ثم الثقافة العبرية
إن سبق العرب للعبريين في ثقافتهم الدينية أوضح من سبقهم لليونان في ثقافة المعرفة وصناعات الحضارة، ووقائعه وقرائنه أقرب سندًا من الوقائع والقرائن التي ألممنا بها في الصفحات السابقة؛ لأن السند القريب هنا مستمد من أسفار التوراة ومن أحوال المعيشة التي لا محل للخلاف عليها.
وقد أوجزنا القول فيما تقدم على العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة اليونان بالقدر الذي تتسع له هذه الصفحات القليلة.
وسنجمل القول فيما يلي على بيان العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة العبريين في الناحية الدينية، ونبدأ هذا البيان بما لا بد منه من تحقيق أصل العبريين وأطوار العلاقة بينهم وبين الأمة العربية إلى ما بعد ظهور الأنبياء والرسل في بني إسرائيل؛ فمَن هم العبريون؟ وما هو أوثق الأقوال عن نشأتهم الأولى قبل أيام إبراهيم — عليه السلام؟
إن أوثق الأقوال عن نشأة العبريين منذ أربعين قرنًا على وجه التقريب أنهم قبيلة بدوية صغيرة عاشت زمنًا في جنوب بلاد العرب إلى الشرق، وبقيت فيه على حالة بين الإقامة والترحل إلى مسافات قريبة حتى انتقلت — مع ملازمتها الشاطئ — إلى جنوب وادي النهرين.
ويظهر أن العبريين استخدموا هذا الحيوان وهو قريب من حالته الوحشية؛ لأنه كان في تلك الحالة يميل بلونه إلى الاحمرار على اقتراب من ألوان الرمال التي يعيش فيها؛ ومن هنا اسم «الحمار» واسم اليحمور الذي يُطلَق على الحمار الوحشي في اللغة العربية.
ويظهر أيضًا أنه بقي عندهم زمنًا طويلًا على هذا اللون حتى تغير لونه بعض الشيء، وتولدت منه الحُمُر البيضاء بعد طول التدجين والعناية «المدنية»: أي بعد انتقال العبريين من البادية إلى جوار المدن، وترددهم بين معيشة البداوة ومعاهد الحضارة؛ فأصبحت الحُمُر البيضاء مطية لذوي الرئاسة والثروة من القوم، وفي ذلك يقول سفر القضاة من إصحاحه الخامس مخاطبًا أولئك الرؤساء: «قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين في الشعب. باركوا الرب أيها الراكبون الأتن الصحر الجالسون على الطنافس.» أي إناث الحَمير المبيضة اللون.
واستخدام الحمار يدل على كثيرٍ من أحوال العبريين إلى جوار القبائل التي تستخدم الجِمَال للسفر إلى المسافات البعيدة، ونقل الأحمال الثقيلة، ونزول المراعي المنيعة التي لا تُستَباح لغير ذوي القوة والكثرة من قبائل الجزيرة … فإنما يُستخَدم الحمار للمسافات القصيرة والأحمال الخفيفة بالقياس إلى أحمال الجِمَال، ويسير الحمار في غير المفاوز الرملية التي تسلكها الإبل، ولا يبتعد وقتًا طويلًا عن موارد الماء الميسرة بغير عناء مجهد وبغير حاجة إلى الحماية القوية أو إلى كثرة العدد ووفرة السلاح.
فالعبريون في نشأتهم قوم ضعاف قليلون في العدد، مضطرون إلى الاكتفاء بالمعيشة التي يتركها سادة الصحراء زهدًا فيها واستغناءً عنها، ونكاد نعلم من ذلك مواقع نشأتهم الأولى قبل وفودهم إلى العراق وبعد مقامهم فيه إلى أيام الخليل إبراهيم.
فهذا الموقع لا بد أن يكون قريبًا إلى الشاطئ قريبًا إلى الحاضرة، يقيم فيه أناس لم يتفرغوا للبداوة في جوف الصحراء، ولم يتفرغوا للإقامة في الحواضر العامرة، ولكنهم عاشوا بين البادية والحاضرة يؤدون الأعمال التي تتطلبها الحاضرة من البادية وتتطلبها البادية من الحضارة، وهي في الغالب أعمال وساطة وسمسرة هادئة لا تضطرهم إلى الاقتحام والغلبة في معاملة أهل المدينة ولا في معاملة أهل الصحراء، ولا تضطرهم إلى الحوزة القوية لتحصيل القوت لهم وللدواب التي يستخدمونها؛ فإنهم يأخذون ما يحتاجون إليه من المدن جزاء أعمالهم في الوساطة بينها وبين البادية، ولا يحتاجون إلى كثرة عدد ولا وفرة سلاح لاقتحام مراعي الصحراء البعيدة؛ إذ كانت دوابهم تقنع بالقليل من العلف والمرعى، وبالقريب من موارد الشرب والسقاية، وهم في وساطتهم المتبادلة يعولون على الرِّضَى والطلب ولا يعولون على القهر والاغتصاب.
