مذهب النشوء والارتقاء
قول ابن خلدون إن النسابين كلهم اتفقوا على أن الأب الأول للخليفة هو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل … إلخ. هذا ما كان عليه الناس في القرون الوسطى التي عاش ابن خلدون في آخرها، وما لا يزال عليه المتمسكون بالأديان في عصرنا الحاضر، ولكن علماء هذا العصر في العلوم الكونية — وإذا قلنا علماء هذا العصر في العلوم الكونية فإنما نعني بهم علماء أوروبا — قد عدلوا عن نظرية ابتداء العائلة البشرية بآدم وحواء، وعما يقوله اليهود والنصارى من أن عمر البشرية خمسة آلاف أو سبعة آلاف سنة، ورجحوا — ولكن بدون جزم — أنه مضى على وجود العائلة الإنسانية على وجه الأرض نحو من مئة الف سنة! وذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك فقدروا لوجودها مائتين وثلاثين إلى مائتين وأربعين الف سنة! وقد وقعوا لأجل ذلك في مشكل من جهة تطبيق هذه النظريات على التوراة، فمنهم من حل هذا المشكل برفض التوراة بتاتًا وهؤلاء هم الفئة التي لا تقول بالأديان، والفئة المسماة بالإلهيين وهم الذين يعتقدون بوجود الصانع ولا يقولون بالنبوءات.
ومنهم من بقي متمسكًا بالديانة المسيحية، ولكن مع الاعتقاد بأن التوراة دخلها تحريف كثير، وأن فيها كثيرًا مما أدخله اليهود.
وهذه الفئة تشابه أقوالها أقوال علماء الإسلام الذين يقولون التوراة كتاب منزل لا شك فيه، ولكن اليهود قد حرفوها — بل بدلوها — إلى أن صاروا يقولون من جملة الأمثال: «توراة مبدلة» وبالاختصار لا يوثق بالنسخ الموجودة منها بين أيدينا. وكذلك يضعفون كثيرًا من الروايات الواردة عن السلف الصالح بحجة أنها منقولة عن أحبار اليهود، ويسمون هذا الضرب من الروايات الكونية والقصص (بالإسرائيليات) ويقولون إنها أدخلت في الإسلام وليست منه. فما يقوله المسلمون عن التوراة المبدلة وعن الإسرائيليات هو بعينه الذي يقوله العلماء العصريون في أوروبا الذين لا يقدرون أن يطبقوا بين ما جاء في التوراة عن بدء الخليفة، وبين ما يقرره العلم الحديث، وهم مع ذلك لا يريدون أن يفارقوا العقيدة النصرانية التي فارقتها الفئة المعطلة، والفئة الأخرى التي يقال عنها الإلهيون.
وهناك الفئة الثالثة التي لا تقبل التأويل والتخريج في التوراة، ولا ترضى بأن يقال إن فيها من أوضاع اليهود — وبالتالي فليس من التنزيل — كما أنها لا ترضى بأن يقال إن الكتب المنزلة إنما تخاطب الناس على قدر عقولهم وتتجنب التصريح بما هو فوق أفهامهم خشية الفتنة وإدخال الشك على العقائد. فهذه الفئة الثالثة هي الفئة المتدينة الباقية إلى اليوم على العقائد التي كانت عليها النصرانية في القرون الوسطى، وهي التابعة للكنائس سواء كانت الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكية أو البروتستانتية التي يقال عنها الإنجيلية، ومن هذه الفئة السواد الأعظم في الحقيقة من الأوروبيين والأمريكيين. وهم يقولون بأن البشر تناسلوا من آدم وحواء وفقًا لما في التوراة، ويردّون مذهب النشوء والارتقاء الذي يرده أيضًا أناس كثيرون من الفئة المعطلة ومن الإلهيين، لا من إجراء مخالفته للدين، بل من ضعف الأدلة اللازمة للقطع به، وانخرام كثير من الحلقات التي يفترض وجودها بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان في أصل تكوينه والإنسان الحالي. وفقد هذه الحلقات وعدم وجود أثر لها في الآثار الحفرية هذا لا يساعد على الجزم عندهم بمذهب النشوء والارتقاء الذي غلب عليه اسم المذهب الدارويني نسبة إلى «دارون» وهو عالم طبيعي من علماء الإنجليز مات في أواخر القرن التاسع عشر للمسيح.
