الإنسان الآسيوي المعاصر
اكتشاف قارة
بهذه الرحلة أكون قد غطَّيتُ — تقريبًا — سطح الكرة الأرضية، وتعرَّفتُ إلى معظم أوطانها وشعوبها. والحقيقة أني بدأتها مجرَّد رحلة أخرى من الرحلات. ولكني حين انتهيتُ منها أحسست أنها فريدة، بل رحت أؤنِّب نفسي أني أجلتها إلى هذا الوقت، بينما هناك بلاد كثيرة معظمها في أوروبا رأيتها أكثر من مرة، وضيعتُ فيها أكثر من وقت.
كنت أقول لنفسي وأنا في الطائرة: حسن! ها أنا ذا في طريقي إلى الشرق في عكس اتجاه الشمس، كلما مضَتْ بنا الطائرة أمعن اليوم في مضيِّه حتى حلَّ علينا الظلام وساعتي تُشير إلى الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة، ظلام سبَّب مشكلة ليست هينة لصديقنا الأستاذ يوسف السباعي؛ فهو كان قادمًا من طرابلس عقب حضور مؤتمر التضامُن الآسيوي الأفريقي هناك، وفقط غيَّرَ الطائرة في مطار القاهرة. ولكن المشكلة أنه كان صائمًا — إذ كنا في رمضان — فهل يُفطر وقد غربت الشمس الآن بينما الساعة تُشير إلى الثانية بتوقيت القاهرة، وربما الثانية عشرة أو الواحدة بتوقيت طرابلس؟ كنتُ أنا في الحقيقة غير صائم — أوَلستُ على سفر؟ — ومع هذا بدتْ لي المشكلة محيِّرة، فها هو المغرب أمامنا قد حلَّ والدنيا ظلام تام. أوَليسَ هذا ميعاد الإفطار؟ حلَّ لنا المشكلة قبطان الطائرة الذي كان واضحًا أنه متبحِّر في الدين رغم أنه كان مثلي غير صائم؛ فقد أفتى بأن على يوسف السباعي أن يُفطِر بتوقيت المدينة التي أمسك فيها عن الطعام والشراب، أي بتوقيت طرابلس. وقد بدت الفتوى أول الأمر غير معقولة؛ فقد كان على يوسف السباعي أن يفطر في تمام الحادية عشرة مساء، ولكن كان واضحًا أيضًا أنها الفتوى الوحيدة التي لها منطق يَحتفظ للصائم بساعات محدَّدة لا بدَّ أن يصومها؛ لأنه لو اتَّبع طريق الشمس لضل؛ فالشمس كانت قد اغتالت من نهار طرابلس ستَّ ساعات، وربما أكثر.
أنا في طريقي إذن لآسيا، إلى البلاد التي تُشرق فيها الشمس قبل شروقها في القاهرة بربع يوم على الأقل؛ آسيا حيث الهند المهولة ذات الخمسمائة مليون، والصين الخرافية ذات التسعمائة مليون، وباكستان واليابان ذات المائة، وتايلاند وإندونيسيا وسنغافورة وكمبوديا ولاوس ذوات المائتي مليون، ناهيك عن فيتنام وكوريا وماليزيا والفلبِّين. في طريقي إلى بلاد يسكنها أكثر من نصف عدد سكان الكرة الأرضية، ومع هذا ما أقل ما نعرفه عنها! إننا لا نَعرف عنها إلا ما تنشره الصحف من أخبار معاركها أو مجاعاتها أو كوارثها الطبيعية.
الهند ليست في نظرنا سوى غاندي ونهرو وأنديرا وبضعة أفلام هندية رأيناها.
اليابان ليست سوى ضحية أول قنبلتين ذريتين والراديوهات الترانزستور والبضائع التي تُغرق السوق، وبالنسبة لي — على الأقل — قصيدة حفظناها في الثانوي لشاعر النيل حافظ إبراهيم عن غادة يابانية «صفراء، ذات صفرة تُنسي اليهود الذهبَ»، عَشقَها — في القصيدة طبعًا — وصارت تحدثه عن وطنها وضرورة خدمته.
