فلنكتشف أنفسنا
مُمثِّلو أول حضارة على سطح الأرض
ربما نحن لم نزَلْ بعدُ لا نُدرك قيمة حضارتنا في نظر العالم. أي انبهار كان يحدث للشخص حين ألقاه وأُقدَّم إليه ويَعرف أني مصري، فيعود يشدُّ على يدي ويقول: إني سعيد جدًّا أن أقابل ممثلًا لأعرق وأول حضارة على سطح الأرض.
ولقد سألت عالِمًا هنديًّا عما يَعنيه بالضبط بتلك العبارة فقال: ليست حضارتكم حضارة بناء ومعمار وفن ولغة وعلوم فقط، ولكنَّها الحضارة التي أحدثت في العالم القديم ثورة حضارة لا تقلُّ عن الثورة التي أحدثتْها الصناعة واكتشاف البخار والكهرباء والذرَّة، والتكنولوجيا في عصرنا الحاضر.
أنتم اكتشفتُم الزراعة. اكتشفتم أن باستطاعة الإنسان أن يتحكَّم في المملكة النباتية والحيوانية بحيث كانت من النمو التلقائي الذي لا ضبْط له، فأصبحَت تُزرَع المساحات الشاسِعة من الأرض بإرادة الإنسان وبالتحكُّم في البذور والمياه واختراع أدواتٍ للريِّ والزراعة.
كنتم أول من تحكَّم في الطبيعة وسخَّرها في خدمة الإنسان. ومن هنا لم تكن حضارتكم الأولى فقط، ولكنها بداية تحكُّم الإنسان في الجماد والحيوان، ممَّا كان لا بدَّ أن يُؤدِّي تلقائيًّا إلى اختراع الآلة وتطور العقلية والعلوم، ثمَّ مراحل المدنية التي أوصلتْنا إلى ما نحن فيه الآن.
ثم ابتسَمَ وقال: ولو لم يتحكَّم الكهَنة ورجال الدين في تفكيركم بحيث يُوجِّهون اهتمامكم الأكبر لا لتطوُّر ما اكتشفتُموه وإنما للتوقُّف عنده والتوجه كلية إلى الحياة الأخرى ومشاكل الخلود. لو أعطيتم نصفَ اهتمامِكم بالموت وما وراء الموت إلى الحياة وما يدور في الحياة، لكنتُم قد وصلتُم إلى العلوم الحديثة من أحقاب وأحقاب، ولكان الإنسان قد اختصَرَ من رحلة حضارته مئات السنين.
ولقد أرَّقني قوله كثيرًا، ولا يَزال يُؤرِّقني؛ إذ ونحن الآن نُحاول استعادة ما فاتنا، ونحاول الوصول إلى أسرار الثورة التكنولوجية الحديثة، فلا تزال مُشكلتُنا الكبرى، كما كانت في الماضي، لأي هدف نتعلَّم ونَستحوِذ ونصنع ونثور ثورتنا الحضارية الثانية؟ ألكي نَستعملَها لنُفكِّر في الموت وما وراء الموت والنظر إلى ما فات وعبادة الأمس وإحيائه وإعطاء الظَّهر للحاضر وآفاق المستقبل؟
إذا لم نكن نَبغي التحضُّر لنَسبِق الزمن ونُعوِّض ما فات؟ إذا لم نكن نُقاتل لنستعيد ذواتنا وأنفسنا لنمضيَ إلى الأمام؟
إذا لم نكن قد أدركنا أننا تأخَّرْنا لأننا كنا دائمًا نَحيا في عصر بأجسامنا كي نتفرَّغ للحياة في الزمن الذي مضى بعقولنا وأحلامنا؟
إذا لم يكن هذا كله هو رائدنا؟
فأبدًا سنظلُّ غُرَباء كتماثيل المتاحف في عصرٍ حي. ستظلُّ عقولنا تجري إلى الأمام لتأخُذ من الحياة كل ما تَستطيع به عقولنا أن تَجري إلى الخلف.
ما غايتنا؟
وهنا الفيصل.
هنا لا بدَّ أن نتوقَّف ونسأل:
نحن نُريد التحرُّر لنتحضَّر ونتمدَّن، نُريد الكهرباء لنَصنع، نُريد العلم لنَخترِع، ولكن كل هذه وسائل؛ إذ تَبقى الغاية.
فما غايتُنا من هذا كله؟
والسؤال مُهم، والتساؤل محتَّم؛ فلقد استحضرْنا التليفزيون وعمَّمناه لنَنشُر ثقافة هزِّ البطن ومجالس الخلفاء والنُّدماء، أو بالميت لنعرض فيه أفلامًا قديمة لعقلية قديمة ولأهداف بالغة التأخُّر.
والسينما استعملناها لنُروِّج لأسفِّ وأحطِّ القيم.
وصناعة السيارات بذلنا فيها دم القلب لتتكدَّس تاكسيات يَملكُها القادِرون.
