مقدمة
ابن خلدون أمة وحده
لم نعلم أحدًا من العلماء والفلاسفة قبل ابن خلدون أفرد بالتأليف علم طبيعة العمران وما يسمى اليوم بعلم الاجتماع، برغم أن هذا العلم لم يكن من الأسرار الخفية ولا من المباحث التي لا تجول فيها أفكار الحكماء. وقد ثبت أن الفلاسفة قبل ابن خلدون لحظوا هذا العلم وأشاروا إليه في تضاعيف مباحثهم، ولكنهم لم يبلغوا فيه شيئًا من الإحاطة التي بلغها ابن خلدون، ولا استقصوا فيه ذلك الاستقصاء الذي جعله في هذا الموضوع نسيج وحده، حتى ألقي إليه فيه بمقاليد الرئاسة، فهو واضع علم الاجتماع بالإجماع، وهو الذي لم يدع منه غُفلًا غير معلم، ولا وشيًا غير منمنم.
ثم ذكر كارادوفو كيف ذهب فيلسوفنا المشار إليه سفيرًا عن سلطان غرناطة إلى «بطرة» الغاشم سلطان قشتالة في بعض المهمات، وكيف حاول هذا الطاغية إقناعه بالبقاء عنده ولم يحصل من ذلك على طائل، وذكر مجيئه إلى مصر وولايته للقضاء ثم صحبته لسلطان مصر في خروجه إلى الشام لمحاربة تيمور لنك، ثم ما جرى بينه وبين تيمور لنك من الأحاديث وكيف أقنعه بالإذن له في الرجوع إلى مصر — توفي سنة ٨٠٨ وفق ١٤٠٦ عن أربع وسبعين سنة. وقال: إنه كان رجلًا سريًا بهي الطلعة، حسن الصورة والشورة، خبيرًا بالسياسة، عارفًا بأخلاق الملوك.
قال ابن خلدون:
إذا نظرنا إلى التاريخ من جهة شكله الخارجي وجدنا مهمته تقييد الحوادث التي تتابعت على مر الأعصار، وتعاقب الأدوار، مما كانت الأجيال الماضية شاهدة له، وإنه لأجل سرد هذه الحوادث تنقحت العبارات، وتطرز الإنشاء بحلى البلاغة، وبهذا التاريخ زهت مجالس الأدب، وتداعى إليها الناس من كل حدب، والتاريخ هو الذي يعلمنا كيف تقلبت الأحوال على جميع الكائنات، وهو الذي منه يُعرف بناء الممالك، وكيفية عمارة الأمم لهذه الأرض. كل أمة إلى المدة المقدرة لها من الحياة، فأما من جهة الأسرار الباطنة لعلم التاريخ، فأعظم أسراره هو البحث عن الحوادث إلى درجة اليقين بها، والتأمل في الأسباب التي أنشأتها وفى كيفية جريانها وتطورها، فالتاريخ بالجملة إنما هو فرع من فروع الفلسفة، وهو جدير بأن يجعل في عداد العلوم الجليلة التي لها المكانة الأولى.
فأنت ترى أن التاريخ في نظر ابن خلدون هو عبارة عن تمحيص الحوادث والبحث عن أسبابها. وهذان الأمران يستلزمان معرفة أحوال الشعوب والبصر بطبيعة العمران، وكان ابن خلدون يرى العمران في زمانه قد أجحف به النقصان وأكدى كما أرى، فيذهب إلى أن المدنيات قد أشرقت شموسها على العالم من مشارق متعددة ولكنه قد غاب الكثير منها وانطوى بدثور المعالم، فهو يقول: إن العلوم التي وصلت إلينا هي أقل من العلوم التي لم تصل إلينا؛ فأين علوم الفرس، والكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، والأقباط القدماء، فإنها كلها قد ذهبت. ولم يبق من العلوم التي وصلت إلينا سوى علوم اليونانيين التي انتهت إلينا بسبب اجتهاد الخليفة المأمون في ترجمتها وإنفاقه الأموال الطائلة عليها.
