إبراهيم وموسى وداود يتعلمون
نحن نعلم أسماء بعض الأنبياء وأسماء الأمم التي بُعثوا فيها، ولكننا لا نعلمهم جميعًا ولا تحصيهم لنا كتب الأديان الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي ذلك يقول تعالى من سورة المؤمن: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ …
ونعلم من سِيَر الأنبياء في التاريخ وفي الكتب الدينية أنهم يتعلمون من عباد الله الصالحين، وفيهم مَن تنبأ وأرسل ومَن لم يكن من الأنبياء أو المرسلين.
وفي سورة الكهف عن موسى — عليه السلام — وفتاه فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا.
وبين أكبر الأنبياء المعلومين عندنا ثلاثة من الذين بُعثوا في العبريين، وهم: إبراهيم وموسى وداود — عليهم السلام، نعلم من أخبارهم في أسفار التوراة كما نعلم من أقوالهم فيها أنهم تتلمذوا لأناسٍ من الأمة العربية، وأن أساتذتهم سبقوهم — بداهة — إلى ثقافة الدين وإلى المعرفة الإلهية التي يطلبها الأنبياء ويبحثون عنها.
وعلى أحد القولين يُسمَّى إبراهيم عبريًّا؛ لأنه من نسل عابر بن سام.
وعلى القول الآخر يُسمَّى عبريًّا؛ لأنه هو وقومه عبروا النهر إلى أرض كنعان.
وعلى كلا القولين ينتمي إبراهيم إلى قبيلة سامية من الجزيرة العربية، ويتنقل بين أرض آرام في المشرق وأرض كنعان في المغرب، وكلتاهما موطن المتكلمين بالعربية على أقرب لهجاتها وأطوارها إلى اللغة العربية الحديثة؛ فالعرب العاربة — كما تقدم — تنتمي كلها إلى الأرمان، وأبناء كنعان يُنسَبون إلى أرضهم الواطئة على أشهر الأقوال، وهي من مادة «كنع»، تشبهها في لغتنا الحديثة مادة «قنع» ومادة «خنع» في الدلالة على الخفض والاطمئنان.
وقد تحول إبراهيم من أرض النهرين إلى أرض كنعان، فروى لنا سفر التكوين من التوراة في إصحاحه الرابع عشر أنه تلقى البركة من ملكي صادق … «وكان كاهنًا لله العلي، وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك».
وقد أعطاه إبراهيم العُشْر من كل شيء قربانًا إلى الله.
ويقول الإنجيل في رسالة العبرانيين: إن السيد المسيح صار «على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد».
ويقول بعد ذلك في الإصحاح السابع عن ملكي صادق: «إنه لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد، ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء …»
فالتوراة والإنجيل معًا يصفان الكاهن الكنعاني بصفة الرئاسة الدينية وصفة الخلود الذي لا يحده الزمان، ويرفعانه إلى المنزلة التي يتلقى منها إبراهيم بركة الإله العلي: إله السماوات والأرض. ولا يكون ذلك لإنسان تعلَّم من إبراهيم دينًا لم يكن يعرفه، وإنما يكون لأستاذٍ متقدمٍ في العلم بدينه يتعلم منه إبراهيم.
وليس بين الأنبياء الذين دان لهم العبريون بعد إبراهيم مَن هو أكبر مقامًا من موسى — عليهما السلام — ومن الناس مَن يقدم موسى على مَن عداه من أنبيائهم بفضل الشريعة والقيادة الظافرة إلى أرض الميعاد، وإنهم على مكانته هذه لَيثبتون عنه في سفر الخروج أنه تعلَّم من نبي «مدين» العربي الذي يدعونه يثرون وجوآب، ويدعوه العرب باسم شعيب، ولا التباس في أمر نسبته العربية بجميع الأسماء.
ففي الإصحاح الرابع من سفر الخروج أن موسى — عليه السلام — استأذَنه في العودة إلى مصر قبل رسالته: «فمضى موسى ورجع يثرون حموه وقال له: أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين في مصر لأرى هل هم بعدُ أحياء، فقال يثرون لموسى: اذهب بسلام.»
وفي الإصحاح الثاني عشر بعد رواية أخبار موسى من ذهابه إلى عودته: «أن يثرون أخذ محرقة وذبائح لله، وجاء هارون وجميع شيوخ إسرائيل ليأكلوا طعامًا مع حمي موسى أمام الله».
ومعنى هذا أن شعيبًا كان يقرب القرابين إلى الله ويتبعه موسى وهارون وجميع شيوخ إسرائيل.
