الفصل التاسع

مفهومُ الدولة في مدرسة النجف

سياقات المفهوم وتحولاته من النائيني إلى السيستاني

١

التَّحَوُّل في مفهوم الدَّوْلَة

أعني بالتحوُّل في مفهوم الدولة حضوره وطريقة التَّعاطي معه في التَّفكير الفقهيِّ لمدرسة النجف. أمَّا التاريخ القريب فينبسط على مدى القرن العشرين، ليستوعب شيئًا من التاريخ الحديث وكلِّ الزمن المعاصر، بدءًا من ١٩٠٦م، أي منذ «حركة المشروطة» وتبلور اتجاه يتبنَّى الدعوة للدستور يقوده الشيخ محمد كاظم الخراساني (ت١٩١١م)، واتِّجاه آخر مناهض للمشروطة يقوده السيد محمد كاظم اليزدي.

و«مدرسة النجف» هي المضمون الديني والمعرفي والفقهي للحاضرة العلمية التي نشأت بعد هجرة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي من بغداد إلى النجف سنة ٤٤٨ﻫ، وهي وإن اضمحلَّت في بعض العصور، غير أنها تواصلت في القرون الثلاثة الأخيرة.

أحاول هنا التعرف على آفاقِ التفكير الفقهيِّ في الدولة، وكيف نشأ التفكيرُ في مفهوم الدَّولة منذ مطلع القرن العشرين حتى نهاية هذا القرن، فقد بدأ في المرحلة الأولى خارج المدوَّنة الفقهية. أما في المرحلة الثانية، التي تبدأ منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا، فتوغَّل التفكيرُ في الدَّولة داخل المدوَّنة الفقهيَّة، منذ أن كتب الشيخُ محمد مهدي شمس الدين «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» في العام ١٩٥٤م، وصدر في بيروت العام ١٩٥٥م، ويهدف الكتاب كما يصرِّح المؤلف للتدليل على أننا «في الإسلام نملك نظامًا للحكم والإدارة، هو نظام محكم في ظلِّ سلطة دينية وزمنية معًا.» وهو يفكِّر داخل المدوَّنة الفقهية، يرفض شمس الدين في هذا الكتاب الديمقراطيَّة، إذ يقول: «… فلا مشروعيةَ للأسلوب الديمقراطيِّ في اختيار الحاكم وشرعيته.» لكنَّه عاد فتبناها في مرحلة لاحقة من حياته، عندما أصبح يفكِّر بدولة خارج المدوَّنة الفقهية.

في العامَيْن ١٩٥٨ و١٩٥٩م كتب السيد محمد باقر الصدر تصوُّرات أولية لما سماه «الأُسُس»، وهي تسعة أُسُس صاغ فيها رؤيةً أولية للدولة الإسلاميَّة، أورد في الأول منها تعريفًا لغويًّا واصطلاحيًّا للإسلام، وفي الثاني تقسيمًا للمسلم، وفي الثالث بيانًا لمفهوم: «الوطن الإسلامي»، وفي الرابع عالج: «مفهوم الدَّولة الإسلامية»، وأيَّ نوع هي من الدول، بعد أن صنَّف الدول إلى ثلاثة أنواع، وفي الخامس دلَّل على أنَّ الدولة الإسلامية دولة فكريَّة، وفي السادس شرح: «شكل الحكم في الإسلام»، وفي السابع تناول: «تطبيق الشورى كشكلٍ للحكم في ظروف الأمة الحاضرة»، ثم أوضح: «الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم» في الأساس الثامن، وانتهى في الأساس التاسع إلى: «مهمة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة».

في هذا النص الموجز الذي كتبه الصدرُ يتكرر مصطلحُ «الدولة الإسلامية» بشكل ملفت للنظر، مثلما نلاحظ في الأساس الثالث نجد فيه تَكرارًا لهذا المصطلح بين سطر وآخر أحيانًا. مضافًا إلى تَكرار مصطلح «الحكومة الإسلامية». ونَصُّ «الأسس» بالرغم من أنَّه لا يتجاوز ١٥ صفحة، لكنه مدوَّن بأسلوب مدرسي منظَّم وميسَّر، يبتعد عن الغموض والمجاز والكنايات، ويعبِّر عن محتواه بنحوٍ لا لبس فيه.

في هذه المرحلة دخل التفكيرُ بمفهوم الدولةِ المدوَّنةَ الفقهيَّةَ، فصار يتحدد الموقف من كل شيء تُبتنى عليه الدولة ويشكِّل نظمها في أفق رؤية الفقيه للعالم وفتاواه والأحكام المودعة في المدونة الفقهية.

انبثقتْ عن التفكير في الدولة في فضاء المدوَّنة الفقهية الدعوةُ لتوظيف الفقه في بناء النظم في مجالات الدولة المختلفة «السياسي، الإداري، الاقتصادي، المالي، المصرِفي، الحقوقي، الجنائي … إلخ»، فصدرت مجموعةٌ من المؤلَّفات تتناول «نظام الحكم والإدارة في الإسلام، النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام، اقتصادنا، البنك اللاربوي في الإسلام … وغير ذلك».

بعد مُضِيِّ ثلاثة عقود تدخل مدرسة النجف بالتدريج المرحلة الثالثة، عبر اجتراح مسارٍ للتفكير بالدولة ونظمها يتجاوز المدوَّنة الفقهية، فتصبح «الديمقراطية هي الحل الوحيد للمجتمعات الإسلامية» بحسب تعبير محمد مهدي شمس الدين.

٢

فِكْرٌ سياسيٌّ تَشَكَّل في فضاءِ الاستبداد
إنَّ شيوعَ الاستبداد وترسُّخه في مؤسسة الحكم، هو الذي قاد الكثير من المؤلِّفين لتسويغ جور الحاكم، وشرعنة طاعة الطاغوت، وتبرير جرائمه وموبقاته مهما كانت، إلى أن بلغ الحالُ بالبعض للقول بعدم جواز الخروج على الطاغية يزيد بن معاوية، مع اعترافه بأنه كان إمامًا فاسقًا، لأنَّ «الإمام إذا فسق لا يُعزل بمجرد فسقِه على أصحِّ قَوْلَي العلماء، بل لا يجوز الخروج عليه، لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهَرْج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، و…»١

يمكن القولُ إنَّ الاستبدادَ ظلَّ على الدوام أشدَّ العوامل تأثيرًا في تفكير المسلمين السياسيِّ، فما أنجزه هذا التفكيرُ من أحكام وأفكار، كانت تصاغ في آفاق رؤية المستبد، وتتَّخذ من آراء المستبد وقناعاته مرجعيةً لها.

في ضوء ذلك نستطيع أن نكتشف جذورَ الانقطاع، والتوقُّف، والانشطار، والتشوُّه، الذي اكتنف مسارَ الفكر السياسيِّ الإسلاميِّ، فإنَّ هذا الفكر لم يطرق أبوابَ عدَّة موضوعات، أو أنَّه تجمَّد عند الخطوة الأولى، ولم يواصل تنميةَ البحث في موضوعات أخرى، مثلما نلاحظ في الفلسفة السياسية، فمنذ آثار الفارابيِّ (المتوفَّى سنة ٣٣٩ﻫ) لا نعثر على مساهمات جادَّة في حقلِ الفلسفة السياسيَّة. فإنَّه بالرغم من وفرة إنتاج الفلاسفة الإسلاميين، ممَّن جاءوا بعد الفارابي، غير أنهم لم يستأنفوا ما بدأه الفارابي، ولم يعملُوا على إغناءِ وتطوير هذا الحقل في الفكر السياسيِّ؛ ذلك أنَّ الفيلسوفَ طالما كان على الضدِّ من إرادةِ السُّلطان، فكان لا بد أنْ يتَّقِيَه، ولا يتعرض مباشرة لبيان طبيعة الدولة باعتبارها تنظيمًا لجماعة، والتعرف على نموذج للحكم بديل للاستبداد، يصلح كمعيار في تنظيم عَلاقة الحاكم بالمحكومين؛ لأنَّ الفيلسوف يقوده منهجُه في البحث بطبيعة الحال للجري وراء الحقيقة، بحسب أداء أدواته وأفكاره ومناهجه التي يستعين بها في البحث، ولذلك قد يتعذَّر عليه ممالأة الطاغوت إذا ولج الفلسفة السياسيَّة في بحثه، ممَّا يدعوه إلى ترك الخوض في هذا المضمار، كي لا يُسْخِط السلطانَ.

لم يقتصر أثرُ الاستبداد على انقطاع الفلسفة السياسية وتوقُّفها منذ الفارابي، وإنما أدَّى شيوعُ الاستبداد في الحياة السياسية إلى ضمور أو اندثارِ بعض الحقول الأساسيَّة في الفكر السياسي الإسلامي. فمثلًا حين نراجع بواكير التراث السياسي نجد بداية حركة التصنيف فيه تتمحور حول مسألة الإمامة وما في سياقها، ومُحَاجَجَات الفرق ومساجلاتها الواسعة بشأنها، مضافًا إلى التصنيف في الخراج وتنظيم المنابع الماليَّة للدولة، وما يرتبط بتدبير المُلك والسياسة، وعدم تدخُّل الجيش في الشئون السلطانيَّة، وكيفية الحفاظ على السلطان، وغير ذلك مما يتَّصل بالآداب السلطانية، ورسوم ومراسم وبروتوكولات دار السلطنة، وإدارة البيت السلطانيِّ.

أمَّا الفقه السياسيُّ الذي يتناولُ شئونَ النَّاس وحقوق الرعيَّة، والأمن السياسيَّ والاجتماعيَّ، ونصيحة الحُكَّام ومحاسبتهم، وأحكام المعارضة السياسيَّة، فلا نعثر عليه إلا متخفِّيًا في مساحة هامشيَّة داخل تراثنا السياسيِّ.

يبدو تأثيرُ الاستبداد بوضوح في صوغ وتوجيه الفكر السياسيِّ الإسلاميِّ عند مراجعة وتقويم مشاغل هذا الفكر واهتماماته، وما غيَّبه وتناساه. فقد لبثت قضيةُ العدالة منسيَّةً في المصنَّفات السياسيَّة عدَّة قرون، ولم يُصنَّف فيها بنحوٍ مستقلٍّ حتى مطلع القرن الخامس الهجري، إذ كتب الخطيب الإسكافي (المتوفَّى سنة ٤٢٠ﻫ) رسالةً صغيرةً في ماهيَّة العدالة.٢ وفي الحقبة التالية لم تأخذ قضيةُ العدالة مكانتها المناسبة في التأليف، ولم يجرِ تعميقُها وتطويرُ البحث فيها، مع ما لها من أهميَّة بالغة — كمعيار قيمي — في إرساء بنية الحكم في الإسلام على أساس متين. وبالرغم من أنَّ الإسلام اعتبرَ العدلَ معيارًا لا يعلو عليه ولا يضاهيه معيارٌ آخرُ، بحيث قال النبيُّ الأكرمُ في وصف العدل: «إنَّ عدلَ ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة، قيامِ ليلها وصيامِ نهارها.»٣ وعدَّ الإمامُ عليٌّ «ملاك السياسة العدل.»٤ كما أنه قرن بين العمران والتقدُّم والعدل، فحينما يعدل السلطان تبلغ الأمة أهدافَها وتزدهر مرافق حياتها، بينما «لا يكون العمران حيث يجور السلطان.»٥ جعل القرآنُ القِسطَ والعدلَ رُوحًا كلِّية منبثَّة في سائر الأحكام والتشريعات «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ»،٦ مما يعني أنَّ تجريد أيِّ حُكم أو توجيه في الإسلام من ذلك يساوي تفريغه من مضمونه ومحتواه، وإحالته إلى قشور واهية تتقنَّع بقناع الإسلام ولكنَّها لا تمثِّله؛ لأن رُوح الإسلام هي القسط والعدل، وأنَّ العدل حاكم على كلِّ تشريع أو قيمة دينية. أي إنَّ العدل ليس تابعًا ومعلولًا وإنما يكون العدلُ متبوعًا وعلَّة، فحيثما تحقَّقَ العدلُ وُجد الإسلام، وبحسب تعبير الشيخ مرتضى مطهري: تقع العدالة في سياق سلسلة علل الأحكام، لا في سلسلة المعلولات، فليس ما يقوله الدين هو العدل، بل حيثما يكون العدلُ ينطق به الدين. وهذا معنى كون العدالة معيارًا للدين.٧

لكنَّ التجرِبة السياسيَّةَ في الحياة الإسلامية ارتكستْ في الظُّلم والجور، وشاعتْ في القصور السلطانية رسومٌ وبروتوكولات تُسبغ على السلطان منزلةً متعالية لا يُسأل فيها عمَّا يفعل، ويتعامل مع الجماهير وكأنها قطيع من الأغنام. واصطبغتْ ثقافةُ المسلمين بمنطق الطَّاعة والاستسلام حيال الحاكم، وكلِّ من هو في موقع سلطةٍ مهما كانت.

أعاق استبدادُ السلطان الفكرَ السياسيَّ الإسلاميَّ من التطور، وتسبَّب في إحجام المؤلفين عن معالجة غير واحدة من قضاياه الأساسيَّة، وابتعادهم عن حقوق الناس، وتأكيدهم على حقِّ السلطان في السمع والطاعة، وإنْ تعدَّى حدود الله، وتجاوز ذلك إلى الشعراء والأدباء والفقهاء، فابتُلي الكثيرون منهم بالرياء والتزلُّف للخليفة والسلطان، وطبَعَ الفكر والأدب رغبات الحاكم ونزواته ومختلِف مواقفه، حقًّا كانت أم باطلًا. يكتب أحدُ مؤرِّخِي الأدب: «إنَّ الأدب اتَّجه معظمُه في العصر العباسي إلى مُشَايَعَةِ رغبات القصر، يذمُّ الشعراء من ذمَّهم الخلفاء، ويمدحون من رضُوا عنه، فإذا خرج محمد بن عبد الله على المنصور، هجاه ابن هَرْمة، وإذا رضي المعتصم عن الأَفشِين، فقصائد أبي تمَّامٍ تترى في مدحه، وإذا غضب عليه صلَبه، فقصائد أبي تمَّامٍ أيضًا تقال في ذمِّه وكُفْرِه. ويرضى الرشيدُ عن البرامكة فهُم معدِن الفضل، ويقتلهم فهُم أهل الزندقة والشرك. وهكذا وقف الأدب أو أكثره يخدم الشهوات والأغراض.»٨ لكنَّ هذا لا يعني عدم وجود نقاط مضيئة في تراث المسلمين السياسي، إلا أنَّ تجذُّر الاستبداد واستمراره منع تلك النقاط من أن تشعَّ وتتسع، فتنبسط على مساحاتٍ كبيرة، وتطبع الفكرَ السياسيَّ برمَّته بخصائصها.

أما المفاهيم والمقولات والآراء والأفكار السياسية وما يحيل إلى التراث السياسيِّ الإسلاميِّ، فتارة نعثر عليه في مؤلَّفات الفلاسفة عند بحثهم الحكمة العملية وما تتشعَّب إليه من تدابير المجتمعِ وسياسةِ المُدُن، وأخرى نجده في مؤلفات المتكلِّمين مندرجًا ضمن مباحث الإمامة، وثالثةً نراه في ثنايا تاريخ الإسلام السياسي، ولا سيما في مواقف العلماء مع السلاطين والحكام. بيد أنَّ الحقل الأهم الذي انتظمت في إطاره تلك المباحث — ولعله الشكل الأقدم لنمط التأليف السياسي الإسلامي — هو مُدَوَّنات الحديث والفقه، ككتب الفتن والأحكام والإمارة وغيرها، أو أبواب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاة الجمعة، والخمس، والقضاء والحدود ونحوها، وما أُلِّفَ بموازاة ذلك من أعمال مستقلة تمحورت حول النظام السياسي أو النظام المالي للدولة الإسلامية، مثلما نلاحظ في مسألة الخراج، فقد ألَّف القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (المتوفَّى سنة ١٩٢ﻫ) كتابًا بعنوان «الخراج»، يُعتبر أقدم المدوَّنات الواصلة إلينا في هذا الموضوع، تعرَّض فيه لفقه أموال الدولة، وإلى جانب موضوعه الأساسيِّ تحدَّث عن: الجنايات والعقاب عليها، والحُكم على المرتدِّ، وقتال أهل الشرك والبغْي، وأرزاق القضاة والعمال. وكان موضوع «الخراج» عنوانًا لكتاب آخر، أنجزه فقيهٌ عاصر القاضيَ أبا يوسف، هو يحيى بنُ آدم القرشيُّ (المتوفَّى سنة ٢٠٤ﻫ). وفي الحقبة نفسها كتب أبو عُبيدٍ القاسم بن سلَّام (المتوفَّى سنة ٢٢٤ﻫ) كتابه المعروف ﺑ «الأموال».

