري. تديُّن مسكون بطمس الذات وتفريغها من كينونتها الوجودية. تديُّن فقير لا صلة له بوظيفة الدين العميقة في حياة الشخص البشري، ورسالة الدين في منح الحياة معنًى، وإرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدس.