بلاد الدكتاتورية
(١) إسبانيا
لما وقعت حوادث الانقلاب في تركيا وإيطاليا وإسبانيا ومصر، جمعها بعضهم باسم الدكتاتورية في بلاد البحر الأبيض، وحاول آخرون أن يجعلوا من هذه التسمية رابطة تسوِّغ شيوع الدكتاتورية في تلك البلاد، كأن كلمة البحر الأبيض كافية لإلقاء الشبه بين بلاد لا يشبه بعضها بعضًا في الجنس، ولا في الأحوال السياسية أو الاقتصادية، فالفرق بين تركيا وإسبانيا كالفرق بين أبعد أمتين على ظهر الكرة الأرضية، وكذلك الفرق بين مصر وإيطاليا من وجوه كثيرة وإن كانت جميعها واقعة على سواحل بحر واحد.
وهذه البلاد على اختلافها في كثير من الشئون تختلف كذلك في الأسباب التي أدت إلى الانقلاب، والعوامل التي تمكن فيها الحكومة الانقلابية، وأشد هذه البلاد اختلافًا هي إسبانيا التي لا تضارعها في أحوالها المتناقضة أمة أخرى من أمم الحضارة.
مصطفى كمال وموسليني كلاهما بطل الانقلاب في بلاده، ومحور الحركة القومية التي اشتهرت باسمه، أما بريمودي ريفيرا (أو مجوبلتو) كما يعرفونه في وطنه فلم يكن بطل الانقلاب، ولا كان هو المختار لتمثيل دوره، وإنما انصرف اختيار الرجعية أولًا إلى الجنرال «أجوليرا» لتنفيذ الخطة المرسومة، وانعقدت النية على إبراز هذا الجنرال لقيادة الحركة، وأوشك ذلك أن ينفذ لولا أنه وقف مرة في مجلس الشيوخ يقول: إن شرف العسكري مقدَّم على شرف «غير العسكري»، فتصدى له رئيس الوزارة السابق «سانشي جوير» وصفعه صفعتين، فقضى على مستقبله في الدكتاتورية بهذا الحادث الذي كثر حوله اللغط، واشتد من جرائه اللجاج في البيئات العسكرية والاجتماعية.
ومما يزيد الارتباك في سياسة الجيش أن صغار الضباط من فرق المشاة مخالفون لرؤسائهم في الميول والمطالب لاتهامهم إياهم بالمحاباة في الترقيات، فهم يريدون الإصلاح، ويشايعون خصوم القواد المكروهين بعض المشايعة، وليس من شأن هذا الاختلاف أن يهوِّن علاج الحالة لِمَن يريد العلاج الحاسم لأصل الداء.
فهذه الحركة العسكرية تؤيدها الرجعية الممثَّلة في النبلاء والكنيسة ومَن يكمنون وراءهم هي سر الانقلاب المدبر المرسوم بمعزل عن الحياة القومية على مثال غير الذي عُرف في تركيا وإيطاليا. وما النبلاء أيضًا في إسبانيا؟ وما الكنيسة فيها؟ أما النبلاء فهم الطبقة المسيطرة على الأمة بين طبقات الأسبان، إذ ليس هناك إلا سادة غنية وجماهير فقيرة، وليس بينهما موضع للطبقة المتوسطة التي تَظهر في الأمم بظهور المشروعات الاقتصادية، ورواج الصناعة والتجارة، والتناسب في توزيع الأرض الزراعية، يقول الأستاذ شارل شبمان: «إن بين النبلاء والجماهير فجوة واسعة؛ لأن الطبقة الوسطى ضئيلة الشأن بالقياس إلى ما ينبغي أن تكون، والجماهير على الغالب عنصر طيب محب للحرية، ميال إلى الديمقراطية، ولكنهم مرهقون بسوء الحال، وقلة فرص الأعمال، فينزع الطامعون منهم إلى الهجرة وارتياد الرزق في الأرجنتين والمكسيك وغيرهما من أصقاع أمريكا الأسبانية، ويبرح إسبانيا في كل سنة مائة ألف أو أكثر من خيرة العناصر المطلوبة للبلاد، ويبقى الذين يتخلفون في حالة من الضنك بالغة السوء والضعة.»
في وسط هذه الفوضى الفاشية في كل مكان، وفي وسط هذا الاستبداد الذي يتعاون عليه الرجعيون جميعًا، ويستمسكون به كلما أنذرتهم بوادر التداعي والزوال، في هذا الغمار المضطرب المتقلقل حبطت مساعي الأحرار، وشاعت البطالة والتسول والفقر المدقع، وسرت روح التذمر بين العمال، وتفرقت البلاد شيعًا وأقاليم يطلب كل منها الاستقلال لبلده، ويمعن بعضها في ذلك حتى يُعلِن الثورة وينادي بالانفصال كما حدث في قطالونية، إذ يجب أن نَذكر أن إسبانيا كلمة واحدة، ولكنها في الواقع أمم شتى لم يندمج بعضها في بعض، ولم يزل كل فريق منها يَكره كل فريق غيره، ويُعيِّره أصله وقومه، ففيها ملل كثيرة تزيد على العشرة، وفيها أقاليم منعزلة تلح في طلب «اللامركزية»، ولا يُعنى أبناؤها بالوطن كما يعنون بمصلحة الأقاليم.
هذا إلى جانب الدعاية الجمهورية والدسائس المتشعبة بين أجزاء الأمة المفكَّكة الأوصال، وإلى جانب المكائد الخفية التي تعرقل كل إصلاح يرجى أن يَقتلع أصول الحكومة السيئة، فلما وقعت كارثة «النورال» — وهي الكارثة التي قُتل فيها عشرة آلاف جندي، والقائد سلفستر، ومئات من الضباط، واستأسر بقية الجيش كله للمراكشيين — جرى التحقيق على أيدي لجنة النواب، واشترك فيه الملكيون والجمهوريون، فظهر من أقوال الشهود ومن أوراق ضُبطت في أمتعة القائد القتيل: أن خطة القتال التي أودت بذلك العدد الكبير من أبناء البلاد قد وُضعت بغير علم وزير الحربية الذي نبذه واضع تلك الخطة المشئومة بلقب «الحمار» … فهاجت الخواطر هياجًا عظيمًا، وأوشك أن يقع الحادث المنتظر، وأن يسقط معه المسئولون عن هذا الفساد، ولكنهم عجَّلوا بالانقلاب — وقد طال تحفزهم له — ودفعوا آلاتهم للتنفيذ، فمضوا فيه، وكان أول ما اهتموا له مهاجمة البرلمان والاستيلاء على محاضر لجنة التحقيق!
هذه حالة لا شبيه لها في غير إسبانيا من بلاد العالم أجمع، وذلك انقلاب يراد به إطالة أسباب الفساد لا إصلاح تلك الأسباب التي لن يرجى مع بقائها صلاح.
(٢) تركيا
إذا كانت إسبانيا مخالِفة جدًّا لتركيا وإيطاليا في انقلابها، فالشبه من الجهة الأخرى غير قريب بين أسباب الانقلاب الذي حدث في هذين البلدين ومظاهره وأشخاص القائمين به، غير أنهما قد يتشابهان في أمر واحد، وهو أن بطل الانقلاب في كليهما هو محركه ومحوره وإن تباينت البواعث والأغراض.
لما عُقدت الهدنة بعد الحرب العظمى كان قد مضى على تركيا سبع عشرة سنة في حروب متلاحقة من حرب طرابلس الغرب إلى حرب البلقان إلى الحرب العظمى إلى ما تقدم ذلك وتخلله من مناوشات في اليمن وأرمينية وألبانيا وغيرها، بحيث انقضى على معظم الجنود في الجيش العثماني خمس عشرة سنة لم يُلقوا السلاح، ولم يزالوا طوال ذلك الزمن بين هزيمة فادحة أو ظفر لا غُنم فيه. هذا إلى شظف العيش وإدمان الهجرة وقنوط النفس من عواقب الجهاد المتتابع في غير طائل، ثم كانت الطامة الكبرى بعد الحرب العظمى، فسقطت تركيا متهالكة من الإعياء لا رمق فيها ولا رجاء: خراب فوق خراب ويأس مطبق لا منفذ فيه للرحمة، جيش مشتت مفلول، وأمة منهوكة يرهقها ذل الهزيمة، وعاصمة محتلة، وحكومة منخوبة القلب يعبث بلبها الوعد والوعيد، وخليفة يُخيِّر نفسه بين حماية إنجلترا أو حماية الولايات المتحدة، والحلفاء من وراء ذلك ظافرون مختالون قد حكَموا على عدوهم الواقع في قبضة يدهم بالمحو والفناء، وقسَّموه بضعة بضعة، وأطلقوا على كل بضعة منه خصمًا متعطشًا للنقمة يقتل وينهب ويهتك الأعراض ويدمر العمار.