في طريقي إذن لآسيا، نصف الرحلة لحضور مؤتمر الكُتَّاب الآسيويين الأفريقيِّين، ونصفها الأقصى موفدًا لتغطية المنطقة ثقافيًّا وفنيًّا وحضاريًّا.
ولكن الحقيقة أني — بيني وبين نفسي — كان لي هدف آخر. كان هدفي الأول أن ألتقي وجهًا لوجه بهذا الإنسان الآسيوي، الإنسان الذي صنع المسير الطويل وثورة الصين العظيمة، الذي يخوض بنجاح تجربة الاشتراكية الديمقراطية في الهند، الذي بعد قسوة الهزيمة في اليابان سمقَ وانتصَر، وأصبحَت به ثالث دولة في العالم بعد أمريكا وروسيا، والذي يتبدَّى لنا الآن — وعلى مسمع ومرأى من العالم أجمع — كنهُ هذا الكم من البطولة الذي يحتويه وهو يُناضِل الاستعمار الأمريكي في فيتنام.
لماذا هو هكذا هذا الإنسان؟
ما هي طبيعته؟
ما هو طبعه؟
مَن هي المرأة فيه وكيف؟
مِن أين جاءته هذه الطاقات الروحية الخارقة حتى ليُحوِّل الهزيمة إلى انتصار، وحتى ليُرسي الرعب — مهما كان قليل العدد — في قلب دولة كبرى كأمريكا نفسها؟ ذلك كان هدفي الحقيقي، كنتُ متأكِّدًا أني حتمًا سأعثُر على الجواب.
رحلة لقلب إنسان
كنتُ متأكِّدًا أنها ليست فقط رحلة عبر المكان ولكنها أولًا رحلة لقلب إنسان، فَرُوح إنسان. كنتُ متأكدًا أني سأُفاجأ وأذهل، أني سأتعلَّم، أني سيَحدُث لي تحوُّل روحي هائل، وأني حتمًا سأتغيَّر.
وأيضًا — وهذا هو المُهم — كان الهدف من أجل مصر. كان الهادف مِن أجلنا نحن، وما من مرة خرجْتُ فيها من مصر إلا وكان الهدف مصر، وما من مرة سعيت لرؤية شعب آخر إلا وكان الهدف شعبي، وبالذات الآن، وبالذات حين تَصير حركتُنا إلى مأزق.
والحق أنَّ إنساننا في مأزق. التاريخ قادنا إلى مأزق، وأحيانًا تُغيِّم الدنيا ولا تتبدَّى بارقة أمل. أحيانًا يبدو كما لو كان حكم التاريخ لا يَقبل النقض، وكأنما حلَّت اللعنة.
أقول أحيانًا لأني أرى — ودائمًا أرى — وراء كل الظلام المحيط شعاعات النور، وراء اليأس المُطبِق أملًا. وراء الحناجر الضاحكة في سُخرية عصبية استعدادًا قاهرًا مهولًا ليوم نَضحك فيه بحقٍّ وعن حق، ليوم نَنتصِر، ليومٍ نستعيد فيه تمامًا الثقة بالنفس، والقدرة وفاعلية العمل، ليوم نعود نُلقِّن فيه العالم درسنا الأول؛ أننا أصل الحضارة، وأننا بعدُ لا زلنا الأرقى والأشجع والأكفأ.
وفي مثل هذه المآزق التي يضعنا فيها التاريخ يُستحسَن أن ننفتح على العالم كي نطفو ونَنجو، نَنفتِح لكي نرى غيرنا ويَرانا الغير، ننفتح لكي نتعلَّم، وما أروع أن نتعلم من أرقى مثل! وفي طوافي ببلاد الناس لم أجد خيرًا من الإنسان الآسيوي زميلًا في المآزق، نتطلع إليه ونقترب منه ونتعلم.
