مفهومُ الدولة في مدرسة النجف
١
أعني بالتحوُّل في مفهوم الدولة حضوره وطريقة التَّعاطي معه في التَّفكير الفقهيِّ لمدرسة النجف. أمَّا التاريخ القريب فينبسط على مدى القرن العشرين، ليستوعب شيئًا من التاريخ الحديث وكلِّ الزمن المعاصر، بدءًا من ١٩٠٦م، أي منذ «حركة المشروطة» وتبلور اتجاه يتبنَّى الدعوة للدستور يقوده الشيخ محمد كاظم الخراساني (ت١٩١١م)، واتِّجاه آخر مناهض للمشروطة يقوده السيد محمد كاظم اليزدي.
و«مدرسة النجف» هي المضمون الديني والمعرفي والفقهي للحاضرة العلمية التي نشأت بعد هجرة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي من بغداد إلى النجف سنة ٤٤٨ﻫ، وهي وإن اضمحلَّت في بعض العصور، غير أنها تواصلت في القرون الثلاثة الأخيرة.
أحاول هنا التعرف على آفاقِ التفكير الفقهيِّ في الدولة، وكيف نشأ التفكيرُ في مفهوم الدَّولة منذ مطلع القرن العشرين حتى نهاية هذا القرن، فقد بدأ في المرحلة الأولى خارج المدوَّنة الفقهية. أما في المرحلة الثانية، التي تبدأ منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا، فتوغَّل التفكيرُ في الدَّولة داخل المدوَّنة الفقهيَّة، منذ أن كتب الشيخُ محمد مهدي شمس الدين «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» في العام ١٩٥٤م، وصدر في بيروت العام ١٩٥٥م، ويهدف الكتاب كما يصرِّح المؤلف للتدليل على أننا «في الإسلام نملك نظامًا للحكم والإدارة، هو نظام محكم في ظلِّ سلطة دينية وزمنية معًا.» وهو يفكِّر داخل المدوَّنة الفقهية، يرفض شمس الدين في هذا الكتاب الديمقراطيَّة، إذ يقول: «… فلا مشروعيةَ للأسلوب الديمقراطيِّ في اختيار الحاكم وشرعيته.» لكنَّه عاد فتبناها في مرحلة لاحقة من حياته، عندما أصبح يفكِّر بدولة خارج المدوَّنة الفقهية.
في العامَيْن ١٩٥٨ و١٩٥٩م كتب السيد محمد باقر الصدر تصوُّرات أولية لما سماه «الأُسُس»، وهي تسعة أُسُس صاغ فيها رؤيةً أولية للدولة الإسلاميَّة، أورد في الأول منها تعريفًا لغويًّا واصطلاحيًّا للإسلام، وفي الثاني تقسيمًا للمسلم، وفي الثالث بيانًا لمفهوم: «الوطن الإسلامي»، وفي الرابع عالج: «مفهوم الدَّولة الإسلامية»، وأيَّ نوع هي من الدول، بعد أن صنَّف الدول إلى ثلاثة أنواع، وفي الخامس دلَّل على أنَّ الدولة الإسلامية دولة فكريَّة، وفي السادس شرح: «شكل الحكم في الإسلام»، وفي السابع تناول: «تطبيق الشورى كشكلٍ للحكم في ظروف الأمة الحاضرة»، ثم أوضح: «الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم» في الأساس الثامن، وانتهى في الأساس التاسع إلى: «مهمة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة».
في هذا النص الموجز الذي كتبه الصدرُ يتكرر مصطلحُ «الدولة الإسلامية» بشكل ملفت للنظر، مثلما نلاحظ في الأساس الثالث نجد فيه تَكرارًا لهذا المصطلح بين سطر وآخر أحيانًا. مضافًا إلى تَكرار مصطلح «الحكومة الإسلامية». ونَصُّ «الأسس» بالرغم من أنَّه لا يتجاوز ١٥ صفحة، لكنه مدوَّن بأسلوب مدرسي منظَّم وميسَّر، يبتعد عن الغموض والمجاز والكنايات، ويعبِّر عن محتواه بنحوٍ لا لبس فيه.
في هذه المرحلة دخل التفكيرُ بمفهوم الدولةِ المدوَّنةَ الفقهيَّةَ، فصار يتحدد الموقف من كل شيء تُبتنى عليه الدولة ويشكِّل نظمها في أفق رؤية الفقيه للعالم وفتاواه والأحكام المودعة في المدونة الفقهية.
انبثقتْ عن التفكير في الدولة في فضاء المدوَّنة الفقهية الدعوةُ لتوظيف الفقه في بناء النظم في مجالات الدولة المختلفة «السياسي، الإداري، الاقتصادي، المالي، المصرِفي، الحقوقي، الجنائي … إلخ»، فصدرت مجموعةٌ من المؤلَّفات تتناول «نظام الحكم والإدارة في الإسلام، النظام المالي وتداول الثروة في الإسلام، اقتصادنا، البنك اللاربوي في الإسلام … وغير ذلك».
بعد مُضِيِّ ثلاثة عقود تدخل مدرسة النجف بالتدريج المرحلة الثالثة، عبر اجتراح مسارٍ للتفكير بالدولة ونظمها يتجاوز المدوَّنة الفقهية، فتصبح «الديمقراطية هي الحل الوحيد للمجتمعات الإسلامية» بحسب تعبير محمد مهدي شمس الدين.
٢
يمكن القولُ إنَّ الاستبدادَ ظلَّ على الدوام أشدَّ العوامل تأثيرًا في تفكير المسلمين السياسيِّ، فما أنجزه هذا التفكيرُ من أحكام وأفكار، كانت تصاغ في آفاق رؤية المستبد، وتتَّخذ من آراء المستبد وقناعاته مرجعيةً لها.
في ضوء ذلك نستطيع أن نكتشف جذورَ الانقطاع، والتوقُّف، والانشطار، والتشوُّه، الذي اكتنف مسارَ الفكر السياسيِّ الإسلاميِّ، فإنَّ هذا الفكر لم يطرق أبوابَ عدَّة موضوعات، أو أنَّه تجمَّد عند الخطوة الأولى، ولم يواصل تنميةَ البحث في موضوعات أخرى، مثلما نلاحظ في الفلسفة السياسية، فمنذ آثار الفارابيِّ (المتوفَّى سنة ٣٣٩ﻫ) لا نعثر على مساهمات جادَّة في حقلِ الفلسفة السياسيَّة. فإنَّه بالرغم من وفرة إنتاج الفلاسفة الإسلاميين، ممَّن جاءوا بعد الفارابي، غير أنهم لم يستأنفوا ما بدأه الفارابي، ولم يعملُوا على إغناءِ وتطوير هذا الحقل في الفكر السياسيِّ؛ ذلك أنَّ الفيلسوفَ طالما كان على الضدِّ من إرادةِ السُّلطان، فكان لا بد أنْ يتَّقِيَه، ولا يتعرض مباشرة لبيان طبيعة الدولة باعتبارها تنظيمًا لجماعة، والتعرف على نموذج للحكم بديل للاستبداد، يصلح كمعيار في تنظيم عَلاقة الحاكم بالمحكومين؛ لأنَّ الفيلسوف يقوده منهجُه في البحث بطبيعة الحال للجري وراء الحقيقة، بحسب أداء أدواته وأفكاره ومناهجه التي يستعين بها في البحث، ولذلك قد يتعذَّر عليه ممالأة الطاغوت إذا ولج الفلسفة السياسيَّة في بحثه، ممَّا يدعوه إلى ترك الخوض في هذا المضمار، كي لا يُسْخِط السلطانَ.
لم يقتصر أثرُ الاستبداد على انقطاع الفلسفة السياسية وتوقُّفها منذ الفارابي، وإنما أدَّى شيوعُ الاستبداد في الحياة السياسية إلى ضمور أو اندثارِ بعض الحقول الأساسيَّة في الفكر السياسي الإسلامي. فمثلًا حين نراجع بواكير التراث السياسي نجد بداية حركة التصنيف فيه تتمحور حول مسألة الإمامة وما في سياقها، ومُحَاجَجَات الفرق ومساجلاتها الواسعة بشأنها، مضافًا إلى التصنيف في الخراج وتنظيم المنابع الماليَّة للدولة، وما يرتبط بتدبير المُلك والسياسة، وعدم تدخُّل الجيش في الشئون السلطانيَّة، وكيفية الحفاظ على السلطان، وغير ذلك مما يتَّصل بالآداب السلطانية، ورسوم ومراسم وبروتوكولات دار السلطنة، وإدارة البيت السلطانيِّ.
أمَّا الفقه السياسيُّ الذي يتناولُ شئونَ النَّاس وحقوق الرعيَّة، والأمن السياسيَّ والاجتماعيَّ، ونصيحة الحُكَّام ومحاسبتهم، وأحكام المعارضة السياسيَّة، فلا نعثر عليه إلا متخفِّيًا في مساحة هامشيَّة داخل تراثنا السياسيِّ.
لكنَّ التجرِبة السياسيَّةَ في الحياة الإسلامية ارتكستْ في الظُّلم والجور، وشاعتْ في القصور السلطانية رسومٌ وبروتوكولات تُسبغ على السلطان منزلةً متعالية لا يُسأل فيها عمَّا يفعل، ويتعامل مع الجماهير وكأنها قطيع من الأغنام. واصطبغتْ ثقافةُ المسلمين بمنطق الطَّاعة والاستسلام حيال الحاكم، وكلِّ من هو في موقع سلطةٍ مهما كانت.