كان الفقيهُ محمد بن الحسن الشيبانيُّ (المتوفَّى سنة ١٨٩ﻫ) قد أفرد مؤلَّفًا للعَلاقات الدولية ونظام الحرب في الإسلام بعنوان «السِّيَر الكبير»، الذي شرحه الفقيه الحنفي السَّرَخْسي، وردَّ عليه القاضي أبو يوسف في مؤلَّف بعنوان «الرد على سير الأوزاعي».

وبعد قرنين من هذا التَّاريخ تطوَّر البحثُ الفقهيُّ في مسائلِ الإمامة والسياسة، وجرى توسُّعٌ في مؤلفات عولجت فيها تلك المسائل بشمول، فظهر أكثر من كتاب بعنوان «الأحكام السلطانية»، أحدها للقاضي أبي الحسن الماوَردي (المتوفَّى سنة ٤٥٠ﻫ)، والآخر للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء (المتوفَّى سنة ٤٥٨ﻫ).

٣

نشأةُ وتطوُّر الفقه السياسي عند الشِّيعة

تأخَّر ظهور الفقه السياسي عند الشيعة الإمامية قرونًا عدَّة، بل إنَّ التدوين المستقل في ذلك لم يتبلور إلا في فترةٍ متأخِّرة، وإنْ توفَّرت بعضُ المصنفات الفقهية السابقة على أبواب وفصول لأحكام متناثرة في الفقه السياسيِّ، مثلما نرى في كتاب «المبسوط» للشيخ الطوسي (المتوفَّى سنة ٤٦٠ﻫ)، الذي أفرد أبوابًا مستقلَّة لأحكام البغاة والمرتدِّين، وأهل الذمة والجزية. كذلك دُرِست مسألةُ الإمامة على نطاق واسع لدى متكلِّمي الإمامية منذ عدة قرون، إلا أنه بسبب الرؤية الكلامية التي حصرت شكل الدولة الشرعية في «عقيدة الإمامة»، وتكريسها لجهودها الفكرية في خصوص التنظير لمواصفات «الإمام المنصوص عليه»، مضافًا للظروف السياسية والاجتماعية الخاصة التي عاشها فقهاءُ الإمامية، وما تعرضوا له من إقصاء عن مواقع الحكم والإدارة؛ انخفض حضورُ الفقه السياسيِّ والاجتماعيِّ في مدونات الفقه الجعفري، وهيمنت النزعة الفردية التي تُعنى بمعالجة قضايا السُّلوك الخاصِّ على هذا الفقه حتى القرن العاشر الهجري. وبعد هذا التَّاريخ، أي منذ قيام الدولة الصفوية في إيران، وتفاعل بعض الفقهاء مع مؤسسة السلطنة الصفوية وقتئذٍ، جرى إسنادُ بعض شئون الدولة لهم، واعتمادهم كمستشارين للسلطان أحيانًا، ومن هنا طُرحت عليهم بالتدريج أسئلة سياسية واجتماعية أفرزها حضورهم في داخل مؤسسة الحكم، فكتبوا بعض الرسائل المستقلة في «الخراج» و«صلاة الجمعة»، كما ظهرت لديهم فيما بعد، أي في القرن الثالث عشر، بعض الرسائل في «الجهاد».

يعود تاريخُ النواة الجنينية الأولى للقول بولاية الفقيه لهذا العصر، حين كان المحقِّق الكَرْكي (المتوفَّى سنة ٩٤٠ﻫ) أول من صرَّح بأن الفقيهَ منصوب من قِبَلِ الأئمة في عصر الغَيبة، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه من مدخل، بالاستناد إلى مقولة عمر بن حنظلة. فقد ذكر أنَّ «الفقيه العدل، الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائبٌ من قبل أئمة الهدى في حال الغَيبة في جميع ما للنيابة فيه من مدخل — وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقًا — فيجب التَّحاكم إليه والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع عن أداء الحق إن احتيج إليه، ويلي أموال الغُيَّاب والأطفال والسفهاء والمفلسين، ويتصرف على المحجور عليهم … إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قِبل الإمام. والأصل فيه ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناد إلى عمر بن حنظلة، عن مولانا الصادق جعفر بن محمد أنه قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثَنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامَنا فارضَوا به حَكَمًا فإنِّي قد جعلتُه عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه، فإنَّما بحكم الله استخفَّ، وعلينا ردَّ، وهو رادٌّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله. وإذا اختلفا، فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما.» وفي معناه أحاديث كثيرة، والمقصود من هذا الحديث هنا أنَّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعينة، منصوب من قبل أئمتنا، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه من مدخل بمقتضى قوله: «فإني قد جعلته عليكم حاكمًا» وهذه استنابة على وجه كلِّي.»٩
كذلك أشار المحقِّق الكركي إلى أنَّ الفقيه المستجمع لشرائط الفتوى والحكم هو النائب العام للإمام في عصر الغيبة، في كتابه «جامع المقاصد» عند الحديث عن الوصيَّة بالولاية، قائلًا: «لا يخفى أنَّ الولاية بالأصالة على الطفل ثابتة لأبيه ثم لجدِّه الأدنى، ثم من يليه وهكذا. ولا ولاية للأبعد مع وجود الأقرب، فمع عدم الأب والجد فوصي الأب، فإن فُقِدَ فوصي الجد، ومع عدم الجميع فالحاكم. والمراد به الإمام المعصوم أو نائبه الخاصُّ، وفي زمان الغيبة النائب العام، وهو المستجمع لشرائط الفتوى والحكم. وإنما سُمِّي نائبًا عامًّا لأنه منصوب على وجه كلِّي بقولهم: «انظُروا إلى من كان منكم»، الحديث … ولا يخفى أن الحاكم حيث أُطلق لا يراد به إلا الفقيه الجامع للشرائط.»١٠
لم تكن الدولةُ الإسلاميَّةُ أو الحكومة الإسلاميَّة مفكَّرًا فيها عند الفقيه الكركي، كما يفكِّر فيها الإسلاميُّون منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ وإنَّما كان بصدد إسباغ المشروعية على السلطنة الصفوية، وتسويغ سلوك الشاه طَهْماسَب (ت٩٨٤ﻫ/١٥٧٦م)، وإمضائه، باعتبار أنَّ الكَرْكي يعتقد في نفسِه بأنَّهُ يمتلك الحقَّ الإلهي الممنوح له للنيابة عن الإمام؛ فيفيض هذا الحقُّ على السلطان وينصِّبه حاكمًا. وهو موقف رفضه أبرزُ فقهاء عصره كالشيخ إبراهيم القطيفي، الذي وجَّه نقدًا صريحًا للكركي، وعاب عليه قبوله لهدايا السلاطين الصفويين، مما اضطر الأخير للردِّ عليه برسالته الموسومة «قاطعة اللَّجاج في تحقيق حلِّ الخراج»، دلَّل فيها على صحة سلوكه، فرد عليه القطيفي برسالة سماها «السراج الوهَّاج في دفع قاطعة اللَّجاج». ودعم بعض الفقهاء المعاصرين له موقف القطيفي؛ فكتب المقدَّس الأردبيلي رسالة في هذا الموضوع، وكذلك الشيباني، واشتهرتْ هذه المجموعة من الرسائل ﺑ «الخراجيات».١١
كان الشيخ جعفر الجناجي (١١٥٤–١٢٢٨ﻫ)، والذي اشتهر فيما بعد بكاشف الغِطاء — نسبة إلى كتابه المعروف «كشف الغِطاء عن مبهَمات الشريعة الغرَّاء» — من أبرز الفقهاء الذين أسَّسوا للمرجعية الدينية في النجف، وفي سياق حديثه عن الجهاد عندما تعرضت إيران للغزو الروسي في العهد القاجاري، وطلب منه الشاه القاجاري سنة ١٢٢٣ﻫ تأييدَه في مقاومة الروس، ففوض المجتهدين في القيام بالجهاد الدفاعي في حالة غيبة الإمام، ونصَّ على وجوب «طاعة الناس لهم، من خالفهم فقد خالف إمامهم»، وذهب إلى أنَّ «الفقيه الجامع للشرائط قائم — حقيقةً — مقامَ الإمام، ليس في الشرعيات والأمور الحِسبية فقط، بل في سائر الأمور، من إدارة البلاد والعباد إلى الحرب والجهاد، إلى الولاية على المال العام، وبالتَّالي فإنه يتحدث هنا عن الفقيه باعتباره الوالي بالأصل، وأنَّ السلطان تالٍ له، ومستمِدٌّ شرعيته من إذنه.»١٢
ثم جاء من بعده أحمد النَّراقي (المتوفَّى سنة ١٢٤٥ﻫ)؛ فأفرد بحثًا مستوعِبًا في كتابه «عوائد الأيام»، بعنوان: «في بيان ولاية الحاكم وما له فيه الولاية على ما جاء في الأخبار.»١٣ وكان هذا الفقيه هو أول من صاغ رؤيةً نظريةً تمنح الفقيه تفويضًا سياسيًّا لإدارة السلطة والحكم في عصر الغيبة.

ننبِّه إلى الترادف الذي عثرنا عليه لدى بعض الفقهاء بين القول ﺑ «الولاية» بمعناها المعروف في العرفان النظري، والقول ﺑ «الولاية» بمعناها الفقهي، وكيف تمَّ توظيفُ المفهوم ونقله من مجاله المعنوي الذي يعتبر «الولاية باطن النبوة»، ويخصُّها بالأئمة الاثني عشر، إلى المجال السياسيِّ، ومنح الفقيه تفويضًا في إدارة الحكم والسلطة وكلِّ ما يتصل بالشأن السياسي. فالنَّراقي وغيره ممن تبنوا القول ﺑ «الولاية» بمعناها الفقهيِّ، هو وغيره ممن يقولون بالولاية بمعناها العرفاني. وفي السياق ذاته نجد ترادفًا لدى هؤلاء الفقهاء بين القول بنظرية «الإنسان الكامل» بمعناها في العرفان النظري، و«الولاية» بمعناها الفقهي، فمن قال من الفقهاء بولاية الفقيه يقول بنظرية «الإنسان الكامل».

منذ عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفَّى سنة ١٢٨١ﻫ) دأب فقهاءُ الإماميَّة على بحث مسألةِ الولاية العامة للفقهاء في باب البيع من مؤلفاتهم الفقهية، ومكث الفقهاء عقودًا متوالية يبحثون هذه المسألة من منظور فرديٍّ لا يفكر بإدارة الدولة ومؤسساتها، لذلك لا نلاحظ فقيهًا في تلك الفترة حاول أن يقدِّم صوغ نظرية تكشف عن الأبعاد السياسية والاجتماعية لولاية الفقيه في عصر الغيبة، وظل بحثهم يجول في مدارات الإشكالات والردود، من دون أن يتخطَّى ذلك ويتسلح برؤية ينبثق عنها صوغ فقهيٌّ لإدارة الفقيه للدولة واشتقاق نُظمها من المدونة الفقهية. كما ظلَّ القولُ بولاية الفقيه يقتصر على فقهاء معدودين، ولم يتَّسع القولُ بالولاية، وتمسَّك مشهورُ الفقهاء بنقد أدلَّتها وعدم التسليم بها.

في القرن الثالث عشر الهجري تناول الشيخ مرتضى الأنصاري «مناصب الفقيه» في كتابه «المكاسب» في سياق بحثه لمسألة «أولياء التصرُّف في مال من لا يستقلُّ بالتصرف في ماله». وأوضح أنَّ للفقيه الجامع للشرائط مناصبَ ثلاثةً، هي: الإفتاءُ، والحكومةُ (أي القضاء)، وولايته بالتصرف في الأموال والأنفُس. وبعد أن استعرض وناقش مجموعةً من آيات القرآن والروايات المنقولة عن النبي وأهل البيت التي يُستدلُّ بها في المقام، خلَص في خاتمة البحث إلى القول: «وبالجملة، فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام — إلا ما خرج بالدليل — دونه خرط القتاد.»١٤ وفي تعليقاته على هذه المسألة من كتاب المكاسب يشدد الشيخ محمد كاظم الخراساني (١٢٥٥–١٣٢٩ﻫ) على أنَّ ثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة محلُّ إشكال، ويناقش أبرز الأدلَّة على ثبوت الولاية للفقيه فلا يقبل أيًّا منها، وينتهي إلى ما انتهى إليه الأنصاريُّ في نفي الولاية المطلقة للفقيه.١٥
يعودُ هذا الموقفُ إلى ترسُّخ مفهومٍ في الذهنيَّة الفقهيَّة منذ بداية عصر الغيبة، يُبتنى على انعدام الدليل على تكليف الفقهاء بالولاية والإمارة. يكتب الشريف المرتضى، وهو من أعلام القرن الخامس الهجري: «ليس علينا إقامة الأمراء، إذا كان الإمامُ مغلوبًا، كما لا يجب علينا إقامة الإمام في الأصل … ليس إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته، ولا نحن مخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذمُّ بتضييعها.»١٦ وعلى طول التاريخ لا نلتقي بجهود تهدف إلى إسقاط السلاطين ودولهم، أو تدعو لذلك من الفقهاء، من أجل بناء دولةٍ تقوم على الشريعة وتطبِّق أحكامَها، بالرغم من إجماع الفقهاء على غصبية إمارة التغلُّب.
حتى نهاية القرن التاسع عشر، لا نعثر على أية دعوة أو محاولة لإقامة دولة إسلامية بديلة للملكية القاجارية؛ ففي ٢٨ رجب ١٣٠٨ﻫ (مارس ١٨٩١م)، وقَّع الشاه ناصر الدين امتياز احتكار تجارة التبغ الإيراني لمدة خمسين عامًا، مع شركة الميجر تالبوت، مقابل ٢٥ ألف جنيه تُدفع للشاه، و١٥ ألفًا للصدر الأعظم أمين السلطان، إضافة إلى رسم سنوي يبلغ ١٥ ألف جنيه، وحصة من أرباح الشركة تصل إلى ٢٥ بالمائة. وإثر تدشين الشركة لعملها في إيران، فَرضتْ هيمنتَها على كلِّ ما يتَّصل بزراعة وتجارة التبوغ، وتعسَّفَتْ في فرض أسعار متدنية جدًّا؛ ما أدَّى إلى اندلاع انتفاضة قادها بعضُ رجال الدين في شيراز وأصفهان وطهران، وحدثت مواجهاتٌ حادَّة بين المنتفضين وقوات الشاه، وإثر ذلك لجأ رجال الدين للمرجع الميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء واستغاثوا به، فأصدر فتواه الشهيرة: «اليوم استعمال التَّبغ والتُّنْباك، بأي نحو كان، في حكم محاربة إمام الزمان صلوات الله وسلامه عليه. حرره الأقل: محمد حسن الحسيني». وقد وُزِّع من الرسالة ١٠٠ ألف نسخة في العاصمة طهران وغيرها، في أوائل جُمادَى الآخرة ١٣٠٨ﻫ (أوائل ديسمبر ١٨٩١م). وَأَدَّتِ الفتوى إلى انهيار امتياز الشركة البريطانية وانسحابها من إيران.١٧
ما أودُّ أن أخلُص له، أنَّ المرجعية لم ترفع شعارًا للقضاء على السلطنة القاجارية، ولم تنطلق أيةُ دعوةٍ لاستبعاد الشاه أو استبداله بسواه، بل إن رسائل المرجع محمد حسن الشيرازي إلى ناصر الدين قبل صدور فتواه، التي تضمَّنت معارضتَه والعلماء لامتياز شركة التبغ، لم تغفل عبارات الثناء والمجاملة، ولم تشر إلى اعتزامهم خلعه عن العرش. وتوضح الرسائل بأن الشيرازي كان يفضِّل أن يستجيب الشاه ويلغي امتياز الشركة، كيما لا يُضطر لإصدار فتواه.١٨ ولم تُستثمر هذه الفتوى ويستغل الفقهاء آثارها السياسية والاجتماعية في المضي لإقامة حكومة أخرى غير السلطنة القاجارية، مع أنَّ الشاه كان في حالةِ استسلامٍ وضعف وانهيار شامل لكلِّ سلطاته. وهذا يشير بوضوح إلى أنَّ الفقهاء لم يفكِّروا بإقامة دولة دينية في عصر الغيبة. وهكذا اقتصرت الدعوة في مرحلة لاحقة على وضع دستور، وتقييد سلطةِ الشاه المطلقة، في حركة المشروطة مطلع القرن العشرين، من دون أن تتجاوز ذلك إلى إلغاء السلطنة، وإشادة دولة تتأسَّس على مرجعية الفقه.
تكشف رسائل وجَّهها آية الله محمد الطباطبائي أبرز قادة المشروطة في بداياتها، عن أن الدستوريين لا ينشدون القضاء على الدولة، كتب إلى الشاه مظفر الدين: «يستحيل أن نكون من مريدي السوء للحكومة، ليس من المعقول أن يكون الداعي بالخير ساكتًا عن هذه الأخطار، وساعيًا لتدمير الدولة.» وجاء في رسالة أخرى له: «إصلاح جميع المفاسد منحصر بتأسيس المجلس، واتِّحاد الأمَّة مع الدولة، ورجال الحكم مع العلماء … الإصلاح آتٍ عمَّا قريب، لكنَّا نريده على يد ملكنا وزعيمنا، لا على يد الروس والعثمانيين والإنجليز.»١٩

٤

الدعوة لتدوين الدستور في مدرسة النجف

تحوُّل التفكير في المفاهيم يرتبط عضويًّا بالسياقات الدينية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية السَّائدة في كل مجتمع من المجتمعات البشرية. ومدرسة النجف ظلَّت وما زالت أهمَّ حاضنة للفقه الشيعي، وعادة ما كان الشيعة خارج مؤسسة السلطة في دولة الخلافة الأموية والعباسية والسلطنة العثمانية، وطالما تعرض فقهاؤهم للمراقبة والاضطهاد والقمع، خشية ثوراتهم ومعارضتهم للخلفاء والسلاطين، ففرض عليهم ذلك الابتعاد عن التفكير الفقهي بالدولة ونظمها. وانتظم الفقه في الحوزات في المجال الفردي الشخصي، ولم يتجاوزه إلى مجال الحكومة والسلطة وتنظيمات الدولة. وبموازاة ذلك تبلور موقف فقهي يسلب المشروعية عن أية دولة في عصر غيبة الإمام المهدي، وهو الإمام الثاني عشر، ويصفها ﺑ «دولة الضلال».

