ومن العرب الأقدمين تعلم اليونان صناعات الحضارة
والآن نذكر أن الفينيقيين الذين جاءوا مع قدموس وإليهم يُنسَب الجفيريون، قد أدخلوا معهم إلى اليونان بعد قدومهم إلى بلادهم صناعات كثيرة منوعة، منها: صناعة الكتابة التي كانوا يجهلونها — على ما أحسب — قبل ذلك، فنقلوا حروفهم — أولًا — على مثال الحروف الفينيقية بغير تصرُّف، ثم تغيرت مع الزمن لهجاتهم؛ فتغيرت معها رسوم حروفهم، وقد كان الآيونيون أكثر الإغريق الذين كانوا يومئذٍ يقيمون في تلك البلاد حيث نزل الفينيقيون، فاقتبسوا الحروف الفينيقية مع تعديلٍ قليلٍ في رسم بعضها، وما زالوا بعد حينٍ يسمونها بالفينيقية إنصافًا لمَن نقلوها إليهم، وقد كان الآيونيون يسمون الورق بالقديد؛ لأنهم كانوا يكتبون على الجلود عند ندرة صحائف الكتابة، وما برح البرابرة يكتبون عليها إلى هذه الأيام. وقد رأيتُ بنفسي كتابة بالحروف القدموسية محفورة على بعض القوائم المثلثة في معبد «أبولون أسمنياس» بثيبة البوطية، رسومها تحكي الرسوم الآيونية، وعلى إحداها هذه العبارة: «أقامني أمفتريون من عهد مقدم التلبوية»؛ فهي قريبة من عهد لايوس بن لا بداكوس بن بوليدورس بن قدموس … وعلى قائمةٍ أخرى نُقِشَت هذه العبارة من شِعْر العَروض السداسي: وهبني سكاوس الملاكم للشمس الساطعة بعد فوزه: هبة جميلة معجبة … ولعله سكاوس بن هيبوكون! فإن كان هو الذي وهب القائمة ولم يكن أحد آخر يُسمَّى بمثل اسمه، فتاريخ الهبة يرجع إلى عهد أوديب بن لايوس …
ورأيتُ على القائمة الثالثة كتابة نُظِمَت من العَروض السداسي يقول كاتبها: إن الملك لاودامس وهبها للشمس النافذة عند جلوسه على عرشه هبة جميلة معجبة …
وفي عهد لاودامس هذا — ابن أتوكليس — أخرج القدموسيون من بلادهم ولاذوا ببلاد الأنشيليين على الشاطئ الغربي من ألبانيا الحديثة …
ونحن ندرك قول هيرودوت: إن الآيونيين — أي اليونان — نقلوا الكتابة بغير تصرف حين نعلم أنهم نقلوها بطريقتها ومادة صحفها، كما نقلوها برسوم حروفها وألفاظها؛ فقد ظلوا يكتبون السطور من اليمين إلى الشمال كما نكتب العربية اليوم، وبقيت هذه الطريقة مُتَّبَعة عندهم في نقوش الآنية المزخرفة إلى ما بعد اقتباس الكتابة بعدة قرون، ولم تظهر لهم نقوش من الشمال إلى اليمين قبل أيام بسماتيك في القرن السابع قبل الميلاد.
ولا شك أن اليونان غبروا زمنًا طويلًا وهم يتلقون ثقافتهم وصناعتهم من القدموسيين بأوطانهم المختلفة من آسيا الصغرى إلى حدود بلاد الألبان العصرية في الجنوب، فلا بد أن يكون هذا الزمن موغلًا في القِدَم عدة قرون كي تمتزج أخباره التاريخية بروايات الأساطير المتداولة على ألسنة الجماهير، فإن أساطيرهم تضيف إلى أخبار التاريخ التي تُنسَب إلى قدموس فضل تعليمهم الكتابة وبنائه لمدينة بوطية أنه كان من أصحاب المعجزات الذين تعينهم الآلهة، وتملي عليهم مكائد الحرب والخديعة، ومنها أن قدموس قتل التنين الحارس لبعض الينابيع في بوطية، ونثر أسنانه على الأرض فنبتت منها شرذمة من المردة المسلحين أحاطوا به ليقتلوه، فأوحت إليه الربة أثينا أن يلقي إليهم بجوهرة كريمة بهرتهم فتركوه واقتتلوا عليها حتى أفنى بعضهم بعضًا، ولم يبقَ منهم غير خمسة لم يقدروا عليه؛ لأنهم خرجوا من المعمعة منهوكين مهزولين؛ ومن هنا يُقَال عن النصرة التي تُنَال بالثمن المرهق والخسارة الفادحة؛ إنها نصرة قدموسية أو قدمية، ويجري هذا في التعبيرات المجازية بين المحدثين من الأوروبيين.
ويقول المعجم الأثري إنهم كانوا يعبدون هرمز رب الحكمة والمعرفة عندهم باسم قدموس، «وإنه كان يُقَال عنه: إنه مخترع الزراعة والحدادة وصناعات الحضارة على التعميم، وإن الشعراء الأقدمين لم يكن لهم علم بمقدمه أكان من الشرق أم من مصر أم من فينيقية، ولما قيل أخيرًا: إنه من فينيقية قرنوا اسمه باختراع حروف الأبجدية التي يعرف الإغريق جيدًا أنهم أخذوها من الفينيقيين».
على أن اقتباس اليونان من العرب يظهر لنا من تشابه الكلمات في اللغتين، ولا سيما الألفاظ التي تدل على أصلٍ متشعبٍ في العربية، أو تدل على نظام المعيشة الغالب على الأمة وطول العهد به في موطنه ومستقره.
ولا شك في سبق العرب إلى الفرس والسيف والقناة.
ونظير ما تقدم في الدلالة على اقتباس اليونان دائمًا من العرب في أمثال هذه الألفاظ التي ترتبط بالمعاملات وشئون المعيشة؛ أنهم حوَّلوا أسماء أيام الأسبوع إلى الترتيب العددي أسوةً بأسمائها العربية، وغيَّروا منها اسم السبت والأحد بعد ظهور المسيحية، وهل كان اقتباسهم من المسيحية إلا اطرادًا في هذه القاعدة وجريًا على هذا القياس؟!