التوراة وهل وقع فيها تبديل أم لا؟
هذا مقام جليل دقيق لا بد للباحث فيه من أن يبلغ نهاية التروي حتى لا تدحض قدمه، ولا يقع فيما يؤاخذ عليه. والذي يظهر من رأي ابن خلدون أنه لا يعتقد بتبديل التوراة أخذًا بقوله تعالى: وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله قال: فلو كانوا بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله. ونقل عن ابن عباس قوله: معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله. أو ما في معناه. ثم قال: إن ما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل في التوراة إلى اليهود فإنما يراد به التأويل فيها. ثم استدرك بقوله: «إلا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها، فذلك يمكن في العادة، لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق، واستوى منهم الضابط وغير الضابط.» قلت: وليس هذا مذهب جميع المسلمين، فإن قضية التبديل في التوراة معروفة من صدر الإسلام، ومشار إليها في القرآن نفسه بأن اليهود كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وإنهم كانوا يتعمدون كتمان بعض ما أنزل عليهم، وقد ضربوا مثلًا لذلك كون النبي ﷺ سأل اليهود عما جاء في التوراة بشأن رجم الزانية فأخفوا عنه آية التوراة المتعلقة بهذا الأمر. ومن المعلوم أن هذا وأمثاله مما شهد به القرآن على اليهود، وجاء مثله في الحديث، لا يخرج عن كونه تبديلًا، ولذلك صارت قضية التبديل في التوراة مثلًا مضروبًا. كنت أسمع أستاذنا الشيخ محمد عبده رحمه الله يقول: «هذه توراة مبدلة.» ولا أرى في نسبة التبديل إلى التوراة ما يخالف قوله تعالى: وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله لأن العبرة بالغالب، أو لأنه يريد أن يقول: إن التوراة فيها حكم الله إذا كانت على وجهها الصحيح. وبالجملة فالمسلمون منهم من حصر معنى التبديل في تحريف الكلم عن مواضعه.
ومنهم من اتهم اليهود بتبديل التوراة نفسها.
ومقدم هذه الطبقة هو أبو محمد بن حزم، فقد ذكر في كتابه «المال والنحل» وجود مناقضات ظاهرة، وأكاذيب واضحة في «الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة، وفى سائر كتبهم، وفى الأناجيل الأربعة، يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها وإنها غير الذي أنزل الله عز وجل.» ثم ذكر ابن حزم المواضع التي حكم فيها بوجود الكذب والتناقض، وقال: «إنها من الكذب الذي لا يشك كل ذي ملكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى، وعلى الملائكة عليهم السلام، وعلى الأنبياء عليهم السلام.» ثم قال قبل أن شرع في إيراد الأمثلة: «إننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئًا يمكن أن يخرج على وجه ما وإن دق، وبعد فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له. وكذلك أيضًا لم نخرج منها كلامًا لا يفهم معناه، وإن كان ذلك موجودًا فيها. لأن للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد، وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيها، ولا وجه أصلًا إلا الدعاوى الكاذبة التي لا دليل عليها أصلًا لا محتملًا ولا خفيًّا.»
وقد جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية بقلم المستشرق الألمانى اليهودي هوروفتز — وكانت لنا معرفة به وهو الذي ترجم لنا شعرًا ارتجلناه عند زيارة بيت جوتة شاعر الألمان الأكبر، ونشر ذلك في الصحف ولهوروفتز ترجمة شعر الكميت أيضًا — أن ابن حزم أورد ٥٧ موضعًا يبين فيها تناقضات التوراة والمستحيلات التي فيها. قلنا: إن أبا محمد بن حزم ذكر أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود، يزعمون أنها المنزلة، ويقطعون بأن التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة وسائر اليهود يقولون إن التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة! قال: ولم يقع إلينا توراة السامرية، لأنهم لا يستحلون الخروج عن فلسطين والأردن أصلًا، إلا إننا قد أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة عندما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل.» انتهى. قلنا إن اختلاف توراة اليهود عن توراة السامرية مسموع، وقد كنا في نابلس منذ ثلاثين سنة، وكان يتردد علينا إسحاق كاهن السامرية، ودعانا مرة إلى الكنيس الذي لهم وهو شيء قديم جدًّا، وأطلعنا على توراتهم وقال: إن تاريخ نسخها يرجع إلى ألف سنة. ومما أتذكره من كلامه — وكان عالمًا بمذهبهم — أن بين توراتهم وتوراة اليهود بعض الاختلاف، وربما يكون ذكر لي مواضع الاختلاف أو بعضها، ولكنة لم يبق في خاطري ما ذكره لطول العهد به.