إن عدم فصل فقهاء المذهب الإمامي بين مفهوم الدولة بمعناه السياسي كتنظيم بشري، ومفهومها الكلامي العقائدي كنظام خلافة، دفعهم نحو سلب الشرعية عن كل أشكال الدولة، ووصفهم جميع الحكَّام بكونهم «أئمة جور»، وهو ما صرف جهودَهم للتفكير بالدولة ﮐ «تنظيم» للجماعة المؤمنة، وليس ﮐ «نظام» يسوس الأتباع — ولا أقول المواطنين — إذ ما دامت الدولة تعني الخراج والقضاء والجهاد، فقد حُلَّ الموضوعان الأول والثاني بالعودة للفقيه، أما الثالث فسُوِّغ في الحالات المصيرية التي يتعرض فيها الإسلامُ لخطر يُخشى منه عليه. وهكذا تراجع التفكيرُ بالدولة وحُسمت إشكاليتها لانتفاء الحاجة إليها.

لم تتقلص المسافةُ بين بعض الفقهاء والسلطان إلا في العصر الصفوي، حينما احتاج السلطان إلى الفقيه ليخلع المشروعية على دولته. لكنَّ مدرسة النجف مكثتْ بمنأًى عن ذلك. وفي العصور التالية ابتعد نادر شاه عن الفقهاء، لكن مع السلطنة القاجارية حرص بعضُ ملوكِهم على تجسير العَلاقة مع المرجعية الدينية، والحصول على دعمها، خاصة في صراعهم المستمرِّ مع الرُّوس، وحاجتهم الماسَّة إلى تعبئةِ الشَّعب وحثِّه على القتال، عبر فتاوى الجهاد.

في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الدعوةُ إلى الدستور للمرَّة الأولى في الدولة العثمانية، عندما «سعى مدحت باشا، مع جماعة من زملائه المفكرين إلى تحقيقِ هذه الفكرة، واستطاع — في آخر الأمر — أن يحمل السلطان عبد الحميد الثاني على إصدار القانون الأساسيِّ، عقب تولِّيه العرش، بعد خلع السلطان عبد العزيز، والسلطان مراد.»٢٠ فصدر الدستورُ سنة ١٨٧٦م، وتأسَّس البرلمانُ الذي عرف ﺑ «مجلس المبعوثان» غير أنَّ السلطان عبد الحميد لم يسمح له بالاستمرار في دورته الثانية، «فأصدر في ١٣ شباط ١٨٧٨م فرمانًا بحلِّ المجلس، وإلغاء الدستور. وفي اليوم الثاني أمر بإخراج النواب البارزين من إسطنبول، وإعادتهم إلى ولاياتهم، ومنذ ذلك الحين أخذ عبد الحميد يحكم الدولة على طريقته الاستبدادية، التي اشتهر بها واشتهرت به.»٢١ وأقفل مجلس المبعوثان أبوابه لمدة ثلاثين عامًا؛ فمنذ تعطيله سنة ١٨٧٨م لم يُفتح ثانية إلا في العام ١٩٠٨م.
تسرَّب الوعيُ الدستوري إلى بعض النُّخَب في ولايات الدولة العثمانية، وكانت حوزة النَّجف تتجاوب مع المنعطفات السياسية الكبرى، ويتفاعل بعضُ تلامذتها وفقهائها مع الأصوات المنادية بالإصلاح السياسي، خاصة بعد وفاة الميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء في العام ١٣١٢ﻫ/١٨٩٥م، عندما عاد طلابه إلى النجف ثانية؛ ذلك أنَّ الحوزة فيها لم تفتقد مركزيتَها بهجرة الشيرازي إلى سامراء، فقد تصدَّى للمرجعية اثنان من تلامذته بعد غيابه، هما: محمد كاظم المعروف بالآخوند الخراساني (ت١٣٢٩ﻫ/١٩١١م)، ومحمد كاظم اليزدي (ت١٣٣٧ﻫ/١٩١٩م). وقد ازدهرت حوزة النجف في هذه الفترة بتوافد الطلاب الشيعة إليها من إيران والهند وأفغانستان ولبنان وسوريا.٢٢

كان للمناخات الفكريَّة في عصر المشروطة (١٩٠٦–١٩١١م) تأثير حاسم على التفكير في مدرسة النجف في قضايا الدستور، والبرلمان، والاستبداد، وتداوُل السُّلطة، والانتخابات، والمشروعيَّة السياسية للسلطة، وحدود تدخُّل الفقيه في الدولة، ونمط الدولة في عصر الغيبة، وحقل الفقه في الدولة، وهل الدولة مقولة دنيوية أم دينية؟ وغير ذلك من الاستفهامات الحائرة، والأسئلة القلقة، التي أوقدت التفكير في هذه القضايا، وقادته للانخراط في مجال لم يتسع البحثُ فيه من قبل في الحوزة، بنحوٍ هيمنت معه تلك الاستفهاماتُ على الفضاء المعرفي في النجف، وتعاطى الفقهاءُ وتلامذتُهم الحديثَ والنقاشَ في ذلك.

طالما طغت الجدالياتُ السياسيَّةُ والفكريَّة في إيران على مشاغل الطلاب واهتماماتهم، لوثوق العَلاقة بين المرجعية الدينية في النجف والمجتمع الإيراني، والارتباط العضوي للمقلدين الإيرانيين بفقهاء النجف، وتجاوب هؤلاء الفقهاء مع التطورات السياسية والاجتماعية في إيران.

استفاق وعيُ النخبة الإيرانية في هذه المرحلة على أنَّ غياب القانون وشيوع الاستبداد والمَلَكية المطلقة غير المقيَّدة بدستور، هو منبع التخلُّف والانحطاط الذي يرزح في أغلاله المجتمعُ الإيراني. وسادتْ كتاباتِ الإيرانيين في هذه المرحلة مصطلحاتُ: الحكومة القانونية أو الدستوريَّة «حكومت قانوني»، والحرية «حريت»، والنظام البرلماني «نظام برلماني»، ودار الشورى «مشورت خانه»، وانعكست أصداءُ هذه الكتابات على لسان الوعَّاظ وخطباء المنابر، ممَّن يواظبون على تحريض مستمعيهم، وتعبئتهم لمناهضة الاستبداد، عبر المناداة بدولة القانون، ورفع الشعارات المطالبة بالدستور، وتَكرارها في كل مناسبة. ويمكننا ملاحظة مدى الإصرار على هذه المسألة والتأكيد عليها، حين نطَّلع على نَموذج لهذه الخطابات الموجَّهة من على المنبر للجمهور. فمثلًا: يدعو جمال الدين الأصفهاني، أحد الخطباء المعروفين في ذلك الزمان، الناس بقوله: «أيها الناس ليس بوسعنا بناء بلدنا من دون التمسك بالقانون، ومن دون التعرف على القانون، ومن دون حفظ القانون، ومن دون احترام القانون، ومن دون تنفيذ القانون، القانون ثم القانون. لا بدَّ من تعليم القانون للأطفال في الكتاتيب والمدارس منذ الصغر، ويجب تفهيمُهم أن ليس هناك معصية في الدين والشريعة أعظم من مخالفة القانون.»٢٣
استوعب الوعيُ الدستوريُّ الإيرانيُّ مجموعةَ تشريعاتٍ وقوانين ولوائح حقوقية فرنسية وعثمانية وعربية، واهتمَّ بنقلها من لغاتها الأصلية إلى الفارسية، كما لاحق الكتاباتِ الجادَّةَ في تشريح الاستبداد وتفكيكه، وترجمها وروَّج لها، مثل كتاب عبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، بعد مدَّة وجيزة من صدوره، ومن قبله ترجم مستشار الدولة لائحة حقوق الإنسان من الفرنسية، وترجم ميرزا حسين خان سبهسالار دستور مدحت باشا العثماني إلى الفارسية أيضًا.٢٤

عملت أنشطةُ ومساعِي وكتاباتُ النُّخبة الفاعلة على إيجاد أرضية واسعة للوعي الدستوري في المجتمع الإيراني، بعد أن جعلتْ مناهضةَ الاستبداد وتدوين الدستور من أهمِّ أولوياتها، وكرستْ مختلِفَ الجهود لإشاعة هذه الثقافة وتعميمها، بنحوٍ لم تَعُدْ معه ثقافةً خاصة بالنخبة، وإنما امتلكها الوعيُ الشعبيُّ، وصارت القضية المطلبية الأولى في حياة المواطن الإيرانيِّ. ووجد جماعة من الفقهاء أنَّ الظروف الاجتماعية والسياسية ممهدة لإرغام الملكية المستبدَّة على تحديد سلطاتها وتقييدها في إطار قانون أساسيٍّ، يستمد مشروعيته من الشعب، ويخضع بموجِبه الملكُ لإرادة الأمة، ولا يختصر كلَّ شيء بشخصه. تتألَّف هذه الجماعةُ من ثلاثة مجتهدين معروفين من طهران، وهم: محمد الطباطبائي، وعبد الله البهبهاني، وفضل الله النوري (١٨٣٥–١٩٠٩م)، الذي قضى فيما بعد مصلوبًا، بعد أن تحوَّل إلى موقع مناهض لهذه الحركة، لاعتقاده بأن المشروطة على الضدِّ من الشريعة الإسلامية.

أما في حوزة النجف فجرى اصطفافٌ آخر، إذ انشطر موقف المرجعية؛ فتبنَّى محمد كاظم الخراساني، وتبعًا له تلميذه محمد حسين النائيني، وغيرهما، موقفًا مؤيِّدًا وداعمًا للمشروطة، بينما ذهب محمد كاظم اليزدي إلى تأييد فضل الله النوري ومن اصطفَّ معه في مناهضة المشروطة. وتضاربت الآراءُ والفتاوى في الموقف من المشروطة، ففي الوقت الذي ينصُّ أحدُ الفقهاء في فتواه على أنَّ «المشروطة كفر، والمطالب بالمشروطة كافر، ماله مباح، ودمه مهدور.»٢٥ يكتب الآخوند الخراساني، وعبد الله المازندراني، والميرزا حسين ابن الميرزا خليل في فتواهم: «نعلن حكم الله إلى كافة الشعب الإيراني؛ إنَّ بذل الجهد هذا اليوم لإقرار المشروطة، هو بمثابة الجهاد تحت راية صاحب الزمان (أرواحنا فداه). وأدنى معارضة أو تهاون في ذلك إنما هو كمحاربته وخذلانه. أعاذ الله المسلمين من ذلك، إن شاء الله.»٢٦

تُؤَشِّرُ لحظة المشروطة إلى منعطف حادٍّ في تحديثِ التَّفكير السياسيِّ عند الشيعة الإمامية، وتبلور مرتكزات محوريَّة لمفهوم الدولة، عبر توظيف شيء من المكتسبات الحديثة في الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة.

قاد التكفيرُ المتبادلُ بين الفريقين إلى استثمار جميع مكونات الذاكرة الدينية والقومية للمجتمع الإيراني في تعبئة الجمهور، ومحاولات اجتراح تفسيرات وتبريرات تستند إلى الكتاب والسنة والسيرة والتراث، من أجل تشكيل رؤية واضحة لموقفِ كلِّ فريقٍ.

ومثلما هيمنت الدعوةُ لتقنين عمل السلطة على وعي معظم النخبة، تسرَّب التثقيفُ عليها إلى عامَّة الشعب، وانقسم الناس تبعًا للانقسام في مواقف الفقهاء حيال المشروطة سنة ١٩٠٦م، وباتت قضيةُ المشروطة هاجسًا نخبويًّا وجماهيريًّا شاملًا، انخرطت النُّخبةُ المدنيَّةُ والدينيَّةُ في الكتابة والخطابة والحديث عنه، إثباتًا أو نفيًا. وصدر الكثيرُ من المنشورات والرسائل والمقالات والكتب والمطبوعات المتنوعة لمعالجة هذه القضية.

٥

تنبيه الأمَّة وتنزيه المِلَّة للنائيني
يمكن القول إنَّ أهمَّ رسالتين صدرتا خلال هذه الضجة، وعبَّرتا بوضوح لا لبس فيه عن الموقف الرافض، والموقف المؤيد للمشروطة، هما: «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل» المنسوبة لفضل الله النوري، المطبوعة سنة ١٩٠٨م، أي قبل إعدامه بسنة،٢٧ ورسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» التي ألفها الشيخ محمد حسين الغروي النائيني، بالفارسية، وطبعت سنة ١٣٢٧ﻫ/١٩٠٩م بالنجف.٢٨
يبدو من عنوان هذه الرسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» أنَّها تشير إلى عنوان الرسالة الأخرى، وتنفي حكمَها على دعاةِ المشروطة ومؤيديها، باعتبارهم «جاهلين … غافلين». تشدِّد الرسالةُ المنسوبةُ إلى النوري على رفض الدعوة للمساواة بين المواطنين، وتستخدم لغة حادَّة، مشْبَعة بالاتهام، والأحكام القاسية، في توصيفاتها للآخر. فمثلًا تقول: «يا عديم الشرف، يا عديم الضمير! صاحب الشريعة مَنَحَكَ شرفًا وامتيازًا، لأنَّك انتحلتَ الإسلام، وأنت تسلب هذه الميزة عن نفسك، وتقول: يجب أن نكون متساوين، مع المجوس والأرمن واليهود، ألا لعنة الله على من لا يعرف قدره.»٢٩ ولم تنتشر بنحوٍ واسع رسالة «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، ولم يمتدَّ حضورُها خارج زمانِها، بينما اشتهرتْ رسالةُ النائيني «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» وتنوَّعت الإحالاتُ المرجعيَّةُ عليها، وأصبحت من أهمِّ النصوص المؤسِّسة في الفكر السياسيِّ الإسلامي الشيعي الحديث.
وُلِدَ محمد حسين الغروي النائيني في نائين٣٠ في العام ١٢٧٧ﻫ/١٨٦٠م، وكان والدُه وجدُّه أيضًا من رجال الدين، تلقَّى تعليمَه الأوَّلِيَّ في مدينته. سنة ١٢٩٥ﻫ/١٨٧٧م انخرط في الحوزة العلميَّة في أصفهان، وفي سنة ١٣٠٣ﻫ/١٨٨٥م هاجَرَ إلى النَّجَف لمواصلة دراسته، ثم غادرها إلى سامراء بعد فترةٍ وجيزةٍ، بعد أن توطَّنت الحوزةُ فيها قبله بسنوات، حينما قرَّر نقلها إلى هناك الميرزا محمد حسن الشيرازي (المتوفَّى سنة ١٣١٤ﻫ/١٨٩٦م). تابع النائيني دراستَه عند الميرزا الشيرازي، وأضحى في فترةٍ لاحقةٍ مقربًا منه، وكاتبه الخاص. وبعد وفاة أستاذه غادر سامراء إلى كربلاء، بمعيَّة أستاذِه الآخر السيد حسن الصدر، ومكث فيها عامين، وأخيرًا عاد إلى النَّجف سنة ١٣١٦ﻫ/١٨٩٨م، منضمًّا إلى أستاذه الملا محمد كاظم الخراساني، المعروف ﺑ «الآخوند الخراساني» (المتوفَّى ١٣٢٩ﻫ/١٩١١م). وأمسى النائيني من أقرب تلامذته ومستشاره الخاص لحظة المشروطة. ولعلَّه هو من كتب بيانات مراجع المشروطة «الآخوند الخراساني، الشيخ عبد الله المازندراني، الميرزا حسين خليل الطهراني».