ولما كان تاريخ ابن خلدون مما يصلح لكل الأعصر بالنظر إلى ما فيه من قواعد أبدية، ونظريات في الخليقة والخلق لا تخلق ديباجتها، ولا تنقضي حقائقها، ولكنه كتب منذ خمسة قرون طرأت في أثنائها على المجتمع الإنساني أفكار جديدة، ومبادئ ناقضة لما سبقها، ونظريات لم تكن معروفة في أيام ابن خلدون، أو كانت معروفة ولكن عند غير أتباع الأديان الثلاثة: الإسلام، والنصرانية، واليهودية.
وكان لا بد للناشئة الجديدة من الأمة الإسلامية من أن يطالعوا ما جد من هذه النظريات المحدثة، ويقارنوها بالنظريات القديمة، فلم نشا أن نمر بهذا الموضوع بدون أن نشير — ولو بجملة مختصرة — إلى ما علية العلماء الأوروبيون، حاشا أتباع الكنيسة من جهة أصل وجود الإنسان على وجه الأرض.
وقبل أن نشرع في ذ لك نقول: إن الاعتقاد بكون آدم وحواء هما أبوا البشر هو منصوص عليه في الكتاب، فأما المدة التي ضربها أصحاب التوراة لوجود الإنسان فليس في القران الكريم شيء يدل عليها، بل هناك هذه الآية الكريمة مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ.
ثم نقول: إن الذين جزموا بقدم عهد الإنسان بناء على ما كشفوه في باطن الأرض، وما نقبوا عنة في الكهوف والغيران، وما عثروا عليه عرضًا واتفاقا في قيعان البحيرات، لا يزالون يقرون بأن معلوماتهم مفتقرة إلى الإكمال، وأنه لا يصح الجزم إلا بالنظرية الإجمالية التي معناها كون إنسان وجد، لا من خمسة آلاف سنة، ولا من سبعة آلاف سنة، بل من أضعاف هذا العدد من السنين، وأنهم استدلوا على ذلك بوجود حجارة مصقولة على شكل الفئوس كانوا يجهلون في أول الأمر حقيقتها وكانت العامة تعتقد بأنها حجارة تتكون في السحاب!
ولما قال بعض علماء القرون الوسطى بأنها من صنع أيدي البشر رفضوا كلامهم ومنذ مائتي سنة تواترت الأدلة بكثرة ما وجد من هذه الحجارة في أعماق متفاوتة تحت التراب، وتحت المياه، ومنها ما بسقت من فوقه الأشجار، ومنها ما تكونت من فوقه المعادن، فحسب علماء الأزمنة الحديثة ما يستلزم وجود هذه الطبقات المتراكمة فوق تلك الأدوات التي صنعها البشر الأولون من الزمن الطويل والدهور الدهارير، فحكموا بأنه لا بد لذلك من عشرات ألوف من السنين.
ولم يقع الاستدلال على وجود الإنسان في تلك الأعصر بالرمم البشرية فحسب بل وجدت له آثار أخرى من أدوات وآلات وتصاوير يحكم على وجوده بوجودها والأثر يدل على المؤثر، فالإنسان وجد في أواسط أوروبا — مثلًا — معاصرًا للماموث وللرنة. وقد عثر العلماء في القرن الماضي على عدة رمم بشرية، منها ما وجد في مغاور ووجدت بجانبه عظام حيوانات — كالكركدن مثلًا — مما لم يبق له أثر الآن في هذه المناطق. وبعد بحث وتنقيب واختلاف بين العلماء الجيولوجيين، اصطلح الأوروبيون على قسمة الأدوار التي يعرفونها عن الإنسان إلى ثلاثة. وهذه الأدوار الثلاثة هي عبارة عن المدة التي مضت في بداية العصر الجليدي إلى أن أصبحت الحالة الجوية مقاربة لما هي عليه أوروبا اليوم. ويقدرون هذه المدة بألف قرن — أي مئة ألف سنة — فقد ذكروا الدور الثلاثي الذي سبق الدور الرباعي أو الجليدي. وقالوا: إن حيوانات كثيرة لم تطق التغيرات التي وقعت في أثنائه فانقرضت. وهنا اختلفوا في أماكن ظهور الإنسان في الدور الثلاثي وتحمله ما لم تتحمله تلك الحيوانات الكبيرة وفى عدم إمكان ذلك.
فبعضهم ذهب إلى أن الإنسان وجد في الدور الثلاثي بدليل وجود أدوات حجرية لا يمكن صنعها إلا بيد مخلوق هو على شيء من العقل، وذهب المنكرون لوجود الإنسان في الدور الثلاثي إلى أن الأدوات المذكورة هي أحدث عهدًا من ذلك الدور — فالمفروض — مع الترجيح التام — أن الإنسان وجد في الدور الرباعي.