وقد عقب كارادوفو على كلام ابن خلدون هذا بقوله: إن فيه شيئًا من المبالغة لأنه قد وصل إلى المسلمين أشياء، لا تنكر أهميتها من معارف الفرس، والهنود واليهود. ولكنه على كل حال كلام يدل على سعة علم ابن خلدون من جهة العلم بالمدنية البشرية.
ثم إن ابن خلدون يتكلم عن الاجتماع البشري فيقول: إن أساس الاجتماع الإنساني إنما هو ضعف الإنسان منفردًا بنفسه، فانه إذا عاش وحده فلا يكون مليئًا بالقيام كما يلزم له من أجل قوام معيشته، بل لو عاش وحده لما قدر أن يثبت في وجه حيوان واحد من الوحوش المفترسة. ثم إن الاجتماع يستلزم السلطان الذي هو في الحقيقة عبارة عن وازع يزع اعتداء الناس بعضهم على بعض، فلا بد فيما بينهم من سلطة متينة كافية لردع اعتداء المعتدين، فهذا في الأصل هو منشأ السلطان قال: وهذا غير محصور في الآدميين، بل هو يوجد في الحيوانات أيضًا، فقد تحقق عند بعضها — مثل النحل والجراد، وغيرهما — وجود رئاسة عليا ينقاد إليها أفراد ذلك النوع، ويكون لصاحب تلك الرئاسة امتياز في الشكل أو بسطة خاصة في الجسم. والفرق بين الإنسان والحيوان هو أن الحيوان ينقاد إلى تلك الرئاسة بمجرد غريزة مركوزة في فطرته، وأن الإنسان ينقاد إلى هذه الرئاسة بناء على تفكر وروية.
وقد أطال ابن خلدون البحث في تأثير الأقاليم بطباع البشر، وأورد على ذلك الأمثال، واستخلص منها أن الأقاليم المعتدلة أحسن الأقاليم سكانًا، بخلاف الإقليم الأول والثاني والسادس والسابع، فإن أهلها يسكنون في بيوت من القصب أو الطين وأكثر طعامهم من الذرة أو الحشائش، وهم في الغالب عراة الأجسام، وإذا اكتسوا فإنما يخصفون على أبدانهم من ورق الأشجار. فأما الأقاليم المتوسطة فأهلها عندهم مزية التعديل في الأمور واتخاذ الأليق من التدابير، والأليق من مظاهر الحياة. وعندهم العلوم والصناعات والأمر والنهي، والنظام والملك، وفيهم ظهر الأنبياء وتأسست الدول والممالك، وسُنت القوانين، ووضعت العلوم، وتشيدت الأمصار وغُرست المغارس، وحُرثت المحارث، وتولدت الصناعات النفيسة، وترفهت المعيشة، وإنما الأمم التي تنسب إلى هذه الأقاليم هي العرب، والرومان، والفرس، والإسرائيليون، واليونان، والهند، والصين.
وقد أمعن ابن خلدون في البحث عن أسباب اختلاف المشارب والأذواق في البشر، فهو يتساءل لماذا الزنوج مثلًا تغلب عليهم الخفة والطرب؟ وقد بحث عن ذلك من قبله المسعودي صاحب التاريخ المسمى «مروج الذهب» فقال: إن هذا يوجد عند الأمم التي يسهل عليها القوت، بعكس الأمم التي تضرب في المناطق الباردة التي لا يسهل فيها إيجاد الغذاء. وضرب ابن خلدون مثلًا مدينة «فاس» فقال: إنها لكونها محاطة بالبلاد الباردة تجد الواحد من أهلها سائرًا وهو مطرق رأسه في الأرض يظهر للناس أنه حزين، وذلك من شدة تفكره في العواقب، وقد يبلغ فيهم الاحتياط للمستقبل أنهم يخزنون الحنطة اللازمة لهم إلى مدة سنين، وهم مع ذلك يذهبون كل يوم إلى الأسواق لابتياع لوازم معيشتهم! ثم قال: إن لأنواع الأطعمة تأثيرات متنوعة في طباع البشر، فمن الأقوام من يعيشون في أرضين دارة بالخيرات، وتتوافر لديهم الآلات، فتكثر عندهم الحبوب والثمار، بينما غيرهم يقل عندهم هذا النوع من القوت فيكتفون لأجل معيشتهم بلحوم المواشي وألبانها، وتقل عندهم الأخلاط. قال: وإن قلة الأخلاط تزيد الناس بسطة في العلم والجسم، فأجساد هؤلاء الشعوب أنعم وأقوى، وأكثر تناسبًا، وعقولهم أسمى وأسرع استنتاجًا، وأذهانهم أشد لحظًا وثقوبًا.