أما المفاهيم والمقولات والآراء والأفكار السياسية وما يحيل إلى التراث السياسيِّ الإسلاميِّ، فتارة نعثر عليه في مؤلَّفات الفلاسفة عند بحثهم الحكمة العملية وما تتشعَّب إليه من تدابير المجتمعِ وسياسةِ المُدُن، وأخرى نجده في مؤلفات المتكلِّمين مندرجًا ضمن مباحث الإمامة، وثالثةً نراه في ثنايا تاريخ الإسلام السياسي، ولا سيما في مواقف العلماء مع السلاطين والحكام. بيد أنَّ الحقل الأهم الذي انتظمت في إطاره تلك المباحث — ولعله الشكل الأقدم لنمط التأليف السياسي الإسلامي — هو مُدَوَّنات الحديث والفقه، ككتب الفتن والأحكام والإمارة وغيرها، أو أبواب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاة الجمعة، والخمس، والقضاء والحدود ونحوها، وما أُلِّفَ بموازاة ذلك من أعمال مستقلة تمحورت حول النظام السياسي أو النظام المالي للدولة الإسلامية، مثلما نلاحظ في مسألة الخراج، فقد ألَّف القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (المتوفَّى سنة ١٩٢ﻫ) كتابًا بعنوان «الخراج»، يُعتبر أقدم المدوَّنات الواصلة إلينا في هذا الموضوع، تعرَّض فيه لفقه أموال الدولة، وإلى جانب موضوعه الأساسيِّ تحدَّث عن: الجنايات والعقاب عليها، والحُكم على المرتدِّ، وقتال أهل الشرك والبغْي، وأرزاق القضاة والعمال. وكان موضوع «الخراج» عنوانًا لكتاب آخر، أنجزه فقيهٌ عاصر القاضيَ أبا يوسف، هو يحيى بنُ آدم القرشيُّ (المتوفَّى سنة ٢٠٤ﻫ). وفي الحقبة نفسها كتب أبو عُبيدٍ القاسم بن سلَّام (المتوفَّى سنة ٢٢٤ﻫ) كتابه المعروف ﺑ «الأموال».
كان الفقيهُ محمد بن الحسن الشيبانيُّ (المتوفَّى سنة ١٨٩ﻫ) قد أفرد مؤلَّفًا للعَلاقات الدولية ونظام الحرب في الإسلام بعنوان «السِّيَر الكبير»، الذي شرحه الفقيه الحنفي السَّرَخْسي، وردَّ عليه القاضي أبو يوسف في مؤلَّف بعنوان «الرد على سير الأوزاعي».
وبعد قرنين من هذا التَّاريخ تطوَّر البحثُ الفقهيُّ في مسائلِ الإمامة والسياسة، وجرى توسُّعٌ في مؤلفات عولجت فيها تلك المسائل بشمول، فظهر أكثر من كتاب بعنوان «الأحكام السلطانية»، أحدها للقاضي أبي الحسن الماوَردي (المتوفَّى سنة ٤٥٠ﻫ)، والآخر للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء (المتوفَّى سنة ٤٥٨ﻫ).
٣
تأخَّر ظهور الفقه السياسي عند الشيعة الإمامية قرونًا عدَّة، بل إنَّ التدوين المستقل في ذلك لم يتبلور إلا في فترةٍ متأخِّرة، وإنْ توفَّرت بعضُ المصنفات الفقهية السابقة على أبواب وفصول لأحكام متناثرة في الفقه السياسيِّ، مثلما نرى في كتاب «المبسوط» للشيخ الطوسي (المتوفَّى سنة ٤٦٠ﻫ)، الذي أفرد أبوابًا مستقلَّة لأحكام البغاة والمرتدِّين، وأهل الذمة والجزية. كذلك دُرِست مسألةُ الإمامة على نطاق واسع لدى متكلِّمي الإمامية منذ عدة قرون، إلا أنه بسبب الرؤية الكلامية التي حصرت شكل الدولة الشرعية في «عقيدة الإمامة»، وتكريسها لجهودها الفكرية في خصوص التنظير لمواصفات «الإمام المنصوص عليه»، مضافًا للظروف السياسية والاجتماعية الخاصة التي عاشها فقهاءُ الإمامية، وما تعرضوا له من إقصاء عن مواقع الحكم والإدارة؛ انخفض حضورُ الفقه السياسيِّ والاجتماعيِّ في مدونات الفقه الجعفري، وهيمنت النزعة الفردية التي تُعنى بمعالجة قضايا السُّلوك الخاصِّ على هذا الفقه حتى القرن العاشر الهجري. وبعد هذا التَّاريخ، أي منذ قيام الدولة الصفوية في إيران، وتفاعل بعض الفقهاء مع مؤسسة السلطنة الصفوية وقتئذٍ، جرى إسنادُ بعض شئون الدولة لهم، واعتمادهم كمستشارين للسلطان أحيانًا، ومن هنا طُرحت عليهم بالتدريج أسئلة سياسية واجتماعية أفرزها حضورهم في داخل مؤسسة الحكم، فكتبوا بعض الرسائل المستقلة في «الخراج» و«صلاة الجمعة»، كما ظهرت لديهم فيما بعد، أي في القرن الثالث عشر، بعض الرسائل في «الجهاد».
ننبِّه إلى الترادف الذي عثرنا عليه لدى بعض الفقهاء بين القول ﺑ «الولاية» بمعناها المعروف في العرفان النظري، والقول ﺑ «الولاية» بمعناها الفقهي، وكيف تمَّ توظيفُ المفهوم ونقله من مجاله المعنوي الذي يعتبر «الولاية باطن النبوة»، ويخصُّها بالأئمة الاثني عشر، إلى المجال السياسيِّ، ومنح الفقيه تفويضًا في إدارة الحكم والسلطة وكلِّ ما يتصل بالشأن السياسي. فالنَّراقي وغيره ممن تبنوا القول ﺑ «الولاية» بمعناها الفقهيِّ، هو وغيره ممن يقولون بالولاية بمعناها العرفاني. وفي السياق ذاته نجد ترادفًا لدى هؤلاء الفقهاء بين القول بنظرية «الإنسان الكامل» بمعناها في العرفان النظري، و«الولاية» بمعناها الفقهي، فمن قال من الفقهاء بولاية الفقيه يقول بنظرية «الإنسان الكامل».
منذ عصر الشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفَّى سنة ١٢٨١ﻫ) دأب فقهاءُ الإماميَّة على بحث مسألةِ الولاية العامة للفقهاء في باب البيع من مؤلفاتهم الفقهية، ومكث الفقهاء عقودًا متوالية يبحثون هذه المسألة من منظور فرديٍّ لا يفكر بإدارة الدولة ومؤسساتها، لذلك لا نلاحظ فقيهًا في تلك الفترة حاول أن يقدِّم صوغ نظرية تكشف عن الأبعاد السياسية والاجتماعية لولاية الفقيه في عصر الغيبة، وظل بحثهم يجول في مدارات الإشكالات والردود، من دون أن يتخطَّى ذلك ويتسلح برؤية ينبثق عنها صوغ فقهيٌّ لإدارة الفقيه للدولة واشتقاق نُظمها من المدونة الفقهية. كما ظلَّ القولُ بولاية الفقيه يقتصر على فقهاء معدودين، ولم يتَّسع القولُ بالولاية، وتمسَّك مشهورُ الفقهاء بنقد أدلَّتها وعدم التسليم بها.
٤
تحوُّل التفكير في المفاهيم يرتبط عضويًّا بالسياقات الدينية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية السَّائدة في كل مجتمع من المجتمعات البشرية. ومدرسة النجف ظلَّت وما زالت أهمَّ حاضنة للفقه الشيعي، وعادة ما كان الشيعة خارج مؤسسة السلطة في دولة الخلافة الأموية والعباسية والسلطنة العثمانية، وطالما تعرض فقهاؤهم للمراقبة والاضطهاد والقمع، خشية ثوراتهم ومعارضتهم للخلفاء والسلاطين، ففرض عليهم ذلك الابتعاد عن التفكير الفقهي بالدولة ونظمها. وانتظم الفقه في الحوزات في المجال الفردي الشخصي، ولم يتجاوزه إلى مجال الحكومة والسلطة وتنظيمات الدولة. وبموازاة ذلك تبلور موقف فقهي يسلب المشروعية عن أية دولة في عصر غيبة الإمام المهدي، وهو الإمام الثاني عشر، ويصفها ﺑ «دولة الضلال».
إن عدم فصل فقهاء المذهب الإمامي بين مفهوم الدولة بمعناه السياسي كتنظيم بشري، ومفهومها الكلامي العقائدي كنظام خلافة، دفعهم نحو سلب الشرعية عن كل أشكال الدولة، ووصفهم جميع الحكَّام بكونهم «أئمة جور»، وهو ما صرف جهودَهم للتفكير بالدولة ﮐ «تنظيم» للجماعة المؤمنة، وليس ﮐ «نظام» يسوس الأتباع — ولا أقول المواطنين — إذ ما دامت الدولة تعني الخراج والقضاء والجهاد، فقد حُلَّ الموضوعان الأول والثاني بالعودة للفقيه، أما الثالث فسُوِّغ في الحالات المصيرية التي يتعرض فيها الإسلامُ لخطر يُخشى منه عليه. وهكذا تراجع التفكيرُ بالدولة وحُسمت إشكاليتها لانتفاء الحاجة إليها.
لم تتقلص المسافةُ بين بعض الفقهاء والسلطان إلا في العصر الصفوي، حينما احتاج السلطان إلى الفقيه ليخلع المشروعية على دولته. لكنَّ مدرسة النجف مكثتْ بمنأًى عن ذلك. وفي العصور التالية ابتعد نادر شاه عن الفقهاء، لكن مع السلطنة القاجارية حرص بعضُ ملوكِهم على تجسير العَلاقة مع المرجعية الدينية، والحصول على دعمها، خاصة في صراعهم المستمرِّ مع الرُّوس، وحاجتهم الماسَّة إلى تعبئةِ الشَّعب وحثِّه على القتال، عبر فتاوى الجهاد.