ولا يزال في أوروبا عدد كبير من العلماء يردون بشدة نظرية داروين، وليسوا هم فقط من أنصار الأديان، بل يوجد من العلماء الطبيعيين من يقيم الأدلة على فساد هذا المزعم.
فلأجل الربط بين الحشرات وذوات الأثداء من الحيوانات اعتمدوا على النطاق الصدري الذي يعهد في ذوات الأثداء المتصلة بالطيور، لكن إذا أنعم الإنسان النظر لا يجد هذه الرابطة في محلها، لأن هذا النطاق ليس في الحقيقة جزءًا من هيكل الصدر، بل هو خارج عنه، وليس له اتصال بالقلب، ولا بالأعصاب كما هو عند الحشرات، فالمشابهة ليست أكثر من مشابهة سطحية. والحال أن طبيعة الحيوانات ذات الأثداء لا تمتاز فقط بالنطاق الصدري، ولكن بمميزات أخرى ظاهرة في جميع تكوينها، وفى أنسجتها العضوية، وفى الجلد والشعر والعظام، وكل ما يعهد في ذوات الأثداء. والخطأ نفسه وقع في تقدير خصائص الأعضاء؛ فداروين يرى أن أي عضو يقدر أن يقوم بأي وظيفة، وهذا إهمال لحقيقة الوظائف الأسآسيا، فإن الأعضاء تؤلف مع الأنطقة آلات محركة لها في كل نوع وظائف محدودة لا يمكن أن عملها يتعدى من وظيفة إلى وظيفة، إذ ليس من وسيط بين الجهازين، ففي طبقة الحيوانات ذوات الأربع إذا وجد نوع طيار مثلًا أن الكتف التي كانت في البطن تحت مركز الثقل تصعد إلى الظهر لأجل أن تحفظ موازنة الحيوان عندما يطير، ولولا ذلك لا يتمكن من الطيران، فهذا المركز الذي تأخذه الكتف من جديد لا يمكن أن يحصل بالتدريج، ولا مناص من أن يكون وضع أنفًا بدون تدرج. كذلك ذوات الأثداء السابحة التي يسير بها الذنب المتحرك من الأعلى إلى الأسفل؛ فيجب أن يكون لهذا الذنب قوة وقطر عظيمان، بحيث أن الشق الأسفل يندفع إلى الأمام فيكون أفقيًّا بدلًا من أن يكون عموديًّا كما هو في سائر ذوات الأثداء.
ويقول فيالتون: إن القول بأن الجراثيم تعيد في أثناء نموها الصور المتتابعة التي سبقت نوعها هو مرسل جزافًا، وهو أشبه بالمجاز منه بالحقيقة، ففي الجراثيم شيئان؛ البدايات البسيطة التي هي عامة لجميع النوع، ثم الأجهزة والصور التي تتلو هذه البدايات، فالبدايات لا يمكن أن يتكون منها نوع خاص، لأنها حويصلات بسيطة جدًّا أشبه ببراعم تختلف كثيرًا عما سيأتي منها، بل هي بدايات ساذجة عامة لا ينتج منها أقسام خاصة إلا بعد النمو. فالحويصلة لا يمكن أن تشبه حيوانًا تامًّا مهما كان دنيء الطبقة، ولكن تشبه حويصلته. والحويصلة البشرية ذات الخلايا لا يمكن أن تشبه سمكة في جهازها التنفسي، ولكن قد تشبه حويصلة السمكة قبل أن يكتمل فيها هذا الجهاز، وأورد أدلة كثيرة ليس هنا موضعها.
وقد طرق السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني هذا الموضوع، ورد على النظرية داروين، ونحن واضعون كلامه تحت أنظار القراء.