النائيني فقيهٌ وأصوليٌّ ومرجعٌ شيعيٌّ بارز، وأستاذ لجيل من الفقهاء والأساتذة المعروفين في حوزة النجف، ممن أضحوا مراجع للشيعة في مرحلة لاحقة، مثل السيد أبو القاسم الخوئي وغيره. اشتهر النائيني باجتهاداتٍ مهمَّة في أصول الفقه، كما تميَّز بتجديده للفقه السياسي، لكنَّ منجَزه الأخير حجب إبداعاته في أصول الفقه، واختُزل النائيني لدى الباحثين والدارسين خارج الحوزة بفقهِهِ السياسي، بل برسالته «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». وهذه الرسالة — كما سبق وقلنا — إحدى أهمِّ رسالتَيْنِ صدرتا خلال المشروطة، وعبَّرتا بوضوحٍ لا لَبْسَ فيه عن الموقف الرَّافض والموقف المؤيِّد لتدوين الدستور الحديث وبناء وإدارة الدولة على أساسه. ألَّف النائيني رسالتَه استجابةً إلى نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكريَّة، وفتاوى فقهية متعارضة، بين أنصار المشروطة ودعاتها، وبين مناهضيها، ممن يعبَّر عنهم: أنصار «المستبدة»، فيما يسمُّون هم أنفسهم «المشروعة».

تشبَّعت المناخاتُ السياسيَّةُ والثقافيَّةُ والفقهية والإعلامية في هذه الحقبة بالحديث والكتابة عن: الاستبداد، والحرية، والقانون، والدستور، والبرلمان، والمَلكية المستبدَّة، والمَلكية المشروطة، وما يتصل بذلك. وكتب فقهاء ورجال دين مؤلَّفات ورسائل عدَّة، لتبرير المواقف المتنوعة حيال تلك المسائل، وكانت رسالة «تنبيه الأمة» للنائيني، و«اللآلئ المربوطة في وجوب المشروطة» للشيخ محمد إسماعيل المحلاتي، أهمَّ نصَّيْن للتَّدليل على المشروعيَّة الفقهية للدستور، وتشكيل البرلمان. أما رسالة «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، فإنها تتبنَّى موقفًا جذريًّا رافضًا للدستور والبرلمان.

يتلخَّص مفهومُ المشروطةِ في تشكيل الحكومة على أساس دستور، ونظام برلماني، وتقييد سلطات الحاكم في إطار القانون. وكان الكاتبُ العثمانيُّ نامق كمال من أوائل من استخدم تعبيرات: الدولة المشروطة «دولت مشروطه»، والإدارة المشروطة «إداره مشروطه»، في كتاباته في القرن التاسع عشر، وهو يعني بذلك الحكومة الدستورية غير المستبدَّة. وكانت مثل هذه الحكومة توصف لدى الكُتَّاب العثمانيين في ذلك العصر بتوصيفات من قبيل: «مقيَّدة» و«معتدلة» و«محدودة». والقيد بمعنى الشرط، والمحدود هو المؤطَّر بحدود، أو مشروط بشروط. ويعتقد عبد الهادي الحائري بأنَّ هذه الكلمة وفدت من التركية، وأول من استخدم مصطلح المشروطة باللغة الفارسية هو ميرزا حسين خان سبهسالار سنة ١٨٦٨م حين كان سفيرًا لإيران في الإمبراطورية العثمانية، إذ وردت هذه الكلمة في بعض التقارير التي أعدَّها ساعتئذٍ.٣١

«تنبيه الأمة وتنزيه الملة» هو النصُّ الوحيد من كل تلك الكتابات الذي اخترق الزمان، وتحوَّل فيما بعد إلى نَموذج إرشادي، ومنبع إلهام للكتابات والرُّؤى والآراء اللاحقة في الفقه السياسي الشيعي. ويمكننا ملاحظةُ تأثيره في «دستور» جمهورية إيران الإسلامية، وبعض الآراء في الفقه السياسي للسيد محمود الطالَقاني، والشيخ مرتضى المطهري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ حسين علي المنتظري، وأخيرًا السيد علي السِّيستاني.

كتبَت عن «تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة» وتداولَتها مجموعةٌ من الباحثين والدارسين بالفارسية والعربية وغيرهما. وربما يعود ذلك إلى الأسلوب الاستدلالي الذي انتهجه النائيني في بيان آرائه، ومناقشة الآراء التي يختلف معها، وابتعاده عن الأحكام المتسرِّعة والقاسية حيال الآخرين، واستيعابه للثقافة الدستورية لعصره، واطِّلاعِهِ على ما يتَّصل بأثر الاستبداد والحكوماتِ الشموليَّة فِي انحطاطِ البُلدان، ورؤيته الحديثة للدولة، وقيام نُظُمِها وإداراتها على ما راكمتْه الخبرةُ البشريَّةُ، وتفكيره خارج المدوَّنة الفقهية في قضايا الدستور، ووعيه لضرورة وجود برلمان، وانتخابات يجرى فيها اختيارُ الأعضاءِ، وبيان مهمات البرلمان في صوغ القوانين، وحماية الحرِّيات والحقوق، والمساواة، والعدل.

نظرًا للمكانة الفقهيَّة والأصولية المرموقة لمؤلِّفه، تعرَّض «تنبيه الأمة» لقراءات وتأويلات شتَّى منذ صدوره، ولعلَّ أشد تلك التأويلات تحريفًا هو ترجمة صالح الجعفري للمرة الأولى لهذا النص، ونشره على حلقات في مَجلة العرفان اللبنانية عام ١٩٣٥م، التي أعادت نشرها مَجلة الموسم، في عددها الخامس سنة ١٩٩٠م. إذ التبست مصطلحات ومفاهيم وآراء النائيني في هذه الترجمة، بنحوٍ أصبح معه النصُّ مشحونًا برؤيةٍ ديمقراطيَّة، فقد تكرَّر هذا المصطلح لدى الجعفري في موارد متعددة من النصِّ المُعرَّب، في الوقت الذي لم يستخدمه النائيني أبدًا في «تنبيه الأمة»، بل إن مفهوم الديمقراطية بفلسفتها المعروفة في الفكر السياسي الحديث، ونمط الحريَّات السياسية والاقتصادية والعقائدية والشخصية، والفردية ومركزية الشخص البشري في العالم، لم يكن مُفكَّرًا فيه وقتئذٍ في حوزة النجف.

لم يهتم النائيني بتلفيق الإسلام مع الديمقراطية، أو إنجاز مصالحة بينهما، مثلما يفعل إسلاميُّو السلطة، ممن لا يتنبَّهون إلى أن مرجعيات الديمقراطية تنتمي إلى شبكةٍ مفاهيمية لا تتطابق مع شبكة المفاهيم المشتقَّة من الموروث. وهذا ما يُفسِّر الوصولَ إلى طريق مسدود في نموذج السلطة الذي ينشده الإخوانُ المسلمون وغيرُهم في مجتمعاتنا. وتوظيفهم للديمقراطية في الانتخابات فقط، وكأنها بمثابة سُلَّم يُستخدم لمرة واحدة.

ما زالتْ ترجمة الجعفري مرجعًا للكتابات العربية عن النائيني وفكره السياسي، وإسقاط مفاهيم ومقولات ديمقراطية على تفكيره، وكأنه فقيه ليبرالي، من دون وعيٍ للسياقات الاجتماعية والسياسية التي كُتبتْ فيها هذه الرسالة، ومنطق الفقه وأصوله وأفق الانتظار الذي كان النائيني يغوص في مدياته.

لا نود أن ننفي وعود هذا النص وتطلُّعاته وراهنيته لحظة المشروطة، ومغامرته في تبنِّي ودعم شعارات دعاة المشروطة، وقدرته على مقاربتها وتبريرها، وتأمين غطاء فقهي لها، يمنح أنصارَها مشروعية دينية، وينقذهم من فتاوى الارتداد وإهدار الدم والقتل، ويعمل على تعبئة الشعب الإيراني ويثير حماسته من أجل تبنِّي المشروطة والتمسُّك بشعاراتها. وذلك يحثنا على قراءة النصِّ بلغته الأم واكتشاف آفاقه ومداراته وما أنجزه.

للمرة الأولى يُحلِّل فقيه أصولي متمرِّس في مدرسة النجف مفهوم «الاستبداد»، ويتوغَّل في الكشف عن جذورِه والروافد المغذِّية له، وأشكاله وتجلِّياته الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والطبقية. فمنذ الغيبة الصغرى لم يقترب معظمُ الفقهاء الشيعة من الكتابة والتأليف في هذه القضية، وربما أسبغ بعضُهم مشروعيةً على شيء من ممارسات سلاطين وملوك مستبدين في عصرهم، كما نلاحظ في العَصْرَيْنِ الصفويِّ والقاجاريِّ.

مع «تنبيه الأمة» نلتقي للمرة الأولى بفقيهٍ لا يتردَّدُ في التفكير بموضوع «الدستور»، بالرغم من أنَّ هذا الموضوع لم يعالجْه أو يتحدثْ عنه أيُّ فقيه من قبله. ومع أنَّ «الدستور» مقولة وافدة من الفكر السياسي الغربي الحديث، غير أنَّ ذلك لم يمنع النائيني من استدعائه من مجاله الفكري وتوطينه في فضاء التفكير الحوزويِّ، والإصرار على أهمِّيته وضرورته بل وجوبه بالمعنى الفقهي، واعتباره ركنًا أساسيًّا يتوقَّف عليه بناءُ أيَّة دولة حديثة، وحماية المجتمع من تغوُّل السلطة وجورها وتعسفها.

تتضمَّن رسالةُ النائيني ثلاث قضايا محورية، هي: «الاستبداد، الدستور، السلطة». تجاوز النائيني الفتاوى ومعالجاتها للوقائع الجزئية التفصيلية، فكتب رؤيةً نظريَّة، تفكِّك مضامينَ وأنماط وبواعث وآثار الاستبداد، وما يفضي إليه من خنق التفكير والتعبير، والشلل في الاجتماع البشري. ورأى أن الدستور هو الضمانة الأساسيَّة للتغلُّب على الاستبداد، وأن بناء الدولة يتوقف على الدستور.

اهتمَّ النائيني بتشريح مفهوم الاستبداد، حتى إنه تكرَّر في كتابه ٦٥ مرة، ولعلها المرة الأولى التي نجد فيها فقيهًا مسلمًا يحذِّر من آثارِ «الاستبداد الدينيِّ»، ويعتبره أسوأَ ألوانِ الاستبداد. فقد ورد الحديثُ عن هذا النوع من الاستبداد في ١٣ موضعًا في كتابه. وتبعًا للكواكبي في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، ينسج «تنبيه الأمة» مفهومَه للاستبداد فيصنِّفه إلى نوعين، إذ يكتب: «تظهر هنا صحَّة استنتاج بعض أساطين الفنِّ، حين قسَّموا الاستبداد إلى صنفين: سياسي وديني، واعتبروا كلًّا منهما متوقفًا على الآخر، وداعمًا له. ويتَّضح أيضًا أن اجتثاثَ هذه الشجرة الخبيثة والخلاصَ من هذه العبودية الدنيئة، التي لا تتحقَّق إلا من خلال وعي الشعب، تكون أبسط في القسم الأول، وغايةً في الصعوبة في القسم الثاني، وتتعرقل عمليةُ الخلاص لارتباطهما الوثيق ببعضهما.» ويفضح النائيني التلبيسَ والخداع اللذَين يخلط بينهما بعض رجال الدين الحق بالباطل، ويصف «حملة راية الاستبداد الديني، بجميع الصفات التي وردت حول علماء السوء، الذين يسطون على الدين المبين، ويُضلُّون الضعفاء من المسلمين.»

وذهب النائيني إلى أنَّ «حملةَ راية الاستبداد الديني، بلغ دعمُهم للظَّالمين القمَّة، وعدُّوا سلبَهم حقَّ فِعل ما يشاءون، وحُكمِهم بما يريدون، وملكِهم للرِّقاب، وعدمِ مسئوليتهم عما يفعلون، منافيًا للإسلام والقرآن، فقد ابتدعوا مذهبًا جديدًا يلبِّي مطالبَهم الاستبداديَّة في معاضدة الجائرين، وسمَّوه الإسلام، وجعلوا أساسَه مشاركةَ الطواغيت في الصِّفات المذكورة لذاتِ الأحدِ تقدَّست أسماؤه!»

وشدَّد على أنَّ الاستبدادَ الدينيَّ، باعتباره يوفِّر غطاءً مقدَّسًا للمستبدِّين، يتنافى مع التوحيد، فإنَّ رجال الدِّين من وُعَّاظ السلاطين يدجِّنون المجتمع على طاعتهم والانقياد لأوامرهم وتوجيهاتهم، ويغالون بمقام السلطان والخليفة، فيضعونه حيث مقام الخالق المالك لكلِّ شيء، وأخيرًا ينتهي ذلك إلى الوثنية والشرك بالله. يقول النائيني: إنَّ «من يرتدي زيَّ رجال الدين يفرضون على الشعب الجاهل بعقيدته ودينه اتِّباعهم. وإن هذه التبعية والطاعة تُعدَّان من مراتب الشرك بذات الأحد، لعدم استنادها لحكم إلهي، وذلك بنصِّ الآية الكريمة: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ،٣٢ والأخبار التي وردت بشأن هذه الآية، وفسَّرتها بعبادة الأحبار والرهبان. وأنَّ الجبابرة والطواغيت يفعلون ما يشاءون، ويحكمون بما يريدون، وهم قاهرون فوق الشعب، ولا يُسألون عمَّا يفعلون، وشركُهم بالباري ليس مما يمكن إضفاء صِبغة المشروعية عليه في أي دين أو مذهب، فضلًا عن الدِّين الإسلاميِّ القويم، وخاصَّة مذهب الإماميَّة، ولا يمكن تأويلُ العون على هذه الوثنية.»

ويرى النائيني أن «علاج الاستبداد الديني أصعب وأكثر تعقيدًا من سائر العناصر، بل قد يكون ممتنعًا … فلا وجود لمانع أو رادع عن ممارسة الاستبداد، واستعباد الناس باسم الدين.» ويعتقد بأنَّ علاجه أصعب من الجهل، بل «يكاد أن يكون مستحيلًا، لرسوخه في قلوب الناس، وتصوُّره من لوازم التديُّن.» وقد خصَّص الفصل الرابع لمناقشة مواقفهم، وبيان ما تئول إليه من «حفظ شجرة الاستبداد الخبيثة واسترقاق عباد الله واستعبادهم.» وفي تحليله لجذور الاستبداد يذهب إلى أنَّ الاستبداد الديني، هو الرافد الأهم بعد الجهل الذي يستقي منه الاستبداد ويترسخ.

ويخلُص النائيني إلى أنَّ الدستور هو وحده الكفيل بتحرير المجتمعات الإسلامية من الاستبداد. فقد ذكر الدستور في تنبيه الأمة في ٢٨ موضعًا، وساق مختلِف الحجج والأدلة على أنَّه خشبة الخلاص من الاستبداد، ومن دونه لا يمكن بناءُ الدولة وتطوُّر المجتمعات.

في تناوله للدولة لا يتحدث النائيني عن دولة دينية، بالمعنى الذي تتداوله أدبياتُ الجماعات الدينية، أي إنَّ مفهوم الدولة لديه لا يعني قيام نظام الحكم والإدارة في ضوء المدوَّنة الفقهية، فلم يتحدث عن نظام حكم، أو نظام اقتصاد، أو نظامين مالي ومصرِفي، أو نظام إداري مشتق من الفقه كما نلاحظ في كتابات أبي الأعلى المودودي، وتقي الدين النبهاني، وسيد قطب، ومحمد باقر الصدر … وغيرهم. كذلك لا نعثر على أية إشارة في نصِّه تدعو إلى أسلمة المجتمع، أو العلوم والمعارف الحديثة، كما لا يفضي منهجُه ومنطقُ تفكيره في «تنبيه الأمة» إلى ما يوحي بذلك أو يدل عليه، مثلما يتحمَّس الإسلاميون في العقود الأخيرة في التشديد على صوغ علوم إنسانية إسلامية، تمسي بديلًا عن مكاسب وخبرات العقل الحديث ومكاسب المعرفة البشرية في هذا الحقل، بذريعة تحصين مجمعاتنا من الاختراق الثقافي، والحفاظ على هُويتها نقية، في عصر يتعذَّر فيه بقاء الهُويَّة على حالتها.

لكن، هل كان نموذج النائيني في التفكير بالدولة هو الدولة الحديثة، بكل ما تنطوي عليه من بنية مركَّبة عميقة؟ وهل كان يطمح بدولة ديمقراطية، بالمعنى الذي تمثِّله الدولةُ الحديثة؟ وهل كان نموذجُ مثلِ هذه الدولة مفكَّرًا فيه في النجف وقتئذٍ؟

لا يُحِيلُ «تنبيه الأمة» إلى مثل هذه الدولة، بمعنى أن محاولةَ النَّائيني لا تنزِع إلى مدًى أبعد من مُنَاهَضَةِ الاستبداد، وصوغ دستور يتضمَّن تفويضًا محدودًا للمجتمع بحقِّ التشريع، وتحديد السُّلطة المطلقة للمَلكيَّة. ولا نعثر على تصوُّر واضح المعالم للدَّولة الحديثة في مؤلفه، بل لا يتحدث النصُّ عن الدَّولةِ ومؤسَّسَاتِها، وعندما يشير أحيانًا إلى ذلك، فإنَّه يُقَارِبُ الموضوع من منظورٍ يستمدُّ مفهوماته من التراث.