أنا إذن في طريقي إلى الإنسان الآسيوي.
ورغم هذا لم أكن أتصوَّر أنه إنسان مختلف عنا إلى هذه الدرجة، طبعًا توقَّعتُ أن يكون مختلفًا، ولكني لم أتوقَّع أن يصل الاختلاف إلى درجة أنه يكاد يكون نوعًا آخر من البشر.
وهو ليس كاملًا أبدًا كما أردتُه، ولكن ليس فيه أيضًا ما توقَّعتُ من نقائص.
أين يَكمُن الاختلاف؟ وأيضًا أين يَكمُن التشابه؟ لا أعرف ولكني سأُحاول، دون ترتيب، أن أضع على الورق بعض انطباعاتي. إنَّ انطباعي السريع الأول أن الإنسان في آسيا ليس غريبًا من الناحية الشكلية البحتَة عنَّا في مصر. في الهند مثلًا وفي تايلاند وفي الفليبين وحتى في طوكيو كنتُ أرى دائمًا وجوهًا مصرية، أو لا بد في رأيي أن تكون مصرية، أو وهذا هو الأصح نحن قطعًا — وبالذات وجهنا البحري — آسيويون مائة في المائة.
إنَّ المغول والتتر والآسيويين تركوا بصماتهم الشكلية في نَسلِنا هنا، حتَّى إني وأنا أسير في القاهرة الآن لا أستطيع أن أمنع نفسي عن رؤية أشكال الناس، وبالذات البنات والسيدات لأردهنَّ إلى أصلهنَّ الحقيقي في القوقاز والتركمانستان والتازاكستان وكشمير والبنجاب وسيام وجزر اليابان.
لقد أدركتُ أنَّ الملامح التي نُسميها مصرية أو عربية ليست كذلك في الحقيقة؛ فحقيقة أمرها أنها آسيوية جاءت من الصين، وبالذات من أواسط آسيا.
ولكن العيون مختلفة، ألا ما أجملها من عيون! لقد حزَّ في نفسي أنَّ بعض اليابانيات يَلجأنَ لجرَّاح العيون لمد فتحتها لتُصبح كالعيون الغربية أو الأوربية، في حين أن جزءًا لا يتجزأ من جمال تلك العيون هو ذلك الحيز الجلدي الذي يَفصلها عن الأنف، والذي تتميز به معظم العيون الآسيوية.
لها إذن — تلك القارة — طريقتها الخاصة في الجمال، ولها أيضًا قيمتها الخاصة. والتشابُه الخارجي بين إنسان الشرق الأوسط وإنسان الشرق الحقيقي الأقصى قائم وموجود، ولكن ما أذهلني وحيَّرني أنني وجدت نفسي لأول مرة في عالم ثانٍ غريب كأنه الوجه الآخر لكرتنا الأرضية.
عالَمنا ليس واحدًا
لأول مرة أحس أن عالَمنا هذا ليس واحدًا كما كنت أعتقد، ولكنه عالَمان؛ ذلك الذي بدأ بالحضارة المصرية القديمة التي انتقلت إلى اليونان ثم الرومان ثم العرب ثم أوروبا من جديد، لتبدأ الحضارة الأوربية التي انتقلت إلى قارتَي أمريكا وانتشرت في مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا.
عالَمنا هذا بأديانه التي بدأت بتوحيد أخناتون، ثم الدين اليهودي والذي منه وُلدت المسيحية، ثم الإسلام، بعلومه وفلسفته وطريقة نَظره إلى الأشياء والوجود.
عالَمنا هذا الذي قد تختلف درجة تحضُّر أجزائه، أو تتبادل مشاعل التحضر والنور، ولكنه واحد يكاد يكون كاملًا متكاملًا، تاريخه واحد، وإنسانه واحد.