ونعود إلى كلام ابن حزم؛ فهو يأخذ مثلًا عبارات من التوراة ويبين ما فيها من الاستحالة مثل: «ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب وذهب ذلك البلد جيد، وبها اللؤلؤ وحجارة البلور. واسم الثاني جيحان وهو محيط بجميع بلاد الحبشة، واسم الثالث الدجلة وهو السائر شرق الموصل، واسم الرابع الفرات، فقال: «في هذا الكلام من الكذب وجود فاحشة قاطعة بأنها من توليد كذاب مستهزئ، أول ذلك أخباره أن هذه الأربعة تفترق من النهر الذي يخرج من جنات عدن.» وأفاض ابن حزم في تكذيب ذلك بما لا حاجة إلى نقله هنا. ثم قال: فإن قال قائل: فقد صح عن نبيكم ﷺ أنه قال: «النيل والفرات وسيحان وجيحان من أنهار الجنة.» قلنا نعم هذا حق لا شك فيه، ومعناه هو على ظاهره بلا تكلف تأويل أصلًا، وهي أسماء لأنهار الجنة كالكوثر والسلسبيل، فإن قيل قد صح عنه عليه السلام أنه قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.» قلنا هذا حق، وهو من أعلام نبوته، لأنه أنذر بمكان قبره فكان كما قال، وذلك المكان لفضلة وفضل الصلاة فيه يؤدي العمل فيه إلى دخول الجنة، فهي روضة من رياضها، وباب من أبوابها.
ومعهود اللغة أن كل شيء فاضل طيب فإنه يضاف إلى الجنة، وليس كذلك الذي في توراة اليهود، لأن واضعها لم يدعها في لبس من كذب، بل بين أنه في النيل المحيط بأرض زويلة بلد الذهب الجيد، ودجلة التي بشرق الموصل، وجيحان المحيط ببلد الحبشة، فلم يدع لطالب تأويل حيلة ولا مخرجًا. ثم قال نقلًا عن التوراة: «وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر، والآن كيلا يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيى إلى الدهر، فطرده الله من جنات عدن» قال ابن حزم: حكاية عن الله تعالى أنه قال: هذا آدم قد صار كواحد منا مصيبة من مصائب الدهر، وموجب ضرورة أنهم آلهة أكثر من واحد. وقد أدى هذا القول الخبيث المفترى كثيرًا من خواص اليهود إلى الاعتقاد أن الذي خلق آدم لم يكن إلا خلقًا خلقه الله تعالى قبل آدم، وأكل من الشجرة التي أكل منها آدم فعرف الخير والشر، ثم أكل من شجرة الحياة فصار إلها من جملة الآلهة، نعوذ بالله من هذا الكفر الأحمق، ونحمده إذ هدانا للملة الزهراء التي تشهد سلامتها من كل دخل بأنها من عند الله تعالى.
ثم قال في إحدى الأماثيل التي أوردها من التوراة: فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض، وولد لهم البنات، فلما رأى أولاد الله بنات آدم أنهن حسان اتخذوا منهن نساء! وقال بعد لك نقلًا عن الكتاب المقدس: «كان يدخل بنو الله إلى بنات آدم ويولد لهم حرامًا، وهم الجبابرة الذين على الدهر لهم أسماء» وهذا حمق ناهيك به، وكذب عظيم، إذ جعل لله أولادا ينكحون بنات آدم وهذه مصاهرة تعالى الله عنها. حتى إن بعض أسلافهم قال: إنما عنى بذلك الملائكة، وهذه كذبة إلا أنها دون الكذب في ظاهر اللفظ، ثم مضى ابن حزم بلهجته الشديدة المعهودة المشهورة في تكذيب التوراة، أو بالأحرى ما ينسب إلى التوراة مما ليس بالحقيقة منها، فأملى نحوًا من تسعين صفحة في هذا الموضوع.