وفي هذه المعيشة البدوية الحضرية يكمن كل سر من أسرار التاريخ العبري من فجر التاريخ إلى العصر الحاضر، وإليها يرجع تعليل المشكلات والأزمات التي تعرض العبريون أو عرضوا لها أنفسهم ولا يزالون معرضين لها حتى هذه الأيام.
فهم قبيلة لم تتطور، وقد ظلت بين البادية والحاضرة قبيلة لم تستوفِ أطوار البادية، ولم تتحول إلى أطوار الحضارة شعبًا «مدنيًّا» يتمشى مع الحياة المدنية على سُنَّة جميع الشعوب، ولازمتها عادة المعيشة على السمسرة والوساطة فلم تتقدم إلى آخر الشوط في تثمير أعمال البدو ولا في تثمير أعمال الحضر؛ فهي في حالة العزلة الاجتماعية وما يلازمها عند البدو من عزلة «العصبية» بالدم والسلالة.
ومشكلة العبريين قديمًا وحديثًا هي هذه المشكلة: هي مشكلة «التحجر» على حالة القبيلة وحالة «العصبية» بالدم والسلالة. وعقيدتهم في جوهرها هي عقيدة عصبية منعزلة، تؤمن بإله تعبده لأنه إلهها، وهو الإله الذي يرعاها لأنها شعبه الذي يحابيه بين الشعوب لغير سبب ولغير فضيلة فيه غير أنه شعبه المختار لديه.
وهذه حالة من العزلة «المتعصبة» لا بد أن تسوق القوم إلى اصطدامٍ عنيفٍ بينهم وبين جيرانهم من جانب البادية ومن جانب الحاضرة، ولا بد أن يقع فيها ذلك الشعور النافر بين صاحب المال وبين الوسيط والسمسار، كلما تحركت المطامع وتعسرت المنافع، ونشبت المنازعات في البيئة، ولو كان نشوبها لسببٍ غير السمسرة والاستغلال.
ولا يُدرَى على التحقيق هل سُمِّي العبريون بهذا الاسم لأنهم ينتسبون إلى عابر بن سام، أو لأنهم عبروا نهر الفرات بعد قدومهم إلى وادي النهرين؛ ففي سفر يشوع يقول يشوع للشعب كله: «هكذا قال الرب إله إسرائيل. آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر. تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان.»
إلا أنهم — لضعفهم — كانوا يلوذون في كل موطنٍ سكنوه بمَن هو أقوى منهم من القبائل التي تلتقي بهم في أصولهم ويحتمون بمصاهرتها من أعدائهم؛ ففي سفر التكوين أنهم انتسبوا إلى الأصل الآرامي حين أرسل إبراهيم — عليه السلام — رسوله لخطبة رفقة بنت بتوثيل الآرامي، فقال له: «إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني …»
ولما نزلوا أرض كنعان جعلوا لغتهم لغة كنعانية. وقال أشعيا وهو يتنبأ بغلبة قومه على أرض مصر إنه «في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان.»
ولم يزالوا في هجرتهم من موطنٍ بعد موطنٍ بين العراق وحوران وكنعان يعيشون إلى جوار القبائل، ولا يتغلبون على واحدةٍ منها في وقعة فاصلة حتى لجَئُوا إلى مصر وعادوا منها بعد عدة قرون إلى الأرض التي سموها بأرض الميعاد، ولم يتفقوا على حدودها حتى ملكوا أسباب القوة التي أطمعتهم في الغلبة عليها.
والعُرف الشائع بين العبريين أنهم يتشاءمون تشاؤمًا «تقليديًّا» بالأيام التي قضوها في مصر ويحسبونها بلية البلايا، ومحنة المحن في تاريخهم كله من عهد الخليل إلى عهد النازية الهتلرية في القرن العشرين، وقد مرت بهم محنة السبي إلى وادي النهرين ولكنهم لا يتشاءمون بها كما تشاءموا بالمقام في مصر، ولا يجعلون الخروج من بابل عيدًا باقيًا متجددًّا كعيد الخروج من أرض وادي النيل.
أما الواقع المعروف بنتائجه الكثيرة فهو على نقيض ما قدَّروه وأوجبوه على أنفسهم من تقاليد «الحِداد» وتقاليد الأعياد.