ثم يستطرد الكتاب قائلًا: «وحدث في الغد أن موسى جلس ليقضي للشعب فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء، فلما رأى حمو موسى كل ما هو صانع للشعب، قال: ما هذا الأمر الذي أنت صانع للشعب؟ ما بالك جالسًا وحدك وجميع الشعب واقف عندك من الصباح إلى المساء؟ فقال موسى لحميه: إن الشعب يأتي إليَّ ليسأل الله إذا كان لهم دعوى يأتون إليَّ، فأقضي بين الرجل وصاحبه وأُعرِّفهم فرائض الله وشرائعه، فقال حمو موسى له: ليس جيدًا هذا الأمر الذي أنت صانع، إنك تكل أنت وهذا الشعب الذي معك جميعًا؛ لأن الأمر أعظم منك، لا تستطيع أن تصنعه معك، الآن اسمع لصوتي فأنصحك، فليكن الله معك، كن أنت للشعب أمام الله، وقدِّم أنت الدعاوى إلى الله، وعلِّمهم الفرائض والشرائع، وعرِّفهم الطريق الذي يسلكونه والعمل الذي يعملونه، وأنت تنظر من جميع الشعب ذوي قدرة خائفين الله أمناء مبغضين الرشوة، وتقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فيقضون للشعب كل حين، ويكون أن كل الدعاوي الكبيرة يجيئون بها إليك، وكل الدعاوي الصغيرة يقضون هم فيها، وخفف عن نفسك؛ فهم يحملون معك إن فعلت هذا الأمر وأوصاك الله تستطيع القيام، وكل هذا الشعب أيضًا يأتي إلى مكانه بسلام؛ فسمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال، واختار موسى ذوي قدرة من جميع إسرائيل وجعلهم رؤساء على الشعب، رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فكانوا يقضون للشعب كل حين …»
ومعنى هذا أن شعيبًا تقدم موسى إلى عقيدته الإلهية، وعلَّمه تبليغ الشريعة وتنظيم القضاء في قومه، وأن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي ولم يكونوا معلمين.
•••
ويأتي داود، عند العبريين، بعد إبراهيم وموسى في مقام النبوة، وهو رأس البيت المالك الموعود بالمُلك الأبدي في هذا العالم، ورب الأسرة التي ينتظرون الخلاص على يدَيْ ملك من ملوكها يعود إلى صهيون آخر الزمان. وقد كانت الصلة بينه وبين البلاد العربية متجددة متبادلة كما يُفهَم من قصة ابنه سليمان وصاحبة عرش سبأ في جنوب بلاد العالم، ولكننا لا نملك من الوثائق ما نستند إليه في تقدير آثار هذه الصلة من الناحية الدينية، وإنما نعلم من الوثائق التاريخية — التي سجلها المؤرخون الأوروبيون عن آثار إخناتون — أن المشابهة قريبة جدًّا بين مزاميره وصلوات ذلك الملك الذي تقدم بالدعوة إلى التوحيد في مصر القديمة …
إذا ما هبطت في أفق الغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت، فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها.
ويقابله المزمور الرابع بعد المائة وفيه: «إنك تجعل ظلمة فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف ولتلتمس من الله طعامها.»
ويمضي المزمور قائلًا: «تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض، والإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله في المساء … ما أعظم أعمالك يا رب! كلها بحكمة صنعت، والأرض ملآنة من غناك وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف … وهناك دبابات بلا عدد صغار مع كبار، هناك تجري السفن، ولوياثان — التمساح — خلقته ليلعب فيه …»
«ومثله في صلوات إخناتون: ما أكثر خلائقك التي نجهلها! أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره، خلقت الأرض بمشيئتك وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار … تسير السفن مع التيار وفي وجهه وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء، ويرقص السمك في النهر أمامك وينفذ ضياؤك إلى أغوار البحار، وتضيء فتزول الظلمة … وقد أيقظتهم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك ويمضي سكان العالم يعملون».
وأيًّا كان مصدر هذه المزامير المتشابهة، فالواقع المقرر أن إخناتون سبق داود بأكثر من ثلاثة قرون، وأن العبريين لم يُنشِئوا هذا المذهب في الصلوات الدينية قبل شعوب العالم في جوارهم، ولا في غير ذلك الجوار.
•••
على أن الجوار الملاصق لمساكن العبريين حيث تنقلوا بين أرض آرام وأرض كنعان لا يشير إلى غير علاقة واحدة بينهم وبين جيرانهم، وهي علاقة التابعين بالسابقين عليهم في الثقافة الدينية على التخصيص، وفي الثقافات الفكرية على الإجمال.