ومن جملة ما ذكر عن الكتاب المقدس قضية لوط، وأنه أقام في المغارة هو وابنتاه، «فقالت الكبرى للصغرى: أبونا شيخ وليس في الأرض أحد يأتينا كسبيل النساء، تعالي نسق أبانا الخمر ونضاجعه ونستبق منة نسلًا، فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، فأتت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنومها ولا بقيامها، فلما كان من الغد قالت الكبرى للصغرى: قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الخمر هذه الليلة وضاجعيه أنت ونستبقي من أبينا نسلًا، فسقتاه تلك الليلة خمرًا وأتت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا بقيامها. وحملت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت الكبرى ابنًا وسمته مواب وهو أبو الموابيين إلى اليوم، وولدت الصغيرة ابنًا سمته ابن عمون وهو أبو العمونيين إلى اليوم» إلخ. قال ابن حزم: في هذه الفصول فضائح وسوآت تقشعر من سماعها جنود المؤمنين العارفين حقوق الأنبياء عليهم السلام، فأولها ما ذكر عن بنتي لوط عليه السلام من قولهما «ليس أحد في الأرض يأتينا كسبيل النساء، تعالي نسق أبانا خمرًا ونضاجعه ونستبق منة نسلًا» فهذا كلام أحمق في غاية الكذب والبرد! أترى كان انقطع نسل ولد آدم كله حتى لم يبق في الأرض أحد يضاجعهما؟ إن هذا لعجب!» ا.هـ.
وسحب ابن حزم سائر اعتراضاته هذا السحب مما لا حاجة لإعادته، فمن شاء فليراجعه في كتابه «المال والنحل» وإنما أوردنا ما أوردناه هنا على سبيل التمثيل ولا شك في أن مثل هذه الأقاويل لا تجوز على كتاب منزل، وإن نسبتها إلى كتاب منزل مضرة جدًّا بالدين، ومفسدة للأخلاق، وإن المسلمين لا يعتقدون بأن مثل هذا يكون من التوراة الحقيقية.
ومن العجب أن التوراة مع اشتمالها على هذه الفصول المستهجنة، وهذه العبارات الغريبة المدهشة، قد صدقها المجمع الكاثوليكي التارنتي الذي قرر أن التوراة الصحيحة في نظر الكنيسة الكاثوليكية هي خمسة أسفار: موسى التي يقال لها الناموس، وكتاب الأنبياء المشتمل على كتب يسوع، والقضاة، والملوك، ونبوات أشيعا وأرميا، وحزقيال، ودانيال، والاثنا عشر نبيًّا صغيرًا، وكذلك كتب: «باراليبونسيس واسدراس ونيحميا وطوبيا ويوديث وأيوب والمزامير، والأمثال، والكهنوت، ونشيد الإنشاد، والحكمة، وكتابا المكابيين.» ولم يخرج الكاثوليكيون من التوراة إلا كتاب أنوخ، وثلاثة أو أربعة كتب من اسدراس، وثلاثة أو أربعة كتب من المكابيين، وكتاب منشى.
أما اليهود والبروتستانت فإنهم يخرجون من التوراة كتاب طوبيا، ويوديث والحكمة والكهنوت وكتاب باروخ وبعض أقسام من كتاب أستير، وقصة سوسان وقصة الشبان العبرانيين الثلاثة والكتابين الأولين من المكابيين، وقصة أوثان بعل، وداغون. هذا ما كان من العهد القديم، فأما العهد الجديد فهو الذي يشتمل على الأناجيل الأربعة؛ متى، ومرقص، ولوتا، ويوحنا، وأعمال الرسل، و١٤ رسالة من بولس، و٧ رسائل من بطرس، ويعقوب، ويهوذا، ورؤيا يوحنا. وقد أخرج المجمع التارنتي من العهد الجديد رسائل برنابا، ورسائل بولس إلى اللاوديقيين والي سنيكا وكتاب السيد المسيح إلى أبقار، وكثيرًا من الأناجيل.
وقد جاء في كثير من الكتب — حتى التي ألفها مؤلفون مسيحيون — تخطئة العهد الجديد أيضًا، فضلًا عن العهد القديم. وتجد في معجم لاروس تخطئة إنجيل متى في نسب المسيح، فبعد أن ساق ما قاله متى من أنه من سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر بطنًا، قال: إن في هذه النسبة مشكلات لا تقبل الحل، لأنه لا يوجد من سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر، وإنما هي ثلاثة عشر بحسب كلام متى نفسه. فأما الذين أنحوا على الإنجيل الأربعة بالتخطئة ممن لم يبق عليهم من المسيحية إلا الاسم فإنهم كثيرون جدًّا. وقد ازدادت الكتب المتعلقة بهذا المبحث بعد الحرب العامة كثيرًا، فقد عرضوا الأناجيل على المحك ومحصوها تمحيصًا لا بأس بأن نشير إلى بعضه، ونورد عليه بعض الأمثلة، لأن الاستقصاء في هذا الباب يستغرق مجلدات كثيرة، ونحن إنما نتوخى مجرد الإشارة إلى الموضوع، حتى إذا كان للقارئ رغبة يمكنه أن يراجعه في مظانه، ولو كانت هذه الحواشي للاستقصاء لم تكن لتنتهي.