كان للمناخات الفكريَّة في عصر المشروطة (١٩٠٦–١٩١١م) تأثير حاسم على التفكير في مدرسة النجف في قضايا الدستور، والبرلمان، والاستبداد، وتداوُل السُّلطة، والانتخابات، والمشروعيَّة السياسية للسلطة، وحدود تدخُّل الفقيه في الدولة، ونمط الدولة في عصر الغيبة، وحقل الفقه في الدولة، وهل الدولة مقولة دنيوية أم دينية؟ وغير ذلك من الاستفهامات الحائرة، والأسئلة القلقة، التي أوقدت التفكير في هذه القضايا، وقادته للانخراط في مجال لم يتسع البحثُ فيه من قبل في الحوزة، بنحوٍ هيمنت معه تلك الاستفهاماتُ على الفضاء المعرفي في النجف، وتعاطى الفقهاءُ وتلامذتُهم الحديثَ والنقاشَ في ذلك.
طالما طغت الجدالياتُ السياسيَّةُ والفكريَّة في إيران على مشاغل الطلاب واهتماماتهم، لوثوق العَلاقة بين المرجعية الدينية في النجف والمجتمع الإيراني، والارتباط العضوي للمقلدين الإيرانيين بفقهاء النجف، وتجاوب هؤلاء الفقهاء مع التطورات السياسية والاجتماعية في إيران.
عملت أنشطةُ ومساعِي وكتاباتُ النُّخبة الفاعلة على إيجاد أرضية واسعة للوعي الدستوري في المجتمع الإيراني، بعد أن جعلتْ مناهضةَ الاستبداد وتدوين الدستور من أهمِّ أولوياتها، وكرستْ مختلِفَ الجهود لإشاعة هذه الثقافة وتعميمها، بنحوٍ لم تَعُدْ معه ثقافةً خاصة بالنخبة، وإنما امتلكها الوعيُ الشعبيُّ، وصارت القضية المطلبية الأولى في حياة المواطن الإيرانيِّ. ووجد جماعة من الفقهاء أنَّ الظروف الاجتماعية والسياسية ممهدة لإرغام الملكية المستبدَّة على تحديد سلطاتها وتقييدها في إطار قانون أساسيٍّ، يستمد مشروعيته من الشعب، ويخضع بموجِبه الملكُ لإرادة الأمة، ولا يختصر كلَّ شيء بشخصه. تتألَّف هذه الجماعةُ من ثلاثة مجتهدين معروفين من طهران، وهم: محمد الطباطبائي، وعبد الله البهبهاني، وفضل الله النوري (١٨٣٥–١٩٠٩م)، الذي قضى فيما بعد مصلوبًا، بعد أن تحوَّل إلى موقع مناهض لهذه الحركة، لاعتقاده بأن المشروطة على الضدِّ من الشريعة الإسلامية.
تُؤَشِّرُ لحظة المشروطة إلى منعطف حادٍّ في تحديثِ التَّفكير السياسيِّ عند الشيعة الإمامية، وتبلور مرتكزات محوريَّة لمفهوم الدولة، عبر توظيف شيء من المكتسبات الحديثة في الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة.
قاد التكفيرُ المتبادلُ بين الفريقين إلى استثمار جميع مكونات الذاكرة الدينية والقومية للمجتمع الإيراني في تعبئة الجمهور، ومحاولات اجتراح تفسيرات وتبريرات تستند إلى الكتاب والسنة والسيرة والتراث، من أجل تشكيل رؤية واضحة لموقفِ كلِّ فريقٍ.
ومثلما هيمنت الدعوةُ لتقنين عمل السلطة على وعي معظم النخبة، تسرَّب التثقيفُ عليها إلى عامَّة الشعب، وانقسم الناس تبعًا للانقسام في مواقف الفقهاء حيال المشروطة سنة ١٩٠٦م، وباتت قضيةُ المشروطة هاجسًا نخبويًّا وجماهيريًّا شاملًا، انخرطت النُّخبةُ المدنيَّةُ والدينيَّةُ في الكتابة والخطابة والحديث عنه، إثباتًا أو نفيًا. وصدر الكثيرُ من المنشورات والرسائل والمقالات والكتب والمطبوعات المتنوعة لمعالجة هذه القضية.
٥
النائيني فقيهٌ وأصوليٌّ ومرجعٌ شيعيٌّ بارز، وأستاذ لجيل من الفقهاء والأساتذة المعروفين في حوزة النجف، ممن أضحوا مراجع للشيعة في مرحلة لاحقة، مثل السيد أبو القاسم الخوئي وغيره. اشتهر النائيني باجتهاداتٍ مهمَّة في أصول الفقه، كما تميَّز بتجديده للفقه السياسي، لكنَّ منجَزه الأخير حجب إبداعاته في أصول الفقه، واختُزل النائيني لدى الباحثين والدارسين خارج الحوزة بفقهِهِ السياسي، بل برسالته «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». وهذه الرسالة — كما سبق وقلنا — إحدى أهمِّ رسالتَيْنِ صدرتا خلال المشروطة، وعبَّرتا بوضوحٍ لا لَبْسَ فيه عن الموقف الرَّافض والموقف المؤيِّد لتدوين الدستور الحديث وبناء وإدارة الدولة على أساسه. ألَّف النائيني رسالتَه استجابةً إلى نقاشات وجدالات وتساؤلات ومعارك فكريَّة، وفتاوى فقهية متعارضة، بين أنصار المشروطة ودعاتها، وبين مناهضيها، ممن يعبَّر عنهم: أنصار «المستبدة»، فيما يسمُّون هم أنفسهم «المشروعة».
تشبَّعت المناخاتُ السياسيَّةُ والثقافيَّةُ والفقهية والإعلامية في هذه الحقبة بالحديث والكتابة عن: الاستبداد، والحرية، والقانون، والدستور، والبرلمان، والمَلكية المستبدَّة، والمَلكية المشروطة، وما يتصل بذلك. وكتب فقهاء ورجال دين مؤلَّفات ورسائل عدَّة، لتبرير المواقف المتنوعة حيال تلك المسائل، وكانت رسالة «تنبيه الأمة» للنائيني، و«اللآلئ المربوطة في وجوب المشروطة» للشيخ محمد إسماعيل المحلاتي، أهمَّ نصَّيْن للتَّدليل على المشروعيَّة الفقهية للدستور، وتشكيل البرلمان. أما رسالة «تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل»، فإنها تتبنَّى موقفًا جذريًّا رافضًا للدستور والبرلمان.
«تنبيه الأمة وتنزيه الملة» هو النصُّ الوحيد من كل تلك الكتابات الذي اخترق الزمان، وتحوَّل فيما بعد إلى نَموذج إرشادي، ومنبع إلهام للكتابات والرُّؤى والآراء اللاحقة في الفقه السياسي الشيعي. ويمكننا ملاحظةُ تأثيره في «دستور» جمهورية إيران الإسلامية، وبعض الآراء في الفقه السياسي للسيد محمود الطالَقاني، والشيخ مرتضى المطهري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ حسين علي المنتظري، وأخيرًا السيد علي السِّيستاني.
كتبَت عن «تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة» وتداولَتها مجموعةٌ من الباحثين والدارسين بالفارسية والعربية وغيرهما. وربما يعود ذلك إلى الأسلوب الاستدلالي الذي انتهجه النائيني في بيان آرائه، ومناقشة الآراء التي يختلف معها، وابتعاده عن الأحكام المتسرِّعة والقاسية حيال الآخرين، واستيعابه للثقافة الدستورية لعصره، واطِّلاعِهِ على ما يتَّصل بأثر الاستبداد والحكوماتِ الشموليَّة فِي انحطاطِ البُلدان، ورؤيته الحديثة للدولة، وقيام نُظُمِها وإداراتها على ما راكمتْه الخبرةُ البشريَّةُ، وتفكيره خارج المدوَّنة الفقهية في قضايا الدستور، ووعيه لضرورة وجود برلمان، وانتخابات يجرى فيها اختيارُ الأعضاءِ، وبيان مهمات البرلمان في صوغ القوانين، وحماية الحرِّيات والحقوق، والمساواة، والعدل.
نظرًا للمكانة الفقهيَّة والأصولية المرموقة لمؤلِّفه، تعرَّض «تنبيه الأمة» لقراءات وتأويلات شتَّى منذ صدوره، ولعلَّ أشد تلك التأويلات تحريفًا هو ترجمة صالح الجعفري للمرة الأولى لهذا النص، ونشره على حلقات في مَجلة العرفان اللبنانية عام ١٩٣٥م، التي أعادت نشرها مَجلة الموسم، في عددها الخامس سنة ١٩٩٠م. إذ التبست مصطلحات ومفاهيم وآراء النائيني في هذه الترجمة، بنحوٍ أصبح معه النصُّ مشحونًا برؤيةٍ ديمقراطيَّة، فقد تكرَّر هذا المصطلح لدى الجعفري في موارد متعددة من النصِّ المُعرَّب، في الوقت الذي لم يستخدمه النائيني أبدًا في «تنبيه الأمة»، بل إن مفهوم الديمقراطية بفلسفتها المعروفة في الفكر السياسي الحديث، ونمط الحريَّات السياسية والاقتصادية والعقائدية والشخصية، والفردية ومركزية الشخص البشري في العالم، لم يكن مُفكَّرًا فيه وقتئذٍ في حوزة النجف.