فمن قبل أيام موسى كان النبي العربي «أيوب» في أرض تيماء يدين بالتوحيد وينكر عبادة الكواكب والأوثان، ويدعو إلى المساواة بين الحر والعبد قائلًا متسائلًا: أليس صانعي في البطن صانعه وقد صورنا واحد في الرحم؟
والشراح ومؤرخو العهد القديم متفقون على سبقه إلى نزاهة التوحيد وتفضيل كتابه في هذا المعنى على كتب الأنبياء أصحاب الأسفار في العهد القديم، ومن هؤلاء الشُّرَّاح إسرائيليون كالمستشرق مرجليوت الذي يقول في كتابه عن العلاقات بين العرب والإسرائيليين: «إن أسلوب المتكلمين عن التوحيد في هذا السفر أنزه من أسلوب الأنبياء الإسرائيليين الذين كانوا يضطربون في بيئةٍ وثنيةٍ، خلافًا للمتكلمين في سفر أيوب؛ فإن البديل من الوحدانية عندهم هو الإلحاد والجحود.»
•••
وفي أيام موسى — عليه السلام — كان العبريون يحتكمون إلى نبيٍّ من العرب يقيم على نهر الفرات يسمونه بلعام، ويظن بعضهم أنه مرادف لاسم لقمان، ويقول سفر العدد إنه حكم للعبريين على الموآبيين وأيد نبوءات يعقوب.
وما لم يذكره العبريون في كتبهم عن النبوءات في بلاد العرب أكثر مما ذكروه، فإنما عناهم في سجلاتهم أن يذكروا التزكية والتأييد، ولا يذهبوا مذهب الاستقصاء في تسجيل جميع النبوءات التي سمعوا بها، وقد يكون هنالك ما لم يسمعوا به ولم يكن مما يرتضونه لو أنهم سمعوه.
فليس سكوتهم عن هود وصالح وذي الكفل الذين ذكرهم القرآن الكريم بحجة على خلوِّ البلاد العربية من الأنبياء غير مَن ذكروه، وما كانت قبائل عاد وثمود لتخلوَ من رسل الدين. وقد قام هؤلاء الرسل بالدعوة في مدين وتيماء قبل الدعوة الموسوية، وإنما أعرض العبريون عن ذكرهم؛ لأنهم جعلوا مصيرهم بعد قيام مملكتهم مرتهنًا بمصير بيت المقدس، وسكتوا قصدًا عن «الجنوب» بعد أن كانت قبلتهم كلها إليه.
فهم قد درجوا من أرض الجنوب في الجزيرة العربية، وظلوا بعد ذلك زهاء ألف سنة يلتفتون إلى مواطنهم الأولى ويترقبون الحكمة منها.
فإبراهيم توجه إلى جيرار، وموسى توجه إلى مدين، وكان أرميا يهتف في مراثيه سائلًا: «ألا حكمة بعد في تيمان؟ هل بادت المشورة من الفهماء؟» وتيمان تقابل في لغتنا الحديثة كلمة يمن بجميع معانيها.
بل بقيت عادة التوجه إلى الجنوب عند رسل القوم إلى ما بعد قيام المسيحية؛ فكان بولس الرسول يقول في كتاب غلاطية إنه ذهب إلى بلاد العرب قبل مسيره إلى دمشق.
أما تركيز القداسة في أورشليم، فهو شيء جديد طارئ بعد أيام موسى بزمنٍ طويلٍ، فبقيت أورشليم في أيدي اليبوسيين بعد موسى بقرونٍ عدة، ولم يطردهم منها أبناء بنيامين بعد نزولهم بجوارها، وبعد أيام داود جاء ملك من ذرية إبراهيم — يُسمَّى يهواش — فهدم سورها وأخذ ودائع الذهب والفضة من خزائنها، وقال سفر الملوك عنه: إنه مات فاضطجع مع آبائه، أي: مات مرضيًّا عنه في اصطلاحهم المألوف.
إنما تحوَّل القوم باتجاههم من الجنوب إلى بيت المقدس بعد ارتباط الهيكل بمصير بيت داود، وتعليق أملهم في الخلاص بعودة الملك إلى ذلك البيت في آخر الزمان.
وأما قبل ذلك، فقد كانوا يستقبلون الجنوب ويلوذون به ويتعلمون منه، ولم يأخذ منهم الجنوب شيئًا من ثقافته الدينية في أيام دولتهم ولا بعد أيامها. ولن تكون الدعوة المحمدية التي ارتفعت من بلاد العرب فرعًا من هذا الأصل الذي لم يتأصل قط في الوحدانية؛ فإن الدعوة إلى عبادة رب العالمين دينٌ لا يلتقي بدينِ العصبية المنعزلة في طريقٍ واحدٍ، وإن نبوة الداعي الذي لا يعرف من النبوة غير الهداية لَطراز من النبوة لا يختلط بالتنجيم.