فالقناعة عند ابن خلدون وشظف العيش هما من أحسن الفضائل التي يكمل بها الإنسان. وهذا الفيلسوف غالب عليه الافتتان بسذاجة المعيشة، وبرغم أنه كان مترفًا متبحرًا في العلوم، عارفًا بقدر الصناعات، تراه يحمد دائمًا معيشة البداوة، ويراها أقرب إلى الطبيعة البشرية، وهو يقول: إن البداوة أصل، والحضارة فرع وإن الأمصار إنما عمرت بأهل البادية، وإن هؤلاء هم أحسن أخلاقًا من أهل المدن لأنهم يحمون أنفسهم بأنفسهم. والحال أن أهل المدن ينغمسون في النعيم ويتركون لولاة المدن مهمة حماية أنفسهم وأموالهم، فالمدن والحواضر تعيش في ظلال حامياتها وأسوارها، بينما سكان البوادي يأنفون من السكنى وراء الأسوار، وتحت خفارة الجنود، ويرون أنفسهم أكفأ للقيام بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، وهم دائمًا على حذر شديد لا يعرفون النوم إلا غرارًا، لأنهم أبدًا يلقون السمع حتى إذا سمعوا أقل نبأة هبوا مستعدين لمقابلة الخطر الواقع، وهكذا تصير فيهم هذه العادة طبيعة خامسة.
والذي يظهر من كلام ابن خلدون، أنه كان نزاعًا إلى المجد، ميالًا بطبيعته إلى الاستقلال وشمم الأنف، وهو يقول: إن الشعوب لا ينبغي أن تكون على العموم سلسة القياد، مسرعة إلى تأدية الضرائب للملوك، ويقول أيضًا: إن القبائل التي ليس لها حظ من المدنية هي أقوم على فتح الفتوحات من غيرها، ولقد ساق الله تعالى بني إسرائيل إلى الصحراء وأخرهم في بادية التيه أربعين سنة حتى يعتادوا الاستقلال ويتمكنوا من فتح أرض الميعاد. وللدول عند ابن خلدون أعمار كأعمار البشر، فالدولة عنده تنشأ وتشب ثم تكتمل ثم تدخل في سن الشيخوخة — أي تهزم — ثم تأخذ بالتردي — أي أرذل العمر — وهو يعرض للدولة ١٢٠ سنة من نشأتها إلى انقراضها، وهنا قد قصر ابن خلدون كثيرًا من آماد الدول. ثم يقول: عندما تنشأ الدول ينتقل الناس من البوادي إلى الحواضر، ويأخذون بعادات أهلها الذين يكونون تغلبوا عليهم؛ فلما تغلب العرب على فارس، وكانوا يجهلون مآخذ الحضارة ومنازعها، قيل إنهم وجدوا في مخازن كسرى أشياء لم يعرفوها، ووضعوا الكافور في العجين مكان الملح، ثم تعلموا دقائق المدنية شيئًا فشيئًا من الفرس، ولكن هذه الخشونة لا يطول في العادة أمرها، بل أولئك الذين كانوا من أبناء الصحراء تراهم ينقلبون من الخشونة إلى الترف، ولا يلبثون أن يتأنقوا في المأكل والمشرب، والملبس والمفرش، والمركب واتخاذ الآنية النفيسة، وامتهاد البسط الوثيرة، ولأجل إيجاد هذه الأسباب كلها لم يكن لهم بد من أنواع الصناعة، وإفنان الفنون، وكلما تعددت أسباب الترف تعددت الصناعات بقدرها.