فإنهم لم يستفيدوا قط من هجرةٍ في تاريخهم كله كما استفادوا من هذه الهجرة المصرية؛ لأنهم نعموا بالعيش الرغيد في جوار النيل، وتعلَّموا من آداب الحياة وشرائط الصحة ما زاد في عددهم، وزاد في خبرتهم بتدبير أمورهم والدفاع عن أنفسهم؛ فأصبحوا يُعدُّون بمئات الألوف، ويُحسنون حمل السلاح وتنظيم الزرع والحصاد، ويصلحون لنزال القبائل البادية التي أعياهم أمرها قبل خمسة قرون وتركوا لها الأرض اعتصامًا بمصر وهم بضع مئات أو بضع عشرات.
وليس الفضل في هذه الزيادة وهذا التقدم لطول الزمن بين دخولهم إلى مصر وخروجهم منها؛ فإن القبائل التي تركوها في البادية بقيت كما كانت قبل خمسة قرون، ولم تبلغ في زيادتها ولا في تقدمها بعض ما بلغوه وادعين قانعين بجوار النيل.
ولولا هذه الزيادة في عددهم وفي خبرتهم لما استطاعوا أن يقاتلوا قبائل البادية التي كانوا يهابونها ويهربون منها، ولا استطاعوا أن يهزموها ويطردوها من مواقعها إذا اجترءُوا على قتالها، ولا تأتي لهم من دواعي الاستقرار في أرض كنعان ما يعينهم على إقامة المُلك وبناء الهياكل من الحجارة بدلًا من العرائش والخيام. ومهما يكن من بلاء أصابهم في مصر، فهو بلاء استحقوه واستحقوا أضعافه في بلاد العالم القديم شرقية وغربية.
ثم لازمتهم آفتهم الخالدة بعد إقامة المملكة وتعاقب العروش زهاء أربعة قرون، فلم يفارقوا نظام القبيلة بعد محاكاتهم لجيرانهم في نظام الدولة، ولبثوا في دولتهم كما لبثوا في هجرتهم قبيلة معزولة عن الأمم، بل سبطًا معزولًا عن سبط في داخل القبيلة، وظلت لهم شريعة «العصبية القبلية» دستورًا يصلح لهم وحدهم في تقديرهم، ولكنه لا يصلح لتنظيم الدولة التي تجمعهم بغيرهم في كل تقدير.
فلم يزالوا من قيام المملكة إلى ما بعد ميلاد السيد المسيح يحرمون بينهم ما يحلونه بينهم وبين غيرهم، ويعملون بما جاء في سفر التثنية حيث يُقَال: «للأجنبي تقرض الرِّبَا ولكن لأخيك لا تقرض بِرِبًا لكي يباركك الرب إلهك»؛ فهو ربه وإلهه وليس بربٍّ ولا إلهٍ للآخرين.
وظلوا يحصرون العصبية في أضيق حدودها بين الأسباط في القبيلة الواحدة، ويتشددون في حصر كل سبط بميراثه إلى أعقاب الأعقاب.
ففي الإصحاح السادس والثلايين من سفر العدد أنه «لا يتحول نصيب إسرائيل من سبطٍ إلى سبط، بل يلازم بنو إسرائيل كل سبطٍ نصيب سبط آبائه، وكل بنت ورثت نصيبًا من أسباط بني إسرائيل تكون امرأة لواحدٍ من عشيرة سبط أبيها لكي يرث بنو إسرائيل كل سبط نصيب آبائه، فلا يتحول نصيبٌ من سبطٍ إلى سبطٍ آخرَ، بل يلازم كل واحد نصيبه كما أمر الرب موسى.»
•••
ولا ضرورة للبحث الطويل في سبب الفشل الذي يلحق بدولةٍ من الدول تقوم على مثل هذا النظام، وتقوم من ورائه على مثل هذا الشعور، فإنه نظام يقف عند حدود القبيلة ويقصر عن التقدم وراء ذلك خطوة في طريق الحياة القومية، فضلًا عن الحياة العالمية.
ومن فضول القول أن يتحدث نقاد التاريخ والمعقِّبون على أطوار الاجتماع عن «رسالة عالمية» يستفيدها العامل من هذه «العصبية القبلية» بعد تطور الأمم والشعوب وتطور العلاقات العالمية وتطور العقائد والآداب، فإن «الفكرة العالمية» لا تتولد في طورٍ من أطوارها من مثل هذه الدعوة الدينية أو العنصرية، بل يكون تقويض أساس هذه الدعوة شرطًا لازمًا لمجرد تصحيح النية وتوجيه الرغبة إلى الفكرة الإنسانية العامة والثقافة التي تُستفاد لجميع الشعوب ولا تكون وقفًا على شعبٍ واحدٍ دون سواه.