من هذا الخراب المطبق أنشأ مصطفى كمال دولة جديدة تنفض عنها ضعف القنوط، ويبرم لها أعداؤها قيودًا جديدة، فتَخرج هي من محنتها وقد حطمت قيودًا لأولئك الأعداء كانت ترسف فيها قبل الحرب، وأبطلت كل ما كان لهم في بلادها من الامتيازات، وكل ما كان لهم في دواوينها من الجاه المطاع.
لم يكن مصطفى كمال حكيمًا متئدًا — بلا ريب — حين صحت عزيمته على أن يحارب الحلفاء، ويحارب اليونان، ويحارب حكومته، ويحارب الخائنين من أبناء وطنه، لم يكن حكيمًا متئدًا حين صحت عزيمته على أن يحارب هؤلاء جميعًا بطائفة من أمته الصغيرة مثخنة بجراح الهزيمة والإفلاس، معوَّدة أن يتورط بها القادة فيما لا يفيد ولا يعود منه فخر ولا عزاء، وإنما كانت الحكمة كلها والاتئاد كله عند أناس آخرين من الترك كانوا يجلسون في الأستانة في هينة وسكينة ينتظرون الخاتمة التي ما كان عنها محيد، وكانوا يعلمون ما لا فضل في علمه لأحد على أحد: كانوا يعلمون أن الحلفاء أقوياء ظافرون، وأن مصطفى كمال ضعيف مخذول، وأن الحماقة كلها حيث يعمل مصطفى كمال، والحكمة كلها حيث يعملون مع الحلفاء، أو بعبارة أخرى: مع الإنجليز، وصدَّقوا — لأنهم حكماء متئدون — أن الإنجليز لا يتنمرون لتركيا، ولا يشتطون عليها في شروط الصلح إلا لأن فيها حركة وطنية وإنسانًا يسمى مصطفى كمال يقود تلك الحركة الوطنية! فبعثوا إليه البعوث تقاتله، ونصبوا المحاكم تدينه في غيبته، وقضوا عليه هو وصحبه بالموت لأنهم عصاة يُقلقون سلام الدولة، ويُفسدون بطيشهم سياسة الدهاة المحنكين! قال مصطفى كمال: «كانوا يقولون للأمة من جهة ولحكومة الأستانة من جهة أخرى: لا تعترفوا بمصطفى كمال ولا تثقوا به؛ لأن الحلفاء لم يشتدوا على تركيا إلا من جراء فعله، كانوا يقولون ذلك ويزعمون أنه إذا قُضي عليَّ نالت البلاد عند الدول الأجنبية كل صداقة وهوادة.»
فأكبر انتصار يؤثَر لمصطفى كمال هو لا مراء هذا الانتصار الأول على اليأس والرهبة وسوء الظن بالأمة، ولو أنه يئس لَما ليم على يأسه، أو رهب لما كانت رهبته لغير سبب، أو أساء الظن بالأمة لسوغت ظنه السيئ خيانة الخائنين، وجهل الجهلاء، وخطل السواس، وقلة جزاء العاملين، ولكنه قهر هذه الوساوس في نفسه، وأدال منها للعزيمة والرجاء، وعلم أنه زعيم ليجعل الأمة تستحق، لا لأن الأمم تستحق كل شيء بغيره، فكان انتصاره على وساوس الضعف هو البطولة الصادقة، وهو الغلبة التي لا تُذكر معها غلبته على خصومه في ميدان الحرب والسياسة.
ويحق لنا أن نسمي مصطفى كمال «دكتاتورًا» إذا عنينا أنه صاحب الفضل الأكبر في إنقاذ أمته، وتفريج أزمات بلاده، ولكنه ليس بالدكتاتور إذا نظرنا إلى نظام حكومته وقواعد دستوره واتصاله الحميم بشعبه.
فإنه لم يحكم قط لا في الحرب ولا في السلم بغير هيئة نيابية، ولم يَدْعُ إلى انتخاب المجلس الوطني الكبير إلا بعد أن صدر أمر «وحيد الدين» بحل مجلس المبعوثين، ولحقت بأنقرة جماعة النواب المؤيِّدين له في الحركة الوطنية، فاجتمع من هؤلاء ومن النواب الذين نفاهم الإنجليز إلى مالطة ومن النواب المنتخبين في الأناضول ثلاثمائة وخمسون نائبًا هم قوام الحكومة الكمالية، وهم أصحاب السلطان الأعلى في التشريع والتنفيذ وإدارة أعمال الحكومة كافة. فالأمة هي صاحبة السيادة الكاملة، والمجلس الوطني الكبير هو ممثل الأمة، وهو الذي يوكل عنه الوزراء والولاة، بل هو الذي انتدب مصطفى كمال للقيادة، وجددها له فترة بعد فترة، وكانت مدة المجلس سنتين في إبان الحرب لمتابعة الحوادث، وتمثيل الأمة فيه أثناء التطورات الحربية أصح تمثيل، ثم استقرت الأمور وتعدَّل الدستور في العشرين من أبريل سنة ١٩٢٤، فزيدت مدة المجلس إلى أربع سنوات، ونصت المادة السابعة على أن «المجلس يباشر سلطته التنفيذية بواسطة رئيس الجمهورية الذي ينتخبه المجلس، وبواسطة الوزراء الذين يختارهم رئيس الجمهورية»، ولكن ليس لهذا الرئيس أن يحل المجلس الوطني الكبير، ولا أن يرفض القوانين التي أقرها النواب، وليس من حقه أن يشترك في المناقشات وإن كان يجوز له في حالات خاصة أن يحضر جلسات الوزراء، ويجوز للمجلس أن يُسقط الوزارة متى شاء.
وقد جهر مصطفى كمال بامتعاضه من سياسة أحمد زوجو، ملك ألبانيا الجديد، وأبى أن يعترف به؛ لئلا يكون في اعترافه تشجيع للذين يستخدمون ثقة الأمة لمثل هذه الأغراض، فليس لأمة من الحقوق الدستورية مثلما للأمة التركية في حكومة مصطفى كمال، وإذا أقدمَ هذا الرجل العظيم إقدام الجَسور في إصلاح قومه؛ فإنما يفعل ذلك بشفاعة عن حبهم إياه، وإعجابهم به، ورغبتهم في إرضائه وتسهيل عمله. وطوبى لأمة تجتمع لها حقوق الدستور، ونخوة الإعجاب، وترزقها العناية رئيسًا تثق به ويثق هو بأنها جديرة بين الأمم بأعلى مقام.
ومصطفى كمال بعدُ عالمٌ في فنه، مطلع واسع الاطلاع على سِيَر القواد والعظماء، خطيب فصيح، وكاتب أديب، وسائس موفق السياسة، ومصلح بصير بدخائل النفوس، ومواقع الإصلاح، ورجل اجتماع مستظرف الكياسة، وإنسان تشرف به الإنسانية، ويُعَدُّ في الذروة العليا بين الرجال العاملين.
إلى مثل هذه الزعامة تحتاج الأمم؛ لأن الأمم لا تطلب الزعماء إلا لينهضوا بها فوق ضَعْف الحرص والضرورة، وفوق ضَعْف الشهوات الباطلة والعروض الزائلة، ولو كان عمل الزعماء فيها أن يجنبوها كبار الآمال، ويوصوها بالحرص على الشهوات القريبة والعروض الميسرة لاستغنت عنهم أيما استغناء، ولكان لها الكفاية فوق الكفاية من ذلك الجشع المركب في دخائل النفوس، والذي ما وُجدت القوانين والأخلاق والأديان والزعامات إلا لأنه محمود الزوال والخفاء، وليس بمحمود البقاء والنماء.
(٣) إيطاليا
تنبيه
- أولًا: أن موسليني كان داعية الحرب في صفوف الحلفاء حين وقف الساسة الإيطاليون موقف الحياد أو المحاباة السلمية لدولتي أوروبا الوسطى عملًا بالاتفاق القديم، فمن مصلحة السياسة البريطانية أن تؤيده في إيطاليا وتخذل خصومه بكل ما تستطيع.
- ثانيًا: أن موسليني انشق على الاشتراكيين، وأفرط في محاربة الشيوعية، وهي عدو لدود للسياسة البريطانية يهمها أن تؤلب عليه الأنصار.
- ثالثًا: أنه ينافس فرنسا في البحر الأبيض، فهو قرين موافق للسياسة البريطانية.
- رابعًا: أن السياسة البريطانية احتاجت بعد الحرب العظمى إلى رد فعل للمبادئ الولسنية والأفكار العامة التي أطلقت آمال الشعوب، ودفعت بها في وجهة الحرية والديمقراطية، فهي تجد في الفاشيين حاجتها لكبح تلك الآمال، ومحاربة تلك الأفكار؛ حيث يروقها أن تحاربها في البلاد الشرقية، ولا سيما وهي تستطيع أن تعمل ذلك دون أن تُغضب الأمة الإنجليزية، بل هي تعمله لتملق هذه الأمة، وتَعتبر الحكم الديمقراطي مزية خاصة لها لا تشاركها فيها الأمم الأوروبية ولا شعوب الشرق من باب أولى.