لم يهتم النائيني بتلفيق الإسلام مع الديمقراطية، أو إنجاز مصالحة بينهما، مثلما يفعل إسلاميُّو السلطة، ممن لا يتنبَّهون إلى أن مرجعيات الديمقراطية تنتمي إلى شبكةٍ مفاهيمية لا تتطابق مع شبكة المفاهيم المشتقَّة من الموروث. وهذا ما يُفسِّر الوصولَ إلى طريق مسدود في نموذج السلطة الذي ينشده الإخوانُ المسلمون وغيرُهم في مجتمعاتنا. وتوظيفهم للديمقراطية في الانتخابات فقط، وكأنها بمثابة سُلَّم يُستخدم لمرة واحدة.
ما زالتْ ترجمة الجعفري مرجعًا للكتابات العربية عن النائيني وفكره السياسي، وإسقاط مفاهيم ومقولات ديمقراطية على تفكيره، وكأنه فقيه ليبرالي، من دون وعيٍ للسياقات الاجتماعية والسياسية التي كُتبتْ فيها هذه الرسالة، ومنطق الفقه وأصوله وأفق الانتظار الذي كان النائيني يغوص في مدياته.
لا نود أن ننفي وعود هذا النص وتطلُّعاته وراهنيته لحظة المشروطة، ومغامرته في تبنِّي ودعم شعارات دعاة المشروطة، وقدرته على مقاربتها وتبريرها، وتأمين غطاء فقهي لها، يمنح أنصارَها مشروعية دينية، وينقذهم من فتاوى الارتداد وإهدار الدم والقتل، ويعمل على تعبئة الشعب الإيراني ويثير حماسته من أجل تبنِّي المشروطة والتمسُّك بشعاراتها. وذلك يحثنا على قراءة النصِّ بلغته الأم واكتشاف آفاقه ومداراته وما أنجزه.
للمرة الأولى يُحلِّل فقيه أصولي متمرِّس في مدرسة النجف مفهوم «الاستبداد»، ويتوغَّل في الكشف عن جذورِه والروافد المغذِّية له، وأشكاله وتجلِّياته الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والطبقية. فمنذ الغيبة الصغرى لم يقترب معظمُ الفقهاء الشيعة من الكتابة والتأليف في هذه القضية، وربما أسبغ بعضُهم مشروعيةً على شيء من ممارسات سلاطين وملوك مستبدين في عصرهم، كما نلاحظ في العَصْرَيْنِ الصفويِّ والقاجاريِّ.
مع «تنبيه الأمة» نلتقي للمرة الأولى بفقيهٍ لا يتردَّدُ في التفكير بموضوع «الدستور»، بالرغم من أنَّ هذا الموضوع لم يعالجْه أو يتحدثْ عنه أيُّ فقيه من قبله. ومع أنَّ «الدستور» مقولة وافدة من الفكر السياسي الغربي الحديث، غير أنَّ ذلك لم يمنع النائيني من استدعائه من مجاله الفكري وتوطينه في فضاء التفكير الحوزويِّ، والإصرار على أهمِّيته وضرورته بل وجوبه بالمعنى الفقهي، واعتباره ركنًا أساسيًّا يتوقَّف عليه بناءُ أيَّة دولة حديثة، وحماية المجتمع من تغوُّل السلطة وجورها وتعسفها.
تتضمَّن رسالةُ النائيني ثلاث قضايا محورية، هي: «الاستبداد، الدستور، السلطة». تجاوز النائيني الفتاوى ومعالجاتها للوقائع الجزئية التفصيلية، فكتب رؤيةً نظريَّة، تفكِّك مضامينَ وأنماط وبواعث وآثار الاستبداد، وما يفضي إليه من خنق التفكير والتعبير، والشلل في الاجتماع البشري. ورأى أن الدستور هو الضمانة الأساسيَّة للتغلُّب على الاستبداد، وأن بناء الدولة يتوقف على الدستور.
اهتمَّ النائيني بتشريح مفهوم الاستبداد، حتى إنه تكرَّر في كتابه ٦٥ مرة، ولعلها المرة الأولى التي نجد فيها فقيهًا مسلمًا يحذِّر من آثارِ «الاستبداد الدينيِّ»، ويعتبره أسوأَ ألوانِ الاستبداد. فقد ورد الحديثُ عن هذا النوع من الاستبداد في ١٣ موضعًا في كتابه. وتبعًا للكواكبي في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، ينسج «تنبيه الأمة» مفهومَه للاستبداد فيصنِّفه إلى نوعين، إذ يكتب: «تظهر هنا صحَّة استنتاج بعض أساطين الفنِّ، حين قسَّموا الاستبداد إلى صنفين: سياسي وديني، واعتبروا كلًّا منهما متوقفًا على الآخر، وداعمًا له. ويتَّضح أيضًا أن اجتثاثَ هذه الشجرة الخبيثة والخلاصَ من هذه العبودية الدنيئة، التي لا تتحقَّق إلا من خلال وعي الشعب، تكون أبسط في القسم الأول، وغايةً في الصعوبة في القسم الثاني، وتتعرقل عمليةُ الخلاص لارتباطهما الوثيق ببعضهما.» ويفضح النائيني التلبيسَ والخداع اللذَين يخلط بينهما بعض رجال الدين الحق بالباطل، ويصف «حملة راية الاستبداد الديني، بجميع الصفات التي وردت حول علماء السوء، الذين يسطون على الدين المبين، ويُضلُّون الضعفاء من المسلمين.»
وذهب النائيني إلى أنَّ «حملةَ راية الاستبداد الديني، بلغ دعمُهم للظَّالمين القمَّة، وعدُّوا سلبَهم حقَّ فِعل ما يشاءون، وحُكمِهم بما يريدون، وملكِهم للرِّقاب، وعدمِ مسئوليتهم عما يفعلون، منافيًا للإسلام والقرآن، فقد ابتدعوا مذهبًا جديدًا يلبِّي مطالبَهم الاستبداديَّة في معاضدة الجائرين، وسمَّوه الإسلام، وجعلوا أساسَه مشاركةَ الطواغيت في الصِّفات المذكورة لذاتِ الأحدِ تقدَّست أسماؤه!»
ويرى النائيني أن «علاج الاستبداد الديني أصعب وأكثر تعقيدًا من سائر العناصر، بل قد يكون ممتنعًا … فلا وجود لمانع أو رادع عن ممارسة الاستبداد، واستعباد الناس باسم الدين.» ويعتقد بأنَّ علاجه أصعب من الجهل، بل «يكاد أن يكون مستحيلًا، لرسوخه في قلوب الناس، وتصوُّره من لوازم التديُّن.» وقد خصَّص الفصل الرابع لمناقشة مواقفهم، وبيان ما تئول إليه من «حفظ شجرة الاستبداد الخبيثة واسترقاق عباد الله واستعبادهم.» وفي تحليله لجذور الاستبداد يذهب إلى أنَّ الاستبداد الديني، هو الرافد الأهم بعد الجهل الذي يستقي منه الاستبداد ويترسخ.
ويخلُص النائيني إلى أنَّ الدستور هو وحده الكفيل بتحرير المجتمعات الإسلامية من الاستبداد. فقد ذكر الدستور في تنبيه الأمة في ٢٨ موضعًا، وساق مختلِف الحجج والأدلة على أنَّه خشبة الخلاص من الاستبداد، ومن دونه لا يمكن بناءُ الدولة وتطوُّر المجتمعات.
في تناوله للدولة لا يتحدث النائيني عن دولة دينية، بالمعنى الذي تتداوله أدبياتُ الجماعات الدينية، أي إنَّ مفهوم الدولة لديه لا يعني قيام نظام الحكم والإدارة في ضوء المدوَّنة الفقهية، فلم يتحدث عن نظام حكم، أو نظام اقتصاد، أو نظامين مالي ومصرِفي، أو نظام إداري مشتق من الفقه كما نلاحظ في كتابات أبي الأعلى المودودي، وتقي الدين النبهاني، وسيد قطب، ومحمد باقر الصدر … وغيرهم. كذلك لا نعثر على أية إشارة في نصِّه تدعو إلى أسلمة المجتمع، أو العلوم والمعارف الحديثة، كما لا يفضي منهجُه ومنطقُ تفكيره في «تنبيه الأمة» إلى ما يوحي بذلك أو يدل عليه، مثلما يتحمَّس الإسلاميون في العقود الأخيرة في التشديد على صوغ علوم إنسانية إسلامية، تمسي بديلًا عن مكاسب وخبرات العقل الحديث ومكاسب المعرفة البشرية في هذا الحقل، بذريعة تحصين مجمعاتنا من الاختراق الثقافي، والحفاظ على هُويتها نقية، في عصر يتعذَّر فيه بقاء الهُويَّة على حالتها.
لكن، هل كان نموذج النائيني في التفكير بالدولة هو الدولة الحديثة، بكل ما تنطوي عليه من بنية مركَّبة عميقة؟ وهل كان يطمح بدولة ديمقراطية، بالمعنى الذي تمثِّله الدولةُ الحديثة؟ وهل كان نموذجُ مثلِ هذه الدولة مفكَّرًا فيه في النجف وقتئذٍ؟
لا يُحِيلُ «تنبيه الأمة» إلى مثل هذه الدولة، بمعنى أن محاولةَ النَّائيني لا تنزِع إلى مدًى أبعد من مُنَاهَضَةِ الاستبداد، وصوغ دستور يتضمَّن تفويضًا محدودًا للمجتمع بحقِّ التشريع، وتحديد السُّلطة المطلقة للمَلكيَّة. ولا نعثر على تصوُّر واضح المعالم للدَّولة الحديثة في مؤلفه، بل لا يتحدث النصُّ عن الدَّولةِ ومؤسَّسَاتِها، وعندما يشير أحيانًا إلى ذلك، فإنَّه يُقَارِبُ الموضوع من منظورٍ يستمدُّ مفهوماته من التراث.