أما المشروعية الشعبيَّة في التَّفكير السياسيِّ للنائيني فهي منقوصة أو مقيَّدة، بمعنى أنَّ البرلمان إنما تَستمدُّ القوانينُ مشروعيتَها من وجود فقهاءَ ضمن أعضائه المصوِّتين على تلك التشريعات، مضافًا إلى ضرورةِ إمضاءِ جماعةٍ رقابيَّة مشرفةٍ مؤلَّفة من عدَّة فقهاء للقوانين، ومن حقِّ هذه الجماعة الطَّعنُ في القوانين ورفضُها.

وكما أنَّ الدستور يُقيِّد الحكومةَ ويجعلها مشروطةً وليستْ مطلقةً، كذلك تكون الحكومةُ عند النَّائيني مشروطةً بإذن الفقهاء وإشرافهم ورقابتهم، أي إنَّ فلسفةَ السلطة لديه تنبثق من الولاية والتنصيب الإلهيِّ. وبتعبيره فإنَّ «حقيقة الحُكم هي الولاية على أمر نظام البلاد وحفظه، وهي بمثابة رعاية الرعية. ويتوقف ذلك على التنصيب الإلهي عز اسمه، فهو المالك الحقيقي، والولي بالذات، ومعطي الولايات.» ومفهوم الولاية لدى النائيني ليس مطلقًا، وإنما يخصُّ الأمورَ الحِسبيَّة، ويستدل على ذلك بأنَّ «من الأمور القطعيَّة في مذهبنا الإماميِّ وجود مصالح عامة في عصر الغيبة (على مَغِيبه السلامُ)، لا يأذن الشارع المقدَّس بتعطيلها، وهي التي تُسَمَّى الأمور الحِسبية. وولاية فقهاء عصر الغيبة ثابتة ومتيقَّنة في الأمور الحسبية، حتى وإن لم تثبت نيابتُهم العامة في جميع المناصب، وبما أن الشارع المقدس لا يرضى باختلال النِّظام وذَهاب بيضةِ الإسلام، وكون رجحان أهميَّة التكاليف العائدة لحفظ البلاد الإسلاميَّة ونظمها على جميع الأمور الحسبية من أوضح القطعيَّات، لذلك فإنَّ ثبوت نيابة الفقهاء والنواب العامِّين في عصر الغيبة في إقامة الوظائف المذكورة من ضروريَّات المذهب.» غير أن الأمور الحسبية بحسب تفسيرِه لا تقتصر على ما هو متعارف عند الفقهاء، من الولاية على اليتامى والسفهاء والمجانين، بل تتَّسع لتستوعب المجالَ العامَّ، بنحوٍ «تكون الانتخاباتُ، وتدخُّل المنتخَبين في الأمور العامة، قدر الإمكان، بإذن المجتهد المبسوط اليد، أو حضور عددٍ من المُجتهدين العظام في الهيئة المنتخبة بشكلٍ رسمي، لترشيد الآراء الصادرة عنهم وتنفيذها.»

مضافًا إلى أنَّه يمنح هيئةَ الفقهاءِ المُشرفين على البرلمان حقَّ الفيتو في نقض القوانين، وإن كان تشريعُها قد تمَّ بأكثريَّة الأصوات فيه، يكتب النائيني: «طرحنا شرط كون المجتهدين العظام في الهيئة المشرفة من الطراز الأول، تحكيمًا لأساس الاستبداد، وزرع بذور الفتنة والفساد، عالِمِين بأنَّ تعيين مصداقٍ لعنوانٍ كهذا يكون محلَّ نزاع وشجار ومخاصمة واختلاف. ولم نكتفِ بذلك، بل طرحنا وجوب عدم عضويَّة الفقهاء المشرفين في المجلس، ولزومَ كونِهم من خارجه، إبطالًا لمشروعية مجلس الشورى الوطني، وللتشكيك في مصداقيته، متغافلين الفصل الذي يتناول بيان دور الهيئة المشرفة ومهماتها في الدستور، حيث يصرِّح بأنَّ رأي هيئة المجتهدين، مقدَّمٌ على رأي الأكثرية، في تأييد صلاحية المواد القانونية المطروحة في المجلس، من حيث موافقتها للشريعة أو رفضها لكونها مخالفة للشريعة. ويكون رأيُهم نافذًا ومطاعًا من قِبل الآخرين.»

هذه نصوص النائيني تتحدث بوضوح عن نَموذجٍ لدستور وسلطة مشروطة بإشراف الفقهاء، فأيُّ قانون لا يكتسب مشروعيتَه من تصويت ممثِّلي الشعب عليه فقط، وإن كان التصويتُ بالأكثريَّة، بل يستمده من قبول هيئة الفقهاء وإمضائهم. ولا أظنُّ من يعرف شيئًا من مبادئ الديمقراطية يحسب أن ذلك يتطابق مع التفسير الديمقراطيِّ للدستور والسُّلطة.

المشروعيَّة السياسية في سياق هذه الرؤية مزدوِجة، فهي من جهة تستند إلى الشعب، في إطار برلمان منتخب، يعبِّر أعضاؤه عن إرادة المواطنين، ومن جهة أخرى لا تمضي تلك الإرادة من دون مشاركة فقهاءٍ في التعبير عنها، أو إشراف هيئة فقهاء للنَّظَر في مدى مطابقتها أو عدم مخالفتها للشريعة. ويمكن توصيفُ هذا النمط من السلطة بأنها ذات مشروعية «إلهيَّة شعبيَّة»، فهي ليست إلهيةً فقط، كما في ولاية الفقيه المطلقة، وليست شعبيَّة فقط، كما في النُّظم الديمقراطية.

وجدت هذه الرؤيةُ صوغًا جديدًا لها بعد سبعين عامًا، في أطروحةِ السيد محمد باقر الصدر «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» الصادرة في بيروت، كحلقة في سلسلة «الإسلام يقود الحياة»، سنة ١٩٧٩م. ويسمي الصدر الدولة المؤسَّسَة على هذه الأطروحة «جمهوريةً إسلاميَّة»، ذلك أنها تُبتنى على الانتخاب والإرادة الشعبية، فهي «جمهورية» من هذه الجهة، كما أنها تلتزم بتطبيق الشريعة في مختلِف مجالات الحياة، فهي «إسلاميَّة» من جهة أخرى.

مع أن هناك مصدرين للمشروعيَّة، أحدهما إلهيٌّ والآخر بشريٌّ، في كلتا الرؤيتين للنائيني والصدر، لكن النائيني لم يفكر في تطبيق الشريعة في كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، وبناء نظم «اقتصادية ومالية ومصرِفية وإدارية … إلخ»، مستنبطة من الفقه، مثلما كان يفكِّر الصدر، الذي كان يعتقد بنموذج للدولة مشتق من المدوَّنة الفقهية. من هنا اهتمَّ ببناء بعض أنظمتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والمصرِفيَّة، في «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»، و«اقتصادنا»، و«البنك اللاربوي في الإسلام».

هذا النَّمط من التفكير بالدولة خارج المدوَّنة الفقهية هو الذي طبع مدرسةَ النجف، منذ عصر المشروطة مطلع القرن العشرين، حتى منتصف ذلك القرن. لكنَّ العَقد السادس من القرن العشرين شهد ولادة مفهوم «الدولة الإسلاميَّة»، وبكلمة أخرى «الدولة الدينيَّة»،٣٣ التي ينبغي أن يهيمن الفقهُ فيها على كافَّة مجالات الحياة. وهو ما عبَّرتْ عنه الكتاباتُ المبكِّرة للشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد باقر الصدر وغيرهما وقتئذٍ.

ثم غادرتْ مدرسةُ النَّجف مرة أخرى التفكيرَ بهذا النمط للدولة، وبدأ ذلك بالشيخ محمد جواد مُغْنية، في كتابه «الخميني والدولة الإسلامية»، الصادر في بيروت سنة ١٩٧٩م، مرورًا بالمرحلة الثانية من الفقه السياسي للشيخ محمد مهدي شمس الدين، في مقولته «ولاية الأمة على نفسها»، التي تحدَّث عنها في كتاباته المتأخِّرة، وأخيرًا المرجع السيد علي السيستاني، في بياناته واستفتاءاته كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.

يبقى نص «تنبيه الأمة» وثيقةً رائدة في الفقه السياسي الشيعي، تخطَّتْ مواقفَ وآراء فقهاء معروفين في عصرها، فكانت رائدةً في فضح الاستبداد، والدعوة لصوغ الدستور وانتخاب البرلمان واحترام إرادة الشعب. ذلك هو موقف النائيني في الوقت الذي كان فقهاء معاصرون له يصفون مجلس الشورى الوطني ﺑ «دار الكفر»،٣٤ كما يعتبرون الحرية والمساواة والدستور مفاهيمَ إلحادية.٣٥

يوظِّف النائيني النقلَ والعقلَ في بيان آرائِه والدِّفَاع عنها في استدلالاتِه، ويستفيد من بنيةِ عقلِه الأصوليَّة الفقهيَّة في «تنبيه الأمة»، لذلك يبدو النصُّ للقارئ غير المحترف، في بعض مواضعه، مُلْغِزًا ومبهَمًا. فمثلًا: عندما يصوغ النائيني تفسيرًا للمساواة، يستقيه من نصوص الكتاب والسنَّة، ويرى أن «لا دخل ولا صلة له بالتكاليف التعبديَّة والتوصلية، وأحكام المعاملات والمناكحات، وسائر أبواب العقود والإيقاعات، والمواريث، والقِصاص، والدِّيَات، ونحو ذلك مما يكون المرجعُ فيه الرسائلَ العمليَّة وفتاوى المجتهدين، والتي يكون التمسُّك والعملُ بها مرهونًا بتديُّن المسلمين، وخارجًا عن وظائف الحاكمين ونواب الشعب.»

يتحدث غيرُ الخبراء عن النائيني بوصفه داعيةً لدولةٍ ديمقراطيَّة حديثة، من دون أن يقرءوا بدقَّة ما ورد في ثنايا «تنبيه الأمة»، كما في كلامه السابق مثلًا، الذي يشير إلى تبنِّي الحدود والعقوبات المنصوص عليها في الرسائل العملية وفتاوى المجتهدين في نموذج الدولة الذي يدعو إليه، كما أنَّ مفهوم النائيني للمساواة يختلف عن مبدأ المساواة المنبثق عن فلسفة الحقوق الطبيعيَّة في الفكر السياسيِّ والحقوقيَّة الحديثة، الذي يُبتنى على مساواة البشر منذ ولادتهم بشكل طبيعي، لا ميزة حقوقيَّة إضافيَّة ولا تفوُّق لبعضهم على البعض الآخر. كذلك يُقدِّم النائيني فهمًا للحريَّة يحيل إلى الكتاب والسنَّة والفقه، الذي تكون فيه الحريةُ مقابل العبودية والاسترقاق. وهذا لا يتطابق مع مفهومِها الحديث، الذي تجد الحرية فيه تحقُّقَهَا في المجالَيْنِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ، ويُمنح بموجِبها كلُّ شخص الحرِّية في التفكير والاعتقاد والسلوك والتعبير.

يتمسَّك النائيني بأدواته ومنهجه الأصوليِّ، في مناقشاته للفقهاء الذين يرفضون تخويلَ مجلس الشورى بتشريع القوانين وإقرارها، ويعتبرون ذلك بدعة، وتفويضًا للبشر بحقٍّ مختصٍّ بالله. فيكشف عن تأويلٍ لمفهوم البدعة يخرج من إطارِه تخويل مجلس الشورى بتشريع القوانين وإقرارها. ذلك أنَّ البدعة إنَّما تكون في حالة «أن يُطرح غيرُ المجعول الشرعي، سواء أكان حكمًا جزئيًّا شخصيًّا، أو عنوانًا عامًّا، أو كرَّاسًا للدستور العام، أو أيَّ شيء آخر، ويُذاع ويُفرض ويُلتزم به بعنوان أنه مجعول شرعيٌّ وحُكم إلهيٌّ عزَّ اسمُه. وإلا فمع عدم الاقتران بالعنوان المذكور، لا يكون أيُّ نوع من الإلزام والالتزام بدعةً وليس تشريعًا.» هنا يخرج من عنوان البدعة كلُّ أمر أو عُرف أو قانون لا يعتبر الناس أن المشرِّع فيه يجعل ويُشَرِّع حكمًا إلهيًّا. والبرلمان لا يعتبر تشريعاتِه مجعولاتٍ أو أحكامًا إلهيَّة.

كذلك يوظِّف النائيني القاعدةَ الأصوليَّة «وجوب مقدِّمة الواجب» في تبريره لتدوين الدستور، باعتبار التخلُّص من استبداد وظلم وجَور السلطة المطلقة واجبًا، وهو يتوقف على وجود الدستور الذي يحدِّد السلطة وينظِّمُها، ويمنح المُواطنين الحقَّ في مراقبتها ومحاسبتها، وما يتوقف عليه الواجبُ فهو واجب. فيكون تدوينُ الدُّستور واجبًا، لأنَّه مقدِّمةٌ لواجبٍ، ومقدِّمةُ الواجبِ واجبةٌ.

لا يمكن أن يتبنَّى النائيني هذه المواقف والأفكار والفتاوى، من دون رؤيةٍ توحيديَّة تحدِّد مكانَةَ الإنسان في العالَم ونمط صلته بالله، لا تكرر بالضرورة رؤيةَ غيرِه من الفقهاء الذين رفضوا الدستور واعتبروه بدعةً. وبعبارة أخرى، إنَّ النائيني اهتمَّ باكتشاف المضمون الاجتماعيِّ للتَّوحيد والعدل الإلهيِّ، فالسُّلطة المُطلقة في رأيه نمطٌ من أنماط الشِّرك بالله، لأنَّ الملوك والسلاطينَ يخلعون على أنفسهم مقامات وصفات الله. والعدل الإلهيُّ ينبغي أن يجد مدلولاتِه في الحياة الاجتماعيَّة، من خلال مناهضةِ الظُّلم والجور والتعسُّف والاستبداد، والدفاع عن العدالة والمساواة والحرية.

بغية بناءِ تفسير موضوعيٍّ للفكر السياسيِّ للنائيني، ينبغي اكتشافُ طبيعة السياقات الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تبلورت فيها رؤية النائيني وتجلَّت فيها جهودُه في تفكيك الاستبداد، وشرعنة الدستور، والبرلمان، والدفاع عن إرادة الشعب.

يمكن اكتشافُ بعض مرجعيَّات النائيني، عندما نعود إلى آراء ومواقف أستاذه الآخوند الخراساني، المرجع الديني للمشروطة، وأحد أعمق الأصوليين الإمامية في القرن الماضي، الذي ما زال كتابُه «كفاية الأصول» المقرر الأبرز لدراسة أصول الفقه في الحوزة في المئة عام الأخيرة. فعند مطالعة رسائل وبيانات وفتاوى الآخوند الخراساني في المشروطة، نجد تلميذَه في «تنبيه الأمة» يستند إلى آرائه وفتاواه، ويستدلُّ عليها، ويفرِّع الجزئيات على الكليات، والصغريات على الكبريات، والفروع على الأصول، والتطبيقات على القواعد. فمثلًا: يحدِّدُ الآخوند الخراساني وظيفةَ المسلمين في عصره قائلًا: «تكليف جميع المسلمين اليوم يتمثَّل في ترك مسلكِ الاستبداد الخبيث، ولكي يتحقَّق ذلك المشروعُ المقدَّس لا بد من تأسيس مجلس الشورى الوطني، وإجراء قانون المساواة القرآنيِّ.»٣٦ ويشير إلى نتائج ومكاسب تأسيس مجلس الشورى الوطني بقوله: «تأسيس المجلس الذي سيُفضي إلى رفع الظُّلم وإغاثة المظلوم وإعانةِ الملهوف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعزيز مكانة الأمة والدولة، ورفاه الرعية، وحفظ بيضة الإسلام، قطعًا هو راجح، بل واجبٌ بنظر العقل والشرع والعرف. وإنَّ مخالفة ذلك ومعاندته هي مخالفة للشريعة، ومجادلة مع صاحب الشريعة.»٣٧
في تصنيفه لأنواع الحكومة في عصر الغيبة يرى الخراساني أن هناك شكلَين للحكومة؛ الأوَّل: هي حكومة المعصوم، التي يصفها ﺑ «المشروعة»؛ والثاني: هي حكومة غير «مشروعة» عادلة، وهي المشروطة. ولا يَشترط إذنَ الفقهاء أو إمضاءَهم لتشكيل هذا النمط من الحكومة، إذ يكتب الخراساني: «ثبوت اختيارات الإمام للفقيه محلُّ إشكال وبحث.»٣٨

لكنَّ تلميذَه النائيني يذهب إلى أنَّ الحكومات ثلاث، وهي: حكومةُ المعصوم، وولايةُ الفقهاءِ العدول في حالة بسطِ اليد، والحكومة العادلة المشروطة مع إذن الفقهاء العدول. كما تقدَّمت الإشارة إلى رأيه في ذلك.

