والفلسفة
والفلسفة ليست بالاستثناء من هذه القاعدة العامة في تاريخ الثقافة الشرقية اليونانية، خلافًا لِمَا يظنه القائلون بأن فلسفة اليونان قد نشأت في منبتها نشأة منقطعة عن ثقافة العالم في جملتها.
إن طاليس هو أبو الفلسفة اليونانية كما قال عنه أرسطو المُلقَّب ﺑ «المعلم الأول». وقد ذكره في كتاب ما بعد الطبيعة وقال عنه: إنه مؤسس الفلسفة، واستشهد بقوله: إن الماء مصدر جميع الأشياء. وذكره في كتاب السماء واستشهد بقوله: إن الأرض جسم يطفو على الماء. وذكره في كتاب النفس واستشهد بقوله: إن المغناطيس ذو حياة؛ لأنه يقدر على تحريك الحديد. وذكره في كتاب السياسة، وروى من أخباره أنه أدخل بعض التحسين على معاصر الزيتون وجمع ثروة حسنة بهذا الاختراع.
وفي الأخبار التي جمعها عنه كتاب «المرشد إلى من قبل سقراط من الفلاسفة» أنه عرف أسباب الكسوف والخسوف، وأنه كشف منزلة الدب الأصغر من منازل الفلك، وأنه أدخل الفلسفة من مصر إلى بلاد اليونان، واهتدى إلى قواعد تُمكِّنه من قياس مسافة البُعد بين الشاطئ والسفن في البحر، وتُمكِّنه من قياس ارتفاع الهرم بقياس ظله، كما اهتدى إلى بعض النظريات في حساب المثلثات والدوائر، ويقول الكتاب بعد ذلك: إن المصادر المختلفة تنبِّئنا بأنه تعلَّم الهندسة من المصريين، وأنه وخلفاءه كانوا تلاميذ للمصريين والكلدانيين، وكان — ولا ريب — مدينًا بالكثير مما عرفه في هذين العلمين اللذين اشتُهر بهما … وإن كان المفهوم أنه استخدم الأساليب العلمية في تنظيم هذه المعرفة.
ومما له معناه الظاهر في نسبة المعارف التي استخدمها طاليس إلى مصادرها أنه كان معدودًا من «حكماء اليونان السبعة»، وأن هؤلاء الحكماء كانوا أشبه ﺑ «هيئة مستقلة» لا تنقص عن هذا العدد، ويُضَاف إليها بديل ممَّن يخرج منها إذا ثبت أنه أقحم نفسه على الهيئة بسلطانٍ لإمارة أو الرئاسة.
ولا يخفى أن «نحلة السبعة» في كل اقتراناتها ترجع إلى مصدرها الأول من بلاد ما بين النهرين؛ حيث يتكلمون عن السيارات السبع وعن الأيام السبعة وعن السوابيع المتعددة في أعمار الأكوان، وقد كان طاليس يعيش في ليديا من بلاد آسيا الصغرى، ويتلقى معلوماته من قبلها في مسائل الفلك ومسائل النظريات الكونية وأصول الخلق والحياة، وكان تلميذًا للمصريين في العلوم الرياضية كما يقول مؤرخوه.
فإذا قيل: إن الفلسفة ليست بالاستثناء في شئون الثقافة التي نقلها اليونان عن الشرق، فهو الواقع الذي تتفق عليه مصادر التاريخ ومراجع الفلسفة، وإن كانت الفلسفة اليونانية قد تطورت كثيرًا بعد طاليس ونظرائه من الحكماء، حتى أصبحت في عصر أرسطو وتلاميذه الأولين جديرة بالانتساب إلى اليونان دون غيرهم من أمم الثقافة والحضارة في الأزمنة الغابرة.
فلا نكران لفضل الفلسفة اليونانية على الفلسفة القديمة بمدارسها المختلفة، ولكن الادعاء الذي ينكره كل منصف أن اليونان قد امتازوا بفلسفتهم لأنهم أبناء القارة الأوروبية وأصحاب «الذهن» الإنساني المتفرد بين أذهان البشر بمزايا البحث الطليق وحب الاستطلاع لمحض العلم والاطلاع.