وقد اعترض بعضهم على خوض السيد جمال الدين في حديث كهذا يلزم له تخصص في العلوم الطبيعية، وليس هذا الاعتراض بشيء، لأن التخصص شرط في المباحث التفصيلية، فأما في المبادئ العامة فالذي يلزم إنما هو الفلسفة، ومن كان أطول فيها باعًا وأوسع نظرًا كان أحق بأن يتكلم بها؛ فالسيد جمال الدين إذن يقدر أن يقول هنا، وهو يقول ما يأتي في رسالته المعروفة ﺑ«الرد على الدهريين»:
«وذهب فريق إلى أن الأجرام السماوية والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه من أزال الآزال ولا تزال، ولا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات. وزعموا أن في كل بذرة نباتًا مندمجًا فيها، وفى كل نبات بذرة كامنة، ثم في هذه البذرة الكامنة نبات وفيه بذرة إلى غير نهاية. وعلى هذا زعموا أن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانًا تام التركيب، وفى كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى، يذهب كذلك إلى غير نهاية. وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزمه من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه وهو من المحاولات الأولية.
وزعم فريق ثالث أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية والبذور النباتية بقديم، وإنما كل جرثومة وبذرة هي بمنزلة قالب يتكون فيها ما يشاكله من جرثومة وبذرة أخرى. وفاتهم ملاحظة أن كثيرًا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، وكذلك الحيوان التام الخلقة، قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.
ومال جماعة منهم إلى الإبهام في البيان فقالوا: إن أنواع النباتات والحيوانات تقلبت في أطوار، وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمان وكرور الدهور، حتى وصلت إلى هيئاتها وصورها المشهودة. وأول النازعين إلى هذا الرأي «أيبقور» أحد أتباع «ديوجيتس الكلبي» ومن مزاعمه أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم لم يزل ينتقل من طور إلى طور حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصورة الحسنة، والخلق القويم، ولم يقد دليلًا ولم يستند على برهان فيما زعمه من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور وترقي الأنواع.
ولما كشفت علوم الجيولوجيا (طبقات الأرض) عن بطلان القول بقدم الأنواع رجع المتأخرون من الماديين عنه إلى القول بالحدوث. ثم اختلفوا في بحثين؛ الأول بحث تكون الجراثيم النباتية والحيوانية، فذهب جماعة إلى أن الجراثيم على اختلاف أنواعها تكونت عندما أخذ التهاب الأرض في التناقص، ثم انقطع التكون بانقضاء ذلك الطور الأرضي. وذهبت أخرى إلى أن الجراثيم لم تزل تتكون حتى اليوم خصوصًا في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة.
وعجزت كلتا الطائفتين عن بيان السبب لحياة تلك الجراثيم حياة نباتية أو حيوانية خصوصًا بعدما تبين لهم أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، موجب لالتئامها، حافظ لكونها. وأن قوتها الغاذية، هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيًّا بالتغذية فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال. وظن قوم منهم أن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس، وهو ظن عجيب لا ينطبق على أصلهم من أن الأرض عند الانفصال كانت جذوة نار ملتهبة، وكيف لم تحترق تلك الجراثيم ولم تمح صورها في تلك النيران المستعمرة؟!
والبحث الثاني من موضع اختلافهم صعود تلك الجراثيم من حضيض نقصها إلى ذروة كمالها (نقول: وصل السيد هنا إلى مذهب النشوء والارتقاء) وتحولها من حالة الخداج والنقص، إلى ما نراه من الصور المتقنة، والهيئات المحكمة، والبنى الكاملة فمنهم قائل: إن لكل نوع جرثومة خاصة به، ولكل جرثومة طبيعة تميل بها إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجتذب إليها ما يلائمها من الأجزاء غير الحية ليصير جزءًا لها بالتغذية، ثم تجلوه بلباس نوعه. وقد غفلوا عما أثبته التحليل الكيماوي من عدم التفاوت بين نطفة الإنسان ونطفة الثور ونطفة الحمار مثلًا وظهور تماثل النطف بالعناصر البسيطة، فما منشأ التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها؟!
ومنهم ذاهب إلى أن جراثيم الأنواع كافة — خصوصًا الحيوانية — متماثلة في الجوهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالف جوهري، ولا انفصال ذاتي. ومن هنا ذهب صاحب هذا القول إلى جواز انتقال الجرثومة. الواحدة من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان، وحكم الحاجات والضرورات، وقضاء سلطان القواسر الخارجية.
ورأس القائلين بهذا القول «داروين» وقد ألف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ «اوران اوتان» ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان فكان صنف «البيم» وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين فكان الإنسان القوقاسي (قد ثبت أن الداروينيين يستندون في النشوء والارتقاء على جماجم وجدت في أوروبا تحت الأرض، وليس هذه الجماجم وهذه الهياكل أقرب إلى الإنسان القوقسي منها إلى الإنسان الزنجي، ولا هي بالعكس، بل هي ناقصة عن كل منهما) وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك!