قال: وإذا أدرك الهرم دولة من الدول بدأت سلطتها المركزية بالضعف، وأخذ حكام الأطراف بالتمرد عليها. والخروج عن طاعتها. وقال: إن تأسيس الدول سابق لتأسيس الحواضر، وذلك لأن بناء المدن يستلزم إيجاد الصناع، والعَمَلة الذين لا مفر لهم من أن يفيئوا إلى ظل نظام ثابت. وهنا يتكلم ابن خلدون بكلام طويل على الصناعة والتجارة ويقول: إن تقدم الصناعة إنما يكون على نسبة استبحار العمران ويقول: إن الصناعات المبنية على الضرورات — كالخياطة والحدادة والنجارة… إلخ — تتيسر في كل مكان. ولكن الصناعات التي تتعلق بالترف لا توجد إلا في المدن التي قد زخر عمرانها، ففيها تجد الصاغة والزجاجين والعطارين والطباخين وما أشبه ذلك. وفى المدن وحدها توجد الحمامات التي هي من لوازم الترف ورفاهة المعيشة.
قال كارادوفو:
إننا لا نقدر أن نتابع ابن خلدون في جميع آرائه وتعليلاته العلمية للقضايا التي تلقف كرة البحث عنها، ولكنه على كل حال كان النظر إلى فلسفة هذه المبادئ ملازمًا لتحقيقاته، وفى الغالب كان على أثر سديد، وكانت له نظرات صائبة، وكثيرًا ما يأتي في مباحثه بالأدلة المقنعة والشواهد على آرائه، وقد يستشهد بالكتب التي يستظهر بها ويسميها ويذكر أسماء العلماء الذين يتوكأ على أقوالهم. فمقدمة ابن خلدون تشتمل على مباحث قيمة في السياسة، والزراعة، والنجارة، والنساجة والخياطة، وفن البناء، والطب، والتوليد، وغيرها، وكذلك تبحث في الموسيقى والوراقة، والعلوم القرآنية، والعلوم العددية، والجبر، والهندسة، والفلك، والكيمياء والمنطق، والنحو، والبيان، إلخ. فهذا التنقيب الذي نقبه ابن خلدون عن تاريخ الاختراعات البشرية وأطوارها في جميع مناحي العمران يجعل عبد الرحمن بن خلدون الكاتب الأفريقي الذي عاش في القرن الرابع عشر ندًّا لأعظم فلاسفة أوروبا الحديثة. انتهى ملخصًا.
ولنذكر الآن على وجه الإجمال مَن مِن الحكماء سبق ابن خلدون إلى هذه المباحث الاجتماعية، ولو لم يكن بلغ فيها شأوه فنقول:
إن القسم السياسي من فلسفة أفلاطون يمس جانبًا من فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وكذلك يمسها من جهة ثانية القسم القضائي الحافظ للمجتمع الإنساني الكافل لانسجامه. وهو يرى أن المدنية العادلة هي «عبارة عن مجموع منتظم مؤلف من عناصر مختلفة». وفى كتاب أفلاطون عن الحكومة الجمهورية كلام عن بداية الاجتماع البشري يقول فيه: إن المدنية إنما هي وليدة الحاجة، وهي في الحقيقة استنباط الوسائل اللازمة الكافلة للقيام بها. وإن هذه الوسائل لا تتهيأ إلا بتوزيع الأعمال، فمتى اجتمع عدة أشخاص كل واحد منهم قادر أن يقوم بعمل يحتاج إليه الآخرون فهذه هي المدنية، وكلما اختص الواحد منهم بشيء كان عمله له أكثر تجويدًا لما يكون سبق من مرانه له، إذ المدنية ليست مجتمع أشخاص متماثلين متساوين في كل شيء؛ بل هي بالعكس مجمع أشخاص غير متشابهين ولا سوآسيا. والوظائف تزداد صعوبة كلما اتسعت رقعة المدنية وازدادت حوائجها، فبجانب الزارع مثلًا يأتي المتخصص بعمل السكك الزراعية، وبجانب أصحاب المحاصيل تأتي الطبقة القائمة بالأخذ والعطاء في البر والبحر. وهذا إتقان للعمل وإكمال له، ولكن المبدأ الأصلي واحد. ثم إن هذه المهن تتميز بعضها عن بعض بسعة المجتمع ويصير أصحابها طبقات متفاوتة؛ فطبقة الصناع تشتغل بسد الحاجات المادية، وطبقة العساكر تشتغل بالدفاع عن المدينة إذا اعتدى عليها جيرانها، وطبقة الحراس أو الحفظة تهيمن على إجراء القوانين، فهذه الطبقات الثلاث أي المشتغلون والجند وحفظة القوانين هم أساس كل مدنية.