أما المشروعية الشعبيَّة في التَّفكير السياسيِّ للنائيني فهي منقوصة أو مقيَّدة، بمعنى أنَّ البرلمان إنما تَستمدُّ القوانينُ مشروعيتَها من وجود فقهاءَ ضمن أعضائه المصوِّتين على تلك التشريعات، مضافًا إلى ضرورةِ إمضاءِ جماعةٍ رقابيَّة مشرفةٍ مؤلَّفة من عدَّة فقهاء للقوانين، ومن حقِّ هذه الجماعة الطَّعنُ في القوانين ورفضُها.
وكما أنَّ الدستور يُقيِّد الحكومةَ ويجعلها مشروطةً وليستْ مطلقةً، كذلك تكون الحكومةُ عند النَّائيني مشروطةً بإذن الفقهاء وإشرافهم ورقابتهم، أي إنَّ فلسفةَ السلطة لديه تنبثق من الولاية والتنصيب الإلهيِّ. وبتعبيره فإنَّ «حقيقة الحُكم هي الولاية على أمر نظام البلاد وحفظه، وهي بمثابة رعاية الرعية. ويتوقف ذلك على التنصيب الإلهي عز اسمه، فهو المالك الحقيقي، والولي بالذات، ومعطي الولايات.» ومفهوم الولاية لدى النائيني ليس مطلقًا، وإنما يخصُّ الأمورَ الحِسبيَّة، ويستدل على ذلك بأنَّ «من الأمور القطعيَّة في مذهبنا الإماميِّ وجود مصالح عامة في عصر الغيبة (على مَغِيبه السلامُ)، لا يأذن الشارع المقدَّس بتعطيلها، وهي التي تُسَمَّى الأمور الحِسبية. وولاية فقهاء عصر الغيبة ثابتة ومتيقَّنة في الأمور الحسبية، حتى وإن لم تثبت نيابتُهم العامة في جميع المناصب، وبما أن الشارع المقدس لا يرضى باختلال النِّظام وذَهاب بيضةِ الإسلام، وكون رجحان أهميَّة التكاليف العائدة لحفظ البلاد الإسلاميَّة ونظمها على جميع الأمور الحسبية من أوضح القطعيَّات، لذلك فإنَّ ثبوت نيابة الفقهاء والنواب العامِّين في عصر الغيبة في إقامة الوظائف المذكورة من ضروريَّات المذهب.» غير أن الأمور الحسبية بحسب تفسيرِه لا تقتصر على ما هو متعارف عند الفقهاء، من الولاية على اليتامى والسفهاء والمجانين، بل تتَّسع لتستوعب المجالَ العامَّ، بنحوٍ «تكون الانتخاباتُ، وتدخُّل المنتخَبين في الأمور العامة، قدر الإمكان، بإذن المجتهد المبسوط اليد، أو حضور عددٍ من المُجتهدين العظام في الهيئة المنتخبة بشكلٍ رسمي، لترشيد الآراء الصادرة عنهم وتنفيذها.»
مضافًا إلى أنَّه يمنح هيئةَ الفقهاءِ المُشرفين على البرلمان حقَّ الفيتو في نقض القوانين، وإن كان تشريعُها قد تمَّ بأكثريَّة الأصوات فيه، يكتب النائيني: «طرحنا شرط كون المجتهدين العظام في الهيئة المشرفة من الطراز الأول، تحكيمًا لأساس الاستبداد، وزرع بذور الفتنة والفساد، عالِمِين بأنَّ تعيين مصداقٍ لعنوانٍ كهذا يكون محلَّ نزاع وشجار ومخاصمة واختلاف. ولم نكتفِ بذلك، بل طرحنا وجوب عدم عضويَّة الفقهاء المشرفين في المجلس، ولزومَ كونِهم من خارجه، إبطالًا لمشروعية مجلس الشورى الوطني، وللتشكيك في مصداقيته، متغافلين الفصل الذي يتناول بيان دور الهيئة المشرفة ومهماتها في الدستور، حيث يصرِّح بأنَّ رأي هيئة المجتهدين، مقدَّمٌ على رأي الأكثرية، في تأييد صلاحية المواد القانونية المطروحة في المجلس، من حيث موافقتها للشريعة أو رفضها لكونها مخالفة للشريعة. ويكون رأيُهم نافذًا ومطاعًا من قِبل الآخرين.»
هذه نصوص النائيني تتحدث بوضوح عن نَموذجٍ لدستور وسلطة مشروطة بإشراف الفقهاء، فأيُّ قانون لا يكتسب مشروعيتَه من تصويت ممثِّلي الشعب عليه فقط، وإن كان التصويتُ بالأكثريَّة، بل يستمده من قبول هيئة الفقهاء وإمضائهم. ولا أظنُّ من يعرف شيئًا من مبادئ الديمقراطية يحسب أن ذلك يتطابق مع التفسير الديمقراطيِّ للدستور والسُّلطة.
المشروعيَّة السياسية في سياق هذه الرؤية مزدوِجة، فهي من جهة تستند إلى الشعب، في إطار برلمان منتخب، يعبِّر أعضاؤه عن إرادة المواطنين، ومن جهة أخرى لا تمضي تلك الإرادة من دون مشاركة فقهاءٍ في التعبير عنها، أو إشراف هيئة فقهاء للنَّظَر في مدى مطابقتها أو عدم مخالفتها للشريعة. ويمكن توصيفُ هذا النمط من السلطة بأنها ذات مشروعية «إلهيَّة شعبيَّة»، فهي ليست إلهيةً فقط، كما في ولاية الفقيه المطلقة، وليست شعبيَّة فقط، كما في النُّظم الديمقراطية.
وجدت هذه الرؤيةُ صوغًا جديدًا لها بعد سبعين عامًا، في أطروحةِ السيد محمد باقر الصدر «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» الصادرة في بيروت، كحلقة في سلسلة «الإسلام يقود الحياة»، سنة ١٩٧٩م. ويسمي الصدر الدولة المؤسَّسَة على هذه الأطروحة «جمهوريةً إسلاميَّة»، ذلك أنها تُبتنى على الانتخاب والإرادة الشعبية، فهي «جمهورية» من هذه الجهة، كما أنها تلتزم بتطبيق الشريعة في مختلِف مجالات الحياة، فهي «إسلاميَّة» من جهة أخرى.
مع أن هناك مصدرين للمشروعيَّة، أحدهما إلهيٌّ والآخر بشريٌّ، في كلتا الرؤيتين للنائيني والصدر، لكن النائيني لم يفكر في تطبيق الشريعة في كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، وبناء نظم «اقتصادية ومالية ومصرِفية وإدارية … إلخ»، مستنبطة من الفقه، مثلما كان يفكِّر الصدر، الذي كان يعتقد بنموذج للدولة مشتق من المدوَّنة الفقهية. من هنا اهتمَّ ببناء بعض أنظمتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والمصرِفيَّة، في «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»، و«اقتصادنا»، و«البنك اللاربوي في الإسلام».
ثم غادرتْ مدرسةُ النَّجف مرة أخرى التفكيرَ بهذا النمط للدولة، وبدأ ذلك بالشيخ محمد جواد مُغْنية، في كتابه «الخميني والدولة الإسلامية»، الصادر في بيروت سنة ١٩٧٩م، مرورًا بالمرحلة الثانية من الفقه السياسي للشيخ محمد مهدي شمس الدين، في مقولته «ولاية الأمة على نفسها»، التي تحدَّث عنها في كتاباته المتأخِّرة، وأخيرًا المرجع السيد علي السيستاني، في بياناته واستفتاءاته كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
يوظِّف النائيني النقلَ والعقلَ في بيان آرائِه والدِّفَاع عنها في استدلالاتِه، ويستفيد من بنيةِ عقلِه الأصوليَّة الفقهيَّة في «تنبيه الأمة»، لذلك يبدو النصُّ للقارئ غير المحترف، في بعض مواضعه، مُلْغِزًا ومبهَمًا. فمثلًا: عندما يصوغ النائيني تفسيرًا للمساواة، يستقيه من نصوص الكتاب والسنَّة، ويرى أن «لا دخل ولا صلة له بالتكاليف التعبديَّة والتوصلية، وأحكام المعاملات والمناكحات، وسائر أبواب العقود والإيقاعات، والمواريث، والقِصاص، والدِّيَات، ونحو ذلك مما يكون المرجعُ فيه الرسائلَ العمليَّة وفتاوى المجتهدين، والتي يكون التمسُّك والعملُ بها مرهونًا بتديُّن المسلمين، وخارجًا عن وظائف الحاكمين ونواب الشعب.»
يتحدث غيرُ الخبراء عن النائيني بوصفه داعيةً لدولةٍ ديمقراطيَّة حديثة، من دون أن يقرءوا بدقَّة ما ورد في ثنايا «تنبيه الأمة»، كما في كلامه السابق مثلًا، الذي يشير إلى تبنِّي الحدود والعقوبات المنصوص عليها في الرسائل العملية وفتاوى المجتهدين في نموذج الدولة الذي يدعو إليه، كما أنَّ مفهوم النائيني للمساواة يختلف عن مبدأ المساواة المنبثق عن فلسفة الحقوق الطبيعيَّة في الفكر السياسيِّ والحقوقيَّة الحديثة، الذي يُبتنى على مساواة البشر منذ ولادتهم بشكل طبيعي، لا ميزة حقوقيَّة إضافيَّة ولا تفوُّق لبعضهم على البعض الآخر. كذلك يُقدِّم النائيني فهمًا للحريَّة يحيل إلى الكتاب والسنَّة والفقه، الذي تكون فيه الحريةُ مقابل العبودية والاسترقاق. وهذا لا يتطابق مع مفهومِها الحديث، الذي تجد الحرية فيه تحقُّقَهَا في المجالَيْنِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ، ويُمنح بموجِبها كلُّ شخص الحرِّية في التفكير والاعتقاد والسلوك والتعبير.