وانظر إلى ما يقول يايباس في مقدمة كتابه المسمى «شرح أحكام الرب» خطابًا لأحد أصحابه: «لا أتردد من أجلك أن أحرر ما سمعته من الزكيتيم — الزكيتيم بالعبرية تقوم مقام الشيوخ في العربية، وهي مشتقة من فعل زكن بمعنى علم وفطن وأنت تعلم أن العربية والعبرية من أصل واحد والميم في العبرية كالنون في العربية فقولك الزكينين هو كقولك الزكينين — وما وعته ذاكرتي لأجل إثبات حقيقة الشرح الذي شرحته، ولم أكن ناقلًا عن الرواة المعروفين بفصاحة اللسان وذلاقة التعبير كما يفعل الكثيرون، بل ناقلًا عن معلمي الحقيقة، فإني لا أحب أن أروي عمن يدخلون مبادئ أجنبية في كلامهم، وإنما أحب أن أروي الوصايا التي فرضها الرب والتي هي وليدة الحقيقة. فإذا كنت صادفت بعض من كانوا في عشرة الزكينيم — أو الزكينين — فكنت أتحرى أن أعلم ما قال اندريا، أو بطرس أو فيلبس أو توما أو يوحنان أو متى أو تلميذ آخر من تلاميذ السيد. ولم أكن أعتقد أن ما هو في الكتب أفيد لي من سماع كلمة حية من أفواه هؤلاء، فمرقص كان ترجمانًا لبطرس، وكان يكتب كل ما سمعه من بطرس عن أقوال المسيح وأفعاله، لأن مرقص لم يسمع المسيح ولم يصحبه، وكان يتبع بطرس حيث ذهب، وكان بطرس يعلم بحسب الظرف الذي يوجد فيه، وبدون أن يهم بربط الروايات بعضها مع بعض، فمرقص لم يكتب إلا ما سمع من بطرس، ولم يكن له هم إلا في تقييد كل ما سمع بدون زيادة ولا نقصان.» ثم إن يايباس يقول عن متى: «إن متى جمع كلمات يسوع باللغة العبرية وترجمها كل بحسب استطاعته.» فالأناجيل الأولية إذن كانت إنجيلين؛ أحدهما إنجيل مرقص الأصلي، والثاني مجموعة متى. وكان إنجيل مرقص خاليًا من الترتيب، وكان مرقص هذا ويقال له أيضا يوحانان من سلالة اللاوية، وكان يحمل لقبًا يونانيًّا بحسب العادة في ذلك الوقت، وكانت أمه تدعى مريم وفى بيتها كان يجتمع حواريو المسيح وكان قد قطع إحدى أصابعه حتى لا يعود صالحًا للكهنوت اليهودي، فكان «ههيبوليتوس» القديس يقول له: «مرقص ذو الإصبع المقطوعة» وقد روى «اوزيبيوس» أنه لما كان بطرس الملقب بالصفا يعظ في روما كان الناس الذين يتلقون البشارة منه يترجون مرقص أن يقيد ذلك بالورق ويدفعه لمن يريد، فعرف بطرس بالأمر فما نهاه ولا شجعه في البداية، ولكن بعد أن كتب مرقص إنجيله صار يتلى في الكنائس — ولا يزال القبط يسمون كنيستهم بالكنيسة المرقصية — وعاش هناك بين سنة ٤٥ و٤٧ للمسيح.
أما مجموعة متى فقد كتبها هذا بين سنة ٥٠ و٦٠ وكان متى من الحواريين وكان متصوفًا متقشفًا لا يأكل اللحم، ولا يشرب الخمر، وبقي في فلسطين اثنتي عشرة سنة بعد المسيح، ونشر إنجيله بلغة العبريين، بينما كان بطرس وبولس يؤسسان كنيسة روما، فهذان الإنجيلان هما أقدم الأناجيل.
