العبرية والعالمية
نعم، إنه لمن فضول القول أن يُقال عن ثقافة دينية محصورة في هذا الحيز المحدود: إنها رسالة عالمية، أو إنها يمكن أن تُسفر قبل زوالها عن رسالةٍ عالميةٍ.
لكن الأمر يتجاوز فضول القول إلى فقدان الحياء حين يُقال: إن العبرية هي التي نهضت بأمانة الرسالة العالمية في تاريخ بني الإنسان، وأن تنعقد المقارنة بينها وبين حضارات الشرق في وادي النيل وفي وادي النهرين وفي شبه الجزيرة العربية، فيُقال: إن تلك الحضارات جميعًا لم تحفل بمبادئ الأخلاق ولم تقرر قواعد العدل والفضيلة، وإن أربابها لا تغضب للواجب والحق كما غضب لهما رب العبريين: رب الصواعق والجنود.
ولا موجب — فيما نرى — لتفصيل الكلام على آداب الحضارات قبل ظهور العبريين، وقبل شيوع تلك الحضارات بين الشعوب والأقوام الذين تقدموا وراء آداب العصبية المحدودة أشواطًا لا يتسع لها هذا المجال؛ فربما كان استقصاء المدى المعروف الذي بلغته الدعوة العبرية من أيام الخليل إلى أيام السيد المسيح تصحيحًا كافيًا لتلك الدعوى التي يدَّعيها المبشرون بما يسمونه «الرسالة العالمية» من قبل العبريين.
إن طاعة الإله في عُرف العبريين ليست مسألة فضيلة وأخلاق تُحمَد من كل إنسانٍ فاضلٍ وكل آدميٍّ ذي خُلُقٍ كريمٍ، بل هي مسألة علاقة بين رب «عبري» يختص نفسه بشعبٍ يختاره ويغار عليه، وبين شعبٍ يدين لذلك الإله بين آلهة الأمم لأنه يخافه ويشعر بقوته وانتقامه، ويرى أنه أقدر على الانتقام من جميع الأرباب.
ويقول هذا الإله كما جاء في سفر التثنية: «أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
ويقول كما جاء في سفر الخروج: «رأيتُ هذا الشعب وإذا هو شعبٌ صلب الرقبة.»
ويقول أنبياؤهم تارة: إنه شعب ثقيل الإثم، وتارة: إنه شعب لا يفهم. ويعيد كل نبي ما سبقه إليه الأنبياء من وصفه بالضلالة والنفاق والقسوة وقلة الوفاء … ولكن هذا الشعب يعلم — مع كل ذلك — أن الله يختاره لأنه شعبه وعصبته … وأنه كما جاء في سفر التثنية: «ليس لأجل بركة يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعب صلب الرقبة.»
أما هذا الشعب فإنه يدين لهذا الإله ويختاره من بين الأرباب لأنه: «إلهكم وهو إله الآلهة ورب الأرباب، الإله العظيم الجبار المهيب.»
ويناديه الإله فيقول له كما جاء في سفر الخروج: «لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي …»
نعم، كما تسري شريعة الثأر في الجاهلية من الآباء إلى الأبناء، ومن الإخوة إلى الإخوة، ومن الجار إلى الجار.
ويتكرر النذير من الإله الغضوب غير مرة: «لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور»، «فلا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم؛ لأن الرب إلهكم إله غيور». ويجري هذا النذير من الأسفار المنسوبة إلى موسى — عليه السلام — إلى الأسفار التي كتبها آخر الأنبياء من بني إسرائيل.