ويقول أفلاطون:
إنه لا يجوز استغلال مدنية لفائدة شخص واحد، وإن المقصد من بناء المدينة ليس ترفيه فرد أو طبقة، وإنما هو إسعاد المدينة بأجمعها، فكل فرد من سكانها عليه واجب يقوم به، فإذا قام به فهذا هو العدل. ومن رأي أفلاطون أن احتياجات المجتمع المنظم يجب أن ينظر فيها إلى طبيعة الخلق إذ مهما كان الثقاف ذا تأثير فإن الأصل هو فطرة المخلوق وذلك كحب الكسب عند الصانع، وعلو الهمة عند الجندي، والحكمة والروية عند الحاكم.
ولأفلاطون مذهب آخر وهو: أن أقسام الغرائز في البشر هي تحت تأثير البيئات التي يعيشون بها، فالعلوم الحسابية التي تدرج بعض الناس إلى الفلسفة هي عند بعض الشعوب كالمصريين والفينيقيين وغيرهم زيادة في التحيل لا في العلم (كذا) ولا نرى في هذا الرأي إلا تعسفًا.
ويوصي أفلاطون كثيرًا باختيار ذوي الغرائز الممتازة كحب الحقيقة، وسهولة الفهم، وتغلب العقل على الهوى، وشرف النفس، والإقدام، وحسن الذاكرة إلخ.
ومن وصاياه تنظيم أعمال الوطنيين بحيث يقلد كل منهم ما هو أهل له فيجوده ويحصر حركته في هذا العمل ولا يتجاوزه إلى غيره. وإذا تأمل القارئ في عقلية أفلاطون الاجتماعية وجدها داخلة في علم النفس، وفى علم الأخلاق، فهو يذكر الأحوال لا على ما تكون عليه في الغالب، بل على ما يجب أن تكون عليه.
فالأساس عند أفلاطون هو أدبي محض، وهو قائم بتطبيق وظائف الاجتماع على القابليات الطبيعية في البشر حتى يأتي العمل أجود ما يمكن، إلا أن أفلاطون يعتقد بأنه لا بد من اختلال النظام شيئًا فشيئًا، وعند ذلك فلا مفر من التردي، ويدخل أفلاطون حينئذ في شرح كيفية الانحطاط وما ينشأ عن فساد النظام من فساد الأخلاق مما لا يلزم أن نستوفيه هنا، لأننا لم نقصد إلا إجمالًا. وإنما نذكر شيئًا ذا بال من فلسفته الاجتماعية، وهو ذهابه إلى أفضل حاجز للمدنية عن التردي، وأحسن وسيلة لانتظام جهود المصالح، إنما هو تسليم زمام أمورها إلى الحكماء، وهو على حد ما قال بعضهم: لا تبلغ المدنية السعادة إلا إذا كان الفيلسوف ملكًا، أو الملك فيلسوفًا.
ومن رأي أفلاطون أن كل صفة بشرية قابلة للتغيير بحسب البيئات والطوارئ. وإن السياسة بنوع خاص لا تنضبط تحت قواعد يجب العمل بها في كل زمان ومكان. ويترتب على رأي أفلاطون هذا أن رجل الدولة يكون أحيانًا فوق القواعد والأوضاع.