وجاءت بعد ذلك الأناجيل الثانوية وكثر عددها، ولما تغلبت الكنيسة في الدولة الرومانية أحرقت جانبًا عظيمًا من هذه الأناجيل الثانوية، بحيث لم يبق منها إلا أسماء فقط، فمنها إنجيل «اندرياس» جاء ذكره في منشور من البابا جيلاسيوس الأول سنة ٤٩٤ ومنها إنجيل «بارنابا» الذي ذكره «جيلاسيوس» ولم يكن يفترق عن إنجيل متى. ومنها إنجيل «باسيليديس» ذكره «اوريجينيس» وقد كتب سنة ١٢٥. ومنها إنجيل «قيرنيتوس» وكان يهوديًّا مال إلى شريعة عيسى وكتبه في نحو سنة ١٨٠ وكان يقول إن عيسى هو ابن يوسف من مريم. وقد ذكر هذا الكتاب القديس هيبوليتوس. ومنها إنجيل «هيزيشيوس» الذي ذكره «ايروثيموس» (سنة ٣٤٠ إلى سنة ٤٢٠) ومنها إنجيل يعقوب الصغير ذكره «جيلاسيوس» ومنها إنجيل يهوذا ذكره «ايرينابوس» (١٧٧–٢٠٢) وكان هذا الإنجيل مستعملًا عند القاينيين وهي نحلة كانت تتمسك بكل شيء تحرمه الكنيسة وكانت تعظم قابين. ومنها إنجيل «تاداى» ذكره جيلاسيوس. ومنها إنجيل «مقريون» ابن مطران سينوب ألفه سنة ١٣٠ وذكره ايرنايوس وهو مأخوذ من إنجيل لوقا، ولكنه لا يذكر الفصل المتعلق بميلاد يسوع، ولا قصة الكرمة ولا الابن الشاطر. ومنها إنجيل متى الذي ذكره «اوريجينيس» ومنها إنجيل «ساتورينوس» ذكره هيبوليتوس وتاريخه سنة٢٢٠. ومنها مجموعة الأناجيل الأربعة بقلم «تاتيانوس» الأشوري تلميذ يوستينوس وكان من النحلة التي تحرم أكل اللحم وشرب الخمر والشهوات البدنية. وقد كتب هذا الكتاب سنة١٧٢ باللغة الآرامية ولا يوجد في هذا الإنجيل النسبة الداودية.
ثم إنجيل برنابي وصاحبه يزعم أنه عاش في زمن يسوع، وكان مخالطًا له ولأمه، وهو يذكر أنه لم يكن إلا نبيًّا من الأنبياء، وأن الصلب إنما وقع على يهوذا الإسخريوطي لشدة شبهه بعيسى، وأن عيسى رجع إلى أمه وتلاميذه ولم يصلب، وهذا الكتاب هو تأليف أحد المسلمين.
قلنا: إن الحكم بدون دليل لا يصح، فقول الدكتور بينيه سانغليه «إن هذا الكتاب تصنيف أحد المسلمين» بدون ذكر المسلم الذي صنفه، بل بمجرد الظن ليس بوارد، فالظن لا يغني من الحق شيئًا، وكان عليه أن يأتي من الأدلة على هذا الزعم، فإن كان الدليل عنده على هذا هو نفي الصلب والقول أنه وقع على غير عيسى تشبيهًا له به، فليس المسلمون وحدهم قالوا بهذا، وهذه الرواية موجودة من زمن عيسى نفسه، حتى إن إميل لودفيج اليهودي الألماني المشهور بتأليف التراجم ذكر في آخر كتابه الذي ألفه لهذا العهد عن المسيح أنه لما سرق النصارى جثة عيسى من المغارة بعد الصلب جاء اليهود وشكوا إلى بيلاطوس النبطي سرقة جسد عيسى وقالوا له: كيف يمكن بدون التواطؤ مع الحكومة أن يتمكن النصارى من إخراج الجسد من المغارة؟! وشائع اليوم كثيرًا أن عيسى لم يصلب، وأن الصلب إنما وقع على غيره. وقد استوفينا قضية الصلب هذه في حواشينا على «حاضر العالم الإسلامي» في عرض الكلام على كتاب «درمنجهم» الذي أراد التوفيق بين الإسلام والنصرانية، فمن شاء فليراجعها هناك. وقد نشر الأستاذ صاحب المنار — رحمه الله — مباحث في هذا الموضوع ورسالة سديدة لأحد الدكاترة المصريين.