ولم تنفرج حلقات هذه العصبية بعد توالي الضربات على القوم من جراء تعنُّتهم بالأثرة وإنكار الحقوق الإنسانية على الأمم، أو على «الجوييم» كما يسمونها بمعنى الغرباء أو الدخلاء، بل كانت هذه العصبية تنحصر من دائرةٍ إلى دائرةٍ أضيق منها وأشد في التمييز والاستئثار من سوابقها؛ فكانت صفوتهم المختارة أبناء إبراهيم إلى أبناء أبنائه وحفدته، فإذا هي تنحصر بعد ذلك في أبناء إسحق بني إسرائيل، ويدعو القوم أنفسهم من أجل ذلك بأبناء إسرائيل، ثم انحصرت صفوتهم المختارة في بني هرون آل موسى الأقربين — عليه السلام — ثم انحصرت في أبناء داود — عليه السلام — بعد قيام المملكة، وقيل من أجل ذلك: إن المسيح المُنتظَر لا يكون من غير ذريته وورثة عرشه، وكانت الوعود السماوية المزعومة تنتقل على هذا المثال جيلًا بعد جيل تبعًا للتنقل في مراكز الرئاسة والقدرة على مرضاة كُهَّان الهيكل ودعاة النبوة.
وكان بعض أنبيائهم من حينٍ إلى حين يفطنون لوبال هذه العصبية ويعترفون للأمم بشيءٍ من الحق في النعمة الإلهية، إنذارًا لقومهم بعاقبة التمادي في مساوئهم ونزواتهم واتكالهم على اختيار الإله لهم دون سواهم بغير فضيلة فيهم ولا اجتهاد من جانبهم، ولكنها فلتات تعرض لأولئك الأنبياء كلما أزعجهم مصير قومهم وصدمتهم فوارق المقابلة بينهم وبين الأمم التي تفضلهم وترجح عليهم، ثم تذهب الصيحة بغير صدًى وتعقبها نوبة من نوبات العصبية أشد وأعنف من نوباتها الغابرة، وانتهت رسالات أنبيائهم وتلتها الدعوة المسيحية وهم على أشد ما كانوا تعصبًا للدم والسلالة وإنكارًا للحقوق الإنسانية على كل مَن عداهم من «الجوييم» المنبوذين في اعتقادهم.
وقد استهل السيد المسيح رسالته بتوجيه الدعوة إلى «خراف إسرائيل الضالة» وإيثار «البنين» بالخبز على الغرباء، فأعرضوا عنه ورفضوه، وكادوا له المكايد واتهموه، فاتجه آخِر الأمر بالدعوة العامة إلى المستمعين إليها من سائر الأمم، وضرب المثل بصاحب الدار الذي دعا الأقرباء وأبناء الأسرة إلى وليمة عرسه فتعللوا له بالمعاذير وقاطعوه في داره، فأرسل غلمانه يدعون إلى الموائد المهجورة كل عابر سبيل.
وظلوا إلى عهد الرسولَين بطرس وبولس ينكرون على العبري أن يتناول الطعام مع غير العبريين، ويحتدمون غيظًا إذا قيل لهم: إن دعوة الهداية تتجه إلى الأمم كما تتجه إلى بني إسرائيل، فجاء في الإصحاح الحادي عشر من أعمال الرسل أنهم خاصموا بطرس يوم صعد إلى أورشليم؛ لأنه دخل بيوتًا لغير المختونين وأكل مع أهلها.
وجاء في الإصحاح الثاني والعشرين من أعمال الرسل أن بولس الرسول كان يصلي في الهيكل فقال لمَن فيه: إن الله أمره أن يذهب إلى الأمم؛ لأنه سيرسله إلى الأمم بعيدًا … «فسمعوا له حتى هذه الكلمة ثم رفعوا أصواتهم قائلين: خذ مثل هذا من الأرض لأنه كان لا يجوز أن يعيش، وإذ كانوا يصرخون ويطرحون ثيابهم ويرمون غبارًا إلى الجو أمر الأمير أن يذهب به إلى المعسكر»، وأن يضرب ليعلم لأي سبب كانوا يصيحون به هذا الصياح ويشقون الثياب ويثيرون الغبار سخطًا عليه.