- خامسًا: أن في إنجلترا حزبًا من المحافظين الجامدين وبعض رجال الدين — لسان حاله صحيفة المورننج بوست — يَكره الديمقراطية كراهة شديدة، ويدعو إلى سياسة الدم والحديد؛ لأنها خير سياسة للأمم قاطبة، والأمم المستعبدة منها على الخصوص، ويقول: إن حركات الشعوب كانت دسيسة يهودية لتدمير أوروبا، وتقويض الحضارة المسيحية، وإضعاف سلطان الكنيسة الكبرى! ويعتمد في هذا الكلام على حركات إيطاليا نفسها؛ لأنها وجدت العضد الأكبر بين جماعات الماسون، وكان اليهود فيها غير قليلين. وأشياع هذا الحزب هم الذين اكتتبوا بمبلغ من المال اشتروا به سيفًا في قراب ذهبي أهدوه إلى القائد داير صاحب مذبحة أمرتسار في الهند.
فالذي يكتب عن الفاشية في الصحف الإنجليزية وفي بعض الكتب مشوب بأغراض كثيرة لا يَسهل استخلاص الحقيقة من بينها، وقد يُخدع به القارئ إذا لم يَتخذ لنفسه الحيطة فيبني عليه حكمًا بعيدًا عن الصواب. وكاتب هذه الرسالة قد عالج مصداق ذلك في نفسه من قراءاته السابقة واللاحقة في هذا الموضوع.
الفاشية والديمقراطية
بعد هذا التنبيه الذي لا بد منه نقول: إن الفاشية هي المذهب الوحيد في بلاد الدكتاتورية الذي يدَّعي أنصاره أنهم يصدرون في حكومتهم عن مبادئ عامة تقابل مبادئ الديمقراطية. وقد أعلنوا هذه المبادئ في مؤتمر عقدوه في شهر سبتمبر سنة ١٩٢١، وتتلخص في أساس واحد وهو: «أن الأمة ليست هي مجموعة الأفراد الأحياء فحسب، ولا هي آلة للأحزاب، ولكنها بنية تدخل فيها سلسلة الأجيال التي لا نهاية لها، ولا يُعدُّ الأفراد إلا أجزاء عارضة منها، وهي بعبارة أخرى: جملة جميع العناصر المادية وغير المادية التي تنطوي عليها القومية.»
وإدراك الأمة على هذا النحو ليس بالرأي الجديد، ولكن الرأي الجديد فيه هو ما استخرجه «الفاشيون» من هذه الحقيقة، وهو أن الحكومة هي كل شيء، ولا يصح أن تتألف في الأمة هيئة مجتمعة خارجة عن السلطة الحاكمة حزبًا كانت هذه الهيئة، أو نقابة عمال، أو جماعة تتولى العمل للمصلحة العامة. وواضح أن هذه النتيجة الغريبة مناقضة لإدراك الأمة على النحو المتقدم؛ لأن القول: بأن الأمة «بنية تدخل فيها سلسلة الأجيال التي لا نهاية لها، وأنها جملة العناصر المادية وغير المادية التي تنطوي عليها القومية» أحرى ألا يجعل مقاديرها الحاضرة والمستقبلة لعبة في أيدي بضعة أفراد يحكمونها في جيل واحد بغير مناقشة أو تعقيب. وقد شاع أن الفاشية عدو الشيوعية المبالغ في مطاردتها واستئصالها. وهو صحيح من حيث الظواهر والعناوين، وصحيح مثله أن بعض طوائف الاشتراكيين تحارب الشيوعية كهذه الحرب، بل أشد منها نقمة وبغضاء، ولكن الواقع أن «الفاشية» أخت الشيوعية في الجوهر والأساس، وهو محو «الفرد»، واستغراق حريته وحقوقه في سلطة الحكومة، فما جهد «كارل ماركس» لشيء جهده لإثبات هذه الفكرة التي يقوم عليها بناء الاشتراكية كله، فالمنافسة الفردية لا يصح بحال من الأحوال أن تقف في طريق الشيوع الإجماعي، ما دام أن الفرد عنصر عارض لا قيمة له في حوادث التاريخ، وعلى هذا يجب أن تستولي الأمة على كل شيء ولا يستأثر الفرد بشيء! بيد أن الشيوعيين يقولون ذلك ولا يقطعون الأمل على الفرد في المستقبل كما يقطعه عليه الفاشيون، فهم يمنُّونه بالحرية التامة في توجيه حياته، وتكميل خصائصه، متى خف عنه ضغط الفاقة وجهاد المعيشة، بمنع الملك والاستئثار، وإعفاء المجتمع من حروب الطبقات. أما الفاشيون فلا يفتحون له باب هذا الأمل، ولا يبرح الفرد عند حكومتهم مستغرقًا في المجتمع الذي لا حق لإنسان فيه خارجًا عن حق الحكومة الخالدة! ومن ثَم يبدو لنا موضع الخطر الدفين، ويتبين لنا أن المسافة بين الشيوعية والفاشية ليست من البعد بحيث توهمنا الخصومة الظاهرة والعداوة العنيفة. تلك الخصومة التي ينشب ما هو أعنف منها بين الاشتراكيين والاشتراكيين، والتي قد نشب ما هو أعنف منها فعلًا بين البلشفيين والمنشفيين.
هل كان الفاشيون على هذه العقيدة منذ البداية؟ لا، قال السنيور نيتي في رسالته التاريخية في المجلد الخامس والعشرين من تاريخ المؤرخين: «كان من مقاصد الفاشية في بدايتها إنشاء الجمعية الإيطالية الدستورية، على أن تكون فرعًا لجمعية الشعوب الدولية التي ترمي إلى تغيير قواعد المجتمع سياسةً واقتصادًا، والوصول — بغير تدرج — إلى تطور الحضارة، وإعلان الجمهورية الإيطالية مع الحكم الذاتي للأقاليم وسيادة الشعب، تتولى تنفيذها هيئات مختصة، وإلغاء مجلس الشيوخ وكل هيئة مصطنعة تحد من إطلاق السيادة الشعبية، وإلغاء الرتب المميِّزة للطبقات، وإلغاء الجندية الإجبارية، ونزع السلاح، وإنشاء معاهد شعبية كبيرة للتسليف إلخ إلخ؛ مما جعل للفاشية بين سنتي ١٩١٩ و١٩٢٠ نزعة ثورية ونمَّ على أصلها الاشتراكي، إلا أن النزاع بينها وبين الاشتراكية — وكلاهما له أصل واحد — قد صبغها بالصبغة الوطنية، ثم بالصبغة المحافِظة خلافًا لبدايتها الأولى. وقد ساعد على ذلك انتظام كثير من جنود الحرب في صفوفها، فلم يبق ذكرٌ لمقاصدها الأولى.»
كذلك نشأت الفاشية في بدايتها، ثم صارت في سنة ١٩٢١ إلى ما رأينا! فلما جاء دور الحكم كانت تحية موسليني لمجلس الشيوخ كلمة طيبة، وتحيته لمجلس النواب إنذارًا يشبه إنذار كرمويل للبرلمان الإنجليزي في اللهجة والزراية، وأصبح مفروضًا على كل فاشي أن يقسم يمين الولاء للملك كما يفعل الجنود في الجيش.
كتب موسليني ذلك لأن الجانب الذي كان يُنتظر أن تنحاز إليه إيطاليا هو جانب ألمانيا والنمسا، على حسب الاتفاق القديم بين الدول الثلاث، ولم يكن هناك محل للمعارضة في انحياز إيطاليا إلى الحلفاء؛ لأنها لم ترتبط بعهد يوجب عليها الانحياز إليهم، ومن هنا جاء قوله: «ليس في وسعنا أن نكون خدامًا ولا ممالئين لألمانيا والنمسا»، ولم يقل: «ليس في وسعنا أن نكون خدامًا لإنجلترا وفرنسا»، إذ إن شيئًا من ذلك لم يقع في الحساب، ولكن ما هي إلا أسابيع بعد شبوب الحرب حتى كان موسليني يدعو إلى التأهب للقتال، ثم إلى مشاركة الحلفاء، وإذا به ينشق على الاشتراكيين، فينشئ — مع فقره — صحيفة مستقلة لترويج هذه الدعوة، ثم يتقدم إلى الحرب فيخرج فيها، ويعفى بعد ذلك من القتال لمواصلة الدعوة بالقلم واللسان.