نتمنى على باحثي ودارسي الفقه السياسي للنائيني، التعرُّف على تأثير تفكير أستاذه الآخوند الخراساني في «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، والمقارنة بين آرائهما، وكيف استوعب التلميذُ آراءَ الأستاذ في نصِّه، والدعم الذي تلقَّاه منه في تدوينه ونشره هذه الرسالة. فقد تصدَّر الصفحةَ الأولى منها التقريظُ التالي للخراساني: «إن رسالة تنبيه الأمة وتنزيه الملة، وهي من بيانات صاحب السماحة، صفوةِ الفقهاء والمجتهدين، ثقةِ الإسلام والمسلمين، العالمِ العامل الميرزا محمد حسين النائيني الغروي دام رِفْده، أجلُّ من كلِّ مدح، وسيتضح (إن شاء الله) من خلال مدارستها واستيعابها أن أصول حركة المشروطة قد استُنْبِطَتْ من الشريعة الحقَّة، وسيتسنَّى لنا إدراك حقيقة العبارة المباركة القائلة: «بموالاتكم علَّمنا الله معالم ديننا، وأصلح ما كان قد فسد من دنيانا، إدراكًا لعين اليقين.».»

ربما كانت وفاةُ أستاذه وفقدانه لمؤازرته، سببًا في انصرافه عن السياسة ومشاغلها في منتصف العَقد الثالث من القرن العشرين، وملاحقته لما تبقى من نُسخ «تنبيه الأمة» في المكتبات، وشرائها وإخفائها أو إتلافها كما يُقال.

هكذا ترشدُنا النصوصُ والفتاوى والرسائلُ المعاصرة للنائيني إلى طبيعة مناخات هذا النَّوع من التفكير بنمط الدولة في الحوزة يومذاك. فمثلًا، يذهب الشيخ محمد اسماعيل المحلاتي المعاصر للنائيني إلى أنَّ حكمَ الفقيه لم يكن مطروحًا للنِّقاش، فلم يسأل أحدٌ عن ذلك، ولم يتحدث فقيهٌ عنه. ما كان موردًا للسؤال هو الاستبداد، ومشروعية تحديد السلطة وتقييدها بدستور يحدُّ منها، ويعطي الشعب حقًّا في الرقابة عليها.٣٩
الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني (ت١٣٦١ﻫ)، وهو من أبرز الفقهاء والأصوليين وأساتذة الفلسفة في حوزة النجف في النصف الأول من القرن العشرين، ينفي أن تَمْنَحَ درجةُ الاجتهاد والتفقُّه في الشريعة تأهيلًا خاصًّا يفوِّض صاحبَها القيادة والرئاسة وتنظيم البلاد وإدارتها؛ ذلك أنَّ «الفقيه بما هو فقيه، أهلُ النَّظر في مرحلة الاستنباط، من دون الأمور المتعلِّقة بتنظيم البلاد، وحفظ الثغور وتدبير شئون الدفاع والجهاد، وأمثال ذلك، فلا معنى لإيكال هذه الأمور للفقيه بما هو فقيه، وإنما فُوِّض أمرها إلى الإمام عليه السلام، لأنه عندنا أعلم الناس بجميع السياسات والأحكام، فلا يقاس بغيره ممن ليس كذلك.»٤٠

ناقش الفقهاءُ في هذه المرحلة مشروعيَّةَ الدستور نفيًا وإثباتًا، من دون أن يؤطِّرُوا الدولةَ تأطيرًا فقهيًّا. إنَّه تفكيرٌ بالدَّولة خارج الفقه، وليس تفكيرًا بالدولة داخل الفقه، بمعنى أنَّ الاطلاع على الآراءِ والمحاججات والمفاهيم المبثوثة في تلك الكتابات تُحيل إلى أنَّ الدولة مفهوم بشري عقلاني عُرفي، أو قُل وضعيٌّ وليس إلهيًّا، شريطة ألَّا يتنافى مع الشريعة فيما هو منصوص عليه، بمعنى أنَّ المرتكز في الذهنيَّة الفقهيَّة هو التمييز بين القضايا الدِّينية الشرعية، والقضايا السياسية، التي هي من الأمور العرفية العقلانية، خارج مجال الفقه وحدوده.

لم يقتصر «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» في استدلاله على المقاربة الفقهيَّة الخاصَّة، بل توكَّأ أيضًا على استدلالاتٍ عقلانيَّة وعرفية واجتماعية وسياسية، ولعل ذلك هو سبب إعراض الفقهاء عن التَّعاطي مع رسالته هذه كنصٍّ فقهي، بمن فيهم تلامذته.

٦

مفهوم الدولة داخل المدوَّنة الفقهيَّة

في النصف الثاني من القرن العشرين، مع الشيخ محمد الخالصي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد باقر الصدر وغيرهم، ينتقل التفكير بالدَّولة إلى المدوَّنة الفقهيَّة، ولا يقتصر التبريرُ الفقهيُّ على مشروعية تدوين الدستور، وإنَّما يتمدَّد ويتَّسع، بنحوٍ لا تكتسب معه الدولةُ مشروعيتها إلا إذا أصبحتْ «دولة إسلامية»، أي مستقاة من المدونة الفقهيَّة شكلًا ومضمونًا، بمعنى أنَّ نظام الحكم والإدارة فيها ينبغي أن يكون منبثقًا من الميراثِ الفقهيِّ، وهكذا يكون نمط النظام الاقتصادي، وتداوُل الثروة، والنظام المصرِفي، والنقدي، والتربوي، وكافَّة ما يتَّصل ببناء الدولة وترسيخها، من نظم وتشريعات وقوانين، ومؤسسات ومجالات متنوعة، ينبغي أن تستلهم الأحكام الشرعية التي تغتني بها المصنَّفات الفقهيَّةُ، ويُستنبط ما يستجدُّ منها في إطار الأصول والأدلَّة المقرَّرة في الاستدلال الفقهيِّ. لذلك ظهرتْ طائفةٌ من الكتابات تعالج هذه القضايا، وتتحدَّث عناوينُها عن: «نظام الحكم والإدارة في الإسلام، واقتصادنا، ونظام العمل وحقوق العامل في الإسلام، والنظام المالي وتداول الثروة في الإسلام، والبنك اللاربوي في الإسلام … إلخ».

ومما مهَّد الأرضية لهذا التفكير، طغيان المقولات والشعارات اليساريَّة وغيرها الداعية للإقلاع عن الماضي، وتجاوُز الموروث، وإعادة النظر في الهُوية، والحرص على تخطِّي الثقافة الدينية، والانفتاح على العصر، واستعارة الحداثة ومعطياتها كما هي، من دون الاهتمام بالحساسيات الاعتقاديَّة والقيمية والعاطفية والنفسية الراسخة في المجتمع.

في مقاومة ذلك تفجَّر مخزونٌ عميقٌ لرموز الهويَّة ومكوناتها، وسعى بعضُ فقهاء مدرسة النجف للاحتماء بالموروث واستدعاء الذَّاكرة، والحرص على اكتشاف صيغةٍ بديلة لتنظيم الدولة وتسيير الحياة وإدارة المجتمع، تستلهم الثروةَ الفقهيَّةَ الواسعة، وتسعى لإعادةِ بناء مكوِّناتها، وإغنائها برؤًى تسعى لمواكبة العصر والاستجابة لرِهاناته.

مضافًا إلى تشبُّع الفضاء الإسلامي في الخمسينيات من القرن العشرين بمفاهيم وآراء وشعارات الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في باكستان، وحزب التحرير، وشيوع أدبيات هذه الجماعات، وتداوُل مؤلفات أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، وتقي الدين النبهاني، المشبعة برؤًى تتمحور حول (الحاكمية الإلهية، والدولة الإسلامية، والحكومة الإسلامية، والنظم الإسلامية)، وتحكم على المجتمعات المعاصرة بالجاهلية، بما فيها المجتمعات الإسلامية، وتحاول أن تستعين بكلِّ ما يعزِّز أفكارَها وشعاراتها من أحكام مبثوثة في مصنَّفات الفقهاء، وتشدِّد على أن الدولة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة مجتمعية، وهي الخيار والحلُّ الوحيد المتاح للمسلمين للخروج من نفق التخلف، وأن كافة «الحلول المستوردة»٤١ تجني على أُمَّتنا، ومن أجل أسلمة المجتمع لا سبيل لنا سوى أسلمة الدولة، ونُظمها السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية والمصرِفية والتربوية وغير ذلك.
كان الشيخ محمد الخالصي من أوائل الفقهاء الذين كتبوا عن «الحكومة في الإسلام» في مؤلَّف له يحملُ هذا العنوان، وحاول صوغ تكييف فقهي لنمطِ حكومةٍ تكونُ الأولويَّة فيها للفقيه، بحسب تعبيره، ففي كتابِه «الإسلام سبيل السَّعادة والسَّلام»، الذي فرغ من تأليفه عام ١٣٧٢ﻫ، كما ورد في نهاية الكتاب، تحدَّث في الباب الحادي عشر، الذي عقده تحت عنوان «في الولاية والقضاء» في القسم الأول من هذا الباب، والذي خصَّصه للولاية، وتحديدًا في الفصل الثاني منه «الولي في زمن الغيبة»، تحدَّث عن «أولويَّة الفقيه»، ولم يقل ولاية الفقيه، في إدارة شئون الحكم، فإن تعذَّر له ذلك قام به غيرُه من عدول المؤمنين. حيث كتب: «وإنما صار الأعلمُ بأحكام الإسلام أولى بالحكم، لأنَّ أحكامه هي الصالحة لإدارة البشر لا غير، وما سواها حيفٌ وجورٌ وشقاءٌ على البشرية، وقد أثبتت الأحكام الوضعية في هذا الزمان عجزها عن الإدارة وإقامة العدل وإفشاء المعروف، ولا يَصلح الناس ولا يربحون ما لم يطبقوا أحكام الإسلام … إذا لم يتمكَّن المجتهدُ «الجامع للشرائط» من الحكم العام، والقيام بأمر الأمة، صارت الولاية من الأمور الحسبية التي تجب على عدول المؤمنين، فإن لم يكونوا، فعلى كلِّ مَن قام بها، وإن كان فاسقًا، يجب تأييده وتحرُم مخالفتُه، فيما لم يستلزم ظلمًا أو خيانَةً أو إذعانًا لسلطان ملحد أو مشرك؛ لأن حفظ النظام العام، الذي هو من أهم الأمور الحسبية، متوقف على الولاية العامة.»٤٢

هنا يستخدم الخالصي مصطلح «الأحكام الوضعية» مقابل الأحكام الشرعية التي يشتمل عليها الفقه، فكلُّ تشريع أو قانون أو حُكمٍ غير فقهي، كما يرى، عاجزٌ عن إدارة المجتمع وتنظيم الحياة، وهو منحًى في التفكير بالدولة يرفض أيَّة مقاربة لمفهوم الدولة ونظمها ومؤسساتها خارج المدونة الفقهية. وفي أدبيات الإسلاميين يُحيل مصطلح «التشريع الوضعي» إلى التشريعات والقوانين والنظم التي وضعها الإنسان، بتوظيف عقله وجميع ما راكمتْه الخبرة البشرية، بينما يحيل مصطلحُ «التشريع الإلهي» إلى ما هو مستقًى من الفقه فقط.

في سنة ١٩٥٤م كتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، وصدر ببيروت في العام ١٩٥٥م. يتمحور الكتاب حول التدليل على أن الإسلام دين ودولة، وأن الحكومة جزء من التشريع الإسلامي، وهي إنما تتحقق بالنصِّ وليس بانتخاب أو اختيار البشر، فيقول: «نحن في الإسلام نملك نظامًا للحكم والإدارة هو نظام مُحْكَم في ظل سُلْطَةٍ دينيَّة وزمنية معًا». وفي هذا الكتاب يصرح بنفي المشروعية عن الديمقراطية، في سياق رفضِه لما سمَّاه بعضُ الكتاب «الديمقراطية الإسلامية»، فيكتب: «فلا مشروعيةَ للأسلوب الديمقراطي في اختيار الحاكم وشرعيته»، كذلك يرفض التعددية السياسية، ويهجو مهمَّة الأحزاب السياسية، ويرى أنها تمزِّق المجتمع وتقوده إلى التشتُّت والفرقة، ويذهب إلى أن ذلك مرفوض دينيًّا وإسلاميًّا، فالأحزاب «توغر الصدور، وتَحُولُ دون أن تكون الأمة على معنًى واحد، فالمطلوب الاعتصام بحبل الله، لا التفرُّق.»

استمرَّ موقفُ شمس الدين هذا في المناداة بحكومةٍ إسلاميَّة، وتطبيق الشريعة، ومناهضة التعددية السياسية، لثلاثة عقود، كما سنشير لاحقًا. وحاولنا استكشاف مدى توظيفه للمصطلح الفقهيِّ السياسيِّ في مؤلَّفه الأول «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، من خلال استقراء الكتاب في طبعته الثانية، الصادرة عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، في بيروت، سنة ١٤١١ﻫ/١٩٩١م. فعثرنا في هذه الطبعة على مقدمتَين للكتاب، الثانية منهما كُتِبَتْ عام ١٩٩٠م، تبدأ من الصفحة (١١) وتنتهي في الصفحة (١٥). كما أن الكتاب أُضيف إليه بحثان: الأول جديد، والثاني كُتِبَ في العام ١٩٥٤م، ولكن لم يُنشر مع الكتاب في طبعته الأولى. أمَّا البحث الأول (كُتب في العام ١٩٩٠م)، فيقع ما بين الصفحتين (٣١٩–٤٢٠). وإنما أشير إلى هذه الملاحظة من أجل الدِّقة في تأريخ ظهور هذه الاصطلاحات. ثم إن ما يرد بعد أرقام الصفحات بين قوسين إنما يشير إلى عدد المرات التي تكرر فيها هذا الاصطلاحُ داخل تلك الصفحة.

دولة إسلامية: ص: ٤٦ - ١٣٥ (٣) - ٢٢٩ (٢) - ٢٣١ - ٢٣٥ (٢) - ٢٣٦ - ٢٤٠ - ٢٤١ - ٢٤٤ - ٢٥٢ (٢) - ٢٦٣ - ٢٨١ - ٣٩٠ - ٣٩١ (٣) - ٣٩٢ (٣) - ٣٩٣ (٢) - ٣٩٥ - ٣٩٦ (٣) - ٣٩٧ - ٤٠٧ (٢) - ٤٠٨ (٢) - ٤١١ (٤) - ٤١٢ (٣) - ٤١٣ (٣) - ٤١٤ (٢) - ٤١٥ (٢) - ٤١٦ - ٤١٧ - ٤١٨ - ٤١٩ - ٤٢٥ (٢) - ٤٥٠ - ٤٥١ (٢) - ٤٥٥ - ٤٦٧ (٢) - ٤٦٩ - ٤٧٠ - ٤٧١ - ٤٧٥ - ٤٧٧ - ٤٧٨ - ٤٧٩ - ٤٨٠ - ٤٨٦ - ٤٨٨ - ٤٩٠ (٢) - ٤٩٢ (٣) - ٤٩٣ (٣) - ٤٩٤ - ٤٩٥ - ٤٩٩ - ٥٠٢ (٣) - ٥٠٣ (٣) - ٥٠٤ (٢) - ٥١١ - ٥٢٨ - ٥٣٦ - ٥٣٩ (٦) - ٥٤٢ - ٥٤٤ (٢) - ٥٤٥ (٣) - ٥٥٥ (٢) - ٥٦٧ - ٥٧٧ - ٥٨٤.

حكومة إسلامية: ص: ٣٥ (٢) - ٣٧ - ٤٠ (٣) - ٤١ - ٤٢ (٢) - ١٣٨ - ٢١٧ - ٢٢٧ - ٢٤٩ - ٢٥٢ - ٢٦١ - ٢٦٣ (٣) - ٢٦٤ (٢) - ٢٨٠ - ٢٨٥ - ٣٠٥ - ٣٠٧ - ٣٩١ - ٣٩٣ - ٤٠٧ - ٤١١ - ٤١٧ - ٤١٨ - ٤٤٧ (٢) - ٤٥١ - ٤٥٥ - ٤٦٠ - ٤٦٨ - ٤٧٧ - ٤٨٠ - ٤٩٢ - ٤٩٩ (٢) - ٥٠١ (٣) - ٥٠٥ - ٥١١ - ٥٤٧.