•••
والثقافة الدينية التي من هذا القبيل ليس من شأنها أن توحيَ إلى أصحابها برسالةٍ عالميةٍ، وإنما شأنها عندهم كشأن حقوق الميراث في أقرباء الدم والعصبية، لا ترى أحدًا من أصحابها يدعو الناس إلى مقاسمته فيها، بل كل همه — إذا استطاع — أن يحتجزها لنفسه ويُقصيَ الناس عنها، وهذه شيمة نعهدها في سلالة العبريين إلى وقتنا هذا؛ فلا نرى أحدًا منهم يعنيه تبشير الناس بمذهبه وهداية «الأجنبيين» إلى ملته، كما يعنيه أن يتألب ويتعصب مع أبناء عصبته على تباعد الديار.
وإذا تركنا جانب الثقافة الدينية والْتفتْنا إلى جانب الثقافات الأدبية والفنية أو الثقافات الفلسفية والأخلاقية، لم نجد عند القوم منذ كانوا نصيبًا من هذه الثقافات يفيدون به العالم باختيارهم أو يفيده العالم على الرغم منهم.
ففي أدوار حياتهم الثلاثة — دور البداوة ودور المملكة ودور الشتات في أنحاء البلاد — لم يصدروا من عندهم ثمرة نافعة من ثمرات الآداب والفنون أو ثمرات العلم والفلسفة، فلم يُخرجوا للعالم من أيام الخليل إلى أيام المسيح عالمًا ولا أديبًا ولا فيلسوفًا ولا رحَّالةً مشتغلًا باستطلاع التواريخ أو بحَّاثةً مشتغلًا بدراسة الأحياء والنباتات ومسائل التاريخ الطبيعي كما عُرفت من قبل وكما عُرفت اليوم، وكل محصولهم من الكتب المقروءة فإنما هو تلك المواعظ والترانيم التي وقفوها على أنفسهم، ولم ينبغ منهم مشتغل بالحكمة والدراسة العلمية قبل اتصالهم بأمم الحضارة واضطرارهم إلى المعيشة بين تلك الأمم في المشرق والمغرب.
ولما قامت لهم دولة لم تنهض لهم مع الدولة ثقافة أدبية … ثم ذهبت الدولة ولم تعقب بعدها أثرًا من آثار الفكر أو الوجدان أو الذوق والخيال كتلك الآثار التي حفظها التاريخ لكل دولة من الدول القديمة والحديثة.
أما في دور الشتات بعد دور البداوة ودور الدولة، فلم يكن لهم مجتمع واحد تُنسَب إليه ثقافته ولا تُنسَب إلى غيره، ولكنهم ظلوا في دور الشتات عالة على ثقافات الأمم كلما نبغ منهم نابغ بين أبنائها؛ فليست لهم ثقافة مستقلة عن ثقافات العرب والمصريين في العصر القديم، ولا عن ثقافات الألمان والفرنسيين والإنجليز والأمريكيين وسائر الأمم المثقفة في العصر الحديث.
وإذا أحصينا نوابغهم ونوابغ الأمم الأخرى، وجب أن يكونوا أضعاف ذلك عددًا وكفايةً كما يكون المستفيدون من عشرين أو ثلاثين ثقافة منوعة بالقياس إلى المستفيدين من ثقافة واحدة في مكانٍ واحدٍ، ولكنهم على خلاف ذلك أقل مما ينبغي أن يكونوا بهذه النسبة وبنسبة أخرى غير النسبة العددية، وهي أنهم يتعاونون بالتضامن — بل بالتعصب — في جميع البلدان، ويبذلون جهدهم للتنويه بنوابغهم والإعلان عنهم وإهمال مَن عداهم من أقرانهم ونظرائهم، ولا يخفى ما يعمله «التضامن» في إظهار الخفي وتكبير الصغير وتفخيم الضئيل، فإن عشرة متضامنين متفاهمين على التعاون يملكون من أساليب الشهرة والتنويه ما لا يملكه ألفٌ متفرقون.
ولنا أن نقول بالتعبير الشائع في عصرنا: إن هؤلاء العبريين منذ بداوتهم إلى هذا القرن العشرين قد كانوا مستنفدين ولم يكونوا قط منتجين، وإن محصولهم في الثقافة العالمية محصول المستغل والوسيط، وليس بمحصول المالك العامل الذي يعطي وينتج ما يعطيه.