عالم نتصور أنه كل العالم بينما الأمر ليس هكذا أبدًا؛ فهناك في شرق آسيا وجنوبها وقلبها عالم آخر تكاد لا تَربطه صلة أي صلة بعالَمنا، عالم موازٍ نشأت الحضارة فيه بطريقة مختلفة. وتكوَّن تاريخه من أحداث مُختلِفة، وانبثقَت فيه الديانات والعقائد بطريقة خاصة به وحده.
عالم ثانٍ إن يكن أقصر من عالَمنا عمرًا، إن يكن أقلَّ اتساعًا وانتشارًا، إن يكن قد ظلَّ حبيس حدوده الجغرافية لم يُغرق بفتوحاته وغزواته وجه الأرض أو كان سيد الدنيا يومًا، إلا أنه لا يقلُّ عراقة عن عالمنا إن لم يَزِد. بل إني لأجرؤ وأقول إنَّ الإنسان الآسيوي المعاصر الذي جاء نتيجة ذلك العالم، هذا الإنسان، هذه الشعوب المكوَّنة منه، يفوق وتفوق من أوجه كثيرة إنساننا نحن وشعوبنا نحن، بل إني لأصرِّح بما في نفسي وأقول: نحن على شفا عصر ستكون فيه السيادة لهذا الإنسان، عصر تنقلب فيه الآية، ويُكتَب لعالم ظلَّ طويلًا حبيس البُعد والعزلة أن يتلقَّف هو مشعل الحضارة والتقدم، وأن يتحوَّل عالَمُنا نحن إلى عالم تابع، على الآخر يتتلمَذ.
عصر الإنسان الأصفر
نحن إذن على أبواب عصر آسيا، عصر الإنسان الذي سمَّيناه الأصفر، وعِشنا لا تُثير فينا أية أحداث هائلة تقع فيه إلا أوهى الانفعالات والاهتمام، وكأنَّ ما يَحدث يحدث في كوكب آخر.
بل إننا لمُضطرون أن نفهم الفهم الصحيح، ونُدرك الإدراك الحق، أن مُستقبَل الإنسان في عالمنا نفسه يتقرَّر هنا.
إن مصير أمريكا هنا، الحضارة الأوربية أيضًا مآلها سيتحدَّد هنا، الرأسمالية نفسها، بل حتى الماركسية، وشكل ونتيجة ونهاية الصراع بينهما أمور أبدًا لن تتحدَّد إلا هنا، بل حتى قضية كقضية فلسطين ووجود كالوجود الإسرائيلي إذا كان اليوم أمره مرهونًا بإرادة أمريكا وما بينها وبين الاتحاد السوفيتي من صراع حوله، وإذا كان الشد والجذب بيننا وبين إسرائيل هنا، فإن الحل النهائي للقضية أيضًا هناك في آسيا.
ليس مجرد حماس لمنطقة أنا حديث القدوم منها، ولا من قبيل التهويل ما أقول. لقد كانت نهاية الحضارة الأوربية على يدِ آخر نظرية، آخر ثمرة فلسفية من ثمار تلك الحضارة (الماركسية)، بوجودها، بقيام أول ثورة شيوعية، بانقسام أوروبا إلى معسكرَين؛ إلى اشتراكية ورأسمالية تُعادي إحداهما الأخرى أبشع عداء، بانتهاء الجولة الأخيرة بالحرب العالمية الثانية انتهت الحضارة الأوربية وتجمَّدت؛ إذ بدلًا من المضي قدمًا انقسمت إلى قسمين همُّ كلٍّ منهما أن يُجمِّد وضع الآخر وأن يمنعه عن الحركة، النتيجة الحتمية — والتوازن قائم — أن يتوقَّف الإنسان كعربتَين متساويتي القوة تُحاول كلٌّ منهما أن تزحزح الأولى، فلا يتحرَّك أي منهما خطوة.