ولو أجاب الملك الوزارة إلى إعلان الأحكام العرفية حين أراد الفاشيون إجبارها على الاستقالة لتغيرت الأحوال في إيطاليا، وجاز ألا يظفر الفاشيون بالحكم كما ظفروا به الآن، ولكن الملك لم يعلن الأحكام العرفية؛ لأن الجيش كان يعطف على الفاشية عدو الاشتراكيين الذين كانوا يستخفون بالعسكرية، وأفرطوا في ذلك بعد خروج إيطاليا من الحرب العظمى بغير عوض يذكر؛ ولأن الفاشية كانت قد أدت كل ما عليها للملك من الطاعة والولاء، وهجر مبادئها الأولى التي كانت تعوقها عن ولاية الحكومة.
وبعد فهل كان للفاشية موجِب؟ وهل كانت هي العلاج الوحيد لما كانت عليه إيطاليا في تلك الأيام؟
هذا مجمل الأسباب الموجِبة لقيام الفاشية في رأي ذلك الكاتب الذي هو أحد أعوان بطلها وحمَلة أقلامه، وقد أتى فتور يودي فيوري، صديق موسليني، على أسباب كهذه في كتابه الحديث «رجل القدر» مع بعض التفصيل، وطابقَها كُتاب آخرون معدون في أوروبا وأمريكا بنشر الدعوة، وكلهم يقولون: إن الفاشية قامت لتدفع القوة بالقوة، وترد الثورة بالثورة، وتريح الأمة من تلك الفوضى الطارئة التي عجزت عن مكافحتها الحكومة.
أما خصوم الفاشية فيقولون: إن أخبار الفوضى الإيطالية كانت إشاعات مبالغًا فيها جدًّا في الصحف الأجنبية، بالغ فيها الفاشيون لتسويغ عملهم، ووافقت هلع القوم في أوروبا يومئذ من خطر الشيوعية، فوقعت عندهم أيضًا موقع المبالغة والتهويل، والحقيقة أن الإيطاليين ما كانوا قط في تاريخهم جادين في الثورة على النظام الاجتماعي، ولا كان منظورًا لتلك القلاقل التي أعقبت الحرب إلا أن تهدأ بعد التجربة الفاشلة، وأن يقلع عنها أصحابها عن اقتناع يدوم أثره، ويفلح علاجه. وليس كعلاج العدوان والعنف الذي يغري بالمقاومة، ويضري بالكراهية، ويلقي في روع المقموعين المضطهدين أنهم غُلبوا قهرًا إلى أن تتاح لهم معاودة الكرة واستئناف التجربة.
ولقد أطنب الفاشيون في منافع حكومتهم، ونسبوا إليها كل فضل في إحياء الصناعة الوطنية، وروجوا دعوتهم في أوروبا وفي مصر، فقرأنا لبعض كتابنا كلامًا يريدون منه أن يفهم الناس أن الفاشية هي التي استخدمت قوة مساقط الماء، وأصلحت الزراعة والصناعة. وهو زعمٌ باطل مموَّه، والإحصاءات الرسمية تنبئ عن بطلانه، وتدل على أن الصناعة الإيطالية في جملتها ولدت ونمت وقطعت شوطها الأبعد في عهد الديمقراطية، أو في عهد الحكومة الشعبية التي يَسخر منها موسليني وبطانته ومريدوه؛ ففي الإحصاء الرسمي الذي كُتب باسم البحارة الإيطاليين، وأُهديَ إلى زملائهم في الأسطول الأمريكي، بيانٌ وافٍ عن تطور الصناعة ننقله هنا بحرفه، وهذه ترجمته: «في سنة ١٨٧١ استعملت إيطاليا نحو ٨٠٠٠٠٠ طن من الفحم، فزاد ما استعملته في سنة ١٩١٤ على عشرة ملايين، لا يدخل في حسابها الترقي العظيم في استخدام القوة المائية التي يُقدَّر ما استُخدم منها بقوة تسعمائة ألف حصان، يدار بها لا أقل من سبعة آلاف عمل. وكان العمال الصناعيون في السنة الأولى بعد سنة ١٨٧٠ أقل من ثلاثمائة ألف، فقاربوا في السنة السابقة للحرب مليوني رجل. أما من حيث الإنتاج، فهناك صناعتان تفوقتا على الصناعات الأخرى؛ وهما: صناعة التعدين، وقد ارتقت من ستة وثلاثين مليون ليرة في سنة ١٨٧١ إلى نصف مليار في سنة ١٩١١، وصناعة الكيميات التي أنتجت في سنة ١٩١٣ أكثر من مائة وأربعين مليون ليرة — وكانت في حكم المعدومة في سنة ١٨٧١ — وتستحق صناعة النسيج التفاتًا خاصًّا؛ فإن إيطاليا قد أنتجت قبل الحرب خمسة آلاف طن، أُرسل جزء منها خامًا إلى الخارج، ونُسج جزء كبير في الأنوال الوطنية التي يبلغ عددها نحو عشرين ألفًا نصفها على التقريب الميكانيكي.
ويشتغل نحو مائتي ألف عامل بصناعة القطن الذي لا يُزرع إلا بمقدار قليل في صقلية؛ لحرارة جوها، والذي يُستورد منه نحو مائتي ألف طن من أمريكا تُغزل وتُنسج في إيطاليا على أنوال تبلغ ١٣٠٠٠٠، معظمها ميكانيكي، كما ظهر من إحصاء سنة ١٩١٢، والصناعة الصوفية التي اشتهرت بها إيطاليا في القرون الوسطى قد سرَت فيها روح حياة جديدة، فكان لها في سنة ١٩١٣ خمسة عشر ألف نول معظمها ميكانيكي، واشتغل بها نحو خمسين ألف عامل، ويجب ألا ننسى في صدد المنسوجات صناعات القنب والكتان والجوت؛ لأن إيطاليا في مقدمة الأمم المنتجة للقنب، وهي تصدِّر جزءًا كبيرًا منه خامًا، وإن كانت تستورد كل الجوت — على وجه التقريب — من الخارج، وقد بلغ عد المشتغلين بالغزل والنسيج في هذه الصناعات نحو أربعة وأربعين ألف عامل في سنة ١٩١٧، وقُدِّر عدد المشتغلين بصناعات النسيج كلها بنصف مليون، ومقدار المال الموظف فيها بنصف مليار ليرة. وصناعات المعادن والآلات لا تقل في القيمة ولا في التطور عن المنسوجات؛ فقد بلغ ما أنتجته إيطاليا فيها قبيل الحرب مليون طن من الصلب؛ أي عشرة أمثال نتاجها في سنة ١٩١٠، ويضاف إلى ذلك تلك الأعمال الكبيرة التي أُسست لإخراج أصناف خاصة من الصلب تضارع أحسن مثيلاتها في بلاد العالم، وأنشئت في ليجوريا، وفي ترني بأومبريا، وعلى مقربة من نابولي مؤسسات رائجة تصنع جميع أصناف الآلات للسفن الحربية، وتستخدم مائة وخمسين ألف عامل زاد عددهم الآن زيادة كبيرة، فأضيف إليهم مائتان وخمسون ألفًا يعملون في الصناعات الميكانيكية، ومنها صناعة السيارات، وقد كانت قيمة ما صدر من دواليب السيارات في سنة ١٩٠٧ مائتي ألف ليرة، فوصلت بعد خمس سنوات إلى ٥٢ مليونًا لا يدخل في حسابها ما يشترى داخل البلاد. وهناك أعمال النقل الكهربائي التي تنقل الفحم من سافونا إلى قمة جبال «الأبنين»، وخط الكهرباء على سكك جبال سنيس وسمبلون وجيوفي، وكلها من مبدعات المثابرة والعبقرية الإيطاليتين، ومما يُبشِّر بالتقدم المنتظر في صناعة إيطاليا ريثما يتيسر بعد الحرب المال والعمال. أما الصناعات التي أنتجت عشرة ملايين قنطار من السماد الكيمي، وخمسين ألف طن من الكربون الممعدن، ونحو عشرة ملايين طن من محصولات أخرى، فهي تكاد تكون مخلوقة خلقًا من حيث لم يكن لها وجود، وكذلك صناعات الأطعمة، وبخاصة السكر والجلود والجبن والمحفوظات، قد خطت كلها خطوات محسوسة في خلال العشرين السنة الأخيرة.»
ويقول السنيور نيتي في رسالة نُشرت في المجلد الخامس والعشرين من تاريخ المؤرخين: «تستطيع إيطاليا أن تزيد قوتها المائية إلى خمسة أضعاف، وأن تنشئ في سنوات قليلة مصانع تعطيها تسعة ملايين أو عشرة ملايين «كيلوات». والذي يعني إيطاليا بصفة خاصة هو توزيع مائها؛ لأنها محاطة في الشمال بسلسلة الجبال الألبية، وتتخللها على طولها سلسلة الأبنين، وهي لإحاطة البحر بها من جميع الجوانب ما عدا الشمال، كثيرة مساقط الماء في مساحة صغيرة، وفضلًا عن هذا بينما تكون أنهارها الشمالية على أعلاها صيفًا لذوبان الثلج والجليد في جبال الألب، تكون أنهار الأبنين على أعلاها في الشتاء، فبناء الخزانات التي تسهل إقامتها على طول شبه الجزيرة على الانتفاع بقوة الماء، وعلى تنظيم استعمالها في الصناعة وفي تسيير القطر الكهربائية.»