يتمسَّك النائيني بأدواته ومنهجه الأصوليِّ، في مناقشاته للفقهاء الذين يرفضون تخويلَ مجلس الشورى بتشريع القوانين وإقرارها، ويعتبرون ذلك بدعة، وتفويضًا للبشر بحقٍّ مختصٍّ بالله. فيكشف عن تأويلٍ لمفهوم البدعة يخرج من إطارِه تخويل مجلس الشورى بتشريع القوانين وإقرارها. ذلك أنَّ البدعة إنَّما تكون في حالة «أن يُطرح غيرُ المجعول الشرعي، سواء أكان حكمًا جزئيًّا شخصيًّا، أو عنوانًا عامًّا، أو كرَّاسًا للدستور العام، أو أيَّ شيء آخر، ويُذاع ويُفرض ويُلتزم به بعنوان أنه مجعول شرعيٌّ وحُكم إلهيٌّ عزَّ اسمُه. وإلا فمع عدم الاقتران بالعنوان المذكور، لا يكون أيُّ نوع من الإلزام والالتزام بدعةً وليس تشريعًا.» هنا يخرج من عنوان البدعة كلُّ أمر أو عُرف أو قانون لا يعتبر الناس أن المشرِّع فيه يجعل ويُشَرِّع حكمًا إلهيًّا. والبرلمان لا يعتبر تشريعاتِه مجعولاتٍ أو أحكامًا إلهيَّة.
كذلك يوظِّف النائيني القاعدةَ الأصوليَّة «وجوب مقدِّمة الواجب» في تبريره لتدوين الدستور، باعتبار التخلُّص من استبداد وظلم وجَور السلطة المطلقة واجبًا، وهو يتوقف على وجود الدستور الذي يحدِّد السلطة وينظِّمُها، ويمنح المُواطنين الحقَّ في مراقبتها ومحاسبتها، وما يتوقف عليه الواجبُ فهو واجب. فيكون تدوينُ الدُّستور واجبًا، لأنَّه مقدِّمةٌ لواجبٍ، ومقدِّمةُ الواجبِ واجبةٌ.
لا يمكن أن يتبنَّى النائيني هذه المواقف والأفكار والفتاوى، من دون رؤيةٍ توحيديَّة تحدِّد مكانَةَ الإنسان في العالَم ونمط صلته بالله، لا تكرر بالضرورة رؤيةَ غيرِه من الفقهاء الذين رفضوا الدستور واعتبروه بدعةً. وبعبارة أخرى، إنَّ النائيني اهتمَّ باكتشاف المضمون الاجتماعيِّ للتَّوحيد والعدل الإلهيِّ، فالسُّلطة المُطلقة في رأيه نمطٌ من أنماط الشِّرك بالله، لأنَّ الملوك والسلاطينَ يخلعون على أنفسهم مقامات وصفات الله. والعدل الإلهيُّ ينبغي أن يجد مدلولاتِه في الحياة الاجتماعيَّة، من خلال مناهضةِ الظُّلم والجور والتعسُّف والاستبداد، والدفاع عن العدالة والمساواة والحرية.
بغية بناءِ تفسير موضوعيٍّ للفكر السياسيِّ للنائيني، ينبغي اكتشافُ طبيعة السياقات الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تبلورت فيها رؤية النائيني وتجلَّت فيها جهودُه في تفكيك الاستبداد، وشرعنة الدستور، والبرلمان، والدفاع عن إرادة الشعب.
لكنَّ تلميذَه النائيني يذهب إلى أنَّ الحكومات ثلاث، وهي: حكومةُ المعصوم، وولايةُ الفقهاءِ العدول في حالة بسطِ اليد، والحكومة العادلة المشروطة مع إذن الفقهاء العدول. كما تقدَّمت الإشارة إلى رأيه في ذلك.
نتمنى على باحثي ودارسي الفقه السياسي للنائيني، التعرُّف على تأثير تفكير أستاذه الآخوند الخراساني في «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، والمقارنة بين آرائهما، وكيف استوعب التلميذُ آراءَ الأستاذ في نصِّه، والدعم الذي تلقَّاه منه في تدوينه ونشره هذه الرسالة. فقد تصدَّر الصفحةَ الأولى منها التقريظُ التالي للخراساني: «إن رسالة تنبيه الأمة وتنزيه الملة، وهي من بيانات صاحب السماحة، صفوةِ الفقهاء والمجتهدين، ثقةِ الإسلام والمسلمين، العالمِ العامل الميرزا محمد حسين النائيني الغروي دام رِفْده، أجلُّ من كلِّ مدح، وسيتضح (إن شاء الله) من خلال مدارستها واستيعابها أن أصول حركة المشروطة قد استُنْبِطَتْ من الشريعة الحقَّة، وسيتسنَّى لنا إدراك حقيقة العبارة المباركة القائلة: «بموالاتكم علَّمنا الله معالم ديننا، وأصلح ما كان قد فسد من دنيانا، إدراكًا لعين اليقين.».»
ربما كانت وفاةُ أستاذه وفقدانه لمؤازرته، سببًا في انصرافه عن السياسة ومشاغلها في منتصف العَقد الثالث من القرن العشرين، وملاحقته لما تبقى من نُسخ «تنبيه الأمة» في المكتبات، وشرائها وإخفائها أو إتلافها كما يُقال.
ناقش الفقهاءُ في هذه المرحلة مشروعيَّةَ الدستور نفيًا وإثباتًا، من دون أن يؤطِّرُوا الدولةَ تأطيرًا فقهيًّا. إنَّه تفكيرٌ بالدَّولة خارج الفقه، وليس تفكيرًا بالدولة داخل الفقه، بمعنى أنَّ الاطلاع على الآراءِ والمحاججات والمفاهيم المبثوثة في تلك الكتابات تُحيل إلى أنَّ الدولة مفهوم بشري عقلاني عُرفي، أو قُل وضعيٌّ وليس إلهيًّا، شريطة ألَّا يتنافى مع الشريعة فيما هو منصوص عليه، بمعنى أنَّ المرتكز في الذهنيَّة الفقهيَّة هو التمييز بين القضايا الدِّينية الشرعية، والقضايا السياسية، التي هي من الأمور العرفية العقلانية، خارج مجال الفقه وحدوده.
لم يقتصر «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» في استدلاله على المقاربة الفقهيَّة الخاصَّة، بل توكَّأ أيضًا على استدلالاتٍ عقلانيَّة وعرفية واجتماعية وسياسية، ولعل ذلك هو سبب إعراض الفقهاء عن التَّعاطي مع رسالته هذه كنصٍّ فقهي، بمن فيهم تلامذته.
٦
في النصف الثاني من القرن العشرين، مع الشيخ محمد الخالصي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد باقر الصدر وغيرهم، ينتقل التفكير بالدَّولة إلى المدوَّنة الفقهيَّة، ولا يقتصر التبريرُ الفقهيُّ على مشروعية تدوين الدستور، وإنَّما يتمدَّد ويتَّسع، بنحوٍ لا تكتسب معه الدولةُ مشروعيتها إلا إذا أصبحتْ «دولة إسلامية»، أي مستقاة من المدونة الفقهيَّة شكلًا ومضمونًا، بمعنى أنَّ نظام الحكم والإدارة فيها ينبغي أن يكون منبثقًا من الميراثِ الفقهيِّ، وهكذا يكون نمط النظام الاقتصادي، وتداوُل الثروة، والنظام المصرِفي، والنقدي، والتربوي، وكافَّة ما يتَّصل ببناء الدولة وترسيخها، من نظم وتشريعات وقوانين، ومؤسسات ومجالات متنوعة، ينبغي أن تستلهم الأحكام الشرعية التي تغتني بها المصنَّفات الفقهيَّةُ، ويُستنبط ما يستجدُّ منها في إطار الأصول والأدلَّة المقرَّرة في الاستدلال الفقهيِّ. لذلك ظهرتْ طائفةٌ من الكتابات تعالج هذه القضايا، وتتحدَّث عناوينُها عن: «نظام الحكم والإدارة في الإسلام، واقتصادنا، ونظام العمل وحقوق العامل في الإسلام، والنظام المالي وتداول الثروة في الإسلام، والبنك اللاربوي في الإسلام … إلخ».
ومما مهَّد الأرضية لهذا التفكير، طغيان المقولات والشعارات اليساريَّة وغيرها الداعية للإقلاع عن الماضي، وتجاوُز الموروث، وإعادة النظر في الهُوية، والحرص على تخطِّي الثقافة الدينية، والانفتاح على العصر، واستعارة الحداثة ومعطياتها كما هي، من دون الاهتمام بالحساسيات الاعتقاديَّة والقيمية والعاطفية والنفسية الراسخة في المجتمع.
في مقاومة ذلك تفجَّر مخزونٌ عميقٌ لرموز الهويَّة ومكوناتها، وسعى بعضُ فقهاء مدرسة النجف للاحتماء بالموروث واستدعاء الذَّاكرة، والحرص على اكتشاف صيغةٍ بديلة لتنظيم الدولة وتسيير الحياة وإدارة المجتمع، تستلهم الثروةَ الفقهيَّةَ الواسعة، وتسعى لإعادةِ بناء مكوِّناتها، وإغنائها برؤًى تسعى لمواكبة العصر والاستجابة لرِهاناته.