وأما أرسطو فعنده تفسرة المدنية أنها مجمع منازل وعائلات تتوخى في معيشتها السعادة والاستقلال. وهو يخالف أفلاطون في حصره المدنية بتوزيع الأعمال ومجرد المبادلة، ويقول: إن الاجتماع لم يكن للحياة المجردة، بل للحياة المرفهة، وإن علم السياسة هو العلم الباحث عن الأسباب والشروط الكافلة للوصول إلى هذه الغاية، وهو يأتي بمباحث تاريخية عن كيفية تولد المدن والمدنيات. ومن رأيه أن الاستقلال الزراعي هو شرط في صحة الأخلاق، وأنه كلما استقلت مملكة عن غيرها في احتياجاتها المعاشية استقلت في أمورها السياسية والعكس بالعكس، وكلما كثر أخذ المملكة وعطاؤها مع الخارج ضعف استقلالها السياسي وتعرضت للحروب، وهي حقيقة قد انطبخت حتى احترقت، وقضية قد ابتقرت حتى انفاقت، فالأمة التي ليس لها استقلال اقتصادي هيهات أن يتم لها استقلال سياسي.
ومما يذهب إليه أرسطو أن الرق أمر طبيعي لا ينبغي التعجب منه، وأن الطبيعة في قسمتها البشر إلى طبقتين سادة وأرقاء ليست ظالمة ولا مستبدة. قال أرسطو: وإنه يوجد في آسيا في الأقاليم الحارة أقوام ذوو ذكاء وسرعة خاطر، لكنهم مجردون من العزم، لذلك هم مخلوقون ليكونوا أرقاء! وقال: إن مناخ يونان المعتدل هو المناخ الوحيد الذي يمكنه أن يولد سلائل جامعة بين الذكاء والعزم، فاليونانيون أحرار بحسب الفطرة قبل التربية.
ولقد بالغ أرسطو في ذلك أشد المبالغة ورأى الناس في رأيه هذا مجرد تسويغ وتصويب لفتوحات صاحبة الإسكندر في الشرق.
أما اعتدال أمزجة اليونانيين باعتدال إقليم يونان فلا نزاع فيه، ولهذا كثر فيهم الحكماء، وغلبت عليهم العلوم، وهذا شبيه بما يقوله ابن خلدون عن تأثير اختلاف الأقاليم وهو:
الإقليم الرابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب للاعتدال، والذي يليهما الثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولما تقف على خبر بعثة في الأقاليم الباردة الشمالية ولا الجنوبية التي فيها الحر الزائد، وذلك لأن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وخلقهم ا.هـ.
هذا وإن أرسطو يرى للأسرة غاية أبعد وأسمى من الغاية الاقتصادية، وهي أنه لا بد لكل عائلة من رأس، وأن هذا الرأس هو الرجل الذي يدبر النفوس القاصرة أي نفوس النساء والأولاد. ومعنى النفوس القاصرة ليس أنها نفوس أرقاء، بل معناه أنها نفوس ضعاف محتاجة إلى المعاونة. ولهذا كانت سلطة رئيس العائلة غير مطلقة على المرأة، بل كان حكمه عليها حكم الوالي على رعيته، وفى العائلة متوافرة جميع الشروط اللازمة لتأليف المدنية.
ثم إن أرسطو لا يعد في الوطنيين الأحرار طبقة الصناع والأكرة، بل يقول إن أعمال هؤلاء خسيسة وليس عندهم من الوقت متسع لممارسة الفضيلة، وللاشتغال بسياسة المجتمع. وهذا القول مردود من جهة شقه الأول، وهو ممارسة الفضيلة التي تكون عند الصناع والزراع كما تكون عند غيرهم. ولكنه مقبول من جهة شقه الثاني وهو الاشتغال بسياسة المجتمع، فإن هذه الطبقات قلما تشتغل بها.
وتعريف أرسطو للديمقراطية هو هذا: إنها توجد حيث يكون الرجالات الأحرار الفقراء هم القابضين على أزمة الأمور، وإنها حيث توجد توأمين الحرية والمساواة. قال: وعكسها حكم الأصلاء والأغنياء. وقال: إن الفروق الكبيرة في الثروة تؤدي إلى الحكم المطلق المنحصر في بعض البيوتات، وإن الغاية المقصودة من بناء المدينة هي تأمين سعادة السكان وتمكينهم من ممارسة الفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق وذلك لا يكون إلا بخضوع الجميع للقوانين. وهذه القوانين لا تنفذ جيدًا إلا ببعض شُرُوط اقتصادية لا مناص منها مما يعود بترفيه الطبقات الوسطى التي لا تقدر أن تعيش إلا من كسب أيديها، فهي بطبيعة الحال تحافظ على حسن سير القوانين، ولا نقصد الاجتماعات الشعبية إلا عند الضرورة. أما إذا وجد في المجتمع من يستغني عن العمل ومن يعيش من رأس مال راتب لديه، فإن الديموقراطية تضعف في مجتمع كهذا وتقوم حينئذ الأصوات والانتخابات مقام القوانين.