ولم نذكر السفن ولا خطوط الملاحة ولا المصنوعات الكثيرة التي ابتدعتها إيطاليا الحرة في عهد حكوماتها الشعبية؛ لأن شرحها يطول في غير جدوًى. أما الزراعة فإحصاء البحارة الذي أشرنا إليه آنفًا يقول: إنه «من سنة ١٨٦٢ إلى سنة ١٩٠٦ مُهد للزراعة ما يقرب من ستة ملايين هكتار كانت مهجورة قبل ذلك، وتضاعفت هذه المساحة تقريبًا في العشر السنوات الأخيرة. وقد أُنشئت وسائل فعالة في بوجليا التي يقل فيها الماء؛ لجلبه إليها خلال قمم الجبال العالية، ويضاف إلى هذه الأعمال الجليلة التي ستمتد وتكبر بعد الحرب إصلاح أساليب الزراعة باستعمال الأدوات الميكانيكية في جميع الأقاليم، بفضل المدارس العديدة، والإرشادات النافعة، والنقابات الزراعية، فالمحصولات التي لم تتجاوز قيمتها مليارين من الليرات في سنة ١٨٦٠ قد أصبحت اليوم ثمانية مليارات، ويوشك أن تبلغ العشرة في زمن قريب، وسُنت القوانين الضرورية لتجديد غرس الغابات في الجبال التي جَنت عليها شدة الطمع في الربح فحرمتها الأشجار.»
هذا ما صنعته الديمقراطية في بلاد كإيطاليا لا حديد فيها ولا فحم إلا النزر القليل، وليس من السهل اختراق جبالها بالمواصلات البخارية، ولا من المتيسر إنتاج الخامات اللازمة للصناعة في أرضها. معجزة خارقة صنعتها الديمقراطية في جيل واحد من إيطاليا المفككة المتنازَع عليها بين البابوية ودول أربع تحكمها لغير مصلحة أهلها، ولا ننسى صعوباتها الجغرافية التي جعلت توزيع الخصوبة والأعمال الصناعية فيها مضطربة التناسب بين الشمال والجنوب، ولا ننسى أنها كانت إلى زمن قريب عدة ممالك لا وحدة بينها في السياسة، ولا في الإدارة ولا في المصلحة ولا في الأحوال الاجتماعية، ولا ننسى تزايد سكانها من سبعة وعشرين مليونًا عند استقلالها إلى أربعين مليونًا في هذه الأيام، ولا ننسى مع تزايد السكان الاضطرار إلى الهجرة المتوالية حتى ناهز عدد الإيطاليين في الخارج سبعة ملايين. وأُحصِيَ المهاجرون في السنوات الخمس السابقة للحرب بأكثر من مليونين ونصف مليون، ولا ننس غير ذلك من العوامل المربكة والمؤثرات المشتبكة التي تحيط بأمة تنتقل هذا الانتقال، وتعالِج هذه المتناقضات، فكل ما في إيطاليا من تلك الخيرات هو ثمرة الديمقراطية، وعلى أساسه يقوم كل أمل في مستقبل الطليان.
وما يقال عن الدعوى التي يدعيها الفاشيون في مسألة الصناعة يقال عن دعواهم في مسألة البطالة، فمرتبات الموظفين تنقص فترة بعد فترة لمداراة الميزانية، والبطالة تزداد يومًا بعد يوم، والإحصاء الذي قدمته الحكومة الفاشية لعصبة الأمم يُقدِّر عدد العاطلين في ديسمبر سنة ١٩٢٦ ﺑ (١٩١٧٠٩) يقابلهم في فرنسا (١٧١٧٨)، وهي لا تعالِج معضلة البطالة بغير الوسائل الدستورية، ولا تلجأ إلى القمع والإرهاب كما يلجأ الفاشيون. أما الآن فربما كان عدد العاطلين ضِعف ما كان عليه قبل عامين. وقد حُرِّم على الصحف تحريمًا باتًّا أن تشير إلى مسألة البطالة، وفُرض على كل عامل أن يشترك في نقابات الحكومة، وأن يُبرِز شهادة بذلك للمصنع الذي يعمل فيه وإلا حرم على المصنع قبوله، وزيدت ساعات العمل، ونقصت الأجور، وصار الاشتغال في المصانع ضربًا من العسكرية الإجبارية لا حيلة فيه للعامل، ولا منفذ له إلى الشكوى؛ فهذه هي العلاجات الفاشية لمعضلة البطالة، وهي علاجات طبيب يستر الأعراض، ويكم فم المريض ويزعم أنه استأصل الداء.
على أن الأمر الذي يجب أن نلاحظه هنا هو أن الفاشية لا تريد الآن أن تقاس بمقياس التحوطات الموقوتة التي تُلجئ إليها الطوارئ والتطورات، كما قد تُلجئ إليها الأحكام العرفية المحسوب حسابها في كل حكومة ديمقراطية، ولكنها تريد أن تجعل نفسها مذهبًا في الحكم يقابل مذهب الديمقراطية الحرة ويحل محلها.
فعلى هذا الاعتبار لا تكون فوائدها — على فرض صحتها — شيئًا يقام له وزن في جانب أضرارها، أو في جانب النكسة التي تُعفي على كل ما كسبته الأمم من تجارب العصور المديدة، ومحن المظالم والثورات.
فلم يكن عبثًا هذا الذي كسبته الإنسانية في ألوف السنين من تقرير حرية الفرد، وإطلاق الحياة البريئة بين أرض الله وسمائه بغير حدٍّ من إرادة إنسان آخر يدعي لنفسه عليها السلطان والرقابة والامتثال لفكره وهواه، لم يكن عبثًا هذا الذي كسبته الإنسانية، بل لا يصح أن يقال: إنها كسبت شيئًا قط إن كان هذا المكسب الجليل عرضة للرجعة والنزاع.
ولم يكن عبثًا هذا الذي كسبته الأمم من تبديل الحكم القديم الذي كان يضطرها إلى عمل عنيف كلما اضطرت إلى تغيير حكومة، والذي كان الحكام فيه لا يَسقطون إلا إذا أوقعوا بأمتهم قصارى الشر الذي يطيقه صبر الإنسان، حتى لَيؤثر خراب الثورات على احتمال المزيد منه، والذي كانت الأمم فيه كأنما تعيش في ميدان حرب يتعاوره بالإرهاب كل فاتح جديد في كل دولة جديدة.
كلا، لم يكن عبثًا هذا الذي كسبته الإنسانية من ضروب المحن في طوال العصور، فلو أن الفاشية حكمت كما تحكم الأحزاب الغالبة في الأمم الديمقراطية لَما كان عليها غبار، ولوجب لها الشكر على ما منعت من ضرٍّ وجلبت من خير، ولكنها أبَت إلا أن تَستأصل كل حزب غيرها بقوة السلاح والإرهاب، فهي ديمقراطية ناقصة مشوَّهة، أو هي استبداد ناقص مشوَّه؛ لأنها ليست من الديمقراطية وليست من الاستبداد القديم.
وحَسْبك أن تعلم أن السنيور موسليني يتولى في الوقت الحاضر ست وزارات عدا رئاسة الوزارة؛ لتعلم أن الفاشية نظام لا يمكن أن يقوم مقام الديمقراطية؛ لأنه محصور في فئة واحدة لا يجد رئيسها ستة رجال يطمئن إلى كفاءتهم أو يطمئن إلى إخلاصهم، فهو يتولى وزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة الحربية ووزارة البحرية ووزارة الطيران ووزارة النقابات.
ولا يُعقل أن يفعل ذلك لو كانت له ثقة في رجال حزبه من حيث الكفاءة والإخلاص، أو لو كانت الأعمال تسير في تلك الوزارات على خطة الدقة والنظام، فالإرهاب وحده هو الذي يداري ما هنالك من الخلل والإجحاف والشكاوى والسيئات، وما كانت حكومة من حكومات الاستبداد يعوزها مثل ذلك الإرهاب الذي هو أصلح أداة للمداراة، وإن كان أسوأ أداة لعلاج العيوب.
ولقد شعر موسليني بقرب الانتخابات التي ستَجري في سنة ١٩٢٩، فعدَّل طريقة الانتخاب للمرة الثالثة في عهد وزارته، وقرر أن تجري الانتخابات المقبلة على طريقة لا مثيل لها في بلاد العالم، فالمجالس الوطنية (وهي مجالس يعيَّن أعضاؤها تعيينًا) ستختار تسعمائة اسم تعرضها على مجلس الفاشية الأعلى، فيختار منها — أو من غيرها إذا شاء — أربعمائة اسم، ويسأل الناخبين عنهم، فلا يكون لهم إلا أن يجيبوا بالموافقة على جميع الأسماء، أو رفض جميع الأسماء، فإن جاءت الكثرة بالموافقة فذاك، وإلا تَجدد اختيار الأسماء مرة أخرى، وتَجدد سؤال الناخبين، والوزارة باقية سواء أكان الجواب بالرفض أم بالقبول!