حكم إسلامي: ص: ٤١ - ٤٧ - ٥٠ (٢) - ٥١ - ٧٦ - ٣٩٠ - ٣٩١ - ٤٠٢ - ٤٠٧ - ٤٠٨.

حكومة إلهية: ص: ٢٦٣ (٢) - ٢٨١.

دولة إلهية: ص: ٢٠٤ - ٢٨٠.

حكومة نبوية: ص: ٣٥ - ٣٠٥.

سلطة دينية: ص: ٤٠ (٢) - ٤٥٥.

دولة سلطانية: ص٤٠٢.

حكومة دينية: ص٤١.

يشير الحضور المكثَّف لِلُغة الفقه السياسي وشيوع استخدام مصطلحاته إلى تشبُّع المجال التداولي في النجف بالمفاهيم السياسية، وتغلغل فكرة الدولة في فضاء التفكير الفقهي وقتئذٍ، لدى شمس الدين وزملائه، في حلقات الدرس الفقهي في حوزة النجف. وبوسع الدارسين استخلاص عدة معطيات تُضيء لنا منطق التفكير السائد في النجف، لو سَعَوا للحفر والتنقيب في نشأة وتطوُّر استخدام المفردات السياسية في المدوَّنة الفقهية النجفيَّة.

في العام ١٩٥٩م كتب السيد محمد باقر الصدر نصًّا محدود التداول، أتاحه لأعضاء حزب الدعوة الإسلامية، وكأنه بمثابة مصدر إلهام للدستور الإسلامي، وهو يتضمَّن تسعة أسس، يتحدث في الأول منها عن المعنى اللغوي والاصطلاحي ﻟ «الإسلام»، والثاني عن أقسام «المسلم»، والثالث عن مفهوم «الوطن الإسلامي»، والرابع عن أنواع «الدولة الإسلامية»، والخامس عن ماهيتها وحقيقتها، وكون «الدولة الإسلامية دولة فكرية»، والسادس عن «شكل الحكم في الإسلام»، والسابع حول «تطبيق الشكل الشُّورَوي للحكم في ظروف الأمة الحاضرة»، والثامن حول «الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم»، والتاسع هو توضيح أنَّ «مهمَّة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة ليستا من مهمات الحكم». وهذا النصُّ بالرغم من أنه لا يتجاوز خمس عشرة صفحة، غير أنه وثيقة بالغة الأهميَّة، لتعبيره الصريح عن رؤية الصدر لمفاهيم الدولة الإسلامية، والتشديد على الصلة العضوية بين هذه المفاهيم والكتاب والسنَّة والموروث الفقهي، ولعلَّها أول محاولة واضحة للبحث عن مناشئ دينية لمشروع الدولة ومؤسساتها، وتوطينها في الفقه الجعفري، ولا يتطلَّب التدليل على ذلك سوى مراجعة تلك الأسس، وملاحظة الحضور الدلالي الغزير لمصطلحات «الدولة الإسلامية، الحكومة الإسلامية، الوطن الإسلامي»، فقد تكررت ١٢ مرة في صفحة واحدة، ضمَّت الأساس الثالث.٤٣

واهتمَّ الصدرُ بصوغ رؤية نظرية فقهية حيال الاقتصاد في الجزء الثاني من كتابه الذائع الصيت «اقتصادنا» الصادر سنتي ١٩٥٩-١٩٦٠م في النجف، كما حاول أن يبلور موقفًا فقهيًّا نظريًّا تجاه المعاملات الماليَّة والنظام المصرِفي وإيداع النقود وتداولها، في كتابه «البنك اللاربوي في الإسلام» الصادر مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مضافًا إلى اهتمامه بالنظريَّة السياسيَّة في الإسلام، والأطر الدستورية الفقهيَّة للدولة الإسلامية، في سلسلة تتكوَّن من ستَّة كراسات، صدرت العام ١٩٧٩م مقارِنةً لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، عالج فيها المرتكزات الفقهية لدستور الدولة الإسلامية، وتناول من منظور قرآني فقهيٍّ شكلَ الحكومة الإسلامية، في «لمحة فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». هنا عالج المشروعية السياسية، باستدعاء نظريته الأولى في «الأسس»، التي تستند إلى الشورى، ونظريته اللاحقة، التي أشار إليها في سنتَي ١٩٧٤-١٩٧٥م في تعليقته على كتاب «منهاج الصالحين» قسم العبادات، ذيل المسألة ٢٥، وفي رسالته العلمية «الفتاوى الواضحة»، التي تقول بولاية الفقيه التعيينية. فقد عمل على تركيب وإعادة تكوين نظريتيه المشار إليهما، فجمع بين مبدأ الخلافة الإلهية للإنسان، ومبدأ إشراف الفقهاء الصالحين في نصِّه اللاحق «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء».

كما حرص الصدرُ على استجلاء المدلول الاجتماعي للنصوص، وإضاءة الطريق نحو فهم مقاصدي، لا يكفُّ عن التفتيش عن رُوح الشريعة وأهدافها وقيمها العليا، كذلك سعى للارتقاء بالبحث الفقهي إلى فقه النظرية، وحاول أنْ يستبطن الحالةَ النفسيَّة للفقيه، ويكشف عن أثر الخلفيات والمسَبَّقات في الاستنباط الفقهي.٤٤
بقي الصدرُ وفيًّا لمنهجه في التفكير بمشروع الدولة، وأنظمتها، ومجالات عملها، وحقولها، ومهماتها ووظائفها، في فضاء الفقه ومداراته، ورأى الدولةَ بوصفها «ظاهرة نبوية» بحسب تعبيره،٤٥ وقد أطلق الصدرُ وجهة نظره هذه من دون أن يبرهن عليها من مسيرة النبوات، أو وقائع الحضارات والدول القديمة.

إن فكرة كون الدولة «ظاهرة نبوية» لا تؤكِّدها الوثائقُ التاريخية، إذ هي تُجمِع على أن نشوء الدولة سببه تعقيد الحياة الاجتماعية، وصراعات القوة والنفوذ بين البشر، وحاجاتهم إلى أسلوب للتنظيم والإدارة، ولا عَلاقة لذلك بالأنبياء. وبعبارة أخرى: إن البشر لم يتعرفوا على الدولة من خلال الأنبياء، كما هو الحال مثلًا مع مفهوم التوحيد، وإنما ظهر الأنبياءُ في داخل الدولة وضمنها. وسياق الآيات القرآنية واضح بشأن هذه القضية، إذ طالما أعلن الأنبياءُ دعواتهم داخل التجمعات الحضرية، بعد أن عرَفت الدولةَ وعاشت في ظل الأنظمة السياسية.

٧

مفهومُ الدولة خارج المدوَّنة الفقهيَّة
كان الشيخُ محمد جواد مغنية، أحد الفقهاء الذين تخرَّجوا في النجف، وعُرفوا بغزارة الإنتاج الفكريِّ، قد أصدر أيام الثورة الإسلامية في إيران العام ١٩٧٩م كتابًا عرض فيه تصوراتِه الفقهية بشأن الدولة الإسلامية، أوضح فيه: إن مهمات الدولة لا تنحصر في الأحكام الدينية، ولا نصَّ في كثير من القوانين الاجتماعية، مما يدل على تفويضها للعرف والعقلاء. وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من التجارِب الإنسانية، ما دامت لا تحلِّل حرامًا، ولا تحرِّم حلالًا. ورأى مغنية أن يُنتخب رئيسُ الدَّولة الإسلامية بواسطة الشعب، ما دامت المصلحةُ العامةُ في انتخاب كهذا، وأنه لا عصيان فيه لأوامر الله ونواهيه. إن الإسلام يؤيِّد حرية الناس، ونحن لا نعرف طريقًا سوى الرجوع إلى آراء الناس.٤٦
ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي صدرت آراء شفوية وتصريحات للشيخ محمد مهدي شمس الدين تؤشِّر إلى أنه أضحى يفكر بدولة خارج المدونة الفقهية، لقد تجلى بوضوح التحول لديه والإقلاع عن موقفه السابق في كتابه «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» بعد صدور الطبعة الثانية الموسَّعة المنقحة من هذا الكتاب العام ١٩٩٠م، إذ استبعد ما لا ينسجم مع تفكيره الجديد، وعزَّزه بمباحث كَشَفَ فيها عن موقفٍ آخر، يختلف مع رؤيته السابقة، وأشار بوضوح إلى عدم توفُّر دليل في الإسلام يحدِّد شكل نظام الحكم، فصرَّح: «ليس في جميع ما استدلَّ به الشيعةُ ما يتضمن تحديدًا لنظام الحكم بعد النبي محمد، وإنما تُعيِّن النصوصُ «الإمام/الخليفة» بعد النبي.»٤٧

في العَقدين الأخيرين لمدرسة النجف تُمثِّل كتابات شمس الدين في الفكر السياسي رؤية اجتهادية مواكبة لمتطلبات الاجتماع السياسي الإسلامي الشديدة التعقيد والتنوع، وتخلُص رؤيتُه إلى ابتكار مفهومٍ سياسيٍّ يُحاكي الديمقراطيَّة، وينسج على نموذجها في الحكم، فيستوعب ما يتَّصل بالإرادة الشعبية والانتخابات والتداوُل السلميِّ للسُّلطة، وما ينطوي عليه النظامُ الديمقراطيُّ من حقوق وحريات، ويسمي شمس الدين ذلك: «ولاية الأُمَّة على نفسها.»

كي لا يبتعد عن مناخات التفكير الإسلامي، يستعير شمس الدين مفهوم الشورى، ويحاول مطابقته مع ولاية الأمَّة على نفسها، كما يحيل ما فهمه إلى مرجعياته في الكتاب والسنة، ويحصر مصدر مشروعية السلطة بالمجتمع، فالمشروعية شعبية لا يخلعها شخصٌ على السلطة سوى إرادة الناخبين، مهما كانت مكانتُه الدينية ورتبته الفقهية ومقامه العلمي. يكتب لبيان رأيه: «أمَّا نظرية الشورى في رأينا الفقهي «مبدأ ولاية الأمَّة على نفسها»، فلا دور فيها للفقيه، «بمعنى أنه يحكم، وأنه مصدر للشرعية». ودور الفقيه فيها هو دور المستشار والمُفتي. إنه يتمتَّع بموقع تشريعي، وليس مصدر الشرعية. ومصدر الشرعيَّة بالنسبة للسلطة، وبالنسبة إلى شرعية القوانين في دائرة التنظيم هو للأمة، التي تمارس السلطة والتشريع خارج الحقل الذي تحكمه أحكامُ الشريعة، بواسطة وكلائها وممثليها، وأمَّا في الحقل الذي تشغله أحكامُ الشريعة، والذي يحتاج إلى تشريع فقهي إسلامي، فهذا الأمر هو من شأن مجامع الفقهاء، فالفقهاء في نظريتنا لهم دور تشريعي وتقنيني، وليس لهم دور سلطويٌّ، وليسوا مصدرًا للشرعية … إن نظريتنا الفقهية السياسية تقوم على نظرية «ولاية الأمَّة على نفسها».»٤٨

تسمية الشيخ شمس الدين لنظريته «ولاية الأمة على نفسها»، لا تخلو من التباس وتداخُل بين سياقَين لا يتكلمان اللغة ذاتها، لأنَّ مفهوم «الولاية» يحيل إلى علم الكلام والعرفان والفقه، بينما يحيل كون «الأمَّة» هي مصدر الشرعيَّة إلى «الديمقراطية». ومفهوم «الولاية» يفهم العالم عبر شبكة مفهوميَّة تنتمي إلى الموروث، ومفهوم «الديمقراطية» يفهم العالم عبر شبكة مفهوميَّة تنتمي إلى الفكر السياسيِّ الحديث. مضافًا إلى أنَّ مفهوم «الأمة» في النصوص الدينية والتراث يحيل إلى الجماعة التي تنتمي إلى ديانة وتتوحد في عقيدة واحدة. وهو يختلف عن مفهوم «الأمة» الذي يعرفه الفكرُ السياسي الحديث.

عادة ما ينتهي الخلطُ بين مفاهيم مشتقَّة من سياقات مختلفة إلى «تهجين المفاهيم». وهذه واحدةٌ من أهمِّ إشكاليات الفكر الإسلامي الحديث، إذ إن الكثير من محاولاتِه التجديديَّة تُعاني من أزمة تجاهُلِ السِّياقات الفكريَّة والسياسيَّة والاقتصادية التي وُلدت فيها المفاهيمُ الغربيَّةُ، التي يتم استعارتُها ودمجُها في المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة، وهو ما يولِّد بدوره مجموعةً من المفاهيم الملتبسة التي يصعب — إن لم يكن يتعذر — أنْ تسهم بنحوٍ مثمر في تطوير الفكر الإسلامي، ويمكن إدراجُ مفهوم «ولاية الأمة على نفسها» ضمن هذه الحالة، فإن مفهوم الأمَّة في سياقِه السياسيِّ الغربيِّ مختلِفٌ كلِّيًّا عن سياقِه الإسلاميِّ، إذ بينما يشير الأولُ إلى فكرة القوميَّة ومبدأ المواطنة والجغرافية السياسية، يقتصر الثاني على معنى الجماعةِ العقائديَّة فقط، وهذا ما يجعله أجنبيًّا عن الأول.

سبق أن وقع الشيخُ شمس الدين بمفارقةٍ من هذا القبيل حين تحدَّث عن مفهوم «الطبقة» في شرحه لعهد الإمام علي لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر النَّخَعي، وما أوقعه في ذلك هو الاشتراك اللفظي بين المصطلح الحديث والكلمة القديمة «طبقات» الواردة في العهد المشار إليه. وهذا له نظائر عدة، كما هو الحال في مصطلح «الجدل» في كتابات بعض الإسلاميين، عندما يجعلونه مرادفًا ﻟ «الديالكتيك»، متجاهلًا أنَّ مفهوم الطبقة في الفكر الماركسي إنما هو وليدُ التطوُّر في وسائل الإنتاج، والصراع الناشب عن ذلك حول «فائض القيمة». وهذا ما لا عَلاقة له إطلاقًا بمفهوم الطبقة، كما في «العهد» المذكور الذي لا يعدو معناه اللغوي فيه «شريحة من الناس تتناسب منزلتُها الاجتماعيةُ بحسب طبيعة شغلها.»

تجلَّت بمرور الأيام مفاهيمُ شمس الدين، وأضحى يتحدث بصراحة عن الديمقراطية، باعتبارها الخيار الوحيد للمجتمعات الإسلامية، ولم يعد هناك ما هو دينيٌّ أو مقدَّس في الدولة، بمعنى أنَّه يقدِّم تفسيرًا مغايرًا لمفهوم الدولة، لا يرتبط بالسماء، وبالتالي تنتقل مشروعيةُ السلطة في نظره، من السماء إلى الأرض، فهو يعتقد أنَّ «في الإسلام، مشروع الدولة كله مشروع غير مقدس، ليس لأنه مشروع مرفوض، ولكنه مشروع ناشئ من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة، وهي ليست مقدَّسة في ذاتها في الفكر وفي الفقه الإسلاميين. وإنما المطلق والمقدَّس والأساس من وُضِع له الشرع والشريعة، أي الأمَّة والدولة بالشأنِ التنظيمي العامِّ للمجتمع. الأمة هي مقدس بالمعنى الذي ذكرناه، والدولة هي مؤسسة ذات وظيفة من مؤسسات الأمَّة.»٤٩ هنا عمِل شمس الدين على ترحيل مفهوم الدولة من حقل الفقه فأخرجها مما هو ديني، وخلع عليها تفسيرًا يحيلها إلى مكوناتها البشرية، ووظائفها الدنيوية غير المقدسة، وهنا يسير عكس ما بدأ به في الخمسينيات، عندما ساهم بتوطين مشروع الدولة داخل الفقه. وتصاعدت مواقفُه بالتدريج بمرور الأيام، وذهبتْ آراؤه إلى مديات لا ترتبط بالتفكير داخل المدوَّنة الفقهية بالدَّولة، عندما أفضى موقفُه إلى إمكانيَّة تولِّي غير المسلم من مواطِنِي المجتمع الإسلامي السُّلطة، ومناصب الدولة السياسية والإدارية.٥٠
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، عاد للنجف من جديدٍ أَلَقُهَا، وأصبحت محجة للسياسيين، وحرص رجال الحكم على التواصل مع المرجع السيد علي السيستاني، وحسم آرائهم في القضايا البالغة الأهمية، بالاعتماد على ما يقوله هو أو يحرِّره مكتبُه، مثل تدوين الدستور، فقد قررت سلطات الاحتلال تشكيل مجلس لصوغ الدستور، وتعيين أعضاء هذا المجلس بالتشاور مع الجهات السياسية في العراق، ثم طرح الدستور بعد صياغته لاستفتاء شعبي، لكنَّ السيستاني رفض ذلك، وشدَّد على «أن تلك السلطات لا تتمتَّع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور … فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولا بد أوَّلًا من إجراء انتخابات عامة، لكي يختار كلُّ عراقي مؤهل للانتخاب من يمثِّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجري التصويتُ العام على الدستور، الذي يقرُّه هذا المجلسُ.»٥١
يكشف السيد السيستاني عن أنَّ مرتكزات وأُسُس ومنطلقات النظام السياسي الجديد للعراق تقوم على «مبدأ الشورى والتعدديَّة والتداوُل السلميِّ للسلطة، في جنب مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء البلد في الحقوق والواجبات، وحيث إنَّ أكثريَّة الشعب العراقي من المسلمين فمن المؤكَّد أنهم سيختارون نظامًا يحترم ثوابتَ الشريعة الإسلامية، مع حماية حقوق الأقليَّات الدينية.»٥٢ وتكرَّر في نصوص متعددة تشديده على ضرورة الانتخابات، ورفضه لأية محاولة تسعى لبناء صيغة لنظام الحكم بعيدًا عن إرادة واختيار الشعب العراقي، وعبَّر عن ذلك بوضوح قائلًا: «شكل العراق الجديد يحدِّدُهُ الشعبُ العراقي، بجميع قوميَّاته ومذاهبه، وآلية ذلك هي الانتخابات الحرَّة المباشرة.»٥٣
بعد مراجعةٍ شاملة للفتاوى والبيانات والمقابلات المدوَّنة الصادرة عن مكتب السيستاني، فيما يرتبط بالشأن العراقي الراهن، لاحظتُ أنَّ مشروعية السلطة في نظره تستند إلى الشعب، وما يقرِّره من رأي عبر صناديق الاقتراع، أي إنَّ المشروعيةَ — بحسب ما يرى — شعبيَّةٌ. وأنَّه لا يفكِّر بحكومة دينية، ويتحدث بوضوح لا لبس فيه عن ذلك قائلًا: «وأما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس واردًا مطلقًا.»٥٤ وفي معرض بيانه لمهمَّة رجال الدين في هذا العصر، يذهب إلى أنه «لا يصح أن يُزَجَّ برجال الدين في الجوانب الإدارية والتنفيذية، بل ينبغي أنْ يقتصر دورُهم على التَّوجيه والإرشاد والإشراف على اللجان التي تتشكل لإدارة أمور المدينة وتوفير الأمن والخدمات العامة للأهالي.»٥٥

