تلاميذ أبديون
إن الموقع الجغرافي أنفع لنا في المساعدة على تمحيص الروايات التاريخية التي لا تسلم — مع طول الزمن — من الخرافة ومن الإضافة، أو من الخلط وسوء النقل والحكاية؛ فإن للموقع الجغرافي مقتضياته التي نفهم منها ما يجوز وما يمتنع، وما يحتاج إلى السند أو يستغني عنه أو يكتفي منه باليسير.
وموقع بلاد اليونان ينبئنا بالعلاقة التي توجد بينه وبين الحضارات الشرقية، أو توجد بينه وبين حركات الأمم في أدوار هجرتها، واستقرارها منذ فجر التاريخ.
فلم تنقطع علاقتها بالشرق منذ خمسة آلاف سنة على الأقل، ولم تكن علاقتها بالشرق في هذه العصور إلا علاقة التلمذة المتتابعة على الثقافات المتتابعة فيه، ولا سيما الثقافة الروحية وثقافة النظرة الكونية العامة، وتأتي بعدها ثقافة المعيشة المستمدة من الصناعة وعروض التجارة.
ونحن اليوم نسمع كثيرًا عن المناظرة بين الجنس الآري والجنس السامي، وعن مزايا كلٍّ من الجنسين في التفكير ومبادئ الأخلاق، وعن اقتدار كلٍّ منهما على إنشاء الثقافة وحفظ الحضارة وتقويم القيم الاجتماعية والنفسية. ويدور هذا البحث كله أحيانًا على مزايا اليونان في طلب المعرفة؛ لأنهم آريون وأوروبيون، مكانهم من ثقافة أوروبة الحديثة مكان الرواد الأسبقين، والباكورة التي تدل على الشجرة وعلى ما تحمله من ثمارها في كل أوان.
فإذا ابتدأنا بالمسألة كلها من البداءة، فالآرية نفسها صفة لم يكسبها اليونان من غير الشرق، ولم تظهر فيهم مزية من مزاياها بغير العلاقة التي اتصلت بينهم وبينه بعد انفصالهم عنه في زمان الهجرة الآرية.
فقد يكون اليونان آريين قدموا مع السلالة الكبرى التي انتقلت من أواسط آسيا إلى أوروبة الشرقية والوسطى، وقد يكونون سكانًا أصلاء في أوطانهم غلب عليهم أولئك الآريون المهاجرون وصبغوهم بصبغتهم فلم تبقَ لهم لغة غير اللغة الآرية، ولا عقيدة غير عقيدة الآريين الأولى في الدين والإله والخليقة.
فهم على الحالين منتسبون إلى الشرق في ثقافتهم، ونسبتهم هذه هي سر امتيازهم على إخوانهم الآريين الذين ذهبوا في الهجرة إلى أواسط أوروبة وما وراءها.
إن الآريين الذين استقروا في القارة الأوروبية وراء بلاد اليونان إلى أقصاها غربًا وشمالًا قد عاشوا مئات السنين على همجيتهم الأولى، فلم تنفعهم مزاياهم الآرية في ابتداع ثقافة خاصة تنتسب إليهم، ولا في اقتباس ثقافة من الشرق بعد ارتقائه وامتداد عمرانه؛ لأنهم فارقوه وانقطعت صلات العلم والتجارة بينهم وبينه.
فليست «الآرية» إذنْ منبع الثقافة اليونانية وسر الامتياز والتفوق الذي يخصهم به خلفاؤهم من الأوروبيين المحدثين، ولكنها الصلة بالشرق والاستفادة منه والتلمذة عليه ميزهم بها موقعهم الجغرافي فرجحهم على سكان المواقع النائية من إخوانهم الآريين.
وفي المرحلة الأولى قَدِم آباؤهم الأولون من القارة الآسيوية بعقائدهم الروحية كما أخذوها من منبعها، ويكفي منها ذِكر اسم الإله عندهم «ذيوس» وهو من الهندية القديمة، وذِكر أبي الأرباب عندهم، وهو اسم مركب من كلمتين بتلك اللغة وهما: «داوس باتر»: أي أبي الأرباب «جوبيتير»؛ وما بقي من تفصيلات ديانتهم المنسية ومعبوداتهم الأخرى فهو مركب على اعتقادهم برئيس جميع المعبودات وأبي الأرباب.
والمرحلة التالية لمرحلة الهجرة القديمة هي مرحلة الكتابة والصناعة، سواء جاءتهم من هجرة قدموس وزمرته الفينيقية، أو من هجرةٍ تماثلها في مصدرها، فإنها من ثمرات الموقع الجغرافي الذي قربهم من أسباب التلمذة على الشرق المجاور لهم، والاستفادة من حركات شعوبه.
وتأتي المرحلة الثالثة بعد ميلاد السيد المسيح؛ فليس دخول اليونان في المسيحية إلا مرحلة في السبيل المطروق من مراحل التلمذة على الثقافة الشرقية: أدبية أو صناعية أو روحية.
ولم تكن مرحلة المسيحية خاتمة المراحل في هذه التلمذة العريقة؛ فإن الفتوح العثمانية أوشكت أن تفتتح في بلاد اليونان وما جاورها عهد ديانة جديدة، لولا اشتداد شيوخ الإسلام في فتاواهم على الدين الصريحة التي حرَّموا بها على السلاطين إكراه أهل الذمة.
وهذا هو حكم الموقع الجغرافي إلى جانب حكم التاريخ وحكم الآثار الباقية: حكم الموقع الجغرافي أن اليونان تلاميذ «طبيعيون» لكل ثقافة شرقية، كلما كانت للشرق ثقافة غالبة. فإذا وقف هذا المورد عند حدٍّ من الحدود أو وراء حاجز من الحواجز، فذلك هو الحاجز الذي يصد السيل عن مجراه ويتحول به إلى ينبوع سواه.