حضارة مضحكة!
توقفَت حضارة أوروبا لتبدأ حضارة أمريكا. ليست حضارة فلسفات هذه المرة أو مبادئ أو عقائد أو أديان، ليست ثورة على حضارة أوروبا حتمًا، إنما هي في الحقيقة أغرب حضارة في التاريخ؛ فهي حضارة تقوم لأول مرة لا لتسير مع التاريخ وتسبقه، وإنما حضارة تقوم لتقف في وجه التاريخ، لتُوقفه، لتُعادي التقدم.
حضارة تكاد تكون مضحكة؛ فحلفاؤها ليسوا دعاة المستقبل وبراعم التطوُّر، جنودها وقواتها هم أي قوًى تُريد أن تحلم بإرجاع التاريخ إلى الوراء، حلفاؤها الرجعية في كل شيء وفي كل ميدان؛ في الاقتصاد، في الدين، في الخلق، في الفن، في كافة أوجه الحياة.
حضارة هذه رسالتها، أما وسيلتُها فهي التكنولوجيا، أو بالضبط علم أوروبا مسخرًا لا لمصلحة البشرية وإنما لمصلحة قوى الاستغلال. تكنولوجيا هدفها إحلال الآلة المطيعة الصمَّاء مكان الإنسان؛ إذ هو له شرف يُصرُّ على المحافظة عليه؛ وبوسعه أن يَستشعِر الظلم ويحاربه، وأيضًا له قيم ومبادئ، وبطبعه مُتمرِّد.
تكنولوجيا أمريكا هدفها خلق جيش آلي منظَّم ودقيق ومطيع يعمل ضد الحياة وضد الإنسان، جيش هائل الضخامة باستطاعة عصابة الرأسمالية القليلة العدد أن تُسيِّره لإبادة البشر إذا أرادت، لإذلال الإنسان وقتما تُريد.
وهكذا فإن جيش الآلات هذا هو الذي أصبح يتجسَّس، وهو الذي يُحدد لجيش آلات آخر أن يَضرب ويُدمِّر ويُخرِّب، وبالتكنولوجيا فإن أمريكا تريد إخضاع الإنسان للطبيعة، وإخضاع الطبيعة للآلات، وإخضاع الآلات للتكنولوجيا، وإخضاع التكنولوجيا لأصحاب جنرال إليكتريك والبنتاجون!
هكذا انبثقت حضارة أمريكا الجديدة.
أما أوروبا فبعد اعتزالها كرسي العرش تحوَّلت إلى مزرعة لتربية العلماء والمتخصِّصين الذين يشتريهم بعد هذا — كما كان يشتري المماليك والعبيد — سادة أمريكا، وبهم — بالذكاء والعلم البشري — يمتصُّ من أوروبا وأفلاك أوروبا وتوابعها، يجمع، ويُجنِّد، ويُركِّز لاستغلاله وضمان السيطرة عليه واستقطار كل ذرة قُدرة على الخلق والتفكير والإبداع لديه، نظام عبقري الذكاء بحيث يَضمن سادة أمريكا في قبضتهم جيشًا من العلماء بمثابة مصنع التكنولوجيا الثقيل؛ إذ بواسطته تنتج الآلات، وبواسطته تتطوَّر ليتحقَّق شيئًا فشيئًا ذلك الحلم الدموي الذي يُراود سادة أمريكا؛ حلم أن يَملكوا العالم ويحكموه بعلمٍ مُجرمٍ سفَّاح لا يُكلِّف إدارته وتسييره إلا مجرد ضغطة على زرِّ بأصبع. الحلم الدموي بأن تزول مِن على الأرض أسطورة الحياة التي لا بد أن تَمضي إلى الأمام، والتاريخ الذي لا بدَّ أن يتحرَّك في اتجاه إنسانية الإنسان.