وبديهي أن من الأناجيل المحفوظة بتمامها إنجيل مرقص وإنجيل يوحنا وإنجيل متى وإنجيل لوقا، وهي الأربعة التي يعول عليها النصارى.
ومنهم من رجح كون المسيح رمزًا، وأنه لم يوجد أصلًا. فالمسيو غوغويل يبين ما في هذه الأقاويل من المبالغات، وهو يقول إن وجود عيسى محقق، وأن الأخبار الواردة في الأناجيل يمكن ربط بعضها ببعض وأخذ نتيجة تاريخية صحيحة منها، وهو يرى أن ادعاء كون المسيح رمزًا فيه من المشكلات التاريخية أكثر من القول بأنه وجد بالفعل.
نعم إن المسيو موريس غوغويل يعتقد أن كثيرًا من روايات الأناجيل غير واقعية، بل مطيقة على التقاليد النصرانية تطبيقًا لمجرد الدعاية، أو بحسب الاعتقاد وأن هذا في وادٍ والتاريخ في واد. وكذلك رينان في كتابه الشهير «في حياة يسوع» يعترف بتطبيق بعض الروايات على النبوات السابقة تعمدًا أو تعملًا.
ولنعد إلى بحث الدكتور «بينيه سانغليه» فهو يذكر أن إنجيل لوقا كتب سنة ٦٤ وأن لوقا لم يكن من الذين عاصروا المسيح، ولا كان يهوديًّا، ولكن في كلامه كثير من العبري والأرامي فهو بدون شك من أصل ساميّ. وقد كان لوقا فيما يظهر من المتصوفة وكان مذهبه في التاريخ أن يجمع ويرتب الحوادث بدون اعتناء في أمر صحتها وعدمه.
ولكنه لم يكن يسلم من التكرار والتناقض. ويظهر أنه كان طبيبًا، وله عدا الإنجيل المذكور كتاب اسمه «أعمال الرسل». وهذه الأناجيل الثلاثة لم يأت القرن الثاني للمسيح حتى كانت هي المساند المعول عليها عند جميع النصارى. أما إنجيل يوحنا بن زبدي فقد كتب بين سنة ٨٠ و٩٠ في آسيا الصغرى وهو يأخذ عن الأناجيل السابقة، وعن وثائق لم يطلع عليها مرقص ومتى. وقد كان يوحنان هذا يهوديًّا وكانت كتابته بالعبرانية، وكان مطلعا على العهد العتيق، وكان يجهد في إثبات أن المسيح هو ابن الله، ويأتي بجمل من العهد العتيق ليستخرج منها إشارات إلى مجيء المخلص، ويكثر من الكنايات والاستعارات والتأويلات، وعندما يذكر أن المسيح قال: «اهدموا هذا الهيكل وأنا أقيمه بعد ثلاث أيام» زعم أن مراده بالهيكل إنما هو جسده، وبرغم كل هذا فالذين حكموا بصحة هذا الإنجيل عدد لا يحصى من العلماء، وذهبوا إلى أنه ناقل أمين، وأن يوحانان هذا كان أعلم بالأسماء والأعلام من أصحاب الأناجيل الأخرى، وربما أوضح أمورًا من أقوال المسيح وعلاقاته مع أحبار اليهود وأعماله في القدس قد فاتت أصحاب الأناجيل الثلاثة الأولى.
وبرغم أن في كلامه عن أيام المسيح في القدس بعض سقطات فهو في هذا الموضوع أعلى درجة من مرقص ومتى ولوقا. وذهب بعضهم إلى أن يسوع في إنجيل يوحنان هو يسوع الحقيقي التاريخي. وقال آخرون: إن أوثق الأناجيل هما إنجيل مرقص، وإنجيل يوحنا المذكور. وطعن بعضهم في يوحانان المذكور فقالوا: إنه كان جاهلًا متكبرًا متعصبًا منتقمًا، وكانت فيه ميول شاذة، وكان تلميذًا ليوحنا المعمدان وأن والده كان صياد سمك فترك والده واتبع المسيح، وقال عن نفسه: إنه التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وبعد موت المسيح صار من رؤساء الفرقة المسيحية، فحبس واضطهد، وكانت وفاته في أفسوس سنة ٩٨. وقد كان لإنجيله نجاح عظيم، لأن الناس كانوا يعلمون خلطته بالمسيح من البداية ومن قبل متى. وقد سأله بعض المؤمنين عن رأيه في أصحاب الأناجيل الثلاثة التي سبقته فقال: إن الذي أهملوه من جهة المعجزات التي يجب أن تروى كان شيئًا قليلًا. فرغب إليه المؤمنون بسد النقص الذي وقع في الأناجيل الأخرى، فكان ذلك هو الحامل له على وضع إنجيله.