يقول خصوم الفاشيين: إن هؤلاء لم يَثبوا وَثْبتهم إلى الحكم إلا لأنهم أنسوا أن الحركة الشيوعية تضمحل وتخمد، ويوشك أن تدخل في دور الاستقرار، فأشفقوا أن تفلت من أيديهم حجة الوثوب، وأن تضيع عليهم فرصة استغلال الخوف من الشيوعية في إيطاليا وفي خارجها، فتألبوا مع أنصارهم على إحداث ذلك الحدث الخطير في الحياة الإيطالية، ويقول خصوم الفاشيين: إن هؤلاء ما كانوا يفلحون في وثبتهم لولا أنهم استغلوا — إلى جانب الشيوعية — عاطفة الوطنية الثائرة في تلك الأيام، واتخذوا من مسألة فيومي وتوسيع الحدود الإيطالية ذريعة لتأليب جميع الأحزاب، والواقع أن خطر الشيوعية — سواء أكان عظيمًا كما يقول الفاشيون، أم كان موهومًا كما يقول خصومهم — لا يسوِّغ القضاء على النظام الديمقراطي الصحيح، واستمرار الحكم عدة سنين على الأسلوب الذي يحكم به الفاشيون، فإن هذا النظام لم يَعجز عن مكافحة الخطر الشيوعي العظيم في ألمانيا وهي صريعة الحرب، ولم يعجز عن مكافحته في فرنسا وهي أيضًا صريعة الحرب بين المنتصرين. وكل حسنة للفاشية أو كل ضرورة لها تصغر وتتبدد إذا كانت لا تُنال إلا بمثل ذلك الثمن الباهظ الثقيل، فقد حُرِّمت الحياة في إيطاليا على كل إنسان لا يدين بمذهب الفاشية، ولا ينتمي إلى لجانه ونقاباته، وحُظِر على الجامعات أن تدرس فلسفة التاريخ والسياسة إلا على النمط الذي يرضاه الفاشيون، وإلا كان نصيب الأساتذة العَزْل والنفي والإرهاق، والصحف محظور عليها أن تكتب إلا ما يروق الوزارة، ومحظور على أصحابها أن يختاروا الكُتاب إلا مَن ينتدبهم الفاشيون، ورؤساء الفاشية هناك يصنعون ما بدا لهم غير عابئين بالعرف أو القانون، فمن أمثلة ذلك ما رواه روبرت سنكورت في مجلة التاريخ السائر عن الجنرال بتشيو وزوجته الأمريكية، وهي واقعة من عدة وقائع تجري على شريعتهم الجديدة: شريعة القوة وقلة المبالاة، قال سنكورت وهو من غير خصوم الفاشية: «تزوج الجنرال بتشيو من أمريكية، وولدت له ابنًا، وقصت شعرها في باريس، فضربها الجنرال جهارًا في بعض المطاعم العامة، ثم ذهبت إلى إيطاليا في شهر يونيو سنة ١٩٢٤، فحاول أن ينتزع منها ومن وصيفتها الأيرلندية الطفل الذي حكم القضاء الفرنسي بتسليمه إليها، فلما أرادت الزوجة السفر من إيطاليا، أصدر الجنرال أمره بضبط جواز سفرها، فهربت إلى سردينية لتركب منها البحر إلى قورسيقة الفرنسية، ولكنه علم بذلك فتعقبها بطيارات الحكومة وردها إلى روما هي والطفل والوصيفة، ثم أخذ الطفل وسَجن الوصيفة في ثكنة، وأمر الزوجة بترك البلاد الإيطالية، فرفضت أن تطيع أمره ولاذت بالسفارة الإنجليزية، فقطعت جهيزة قول كل خطيب.» وقِس على هذا ما يمكن أن يستبيحه كل فاشي من الكبار أو الصغار الذين يُلقَّنون هذه المبادئ في طفولتهم، ويشبون على العنف وقلة المبالاة بالقوانين، إلى غير ذلك مما تُخشى عاقبته على السلم في إيطاليا وفي الأمم التي تتصل بسياستها إذا اطردت الأحوال على هذا المنوال، قال الأستاذ جاجليلمو سلفادوري: «اتفق لموسليني — من المصادفة أو الدهاء — أن يقيم نفوذه على الذرية التي نشأت جامحة سريعة الانفعال، متبطلة في سنوات الحرب أيام كان آباء الصبية في الخنادق، وكان أمهاتهم الجازعات مشتغلات بأعمال الرجال، بعيدات من البيوت، وكانت المدارس والمصانع فوضى، وطوارئ الحرب غذاءهم كل يوم، ولديهم قدوة ماثلة من غارة دانزيو على فيومي يتعلمون منها الاعتساف؛ فهؤلاء الصبية كانوا في مدارج الطفولة يوم نشأت الفاشية، وفتحت لهم منفذًا لما ركب فيهم من القلق والجماح، وجاء موسليني فأرضى فيهم ولع الطفولة بالمظاهر والغرائب، وألبسهم القمصان الزرق على صدورها صور الجماجم أو الشارات الرومانية على الجيوب.»
إن هذه الصرامة في خطط الفاشية وجنودها قد تدل على أي شيء إلا على الضبط والنظام، فلو أن هناك ضبطًا ونظامًا على ما يرام لَما خفيت المؤامرة التي دُبرت لاغتيال ملك البلاد، ولما أفلت الجناة بعد إنفاذ مؤامرتهم، فلم يقف حراس الأمن ولا المحققون لهم على أثر.
موسليني
قال الكاتب الإنجليزي الكبير ج. ﻫ. ويلز: «حسب المرء أن يدرس قليلًا من صور موسليني التي بُعثِرت في أنحاء الأرض ليدرك أنه محدث مصنوع وليس بأصيل مبتكر، فهذا الوجه الممتزج فيه الضعف والقوة هو وجه الممثل بجميع أوصافه، فهو دائب يحملق من وراء كساء يتشبه فيه بالأبطال الأقدمين، وخوذة منتقاة بعينين خلو من الفكر والذكاء توحيان إليك معنى التحدي الفارغ كأنما يقول: حسن! ماذا عسى أن تقول عني؟ إنني أنكره! هو وجه رجل مغرور أغلظ الغرور، يجفل إجفال الخوف من أقل هسيس، وليس ما به خوف الجسد أو الخوف من القاتل الكامن في الظلام، ولكنه الخوف أقتل الخوف من الحق الذي يمشي في وضح النهار، ألا فلْيذهب هؤلاء جميعًا، ليذهب نيتي وأمندولا وفورني وميسوري وماتيوتي وسالفيني واستورزو وتوراتي، ليذهب جميع هؤلاء الرجال الذين يرقبون وينقدون وينظرون، فماذا تراهم ينتظرون؟ ما من اسم من أسماء هؤلاء الرجال الذين ضُربوا ونُفوا، أو قُتلوا القتل الدنيء إلا وهو اسم رجل خير من هذا المثل الذي يستأثر بالمسرح اليوم في إيطاليا، وأكبر خطيئة تُعدُّ لواحد من هؤلاء هي قدرته على كشف المخبأ، ونظرته المصمية المثلجة. والحق أن موسليني لم يصنع شيئًا لإيطاليا، وأنه هو نفسه صنيعة من صنائعها: صنيعة مشوهة مخدجة، فإذا سأل الإيطاليون: ما العمل بغير موسليني؟ فالجواب: إنكم تجدون غيره، فإن هذا الذي يدرب اليوم وينظم باسم الفاشية كان موجودًا قبله، وسيبقى موجودًا بعده، فإذا هو قضى نحبه فلن تعاني الفاشية أقل صعوبة في إخلافه من موارد إيطاليا المخصبة ببديل يضارعه في التمثيل والقعقعة الخطابية، وإنما صعوبتها أنها ربما وجدت خلفاء كثيرين بعده.»