ولتستخدم هذه الحضارة أذكى ما تُفرزه عقول البشرية لإلغاء دور البشر، ليكون الإلكترون هو السيد، والكمبيوتر الحاسب هو القائد، وليخضع هذا كله لإرادة قبضة القياصرة الجدد.
ولنتجاوز عن كثير من التفاصيل، ولنقل إنَّ هذا الحلم الدموي، وهذه الحضارة ضد الحضارة، وهذا العلم ضد العلم، قد أمكن في غفلة من الزمن — في مواجهة التخلُّف والفقر وضعف القدرات — أن يَنجح، وأن يبسط نفوذه على ذلك الحيز من الكرة الأرضية الذي نُسمِّيه عالَمنا، والذي إذا كانت مصر أول منبع لحضاراته فإن أمريكا آخر صيحة في رواية تمدُّنه.
عالم إذا كان بنو إسرائيل قد شهدوا طرفًا من بداية قصته مقهورين أذلاء لاجئين كالمُستجير من الرمضاء بالنار إلى صحراء سيناء، فإنه اليوم يشهدهم، ويا للمرارة! غزاة جبارين يَدفعوننا نحن أن نكون المدحورين اللاجئين. إنه ليَشهدهم، لا يقودهم موسى النبي في طريقهم إلى الله، وإنما قائدهم موسى الفاشي ديان في طريقهم إلى إله مِن واشنطن يسكن البيت الأبيض، ووصاياه لهم ليست عشرًا إنما واحدة. إذا كان هدف أمريكا أن تحكم العالم، فليكن هدفنا نحن أن نحكم أمريكا ليكون لنا الاثنان معًا؛ أمريكا والعالم.
وإذا كانت حضارة أمريكا تنقصها الرسالة الخلقية، فلنكن نحن مُكمِّلي النقص ورسالة الأخلاق، ليكن الهدف أمامنا عالَمًا تحكمُه أمريكا بالتكنولوجيا والقوة الغاشمة. عالمًا حديديًّا أصم نكون نحن فيه بمثابة الروح، نحن من نُفكِّر له، نحن ننتج فنه وأدبه وقيمه، نحن نُحدِّد له الخطأ والصواب. ليكن عالَمًا، إسرائيل فيه هي الكعبة، والصهيونية هي البابا، ليُعيد كهنة اليهود الجدد منبع الحكمة، ولترتدَّ الديانة إلى العهد القديم، فلقد آن الأوان أن نضع حضارةَ أوروبا المسيحية بين قوسَين، وأن نبدأ حضارة أمريكا بصلب المسيحية كلها هذه المرة، بإعادة المسيحيِّين شيئًا فشيئًا وبأحدِّ ذكاءٍ وأنعم وسيلة إلى حظيرة المعبَد الذي أخرجهُم منه المسيح.
لتَعُدِ اليهودية الجديدة (الصهيونيةَ) دينَ العالم الجديد كما كانت دين العالم القديم، وليَعُد الإسرائيليون شعب الله المختار. ليَنتصِب المارد شامخًا مرعبًا مخيفًا يملك كل شيء ويَحتكِر كل شيء، ماردٌ جسده آلي أصم من أمريكا، وروحه محضَّرة مُستحضَرَة مزيفة ببراعة ومُعدَّة في الوكر الصهيوني رهيب.
الصورة مؤسِفة لا شكَّ في هذا، ولكنَّها الحقيقة الواقعة. أمريكا واقعة في براثن الصهيونية، والعالم بالخديعة والطعن والرشوة والحرب والإفساد قد سقَط في براثن أمريكا، العالم عالَمنا نحن؛ فالعالم الآخر له قصة أخرى.