وكانت هذه الأناجيل الأربعة مكتوبة على ورق البردي، وما انتهى القرن الثاني حتى وجد منها ستون ألف نسخة! ويقال إنه يوجد اليوم ١٠٧٧ مخطوطًا من الأناجيل الأربعة، وأن أقدمها هو إنجيل تاريخه القرن الرابع عثر عليه «تشندورف» فى جبل سيناء في ٤ فبراير ١٨٥٩. انتهى.
ثم إن الدكتور بينيه سانغيليه تكلم عن قيمة الأناجيل التاريخية فنقل أكثر الأقوال المختلفة في هذا الموضوع، ورجح الرأي القائل بأن أصحابها كانوا قومًا سذجًا رووا الأمور على علاتها، وإنهم لو كانوا من أهل الصنعة والدهاء لم تقع في أناجيلهم الأغلاط والتناقضات التي وقعت. نعم إن سذاجتهم أوقعتهم في أخطاء كثيرة كما هو الشأن في كل ساذج يريد أن يروي قصة، لكن مما لا جدال فيه أنهم لم يضعوا أكاذيب من عندهم، وغاية ما هناك أن هوسهم كان يحملهم على نقل أشياء غير مطابقة للواقع.
فالقارئ يرى مما لخصناه هنا عن العهدين العتيق والجديد أن الاختلاف واقع في كل منهما؛ فالعهد العتيق قد أضاف إليه اليهود ما لا يليق بالكتب المنزلة بوجه من الوجوه كما تقدم الكلام عليه، فلم يكن التبديل منحصرًا في تحريف الكلام، ولا في تأويله كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون رحمه الله، هذا فضلًا عما وقع من الاختلاف في الأقسام التي يجب أن تعد من التوراة، والأقسام التي يجب إخراجها منها.
وأما العهد الجديد فان التناقضات واقعة فيه من كل مكان، فمنه أناجيل رفضتها الكنيسة بالمرة، ومنه أناجيل لم ترفضها الكنيسة بالمرة ولكنها لم تدخلها في الكتب الكنسية المعول عليها، ومنها الأناجيل الأربعة التي قررت المجامع العمل بها، وليس رفض الكنيسة لبعض الأناجيل وبعض التواريخ المتعلقة بها بالعهد الجديد دليلًا كافيًا على عدم صحتها، لأن الكنيسة تنفي كل ما هو خارج منها عن عقيدتهم، ودليل ذلك أن ما ينفيه الكاثوليك مثلًا قد يثبته البروتستانت، فالاختلافات بين الأناجيل المردودة والأناجيل المصدقة لا تكاد تحصى. وأهم من هذا أن الأناجيل المصدقة والمعول عليها هي أيضًا لم تسلم من الاختلافات ولا من الأخطاء كما أجمع على ذلك العلماء الأوروبيون الذين محصوها.
وقد يعترف العلماء المسيحيون أيضا بوقوع الاختلاف فيها، لكنهم يردونه إلى التأويل ويجعلونه من الأعراض التي لا تمس جوهر الحقيقة، وهذا فيه نظر. وعلى فرص جواز هذا القول فإن وجوه الاعتراض الكثير الواقع على الأناجيل من جهة العلماء المدققين غير المؤمنين بالدين المسيحي إنما هي من مخالفة روايتها للسنن الطبيعية، ومن جهة كونها إنشاء جماعة إن لم يجز وصفهم بالكذب لم يجز وصفهم بالعلم، وها كله لا ينفي ما يجب من حرمة التوراة وتقديسهما وفقًا لما في القرآن العظيم الذي يوجب لهما هذه الحرمة من حيث وجودهما الأصلي، ولكنه لم يضمن صحة نسخ التوراة ونسخ الإنجيل التي تعاورتها أيدي الناس بالحذف والتبديل بحسب الأهواء والله تعالى من وراء العلم.