ولقد تكلم أبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي في مبادئ العمران أيضًا وأجاد وأفاد ونقل كارادوفو أكثر نظرياته السديدة في المدنية. ولننقل هنا ما ذكره عنه القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفي بعد زمن الفارابي بقرن واحد قال:
ولقد كان لمحرر هذه السطور من أول ما بلغت سن الحلم ولوع خاص بمقدمة هذا العبقرى العظيم، إلى أني كنت أطالعها المرة بعد المرة، وفى كل مرة أجد لها طلاوة لا تمثل، وأكشف فيها أسرارًا جديدة لم تكن انكشفت لى في الأول، وأشرف منها على آراء طريفة، ومباحث لطيفة، كنت أحاول عبثًا العثور عليها في غير هذه المقدمة التي لا تخلق ديباجتها ولا تذهب بهجتها. وكأني استبرأت بطول الزمن الكتب العربية المعروفة فكنت أرجع في النهاية إلى مقدمة ابن خلدون، ولا أجد أمنيتي إلا فيها، ولا أزال أستوري زنادًا لا يلمع إلا من خلال ذلك الخاطر، وأستسقي غيثًا لا يمطره غير ذلك العارض، ولم يكن إعجابي بما في كلام ابن خلدون من مبادئ سامية، وأقوال سديدة، وأنظار فريدة، يعز وجودها في كتب غيره من أساطين الحكمة، بأقل من إعجابي ببلاغة عبارته، ورصانة أسلوبه، وجلالة تقريره، حتى كأنه يخطب من فوق منبر، ويصول في المواضيع صولة غضنفر، فينزل بيانه من نفوس الأدباء — الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ — المنزلة التي لا تعلوها منازل الأقمار، في أعيُن السّمار، فلو قرأ المتأدب مقدمة ابن خلدون متوخيًا فيها مجرد الانطباع على أسلوبها في الإنشاء العربي دون أن ينظر إلى ما فيها من فلسفة عالية، وتحقيقات سنية، وعلوم جمة ملخصة، وحقائق ناصعة من أوضاع الوجود مستخلصة، لكانت مقدمة ابن خلدون تكفيه عمدة في فن الأدب، وتغنيه عن غيرها من نفائس ما كتب العرب، ولعل عشقي أسلوب هذا الإمام في كتابة التاريخ، وغرامي بطريقته في تعليل النوازل، وتقرير طبائع العمران، قد ترك أثرًا في ملكتي بلغ من العمق أنه قلما كان يفارقني في طرق التعبير عن أفكاري والإفضاء بجلاجل نفسي، وخوانس صدري، إلى أن إمامًا مثل السيد رشيد رضا رحمه الله حكم في المنار منذ خمس عشرة سنة بأن أسلوب كاتب هذه الأسطر كثير الشبه بأسلوب ابن خلدون. أقول هذا وإن كان المتشبه لا ينبغي أن يعطي جميع حكم المشبه به، وكان مثلنا لا يجهل مكانه من ذلك المدى المتطاول. ولقد أولعت بهذه المقدمة شابًّا وكهلًا وشيخًا، وبقيت أنظر إليها نظرة المشتاق لا تخمد السنون من جذوة غرامي بمحاسنها، ولكني لم أكن مطالعًا من التاريخ الكبير إلا لمحات يسيره، وربما طالعت من كامل ابن الاثير أكثر مما طالعت من تاريخ ابن خلدون بكثير، فما زال يحز في صدري أن أقرأ هذا التاريخ قراءة مدقق وأعقد آخره بأوله مستوثق، وعُدْواء الأشغال تعدو عن هذه الأمنية، وتحول بيني وبين هذا الغرض المُلح، والوجد المبرح، إلى أن جاءني في السنة الماضية من فاس المحروسة حاضرة المغرب أن الكتبي النبيه الساعي في نشر العلم بما أوتي من جودة الفهم «الحاج محمد المهدي الحبابي» أخذ الله بيده، عزم أن يطبع تاريخ ابن خلدون طبعة جديدة رائقة مستوفية شروط التنقيح مطرزة بالحواشي القيمة اللائقة بمثل ذلك التاريخ العظيم، مستجيدًا لهذا الغرض من أدباء شباب المغرب فرقدين يقصر الشيوخ القرّح عن مداهما البعيد، وتكاد فحول العلماء لا تحشر معهما في صعيد، أعني كلًّا من المحققين الكاملين، والجهبذين الحافلين، السيدين محمد علال الفاسي الفهري، وعبد العزيز بن إدريس، زين الله بمثلهما مواسم الأدب وأمطر بغيث أقلامها مربع العربية إذا جدب، فتلقيت من هذا الخبر بشرى أثلجت الصدر، وصرت أترقب طلوع هذا الفجر بذاهب البصر، وبين أنا كذلك إذا بصاحب هذه الفكرة هو نفسه يريدني أن أعلق أنا أيضًا على هذا التاريخ حواشي بما يعن لي من آراء وأنحاء متصلة بمواضيعه أخالف فيها المؤلف أو أوافقه. وأفارقه في وجهة النظر أو أرافقه، وأبدي من النظريات العصرية في علم الاجتماع ما تتم به فوائد هذا الكتاب وتتجلى حقائقه.
وقد صادف مجيء هذا الاقتراح أنء كنت من «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» في شغل شاغل عما سواها أكاد أنوء بها وحدها فضلًا عن أن أتعداها، فاعتذرت عن خوض هذا البحر العجاج وقلت: من ذا الذي يجري مع ابن خلدون إذا أقر أنمله على مهرق، وقد خاب من يساجل البحر الخضم، ومن يزحم البحر يغرق. فما زال بي إبرام الإخوان وإصرارهم، وإيرادهم في هذه الحاجة وإصدارهم حتى رضيت برغم ما أنا عليه من كثرة الشواغل أن أعلق بعض الحواشي على بعض المظان، مجتزئًا من البحث بالمختصر المفيد، ومكتفيًا من القلادة بما أحاط بالجيد، ولما كان قد ورد في متن المؤلف ذكر الأمم الكبار، ومن جملتها أمة الترك علقت تحت هذه اللفظة خلاصة صافية في نسب هذه الأمة وأولوياتها ومصايرها، ثم لما كان لا بد في هذا النسب من الانتهاء إلى تاريخ بني عثمان الذين تحملوا أعباء الخلافة الإسلامية ردحًا من الدهر، دخلت في هذا البحث وأنا على نية إجماله ما استطعت إلى الإجمال سبيلًا، فإذا بي مهما سلكت الطرق القاصدة لا أقدر أن أتخلص من هذا التاريخ إلا في مجلد كبير، وكيف لا يكون ذلك وهناك دولة طويلة عريضة كانت من أعظم دول الأرض، وشجت عروقها، وامتدت شماريخها، من حدود المغرب الأقصى غربًا إلى بحر الخزر شرقًا، ومن أواسط أفريقيا جنوبًا، إلى ألمانيا وبولونيا شمالًا، فكانت أيامها ملأى بالحوادث الكبار، شاغلة ما بين دفتي الليل والنهار، فمضيت فيه متوكلًا على الله من أول تأسيس هذه الدولة إلى بداية الحرب العالمية متوخيًا في الوصف الحد المتوسط، متجانفًا عن خطتي المفرط والمفرّط، ولا أظن كتابًا قد وُضع في العربية عن الدولة العثمانية على غرار هذا الكتاب، لاسيما في العصر الحاضر. فأما القسم المتعلق من تاريخ هذه الدولة بالحرب الكبرى فقد أرجأته إلى فرصة أخرى، ربما أكون عرفت ما يجب أن أملكه في هذا الموضوع من المواد، وأسلكه من الجواد، والله أسأل العون والتيسير، إنه تعالى من وراء السداد.