لكل حضارة هفوة
وكما أن لكل عالم هفوة، فلكل حضارة أيضًا — حتى لو كانت حضارة ما ضدَّ الحضارة، حتى لو كانت تملك أدق آلات الحساب والاحتمال — هفوة. الفرق أن هفوة العالِم سهلٌ تداركها، أما هفوة الحضارة فإنها لا تجيء صدفة أو بناءً على خطأ. إنما تجيء لأنها كان محتمًا أن تجيء؛ لأنها قدرها، إذ منها وبواسطتها تلقى نفس الحضارة مصرعها.
وخطأ الحضارة الأمريكية — حضارة ما ضدَّ الحضارة — أنها قرَّرت، وما دامت قد نجحَت في غزو عالَمنا بأكمله، وتمَّ لها السيطرة بنجاح أن تغزو ذلك العالم الآخر دون أن يُخالجها ذرة شك أن النجاح أيضًا سيكون حليفَها. ما دام الناس هم الناس، والإنسان هو الإنسان، ما دام هذا الإنسان من طبعه أن يَخاف القوة، وأن يدفعه الخوف إذا تزايد، أن يَخضع لها.
فماذا هنالك ليَمنع أن تستعمل أمريكا قوتها لتحلَّ محلَّ كل قوى الأباطرة والمهراجات والداي لامات، وبمثْل ما كانوا يُسيطرون، بل وبأضعاف أضعاف قوتهم تُسيطِر!
•••
ولدهشة أمريكا جاء النجاح الأول ساحقًا وبأسرع مما كان يتوقَّعه أحد؛ بضغطتَين على زرين سقطت قنبلتان ذريتان على هيروشيما ونجازاكي، وفي ساعات استسلمَت إمبراطورية الشمس المُشرِقة، وسقط حصن آسيا الشرقي الحصين، وأصبحَت اليابان مُستعمَرة أمريكية تمَّ احتلالها ربما لأول مرة في التاريخ.
لا لغز في آسيا إذن، ولا عمالقة صفر، كل ما في الأمر أنَّنا نحن الغربيِّين صنَعنا الأسطورة ونحن صدَّقناها.
ولكن الأمور بدأت تَستعصِي على الفهم.
بضغطة على زرٍّ أيضًا، وبعد بضع سنوات، اتخذت هيئة الأمم قرارًا بالتدخل في كوريا. كانت هيئة أمم أمريكية في ذلك الوقت، ومَن يدري؟ ربما إلى وقتنا هذا. وتحدَّد للتدخل — قياسًا على ما سبق — أيامٌ معدودات تَنتهي فيها أمريكا من كوريا بشمالها وجنوبها، وتَقضِم إبهام آسيا البارز من جسدها الهائل والقابع بين بحر اليابان وبحر الصين.
وبدلًا من النجاح هذه المرَّة، أخذت أمريكا «علقة» جمَّدت الدم في عروقها، وأرسَت الرعب في قلب جنرالها ماك آرثر. ومن خلال آهات التأوُّه والألم بدأت أمريكا تصرخ: الصين! «العلقة» جاءت من الصين، فليس معقولًا أن يستطيع جزءٌ من شبه جزيرة صغيرة ككوريا أن يُسقط عملاقًا هائلًا مثلها على الأرض يتلوَّى من الألم وحده! إنها الصين، وما أغرب هذه الحضارة الأمريكية! إنها الحضارة الوحيدة القادرة على تصديق أكاذيبها. تمامًا بمثل ما ينتهي الأمر بشركاتها إلى تصديق مبالغات الدعاية عن منتجاتها. صدَّقَت أمريكا أن العلقة كانت من الصين ولا دخل للكوريين بها، وقرَّرت أن تتدخَّل هذه المرة في فيتنام؛ ولأن الصين هذه المرة لن تستطيع الوصول، فهذه فرصتها لتعويض هزيمة كوريا ولتلقين الآسيويين الصُّفر درسًا لن ينسوه، درسَ أنهم يَحيون في عصر أمريكا، عصر قوتها الأعظم، عصر لا يُمكن أن يقف أمام إرادتها أحد.