وحيثما تجد المتعة العقلية والفكر الراجح والذكاء والألمعية في كتابات نيتي وأصحابه الذين ذَكَرهم ولز، لا تجد في كتابات موسليني إلا التطبيل والتهويل والإرعاد والإبراق، فأنت تفقده إذا بحثتَ عنه في مجالهم الواسع، ولا تعرف مكانه إلا إذا بحثت عنه في مجال الحركة والنشاط والمفاجآت، فليس هو بالسائس المدبِّر، ولكنه هو القامع المُرهب الذي لا يَبعد بنظره عما هو فيه. وسكينة إيطاليا في الوقت الحاضر ليست بالآية النادرة ولا بالبرهان الصادق على حسن السياسة وصلاح الحكومة، فإن السكينة شاملة للروسيا في عهد الشيوعيين، وكانت شاملة لمصر في إبان الحرب العظمى، فهبَّت بعدها الثورة بين ليلة ونهار، فما كانت السكينة يومًا بالبرهان الصادق على صلاح الحكومة، أو رضى المحكومين، أو صحة المبادئ التي تُدار بها الأمور، أو ملاءمتها للحالة التي تكون فيها الأمة، وإنما القدرة السياسية الصادقة هي أن تسود السكينة، وتسود الحرية، وتسود القوانين؛ ولهذا كانت ملَكة الحكم قدرة خاصة في الساسة والزعماء؛ لا لأن الغرض الأكبر هو ابتغاء السكينة بأي ثمن وعلى أية حال، وهذا الذي أراده نيتي وجيوليتي وأصحابهما بالمصابرة والانتظار، وأوشكوا أن يصلوا إليه على ما يقول العارفون.
إن كان لموسليني فضل على إيطاليا؛ فإنها لم تَنعم بفضله؛ لأن الحكومات التي سبقته كانت تسلك مسلكه، وتضطهد خصومها اضطهاده، كلا، وإلا لَما بقي موسليني في إيطاليا، أو لَما بقي في قيد الحياة، ولكن إيطاليا ظفرت بموسليني لأن الحكومات التي سبقته كانت تطلق الحرية لأصحاب المذاهب والأفكار ينقحونها بالتجارب، ويهتدون إلى الرأي الأمثل كما اهتدى موسليني من الشيوعية إلى الوطنية، ومن الفوضى إلى النظام.
ولقد أحسن موسليني اغتنام الفرصة من سخط الإيطاليين الشديد على الشيوعيين، وموت عاطفتهم القومية، واستخفافهم علانية بالنصر الذي كَلَّف أمتهم ألوف الأرواح وملايين الأموال، واجترائهم في قوارع الطرقات على الأعلام الوطنية، وأنواط الشرف التي كان يلبسها الجنود العائدون من ميدان القتال، وبلغت الحماسة الوطنية أعلاها حين تحفزت الأمة بقيادة الشاعر دانزيو لرد المدن الإيطالية التي بقيت في قبضة الدول المجاورة، فقامت الفاشية في تلك الأيام باسم روما الخالدة تتزيَّى بشعارها، وتتشبه بتحياتها، وتترنم بأنغامها. وطفق موسليني يرفع لأبناء وطنه ذلك المَثل الأعلى، ويَسخر من الساسة الذين يغفلون عن حياة هذه العاطفة الكريمة، ويشغلون الأمم بأحاديث المنافع والدراهم.
يقول مؤرخه وزميله فتوريو دي فيوري في الفصل الأخير من كتابه رجل القدر: «وبينما تتلوى روما الصيارفة تحت ضربات لومه وتقريعه، يعيش هو في روما الماضي وروما المستقبل: يعيش في روما الخالدة التي لا تتبدل.» ويقول في الفصل الثامن: «وعبثًا كان جيوليتي يوجه خطابه إلى أخس غرائز الجماهير وأسفلها، إلى الخوف من الحرب والموت، إلى الرغبة في المنافع المادية، فإن روح إيطاليا التي كانت تنطق بلسان الشاعر والخطيب أبت كل مساومة، وعقدت عزيمتها على النضال.»
الخلاصة
والخلاصة أن تاريخ إيطاليا الحديث هو تاريخ نجاح الديمقراطية، وليس تاريخ الفشل والإفلاس لحكومات الشعوب، وأن ما يحدث في إيطاليا منذ بضع سنوات لا ينفي إرادة الشعب، وإنما هو حالة تَعرض لكل حكومة، ويُحسب حسابها في كل ديمقراطية، أو هو كما قلنا ديمقراطية ناقصة مشوَّهة؛ لأنها تعترف بإرادة الشعب ولا تعترف بحرية أفراده كما يجري أحيانًا في البلاد الخاضعة للأحكام العسكرية، والفاشية لم تنكر إرادة الشعب، ولكنها استخدمت إرادة الكثرة الغالبة لإرهاق القلة الصغيرة.
أما الذين يترسمون الفاشية في مصرفهم فأحرى ألا تنفعهم في كثير ولا قليل، إذ عليهم أن يَذكروا أن الفاشية قوة وطنية وليست بقوة أجنبية، وأنها قامت سخطًا على المتساهلين للأجانب في المطالب القومية، ولم تقم حبًّا للتساهل في تلك المطالب على الكره من أبناء البلاد، وأنها تتغذى بحماسة الشباب، ولا تتغذى بفضلات فتور الشيوخ، وأنها تقود الشعب بالمَثل الأعلى، والنخوة النبيلة، ولا تقوده بالتزلف إلى أخس غرائز الجماهير، وأنها لا تفصل في قضية الشعب الكبرى وآماله الباقية، وإنما تفصل في عروض تتولاها الوزارات، وعليهم أن يَذكروا غير ذلك أن الفاشية نشأت في بلاد كانت مقسَّمة إلى أربع ممالك وست إمارات، وأنها نشات في بلاد لا تزال مقسمة في أوضاعها الجغرافية إلى أقسام تتوزع فيها الصناعة والزراعة توزعًا يباعد التفاوت في الأحوال الاقتصادية بين جميع الأقاليم، وأنها نشأت في بلاد يهجرها عشرات الألوف من أبنائها كل عام، وأنها نشأت في بلاد تعطلت فيها المصانع فجأة بعد الحرب العظمى، وقلَّت المكاسب، وغلت الأسعار، وأنها نشأت في بلاد هي مقر الرجعية الدينية التي تجدُّ إلى اليوم لاسترجاع سلطانها المضاع، وعليهم أن يسألوا أنفسهم: ماذا كانت تكون خواطر العمال والمعوزين في مصر بعد الحرب العظمى لولا الحماسة الوطنية التي استغرقت فيهم كل عاطفة، وصرفتهم عن الشيوعية وحرب الطبقات، والتي يخمدونها اليوم ما استطاعوا ليتركوا مكانها خلوًا لوسواس المصلحة وإغواء الدعاة؟!
بسمارك
ظهرت الدكتاتورية — أو ما يسمونه الدكتاتورية — في أمم أخرى غير تركيا وإيطاليا وإسبانيا، وفي أصقاع أخرى غير شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ظهرت في المجر وبولونيا ورومانيا، ولكنها لم تتأصل في واحدة من هذه الأمم، ولم تكن نظامًا من أنظمة الحكم، أو مذهبًا من مذاهب السياسة، ويقال على الإجمال: إنها حيث ظهرت كان ظهورها لقلة الديمقراطية لا لكثرتها، وكانت تظهر في البلاد التي ابتُليت بالتقسيم واختلاف الأجناس قبل الحرب العظمى وبعدها، فكانت من عقابيل الحكم المطلق وبقايا فساده وسوء تصريفه، ولم تكن من جرائر الديمقراطية التي هي ترياق تلك الآفات.
بدأ النزاع الحديث بين الديمقراطية والدكتاتورية (أو الاستبداد) في القرن الماضي، يوم كان الإيمان بحكم المستبدين ضربًا من الدين وضربًا من الوطنية في وقت واحد؛ ضربًا من الدين لأن المستبدين كانوا يرتفعون بدعواهم إلى مشيئة الله، ويزكُّون أفعالهم بشهادة القساوسة والأحبار؛ وضربًا من الوطنية لأن مبادئ الحكم الديمقراطي كانت مبادئ الفرنسيين الغالبين، وكانت محاربة فرنسا فرضًا قوميًّا على أعدائها المغلوبين، ومع هذا — أي مع مناصرة الدين والوطنية والعادات والقوة — فشل الاستبداد، وظفرت الديمقراطية، وصار أكبر المستبدين في القرن الغابر هم عبرة هذا النزاع الذي يُضرب به المَثل، وتُعرف منه العواقب. ولهذا أردنا أن نتخذ هذه العبرة من تاريخ رجلين هما بغير خلاف أكبر المستبدين في عصرهما، إن لم يكونا أكبرهم في جميع العصور، وُلد أحدهما يوم أن دالت دولة الآخر؛ وهما: بسمارك ونابليون.
كان بسمارك مستبدًّا بفطرته؛ لأنه ولد في أسرة من أسر الريف في الضياع البروسية، فكان من طفولته معتدًّا بنسبه، متعصبًا لطبقته، فخورًا بأوضاع وطنه، وكان مدار الخلاف بينه وبين الأحرار أنه يقيم وحدة ألمانيا على القوة والحرب، وكانوا يريدون أن يقيموها على الحرية الشعبية والسلم؛ وفي هذا الخلاف يطول الأخذ والرد واستعراض الحوادث والأسانيد، ولكن الأمر الذي يَتفق عليه الإجماع هو أن الحروب التي اقتحمها بسمارك لتوحيد الممالك الألمانية قد أفردت ألمانيا بين الدول، وجعلتها مخشية محذورة لا يؤمَن جانبها، ولا يُستبعد عليها أن تعتدي على أحد، أو تنقض عهدًا بينها وبين حليف، ومصاب ألمانيا بهذه العقيدة التي ذاعت عنها، وانتفع خصومها بترويجها هو المصاب الأكبر في الحرب العظمى، وفي المساجلات السياسية التي سبقتها وأفضت إليها.