(لا مبالغة في قول السيد جمال الدين هذا عن مذهب داروين؛ لأن هذا المذهب يجعل البيئة والاحتياج والضرورة والتأثيرات الخارجية هي منشأ التنوع وأن كرور الدهور تحت هذه التأثيرات يؤدي إلى ما يظهر عجيبًا وربما يظهر مستحيلًا وليس الأمر كذلك عندهم، وإن الذي جعل كيماويًّا كبيرًا مثل «برتلو» يسمي مذهب داروين قصصًا متسع الخيال، هو حكم داروين باطراد هذا المبدأ في المخلوقات).
فإن سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند، والنباتات المولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنًّا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد؛ فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته، وأشكال أوراقه، وطوله، وقصره، وضخامته، ورقته، وزهره وثمره، وطعمه، ورائحته، وعمره؟ فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والهواء والماء؟! أظن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه! وهكذا لو عرضت علية الحيوانات المختلفة البنى والصور، والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق. أو عرضت علية الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة في التركيب، المتولدة في بقعة واحدة ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة لتخلو إلى تربة جديدة تخالف تربها؛ فماذا تكون حجته في علة اختلافها؟ كأنها تكون كسفًا لا كشفًا!
بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟ وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجروح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة وإيداع كل منها قوة على حسبه، ونوطها بكل قوة في عضو إزاء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي، مما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه. وكيف صارت الضرورة العمياء معلمًا لتلك الجراثيم، وهاديًا خبيرًا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج البحيرة، يدفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين. الخ).
قلنا: يجوز أن يكون في كلام السيد جمال الدين ما يعترض علية بعض العلماء الطبيعيين من جهة أن السيد فيلسوف إلهي يستند على قواعد من الحكمة والمنطق أصبح كثير من الطبيعيين اليوم يرفضونها ولا يجلونها معيارًا للحكم، ولكن لا يمكن هؤلاء ولا غيرهم أن يأتوا في نقض كلام السيد في هذا الموضوع بما يشفي الغليل، أو بما يثلج به اليقين، فلا «داروين» ولا «مارك» ولا «بخنر» ولا خصومهم الكثيرون في أوروبا، ولا «السيد جمال الدين» يقدر واحد منهم أن يقول قولًا في معضلة كهذه ويسلم من الاعتراض من جهة من الجهات، وإنما هي نظريات يترجح بعضها في نظر بعض العلماء، ولا يكاد يجزم به حتى يقوم في وجهه ما يمنعه من الجزم.
وما أحسن قول جمال الدين: لا يزال يرفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين. ولهذا نجد علم التكوين بنوع خاص بين مد وجزر، وأخذ ورد، وعكس وطرد لا ينتهي. وكيف يمكن أن ينتهي والآثار التي بنى أصحاب مذهب النشوء والارتقاء عليها آراءهم هي أثار ضئيلة جدًّا، نسبتها إلى الموضوع نسبة النقطة إلى الغدير! وقد اعترفوا هم بأن كل ما عثروا عليه في باطن الأرض إن هو إلا هيكلان أو ثلاثة في القارة الأوروبية، ولم يعثروا حتى هذه الساعة على شيء في القارات الأخرى التي هي أوسع من أوروبا بكثير! وما دامت الشواهد ضئيلة إلى هذه الدرجة ومنحصرة في بقعة واحدة؛ فإنه يستحيل القطع بشيء. هذا ولقد كان أول من كتب عن مذهب داروين باللسان العربي الدكتور شبلي شميل اللبناني، نشر في ذلك كتابًا في مصر ضمنه مذهب داروين الإنجليزي، وبخنر الألماني، وجعل له مقدمة جاهر فيها بالمذهب المادي مجاهرة لم تسبق لأحد غيره في الشرق، ورد عليه إذ ذاك الأستاذ الشيخ إبراهيم الحوراني من علماء المسيحيين الذين يردون المذهب المادي. وكذلك رد عليه اليسوعيون في بيروت، وبعض القسيسين المارونيين واشتدت المناقشات بين الفريقين، وكنا نطالعها أيام الطلب قبل هذا التاريخ بخمسين سنة. وكان نشر الأستاذ الشيخ محمد عبده رسالة أستاذ جمال الدين التي نقلنا عنها هذه الجمل لذلك العهد أيضًا. فمذهب داروين معروف في أوروبا منذ ثمانين سنة، وفى العالم العربي منذ خمسين سنة.