ولكن المضحك أن أمريكا هي التي أخذت الدرس هذه المرة، درسًا قاسيًا رهيبًا. ليس مجرد «علقة» باستطاعتها أن تعزوها إلى قوة كبرى كالصين، ولكنها فضيحة جعلت أمريكا تبدو أمام العالم وكأنها — كما قال ماو تسي تونج — نمر من ورق. كارثة. وحْلٌ عميق يغوص فيه العملاق الأبيض الذي قوامه مليون جندي مسلَّحون بأحدث وأخبث ما تفتَّقَت عنه عقول العلماء المماليك.
حتى وإن كان صراخ أمريكا يملأ الأرض بقولها إنَّ المساعدات تأتي إلى الفيتكونج من الشمال، حتى لو صحَّ هذا فإن فيتنام بشمالها وجنوبها لا تتعدَّى التسعة والعشرين مليونًا من البشر، وبشمالها وجنوبها تحيا على الكفاف، ولا تصل ثروتها القومية كلها إلى ميزانية شركة متوسطة واحدة من آلاف الشركات الأمريكية.
•••
في فيتنام إذن سرٌّ ما، في ذلك الجزء الصغير من العالم الآخر تحطم وتهاوى كل ما اغتصبته أمريكا من أمجاد وانتصارات في عالَمنا نحن.
في فيتنام إذن، بدأ العالم، بل حتى أمريكا نفسها بدأت تتبيَّن أنها لا تواجه هنا مجرد شعب يدافع عن استقلاله وبلاده، بل هي حتى لا تُواجِه أصحاب مبادئ وعقائد، لا تواجه مجرد حزب شيوعي أو جبهة وطنية، ولكنها تواجه قبل هذا وذاك نوعًا آخر من البشر، بشر صَنَعوا على مدى التاريخ بفقرهم وفقر أرضهم، بأساطيرهم وحكاياتهم، بدياناتهم وإيمانهم، بطبيعتهم البخيلة القاسية، صَنعوا من هذا كله حضارة. الفلاح الفيتنامي الواقف يَنحني يَزرع الأرز ويحصدُه، ويَعتدل ليَسقُط ببندقيته الفانتوم، هذا الفلاح ليس سوى ابنٍ مُخلِص، ونتيجة لحضارة هذا العالم الآخر. يا له من عالم آخر! ويا لها من حضارة! ويا له من خطأ ارتكبتْه أمريكا وهي تَزرع سماوات هذه البلاد بأقمار تَجسُّسها وطائراتها الأوتوماتيكية، حين لم تَفطِن إلى أن آيات الفقر الشديد وحياة الكفاف التي تَتناثر على ضفاف الأنهار وأعماق الغابات هي لشعوب فقيرة.
هذا صحيح.
ولكنها شعوب ذات حضارة، وحضارة من نوع واحد أيضًا، وإلى ألف سبب وسبب تُرجع أمريكا هزيمتها في فيتنام، ولكن أحدًا من عباقرتها المفكرين لم يَخطر له السبب الوحيد لهزيمتهم وانتصار فيتنام؛ فالسبب أنهم يواجهون في الحقيقة حضارة أرقى، ولأنها الأرقى فهي الأقوى، وهي التي سيُكتَب لها النصر. المعركة في فيتنام وغيرها معركة حضارية، ولا علاقة بين الحضارة والثياب التي ترتديها؛ فإن تكن الأمريكية ترتدي أفخر الثياب، والآسيوية أحقرها، فليس معنى هذا أن الحضارة الأمريكية هي الأرقى؛ فالإنسان الفيتنامي هو الأقوى؛ لأنه الأكثر تحضُّرًا، ولأن حضارته من نوع غريب لم تَعرِفه أمريكا ولا عرَفَه عالَمنا، حضارة جديدة؛ لأنها قديمة جدًّا، وخطيرة؛ لأنها عريقة تأصَّلَت جذورها في الإنسان من قديم الزمان.