ووزارة الثقافة استعملناها لنُنتج كتبًا ميتة ومسرحيات هابطة.
السؤال مُهم.
فما لم يكن هدفنا واضحًا نَرتضيه ونُجمع عليه ونُوزِّع أدواره على كلٍّ منا.
ما لم يكن وراء التحرُّر، والحرب أو السلام، والاشتراكية أو التصنيع، والتنظيم السياسي أو تحديد المِلكية، ما لم تكن هذه كلها أجزاءً نابعة ومُنتهية إلى هدف أكبر وأعظم يُصبح في حياتِنا الهدف المقدَّس، وتقديسه نابع من تقديس كلٍّ مِنا له واختياره إياه. فإنَّنا لن نصلَ لتحقيق هذه المفرَدات فقط، ولكننا ربما نُحقِّقها بطريقة مُثيرة للضحك تمامًا؛ إذ نُحقِّقها لنصل بطريقة تقدُّمية جدًّا إلى هدف متخلِّف جدًّا، أو بالأصح نُصبح عباقرة الإسراع إلى الخلف في عالمٍ بالكاد نستطيع اللحاق به لو أسرعنا إلى الأمام.
إحساس واحد لا زال يَنقصُنا.
لم يكن في نيتي كشْف شيء أو اكتشاف قارة. والحقيقة أن الأمر كله حدث برغمي.
فلقد غادرتُ بلادي بعقل ما ووجدان، هو نفس عقلنا الذي بدأ يَنعزِل عن العالم ويَنغلِق على نفسه، ووجداننا الذي حين يَحزن ينطوي بطريقة تلقائية على ذاته وكأنما يَستمتِع منفردًا بالألم.
وفقط حين رأيت الآخرين، الأفقر منا بكثير، الأقل منا عمرًا، الذين يروننا الأعرق والأخلد، بدأت أكتشف نفسي، أقصد نفوسنا، وأجد كل نفس لدينا قد أصبحت قارة، أحاطت نفسها بستار، ترفض كل شيء، وتهزأ بأي حدث، وتعيش، مثلما غيرها يعيش، وكأننا كنا في انتظار النكسة لنقول: بركة يا جامع! لنقول: وما الفائدة؟ لنقول: ولسه ﺣ نرجع نعافر تاني؟
وكل عشمي ألا نكون قد خرجنا من هذا كله وقد أضيئت معالم الإنسان الآسيوي في عيوننا، عشمي الأكبر أن يكون كلٌّ مِنا قد خرج بضوءٍ قد تسرَّب لنفسه هو، حتى بلا ضغينة يراها، وبلا تأنيب كثير للذات يحادثها، وبحيشه يكشف طاقة أمل، مهما صَغُرت، فهي البداية.
فلنُعجِّل بالبدء
المشكلة أن نُعجِّل بأن نبدأ، فكل ثانية من الزمن تمرُّ تموت من أعمارنا ثانية ولا تعود تحيا أبدًا. وكل ثانية زمن تموت، تموتُ معها ثانية إرادة. وإذا كان في نيتِنا أن نموت فلا شيء يدعو حينئذ للتعجُّل، أو اليقظة، أما إذا كان في نيتِنا أن نحيا؛ فمِن المُستحيل ما دُمنا قد اخترنا أن نحيا أن نؤجِّل الحياة.
والحياة ليست مجرَّد شعاع أمل، أو إحساس بضرورتها، أو إعجاب بها. الحياة حركة. إذا أردْنا أن نكون فلنتحرَّك. بل حتى لو قرَّرنا الموت فلنَمُتْه كما يموت الحي، نَمُتْه حركة، نمُتْه عملًا، نمُتْه شيئًا آخر غير التمدُّد، فاغِري الأفواه، مفتوحي الأعين نتفرَّج، حتى على آلامنا نتفرَّج، وكأن ما يَحدث يحدث لغيرنا، وكأنَّ الألم لا يَكوينا، وكأنَّما إرادتُنا جميعًا سرَقها لصٌّ ووضَعها في صندوق وألقاه في البحر، وكل مشكلتنا أن نظلَّ نتساءل أين مفتاح الصندوق؟ أحيانًا نظنُّه مع يارنج، وأحيانًا مع الدول الكبرى، وأحيانًا لا بدَّ أن أحدًا قد دَفَنه في رمال سيناء.
والمفتاح — أيها الأعزاء — والصندوق والإرادة داخلنا لم تُسرَق ولم نَضِع، مع أنفاسِنا تتردَّد، رهن إشارتنا تكون، والمسئولية مسئوليتنا.
وعلى أنفسنا نحن نتفرَّج، والنُّكتة نرويها دائمًا والمُغير بطلها، في حين أن راويها لا يَعرف أنه البطل، والمسألة طالت وطالت، والأحاسيس كَثُرت وتشعَّبت. كلُّ ما في الأمر أن إحساسًا واحدًا لا نَزال لم نَشعُر به، ونتجنَّب أن نشعر به، هو إحساسُنا بالخجل.