وفي تاريخ بسمارك حادثة لها أوثق ارتباط بالحرب العظمى ومعقباتها، يَتبين منها كيف يتغلب الشعور الشخصي على سياسة المستبدين، حتى في المسائل التي تتوقف عليها مصائر الأمم، وجلائل الخطوب، تلك هي حادثة المحالفة الروسية التي تقلبت أدوارها على حسب التقلب في الميول الشخصية بين ساسة الروس وساسة الألمان، فقد كان بسمارك نصيرًا لمحالفة الروسيا، وكان متفقًا مع القيصر على تأييد السياسة الروسية في مؤتمر برلين، ولكن جرشاكوف المندوب الروسي في المؤتمر علم أن بسمارك يسعى لتعيين شوفالوف صديقه وزيرًا للقيصر بدلًا منه (أي بدلًا من جرشاكوف)، وحصل على وعد بذلك في مقابلة التأييد الذي اتفق عليه بسمارك مع القيصر، فلما اتصل هذا النبأ بجرشاكوف تعمد الإقلال من المطالب الروسية في المؤتمر، فتعذر على بسمارك أن يساعد الروسيا؛ لأنه كما قال: لا يسعه أن يَطلب لها أكثر مما تَطلب لنفسها، فانفضَّ المؤتمر وروسيا ناقمة متذمرة، واستطاع جرشاكوف أن يُقنع مولاه بأن بسمارك قد لعب به، وأَخلف معه وعده، ولم يساعده المساعدة التي كان ينتظرها منه، فقال له مولاه: إذن تبقى أنت في مركزك! وكان هذا هو الغرض الذي عبث هذا الرجل من أجله بمصالح بلاده في عالم السياسة الدولية، فلما خاب أمل بسمارك في تعيين صديقه شوفالوف انقلب على الروسيا، وحسَّن للإمبراطور ولهلم الأول أن يعرض عنها ويحالف النمسا مناظرتها، وراح يتمحل لذلك أعذارًا ما كان يعبأ بها من قبل؛ كقوله: إن الروسيا همجية أو توقراطية، والنمسا جرمانية على شيء من حكم الدستور! مع أنه كان يبغض الدستور والأمم الدستورية! أو كقوله: إن الروسيا مستغنية عن ألمانيا ولكن النمسا محتاجة إليها، أو كقوله: إن مطامع الروسيا كبيرة لا تطاق، وإن النمسا تقنع من حلفائها بالقليل، فلم يوافقه ولهلم الأول على رأيه، وتشبث بمعارضته على خلاف عادته، لماذا؟ لأسباب لعل أهمها القرابة بين البلاطَين الروسي والبروسي، أو لعل المنافسة الشخصية بين فيينا وبرلين اللتين تقاسمتا العظمة والظهور في أمم الجرمان هي أيضًا سبب من أهم هذه الأسباب، ثم انقضى هذا الدور وجاء ولهلم الثاني واستحكم الشقاق بينه وبين بسمارك، ووافق ذلك أوان تجديد المعاهدة الروسية، واضطر بسمارك إلى الاستقالة قبل تجديدها، فأُهملت المعاهدة، وتغيرت وجهة السياسة الألمانية والسياسة الدولية تبعًا لذلك، فلماذا هذا التغير؟ لأن ولهلم الثاني اطلع على وثيقة سرية يصفه فيها قيصر الروسيا بالخرق والخبل! ولأن هولشتين عدو بسمارك كان يومئذ هو صاحب القول الفصل في السياسة الخارجية، وهكذا تنقلب مصالح الأمم بين أهواء المستبدين حتى يكون المستبد رجلًا كبسمارك عظيم الوطنية، عظيم اللب، عظيم الدهاء.
نابليون بونابرت
تعبت فرنسا من الثورات والفتن والحروب، وشعرت بأعدائها يناوئونها ويتربصون بها، فسهل عليها أن تنقاد لنابليون الذي عوَّدها النصر وحسن البلاء.
وشغلها نابليون بالمجد والإعجاب، وأحاديث الأخطار والجهاد، فنسيت الحرية قليلًا، ولكنها لم تنسها طويلًا، فرأى آخر الأمر أنه لا بد له طوعًا أو كرهًا من الديمقراطية، وأنه حين أخذ الحرية وأعطى المجد قد دخل في صفقة لا دوام لها؛ لأن المجد يغري الشعب بطلب الحرية، وهو غير مستطيع أن يعطي الشعب مجدًا في كل حين.
ولما عاد من ألبا ومثل بين يديه الوزير الديمقراطي كونستان قال له: «قل لي ما هي أفكارك؟ حرية الكلام وحرية الانتخاب ووزراء مسئولون وصحافة حرة؟ إنني موافق على كل ذاك وبخاصة حرية الصحافة؛ فإن محاولة سحقها بعد الآن لَسخف … إنني أنا رجل الشعب، فإذا كان الشعب يريد الحرية حقًّا؛ فلا بد لي من إعطائه الحرية … لست بالفاتح ولا طاقة لي أن أكونه بعد اليوم. إنني أعرف ما يمكن وما لا يمكن، وكل قصدي الآن أن أقِيم فرنسا مرة أخرى على قدميها، وأمنحها دستورًا يلائم مزاج شعبها … إنني لا أكره الحرية وإن كنت قد بسطت لها مرقدًا واسعًا حين وجدتها في طريقي، وإنني لَأفهم الحرية وبهذا الطعام اغتذيت. لقد ضاعت جهود خمس عشرة سنة، فلو أردت البدء من جديد لَلزمتني عشرون سنة واحتجت أن أضحي بمليوني رجل، فأنا أريد السلم، ولكني لن أناله إلا بنصر، ولن أنال النصر إلا بتأييد من الشعب، وسيطلب الشعب الحرية ثمنًا لتأييده. حسن جدًّا، سيأخذ الشعب الحرية … إن موقفي لموقف جديد، فإنني أشيخ، وفي الخامسة والأربعين لا يكون الرجل كما كان في الثلاثين، فسلام الملك الدستوري يلائمني جد الملاءمة، ويقيني أن هذه الحالة ستلقى الرضى والقبول من ولدي.»
فنابليون بقوانينه وإصلاحاته وأكاليل المجد التي على تاجه لم يستطع أن يظل حاكمًا بأمره في أوائل القرن التاسع عشر، ولم يرج النصر الذي يسبغ السلام على مملكته إلا برضوان شعبه، وقد شاءت المقادير أن تجزيه واحدة بواحدة، فخلع برلمانًا، وخلعه برلمان، ولولا أن نواب الشعب دعوه إلى اعتزال الملك لَما جسرت الدول على طرده؛ لأن ملوكها المطلقين كانوا قد عرفوا معنى الحرب التي تقودها إرادة الشعوب.
نعم، إن فرنسا عادت إلى الاستبداد باسم نابليون جديد هو نابليون الثالث ابن أخي نابليون الكبير، ولكنها عادت إليه للدفاع عن حقوق الشعب لا لاهتضام تلك الحقوق، فقد كان الرجعيون في البرلمان هم الذين ضيقوا على الشعب، وحرموا العمال حق الانتخاب، وعطلوا حرية الصحافة وحرية الاجتماع، وأسرفوا في الحَجْر على جميع الحريات في قانونهم المعروف بقانون مارس سنة ١٨٥٠، فجاء لويس نابليون يلغي ذلك القانون، ويعيد إلى الشعب جميع تلك الحقوق، ثم آل أمره إلى إعلان الديمقراطية التامة في سنة ١٨٦٩، وتجديد الحكومة النيابية في أوسع نطاق، إلا أن دسائس الحكم المطلق بقيت مع جراثيم السنين الماضية لتقضي عليه آخر قضاء، فلما شجر الخلاف على وراثة العرش الإسباني تصدت له الإمبراطورة أوجيني — وكانت إسبانية لها مطامع خاصة في بلادها، ومن رأيها أن الحرب توطد دعائم عرشها — فعرفت كيف تستميل إليها المعجبين بها من القواد الظرفاء والساسة المتأنقين، وعرفت كيف تصم مسامع الإمبراطور المتردد عن نصائح تيير وأصحابه الأحرار الذي كانوا يذادون عن البلاط، ولا يُقبلون فيه إلا على جفوة وغضاضة، فكانت الحرب مع بروسيا، وكانت الهزيمة العاجلة، وكانت نكبة فرنسا التي لم ينقذها منها إلا تيير وأصحابه الأحرار.