بشكل لافت يستعمل السيد السيستاني مصطلح «حكومة دينية»، ويُرْدِفُه بمصطلحِ «رجال الدين»، وكلا المصطلحين يختفيان من أدبيات الإسلام السياسي، فبدلًا من الأول يُستخدم لديهم تعبير «حكومة إسلامية»، مثلما يتداولون «دولة إسلامية» ولا يذكرون «دولة دينية». وهكذا يستعملون في كتاباتهم ويشيرون في أحاديثهم إلى «علماء دين»، وليس «رجال دين».

منذ ثلاثة عقود بدأ التفكيرُ بالدَّولة في مدرسة النَّجف يغادر المدونة الفقهية بالتدريج، فلم أعثر في العَقد الأخير على أيَّة كتابات جادَّة دوَّنتها المراجعُ والفقهاء في حوزةِ النَّجف ترسم إطارًا مشتقًّا من الفقه للسلطة والحكم والدولة ومؤسساتها، يتواصل مع الرؤية الفقهية لمحمد باقر الصدر، ومحاولاته الأثيرة، التي بدأت ﺑ «اقتصادنا»، واستمرت حتى الفترة الأخيرة من حياته في سلسلة «الإسلام يقودُ الحياة»، من أجل اكتشاف الدولة ونظمها السياسية والاقتصادية والمالية والمصرِفية في سياق فقهي.

هكذا عبَر مفهوم الدولة ونظمها ثلاث محطات في النجف، تحوَّل فيها من خارج المدونة الفقهية إلى داخلها، ثم خرج عنها أخيرًا. ويبدو أنَّ جهود الصدر وسواه من فقهاءِ مدرسة النجف، الذين عملوا على ترسيخ التفكير الفقهي بالدولة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وتواصلها ثلاثة عقود، لم يُكتب لها التغلُّب على نزعة التفكير بالدولة خارج الفقه في حوزة النجف، فعاد التفكيرُ بالدَّولة مفارقًا للفقه، يجول في مداراته الموروثة، ولم تفلح تلك الجهودُ في انتزاعه من بنيته الراسخة العميقة في الوعي والوجدان الشيعيِّ في عصر الغيبة.

على أن هناك فرقًا مهمًّا بين التفكير الموروث بالدولة والتفكير الحديث بها لدى الإسلاميين، فالأول لا يتدخل في الدولة؛ لأنه يحصرها في الإمام المنصوص عليه، ويعتبر الدولة الخارجة عن هذا الإطار دولة ظالمة، وحكَّامَها حكَّامَ جور. في حين أن التفكير الحديث في الدولة يميِّز بين مقاربة الدولة بمفهومها الكلامي، ومقاربتها بمفهومها الفقهي؛ فالأول معترَف به كحقٍّ إلهيٍّ حصريٍّ للإمام، لا تُناقش تفاصيلُه ما دام غائبًا. أمَّا الثاني فإننا نراه في المرحلة الثالثة امتدادًا وتطويرًا للمرحلة الأولى؛ إذ إن رواد هذه المرحلة — كالسيد علي السيستاني — يحيلون تحديد نمط الحكم للأمة، ويعتقدون بأنَّ من حقِّها أن تختار الحاكمَ وطبيعة التشريع الملائم لها، وهي بنفسها تتولَّى مراقبة تطبيق كل ذلك، وصاحبة الكلمة الفصل في جميع شئونه.

لم يكن تحقيبنا لنَمط التفكير بالدولة وحقولها ونُظمها في مدرسة النجف في ثلاث مراحل، يعبِّر عن استقراء شامل للمدوَّنة النجفيَّة الفقهيَّة الواسعة في القرن الأخير، وإنما اقتصر على تقديم أبرز النماذج السائدة في كل مرحلة، وكيفية مقاربته لمفهوم الدولة وما يرتبط بها. كما لا نعني بسيادة نمط من التفكير بالدولة في مرحلة زمنية معينة في مدرسة النجف إجماعَ الفقهاء والباحثين والدارسين في الحوزة على قول واحد؛ ذلك أنَّ الاجتهاد بطبيعته يفضي إلى تنوع الآراء وتعدُّد النظر الفقهي في الموضوع الواحد، تبعًا لتنوع أدلة الاستنباط الفقهي، والاختلاف في فهم هذه الأدلة، غير أنَّ التحقيب الذي نقترحه للتفكير بالدولة، يؤشر على الاتجاه الغالب في كلِّ مرحلة، لدى فقهاء تعاطَوا البحث في قضايا الدين والدولة، وما له صلة بالفكر والفقه السياسي في الإسلام. ولم نتحدث عن الذين لا يتداولون تلك الموضوعات، وممن يصنِّفونها خارج مديات التفكير الفقهي في عصر الغيبة، ولا يتعاطَون بحثها أو إبداء وجهات نظر مستدلة حيالها نفيًا أو إثباتًا، وهم جماعة من أبرز الفقهاء والمراجع في التاريخ القريب لمدرسة النجف، لأن الحديث اقتصر على الصنف الأول.

١  ابن كثير: البداية والنهاية، مج ٤، ج٨، ص٢٢٦.
٢  نشر هذه الرسالة: محمد خان، ليدن، أبريل، ١٩٦٤م، ٣٨ص.
٣  بحار الأنوار، ٧٥: ٣٥٢.
٤  غُرر الحِكم ودُرر الكلِم، ٣٥٠.
٥  غُرر الحِكم ودُرر الكلِم، ٣١٥.
٦  الأعراف ٧: ٢٩.
٧  بررسي إجمالي مباني اقتصاد إسلامي، ص١٤.
٨  أحمد أمين: ضحى الإسلام، ج٢، ص٣٥.
٩  المحقق الكَرْكي الشيخ علي بن الحسين: رسالة صلاة الجمعة، في: رسائل المحقق الكركي، تحقيق: الشيخ محمد الحسون، قُم، مكتبة السيد المرعشي، ١٤٠٩ﻫ، ١: ١٤٢-١٤٣.
١٠  المحقق الكَرْكي: جامع المقاصد، تحقيق: مؤسسة آل البيت، ١٤١١ﻫ، ١١: ٢٦٦-٢٦٧.
١١  صدرت الرسائل الأربع في قُمَّ عن مركز النشر التابع لجماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية.
١٢  توفيق السيف: نظرية السلطة في الفقه الشيعي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٢م، ص١٥٠-١٥١.
١٣  الشيخ أحمد النراقي: عوائد الأيام، قُم، مكتبة بصيرتي، ص١٨٥–٢٠٦.
١٤  محسن كديور: سياست نامه خراساني، طهران، انتشارات كوير، ط١، ١٣٨٥ش، ص٦٣.
١٥  المصدر السابق، ص٦٠–٦٣.
١٦  الشريف المرتضى علي بن الحسين: الشافي في الإمامة، تحقيق: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، طهران، ١٤١٠ﻫ، ج١، ص١١٢.
١٧  توفيق السيف: «ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة»، بيروت، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٩م، ص٤٦–٥١.
١٨  فتواي تحريم تُنباكو وبيآمدهاي آن، مجلة حوزه، ع٥٠، خرداد ١٣٧١ش.
١٩  مهدي حائري: تشيع ومشروطيت، طهران، امير كبير، ١٣٦٣ش، ص١٠٤-١٠٥؛ وتوفيق السيف: مصدر سابق، ص٢٦-٢٧.
٢٠  ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٦٠م، ص٩٧-٩٨؛ ورشيد الخيون: المشروطة والمستبدة، بيروت، معهد الدراسات الاستراتيجية، ٢٠٠٦م، ص١٣٢–١٣٥.
٢١  علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، بغداد، مطبعة الرشاد، ج٣، ص١٨؛ والخيون: المصدر السابق، ص١٣٤.
٢٢  تقدِّر بعض التخمينات عدد تلامذة العلوم الدينية قبل الاحتلال الإنجليزي للعراق بعشَرة آلاف تلميذ من مختلِف الجنسيات. وإذا ما قارنا هذا الرقم بعدد سكان النجف وقتئذٍ، وفرص العيش المتاحة فيها، والإمكانات المادية للمرجعية ونفقاتها على التلامذة، نجد أن هذا الرقم لا يخلو من مبالغة، ولا سيما لو قارنَّاه بعدد سكان العراق وسكان النجف وقتئذٍ، وكذلك لو قسناه بمجموع التلامذة في شهر ديسمبر ١٩٥٧م، البالغ ١٩٥٤، بحسب ما ورد في مقالة د. فاضل الجمالي، ترجمة: د. جودت القزويني، والمنشورة في مَجلة الموسم، ع١٨، ١٩٩٤م، بعنوان: «جامعة النجف الدينية».
٢٣  د. ناصر تكميل همايون (إعداد): مشروطه خواهي ايرانيان، طهران، مركز بازشناسي إسلام وإيران، ١٣٨٣ش/٢٠٠٤م، ص١٩-٢٠. عن: سيد جمال الدين أصفهاني، ش٣٥، ٢٦ ربيع الآخر ١٣٢٦ﻫ.
٢٤  د. جمشيد بهنام: إيرانيان وانديشه تجدد، طهران، فرزان، ١٣٧٥ش/١٩٩٦م، ص٧٧.
٢٥  غلام حسين زركري نجاد: رسائل مشروطيت، طهران، كوير، ١٣٧٤ش/١٩٩٥م، ص١٥.
٢٦  المصدر السابق نفسه.
٢٧  نسبها آغا بزرك الطهراني في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» ٤ / ٤٢، إلى الشيخ فضل الله النوري، بينما ذهب فريدون آدميت في: «ايديولوجي نهضت مشروطيت، هامش ص١٦٠» إلى أن مؤلِّفها هو السيد أحمد بن السيد كاظم. ورأى السيد شهاب الدين النجفي المرعشي، «كما ورد في هامش ص٢٢٧ من كتاب عبد الهادي حائري: تشيع ومشروطيت»، أنها من آثار الشيخ عبد الله النوري. ومهما يكن مؤلفها فإنها تعبر بوضوح عن المواقف الفقهية والسياسية لمناهضي المشروطة.
٢٨  طبعات الكتاب: الأولى في النجف ١٣٢٧ﻫ/١٩٠٩م، الثانية في طهران ١٣٢٨ﻫ/١٩١٠م، الثالثة (بعد خمسة وأربعين عامًا) في طهران ١٣٧٤ﻫ/١٩٥٥م، وتمتاز الطبعة الأخيرة بتقديم وتعليقات وخلاصة، أعدَّها السيد محمود الطالَقاني.
٢٩  النصوص منقولة من ترجمة الدكتور مشتاق الحلو للرسالة المنسوبة للنوري، «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، وهي مطبوعة ملحقة بترجمته ﻟ «تنبيه الأمة وتنزيه الملة».
ملاحظة: ما يرد في هذه الورقة من نصوص النائيني منقول عن هذه الترجمة، التي تتميز بدقتها ومطابقتها للنص الفارسي.
٣٠  نائين: مدينة إيرانية قرب أصفهان. والغروي: نسبة إلى الغري وهي النجف، التي هاجر إليها النائيني ومكث فيها إلى آخر حياته.
٣١  د. عبد الهادي حائري: تشيع ومشروطيت در ايران ونقش ايرانيان مقيم عراق، طهران، امير كبير، ١٣٦٤ش/١٩٨٥م، ص٢٥٢.
٣٢  التوبة ٩: ٣١.
٣٣  لم أعثر على مصطلح «الدولة الدينية» في كتابات الفقه السياسي المكتوبة في تلك الفترة، ولم يكن هذا المصطلح متداولًا آنذاك. وما تمَّ تداولُه بشكل واسع في أدبيات الجماعات الدينية بعد منتصف القرن العشرين، هو «الدولة الإسلامية»، و«الحكومة الإسلامية».
٣٤  تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل، ص٣٣-٣٤.
٣٥  ملك زاده: انقلاب مشروطيت، ج٤: ص٢٠٩–٢٢٠، ٢٢٢–٢٢٤.
٣٦  محسن كديور: سياست نامه خراساني، ص٢١٦-٢١٧.
٣٧  محسن كديور: المصدر السابق، ص١٧٢.
٣٨  محسن كديور: المصدر السابق، ص٦٠. عن: تعليقات المكاسب، التعليقة ١٠.
٣٩  محمد إسماعيل المحلاتي: اللآلئ المربوطة في وجوب المشروطة، في: زركري نجاد: رسائل مشروطيت، ص٥٢٥.
٤٠  محمد حسين الأصفهاني: حاشية المكاسب، ج ١، ص٢١٥.
٤١  «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا؟»، عنوان كتاب شهير ألفه الشيخ يوسف القرضاوي.
٤٢  محمد الخالصي: الإسلام سبيل السعادة والسلام، ص٢٤٦-٢٤٧.
٤٣  شبلي الملاط: «تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم»، بيروت، دار النهار للنشر، ١٩٩٨م، ص٣٣–٤٨.
٤٤  شبلي الملاط: «تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم»، بيروت، دار النهار للنشر، ١٩٩٨م، ص٤٥.
٤٥  يكتب الصدر: «نؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية، وهي تصعيد للعمل النبوي، بدأت في مرحلة معيَّنة من حياة البشرية.» انظر: الإسلام يقود الحياة، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر، قُم، ط١، ١٤٢١ﻫ، ص٢٥.
٤٦  محمد جواد مغنية: الخميني والدولة الإسلامية، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٧٩م، ص٦٥–٦٨.
٤٧  محمد مهدي شمس الدين: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، بيروت، ط٢، ص٢٠٨-٢٠٩.
٤٨  محمد مهدي شمس الدين: الاجتماع السياسي الإسلامي، بيروت، ١٩٩٩م، ص٣٥١.
٤٩  محمد مهدي شمس الدين: الأمة والدولة والحركة الإسلامية، بيروت، ١٩٩٤م، ص٢٢.
٥٠  محمد مهدي شمس الدين: مَجلة المنهاج، بيروت، س٥، ع١٨، صيف ٢٠٠١م، ص٧٩.
٥١  حامد الخفاف: النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية، بيروت، دار المؤرخ العربي، ٢٠٠٧م، ص٢٢٢.
٥٢  حامد الخفاف: المصدر السابق، ص٩٨.
٥٣  حامد الخفاف: المصدر السابق، ص١٩٢ وص١٠، ١٨، ٢٦، ٥٣، ٧٢، ٨٥، ٩٦، ١٢٧، ١٤٤، ٢٠١.
٥٤  حامد الخفاف: المصدر السابق، ص٢٢٩-٢٣٠.
٥٥  حامد الخفاف: المصدر السابق، ص٣٠٧–٣١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