فاليونان لم ينفردوا بهذه الفلسفة في جميع عصورهم، ولم يزد عصر فلسفتهم الممتازة على ثلاثة قرون، منها مائة سنة على الأكثر تفرغت فيها فلسفتهم للبحوث الخالصة في حقائق الوجود وأصول الأشياء على قدر المستطاع من تفرغ الفكر الإنساني لهذه الأمور.
وسبب ذلك راجع إلى ظروفٍ خاصةٍ تتغير فيتبعها التغيير في نتائجها حيثما كانت وحيثما كان التغيير.
نشطت حركة الفلسفة اليونانية في العصر الذي شاعت فيه الكتابة على الورق، وتيسرت فيه المواصلات بين بلاد اليونان وما حولها من البلاد الآسيوية والأفريقية.
ولم تنشط — مع ذلك — إلا لأنها قد نشأت في بلادٍ لم تحكمها دولة عريقة، ولم تكن فيها — إلى جانب الدولة الحاكمة — دولة من دول الكهانة التي تتأصل في البلاد وتتوارث فيها أسرار المعرفة والبحث في أصول الخلق والحياة، أو في المسائل الإلهية التي يستأثر بها الكُهَّان ورؤساء الدين.
فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تقوم عليها الدول المتمكنة، وتقوم معها — إلى جانب الدولة الحاكمة — دولة دينية من الكُهَّان ورؤساء الدين يسيطرون على شئون العقيدة ومباحث الفكر في أسرار الطبيعة وما وراءها من الغيب المجهولة. وعلى هذه السُّنة قامت كهانات الهند وما بين النهرين ووادي النيل؛ فانفرد الكُهَّان بالمعرفة الغيبية ولم يأذنوا لغيرهم — خارج المعبد — في بحث هذه المعرفة ودراسة «الفلسفة» التي تقوم على تحقيق «الوجود» لذاته، وتحقيق صفات الموجودات العليا والموجودات المقدسة التي كانوا ينعتونها باسم الأرباب.
ولم تكن في اليونان دولة متمكنة ولا كهانة ذات سيطرة على دولتها الصغيرة؛ فاتسع أمامهم مجال البحث غير متحرِّجين فيه ولا محاسَبين عليه، وعمدوا إلى العلوم التي استفادوها من الشرق فقالوا فيها ما يقوله كل باحث منطلق اللسان يتحدث بما يشاء كما يشاء.
على أنهم ما لبثوا جيلًا أو جيلَين حتى اصطدموا بسلطان الدين وسلطان الدولة؛ فقُتِل سقراط وتشرد أفلاطون وقضى أرسطو بقية حياته في عزلةٍ وإهمال، وكان عدد الهاربين من فلاسفتهم أكثر من عدد المقيمين الآمنين.
وكذلك حدث في القارة الأوروبية بين صميم الأوروبيين بعد قيام السُّلطة الدينية بينهم وانفرادها بالتفكير في المسائل الإلهية، فإن القرون الوسطى لم يظهر فيها فيلسوف أوروبي واحد، ولم يظهر فيها مَن ظهر بعد ذلك من فلاسفتها غير تلاميذ الشُّراح من العرب الأندلسيين.
ونحن لا نعلم من آثار الشرقيين الأقدمين أنهم تركوا «فلسفة» تبحث في أصول الوجود بغير صبغتها الكهنوتية، ولكننا لا نستطيع من أجل ذلك أن نجزم بانقطاع تفكيرهم في هذه البحوث ولا بقصورهم عن إدراك مداها؛ لأنهم لم يتركوا لنا كذلك كتبًا مُفصَّلة عن علوم الفلك والرياضة والكيمياء التي لا شك في اشتغالهم بها، وتطبيقهم لها في بناء الهياكل ونقش الجدران وتحنيط الموتى ورصد الكواكب وسياسة الأنهار، وكل ما نستطيع أن نجزم به أنهم لا يعلنون ما عرفوه ولا يدل كتمانهم له على جهلهم إياه.
ولسنا نريد بإثبات فضل الشرق أن نبخس فضل اليونان في ترقية الفلسفة، ولكننا نقرر الواقع حين نقول: إن الذين يتخذون الفلسفة اليونانية ذريعة إلى اتهام الشرق بالقصور ينحرفون عن سُنَّة الإنصاف، ويتورطون في ادعاءٍ لا دليل عليه.