هنا يستخدم الخالصي مصطلح «الأحكام الوضعية» مقابل الأحكام الشرعية التي يشتمل عليها الفقه، فكلُّ تشريع أو قانون أو حُكمٍ غير فقهي، كما يرى، عاجزٌ عن إدارة المجتمع وتنظيم الحياة، وهو منحًى في التفكير بالدولة يرفض أيَّة مقاربة لمفهوم الدولة ونظمها ومؤسساتها خارج المدونة الفقهية. وفي أدبيات الإسلاميين يُحيل مصطلح «التشريع الوضعي» إلى التشريعات والقوانين والنظم التي وضعها الإنسان، بتوظيف عقله وجميع ما راكمتْه الخبرة البشرية، بينما يحيل مصطلحُ «التشريع الإلهي» إلى ما هو مستقًى من الفقه فقط.
في سنة ١٩٥٤م كتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، وصدر ببيروت في العام ١٩٥٥م. يتمحور الكتاب حول التدليل على أن الإسلام دين ودولة، وأن الحكومة جزء من التشريع الإسلامي، وهي إنما تتحقق بالنصِّ وليس بانتخاب أو اختيار البشر، فيقول: «نحن في الإسلام نملك نظامًا للحكم والإدارة هو نظام مُحْكَم في ظل سُلْطَةٍ دينيَّة وزمنية معًا». وفي هذا الكتاب يصرح بنفي المشروعية عن الديمقراطية، في سياق رفضِه لما سمَّاه بعضُ الكتاب «الديمقراطية الإسلامية»، فيكتب: «فلا مشروعيةَ للأسلوب الديمقراطي في اختيار الحاكم وشرعيته»، كذلك يرفض التعددية السياسية، ويهجو مهمَّة الأحزاب السياسية، ويرى أنها تمزِّق المجتمع وتقوده إلى التشتُّت والفرقة، ويذهب إلى أن ذلك مرفوض دينيًّا وإسلاميًّا، فالأحزاب «توغر الصدور، وتَحُولُ دون أن تكون الأمة على معنًى واحد، فالمطلوب الاعتصام بحبل الله، لا التفرُّق.»
استمرَّ موقفُ شمس الدين هذا في المناداة بحكومةٍ إسلاميَّة، وتطبيق الشريعة، ومناهضة التعددية السياسية، لثلاثة عقود، كما سنشير لاحقًا. وحاولنا استكشاف مدى توظيفه للمصطلح الفقهيِّ السياسيِّ في مؤلَّفه الأول «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، من خلال استقراء الكتاب في طبعته الثانية، الصادرة عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، في بيروت، سنة ١٤١١ﻫ/١٩٩١م. فعثرنا في هذه الطبعة على مقدمتَين للكتاب، الثانية منهما كُتِبَتْ عام ١٩٩٠م، تبدأ من الصفحة (١١) وتنتهي في الصفحة (١٥). كما أن الكتاب أُضيف إليه بحثان: الأول جديد، والثاني كُتِبَ في العام ١٩٥٤م، ولكن لم يُنشر مع الكتاب في طبعته الأولى. أمَّا البحث الأول (كُتب في العام ١٩٩٠م)، فيقع ما بين الصفحتين (٣١٩–٤٢٠). وإنما أشير إلى هذه الملاحظة من أجل الدِّقة في تأريخ ظهور هذه الاصطلاحات. ثم إن ما يرد بعد أرقام الصفحات بين قوسين إنما يشير إلى عدد المرات التي تكرر فيها هذا الاصطلاحُ داخل تلك الصفحة.
دولة إسلامية: ص: ٤٦ - ١٣٥ (٣) - ٢٢٩ (٢) - ٢٣١ - ٢٣٥ (٢) - ٢٣٦ - ٢٤٠ - ٢٤١ - ٢٤٤ - ٢٥٢ (٢) - ٢٦٣ - ٢٨١ - ٣٩٠ - ٣٩١ (٣) - ٣٩٢ (٣) - ٣٩٣ (٢) - ٣٩٥ - ٣٩٦ (٣) - ٣٩٧ - ٤٠٧ (٢) - ٤٠٨ (٢) - ٤١١ (٤) - ٤١٢ (٣) - ٤١٣ (٣) - ٤١٤ (٢) - ٤١٥ (٢) - ٤١٦ - ٤١٧ - ٤١٨ - ٤١٩ - ٤٢٥ (٢) - ٤٥٠ - ٤٥١ (٢) - ٤٥٥ - ٤٦٧ (٢) - ٤٦٩ - ٤٧٠ - ٤٧١ - ٤٧٥ - ٤٧٧ - ٤٧٨ - ٤٧٩ - ٤٨٠ - ٤٨٦ - ٤٨٨ - ٤٩٠ (٢) - ٤٩٢ (٣) - ٤٩٣ (٣) - ٤٩٤ - ٤٩٥ - ٤٩٩ - ٥٠٢ (٣) - ٥٠٣ (٣) - ٥٠٤ (٢) - ٥١١ - ٥٢٨ - ٥٣٦ - ٥٣٩ (٦) - ٥٤٢ - ٥٤٤ (٢) - ٥٤٥ (٣) - ٥٥٥ (٢) - ٥٦٧ - ٥٧٧ - ٥٨٤.
حكومة إسلامية: ص: ٣٥ (٢) - ٣٧ - ٤٠ (٣) - ٤١ - ٤٢ (٢) - ١٣٨ - ٢١٧ - ٢٢٧ - ٢٤٩ - ٢٥٢ - ٢٦١ - ٢٦٣ (٣) - ٢٦٤ (٢) - ٢٨٠ - ٢٨٥ - ٣٠٥ - ٣٠٧ - ٣٩١ - ٣٩٣ - ٤٠٧ - ٤١١ - ٤١٧ - ٤١٨ - ٤٤٧ (٢) - ٤٥١ - ٤٥٥ - ٤٦٠ - ٤٦٨ - ٤٧٧ - ٤٨٠ - ٤٩٢ - ٤٩٩ (٢) - ٥٠١ (٣) - ٥٠٥ - ٥١١ - ٥٤٧.
حكم إسلامي: ص: ٤١ - ٤٧ - ٥٠ (٢) - ٥١ - ٧٦ - ٣٩٠ - ٣٩١ - ٤٠٢ - ٤٠٧ - ٤٠٨.
حكومة إلهية: ص: ٢٦٣ (٢) - ٢٨١.
دولة إلهية: ص: ٢٠٤ - ٢٨٠.
حكومة نبوية: ص: ٣٥ - ٣٠٥.
سلطة دينية: ص: ٤٠ (٢) - ٤٥٥.
دولة سلطانية: ص٤٠٢.
حكومة دينية: ص٤١.
يشير الحضور المكثَّف لِلُغة الفقه السياسي وشيوع استخدام مصطلحاته إلى تشبُّع المجال التداولي في النجف بالمفاهيم السياسية، وتغلغل فكرة الدولة في فضاء التفكير الفقهي وقتئذٍ، لدى شمس الدين وزملائه، في حلقات الدرس الفقهي في حوزة النجف. وبوسع الدارسين استخلاص عدة معطيات تُضيء لنا منطق التفكير السائد في النجف، لو سَعَوا للحفر والتنقيب في نشأة وتطوُّر استخدام المفردات السياسية في المدوَّنة الفقهية النجفيَّة.
واهتمَّ الصدرُ بصوغ رؤية نظرية فقهية حيال الاقتصاد في الجزء الثاني من كتابه الذائع الصيت «اقتصادنا» الصادر سنتي ١٩٥٩-١٩٦٠م في النجف، كما حاول أن يبلور موقفًا فقهيًّا نظريًّا تجاه المعاملات الماليَّة والنظام المصرِفي وإيداع النقود وتداولها، في كتابه «البنك اللاربوي في الإسلام» الصادر مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مضافًا إلى اهتمامه بالنظريَّة السياسيَّة في الإسلام، والأطر الدستورية الفقهيَّة للدولة الإسلامية، في سلسلة تتكوَّن من ستَّة كراسات، صدرت العام ١٩٧٩م مقارِنةً لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، عالج فيها المرتكزات الفقهية لدستور الدولة الإسلامية، وتناول من منظور قرآني فقهيٍّ شكلَ الحكومة الإسلامية، في «لمحة فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». هنا عالج المشروعية السياسية، باستدعاء نظريته الأولى في «الأسس»، التي تستند إلى الشورى، ونظريته اللاحقة، التي أشار إليها في سنتَي ١٩٧٤-١٩٧٥م في تعليقته على كتاب «منهاج الصالحين» قسم العبادات، ذيل المسألة ٢٥، وفي رسالته العلمية «الفتاوى الواضحة»، التي تقول بولاية الفقيه التعيينية. فقد عمل على تركيب وإعادة تكوين نظريتيه المشار إليهما، فجمع بين مبدأ الخلافة الإلهية للإنسان، ومبدأ إشراف الفقهاء الصالحين في نصِّه اللاحق «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء».
إن فكرة كون الدولة «ظاهرة نبوية» لا تؤكِّدها الوثائقُ التاريخية، إذ هي تُجمِع على أن نشوء الدولة سببه تعقيد الحياة الاجتماعية، وصراعات القوة والنفوذ بين البشر، وحاجاتهم إلى أسلوب للتنظيم والإدارة، ولا عَلاقة لذلك بالأنبياء. وبعبارة أخرى: إن البشر لم يتعرفوا على الدولة من خلال الأنبياء، كما هو الحال مثلًا مع مفهوم التوحيد، وإنما ظهر الأنبياءُ في داخل الدولة وضمنها. وسياق الآيات القرآنية واضح بشأن هذه القضية، إذ طالما أعلن الأنبياءُ دعواتهم داخل التجمعات الحضرية، بعد أن عرَفت الدولةَ وعاشت في ظل الأنظمة السياسية.
٧
في العَقدين الأخيرين لمدرسة النجف تُمثِّل كتابات شمس الدين في الفكر السياسي رؤية اجتهادية مواكبة لمتطلبات الاجتماع السياسي الإسلامي الشديدة التعقيد والتنوع، وتخلُص رؤيتُه إلى ابتكار مفهومٍ سياسيٍّ يُحاكي الديمقراطيَّة، وينسج على نموذجها في الحكم، فيستوعب ما يتَّصل بالإرادة الشعبية والانتخابات والتداوُل السلميِّ للسُّلطة، وما ينطوي عليه النظامُ الديمقراطيُّ من حقوق وحريات، ويسمي شمس الدين ذلك: «ولاية الأُمَّة على نفسها.»
تسمية الشيخ شمس الدين لنظريته «ولاية الأمة على نفسها»، لا تخلو من التباس وتداخُل بين سياقَين لا يتكلمان اللغة ذاتها، لأنَّ مفهوم «الولاية» يحيل إلى علم الكلام والعرفان والفقه، بينما يحيل كون «الأمَّة» هي مصدر الشرعيَّة إلى «الديمقراطية». ومفهوم «الولاية» يفهم العالم عبر شبكة مفهوميَّة تنتمي إلى الموروث، ومفهوم «الديمقراطية» يفهم العالم عبر شبكة مفهوميَّة تنتمي إلى الفكر السياسيِّ الحديث. مضافًا إلى أنَّ مفهوم «الأمة» في النصوص الدينية والتراث يحيل إلى الجماعة التي تنتمي إلى ديانة وتتوحد في عقيدة واحدة. وهو يختلف عن مفهوم «الأمة» الذي يعرفه الفكرُ السياسي الحديث.
عادة ما ينتهي الخلطُ بين مفاهيم مشتقَّة من سياقات مختلفة إلى «تهجين المفاهيم». وهذه واحدةٌ من أهمِّ إشكاليات الفكر الإسلامي الحديث، إذ إن الكثير من محاولاتِه التجديديَّة تُعاني من أزمة تجاهُلِ السِّياقات الفكريَّة والسياسيَّة والاقتصادية التي وُلدت فيها المفاهيمُ الغربيَّةُ، التي يتم استعارتُها ودمجُها في المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة، وهو ما يولِّد بدوره مجموعةً من المفاهيم الملتبسة التي يصعب — إن لم يكن يتعذر — أنْ تسهم بنحوٍ مثمر في تطوير الفكر الإسلامي، ويمكن إدراجُ مفهوم «ولاية الأمة على نفسها» ضمن هذه الحالة، فإن مفهوم الأمَّة في سياقِه السياسيِّ الغربيِّ مختلِفٌ كلِّيًّا عن سياقِه الإسلاميِّ، إذ بينما يشير الأولُ إلى فكرة القوميَّة ومبدأ المواطنة والجغرافية السياسية، يقتصر الثاني على معنى الجماعةِ العقائديَّة فقط، وهذا ما يجعله أجنبيًّا عن الأول.
سبق أن وقع الشيخُ شمس الدين بمفارقةٍ من هذا القبيل حين تحدَّث عن مفهوم «الطبقة» في شرحه لعهد الإمام علي لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر النَّخَعي، وما أوقعه في ذلك هو الاشتراك اللفظي بين المصطلح الحديث والكلمة القديمة «طبقات» الواردة في العهد المشار إليه. وهذا له نظائر عدة، كما هو الحال في مصطلح «الجدل» في كتابات بعض الإسلاميين، عندما يجعلونه مرادفًا ﻟ «الديالكتيك»، متجاهلًا أنَّ مفهوم الطبقة في الفكر الماركسي إنما هو وليدُ التطوُّر في وسائل الإنتاج، والصراع الناشب عن ذلك حول «فائض القيمة». وهذا ما لا عَلاقة له إطلاقًا بمفهوم الطبقة، كما في «العهد» المذكور الذي لا يعدو معناه اللغوي فيه «شريحة من الناس تتناسب منزلتُها الاجتماعيةُ بحسب طبيعة شغلها.»
بشكل لافت يستعمل السيد السيستاني مصطلح «حكومة دينية»، ويُرْدِفُه بمصطلحِ «رجال الدين»، وكلا المصطلحين يختفيان من أدبيات الإسلام السياسي، فبدلًا من الأول يُستخدم لديهم تعبير «حكومة إسلامية»، مثلما يتداولون «دولة إسلامية» ولا يذكرون «دولة دينية». وهكذا يستعملون في كتاباتهم ويشيرون في أحاديثهم إلى «علماء دين»، وليس «رجال دين».
منذ ثلاثة عقود بدأ التفكيرُ بالدَّولة في مدرسة النَّجف يغادر المدونة الفقهية بالتدريج، فلم أعثر في العَقد الأخير على أيَّة كتابات جادَّة دوَّنتها المراجعُ والفقهاء في حوزةِ النَّجف ترسم إطارًا مشتقًّا من الفقه للسلطة والحكم والدولة ومؤسساتها، يتواصل مع الرؤية الفقهية لمحمد باقر الصدر، ومحاولاته الأثيرة، التي بدأت ﺑ «اقتصادنا»، واستمرت حتى الفترة الأخيرة من حياته في سلسلة «الإسلام يقودُ الحياة»، من أجل اكتشاف الدولة ونظمها السياسية والاقتصادية والمالية والمصرِفية في سياق فقهي.
هكذا عبَر مفهوم الدولة ونظمها ثلاث محطات في النجف، تحوَّل فيها من خارج المدونة الفقهية إلى داخلها، ثم خرج عنها أخيرًا. ويبدو أنَّ جهود الصدر وسواه من فقهاءِ مدرسة النجف، الذين عملوا على ترسيخ التفكير الفقهي بالدولة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وتواصلها ثلاثة عقود، لم يُكتب لها التغلُّب على نزعة التفكير بالدولة خارج الفقه في حوزة النجف، فعاد التفكيرُ بالدَّولة مفارقًا للفقه، يجول في مداراته الموروثة، ولم تفلح تلك الجهودُ في انتزاعه من بنيته الراسخة العميقة في الوعي والوجدان الشيعيِّ في عصر الغيبة.
على أن هناك فرقًا مهمًّا بين التفكير الموروث بالدولة والتفكير الحديث بها لدى الإسلاميين، فالأول لا يتدخل في الدولة؛ لأنه يحصرها في الإمام المنصوص عليه، ويعتبر الدولة الخارجة عن هذا الإطار دولة ظالمة، وحكَّامَها حكَّامَ جور. في حين أن التفكير الحديث في الدولة يميِّز بين مقاربة الدولة بمفهومها الكلامي، ومقاربتها بمفهومها الفقهي؛ فالأول معترَف به كحقٍّ إلهيٍّ حصريٍّ للإمام، لا تُناقش تفاصيلُه ما دام غائبًا. أمَّا الثاني فإننا نراه في المرحلة الثالثة امتدادًا وتطويرًا للمرحلة الأولى؛ إذ إن رواد هذه المرحلة — كالسيد علي السيستاني — يحيلون تحديد نمط الحكم للأمة، ويعتقدون بأنَّ من حقِّها أن تختار الحاكمَ وطبيعة التشريع الملائم لها، وهي بنفسها تتولَّى مراقبة تطبيق كل ذلك، وصاحبة الكلمة الفصل في جميع شئونه.
لم يكن تحقيبنا لنَمط التفكير بالدولة وحقولها ونُظمها في مدرسة النجف في ثلاث مراحل، يعبِّر عن استقراء شامل للمدوَّنة النجفيَّة الفقهيَّة الواسعة في القرن الأخير، وإنما اقتصر على تقديم أبرز النماذج السائدة في كل مرحلة، وكيفية مقاربته لمفهوم الدولة وما يرتبط بها. كما لا نعني بسيادة نمط من التفكير بالدولة في مرحلة زمنية معينة في مدرسة النجف إجماعَ الفقهاء والباحثين والدارسين في الحوزة على قول واحد؛ ذلك أنَّ الاجتهاد بطبيعته يفضي إلى تنوع الآراء وتعدُّد النظر الفقهي في الموضوع الواحد، تبعًا لتنوع أدلة الاستنباط الفقهي، والاختلاف في فهم هذه الأدلة، غير أنَّ التحقيب الذي نقترحه للتفكير بالدولة، يؤشر على الاتجاه الغالب في كلِّ مرحلة، لدى فقهاء تعاطَوا البحث في قضايا الدين والدولة، وما له صلة بالفكر والفقه السياسي في الإسلام. ولم نتحدث عن الذين لا يتداولون تلك الموضوعات، وممن يصنِّفونها خارج مديات التفكير الفقهي في عصر الغيبة، ولا يتعاطَون بحثها أو إبداء وجهات نظر مستدلة حيالها نفيًا أو إثباتًا، وهم جماعة من أبرز الفقهاء والمراجع في التاريخ القريب لمدرسة النجف، لأن الحديث اقتصر على الصنف الأول.
ملاحظة: ما يرد في هذه الورقة من نصوص النائيني منقول عن هذه الترجمة، التي تتميز بدقتها ومطابقتها للنص الفارسي.