الفصل الأول
(ترفع الستارة عن هيئة برِّية وبها قبور وأشجار، وغانم بن أيوب واقف بين القبور.)
غانم
:
آه لا حول ولا قوة إلا بالله، قد أتيت من بلاد الشام، بتجارة
والدي أيوب الهمام، ومكثت في أرض بغداد، وعاملوني أهلها بحسن
الوداد، فبعت وربحت، وبلغت من المكاسب ما أمَّلت، حتى تُوفي في
هذا النهار، صديقنا التاجر عبد الغفار، وخرجت بجنازته مع سائر
التجار، ومكثت على رمسه إلى الآن، وازدادت بي لفقده الهموم
والأحزان، وعند رجوعي إلى البلد، ما وجدت بطريقي أحد، ووجدت
باب المدينة مقفولًا، فازددت همًّا وذهولًا، وارتكبت جميع
الأهوال؛ لخوفي على تجارتي ومالي من لص محتال، فرجعت وأنا في
الشدة وقور، وعلى المكاره صبور.
آه كم غريب يحن إلى وطنه بالامتثال، ونسيب يحن إلى مُقامه
بالاتصال! والعقل مع الصبر يزين، والجهل مع الجزع يشين، ولكن
آه، مَن هؤلاء المقبلون، وإليَّ الضوء حاملون، ويلي لقد قربوا
هذا المكان، فأخشى أن يقتلوني، وأقع في الخسران، فما لي غير
الدخول هنا، وأصعد على هذه الشجرة بدون ارتياب. نعم، نعم، هكذا
أفعل عسى أن يحفظني المولى، وأبلغ الأمل.
يا رب جسمي بطول الخوف قد عدما
ولي فؤاد بما ألقاه قد ندما
أمسيت بين رمس لا أرى أحدًا
فاشتد خوفي، وصبري اليوم قد
عُدِما
أنا الملوم بما فرَّطت وا أسفي
ليس المُخاطر ممدوحًا ولو
سلما
إلهي سيدي مولاي كن لي
فقد فارقت خِلَّاني، وأهلي
أغثني سيدي فسواك من لي
أتيت لبابك العالي بذُلِّي
فإن لم تعفُ عن ذنبي فمن لي
إلهي زاد بي فرط اشتغالي
على حالي ومن حسن اتِّكالي
أتيتك قاصدًا يا ذا الجلال
مُقرًّا بالجناية وامتثالي
لأمن النفس في عقد وحِل
إلهي سيدي مولى الموالي
أتيتك قاصدًا والجسم بالي
مُقرًا بالذنوب وسوء حالي
ومعترفًا بأوزار ثقالِ
أُقاد لحملها طوعًا لجهلي
الواقعة الثانية
(يدخل جملة من العبيد، حاملي صندوقًا وبه قوت القلوب.)
هلال
:
هيا يا أخي مسعود، لنوفِّي بما وعدتنا به الملكة زبيدة،
ونضع هذا الصندوق في هذه المغارة.
مسعود
:
نعم يا أخي، ونذهب بالعجل قبل أن يرانا أحد.
(هنا يضعون الصندوق في المغارة، ويذهبون، وينزل غانم من فوق الشجرة.)
غانم
:
إلهي وفقني من الاستمساك بما يقربني إليك من الحمد،
واعصمني من الاسترسال فيما يبعدني عنك من الخطأ والعمد،
وقد انشرح خاطري، وسرت سرائري، وتوفرت مسراتي، وتضاعفت
لذَّاتي، بنجاتي من السودان، بفضلك يا ذا الجود والإحسان،
فالسعيد من تأمَّل في معاني الحِكَم، وسلك السبيل الأقوم،
وتدبَّر في عواقب الأمور بالانتظار، وتلقَّى الأشياء من
طريق الاعتبار؛ فالحمد لله على خلاصي من بلائي، وما دهاني
من شدة عنائي، فقد نجوت من مكر هؤلاء العبيد، فإنهم لو
رأوني لقتلوني في هذا المحل البعيد، ولكن ليت شِعري ما
الذي في هذا الصندوق تركوه، فلا بد أن يكون مالًا لبعض
التجار سرقوه، وبعد قليل يأتون إليه ويُخرجونه، ويأخذون ما
فيه، وعلى بعضهم يُقسِّمونه، فينبغي عليَّ أن أدخل هذه
المغارة، وأنظر ما في هذا الصندوق.
ما أجمل هذه العيون المراض الصحاح، وما أعدل هذا القد
الذي يُزري بالرماح! فيا ليت شِعري هذه ابنة مَن في
الأنام، وما سبب وقوعها في هذه الآلام، فكيف العمل للاطلاع
على هذا الأمر، الذي جلب لي الهم والقهر، إني أظنها
انتبهت.
(يدخل غانم المغارة ثم يخرج سريعًا.)
ما هذا هه … هذه غادة حسناء، وجميلة هيفاء، بدرُ محياها فتَّان، كأنها من الحور الحِسان، ولا شك أنها من بنات الولاة، وهي في قيد الحياة، لكن مُغمًى عليها، فيا ليت شِعري، من أوصل هؤلاء العبيد إليها؟ فلا بد لها من شان، ولكن ما أبدع هذا الجمال الفتَّان! وما أحلى هذا الدلال، والبهجة والكمال!وعُذري الهوى العذريُّ وهو
يمينُ
به مقسم التبريح ليس
يَمينُ
لأفتَكُ من ضرب الصفاح تبينُ
عيون على السحر المبين
تبينُ
يسالمها العشاق وهي تخونُ
عجبت لها تنسى، وقلبي حافظ
وإنسانها يسبي النُّهى، وهو
واعظ
وأعجب من ذاك الفتك، وهي لواحظ
مراض صحاح ناعسات يواقظ
لها عند تحريك الجفون سكونُ
فأهدابها مرضى على شدة القوى
وهاروت عن أجفانها السحرَ قد
روى
ولا ذنب للولهان في شدة الجوى
إذا أبصرت قلبًا خاليًا من
الهوى
تقول له كن مُغرمًا فيكون
قوت
:
ألا يا نسيم، ما فيك ريٌّ للظمآن، ورد للعطشان، جميلة،
جليلة، شجرة الدر، يا بنات، ويلي ما هذا الأمر المقدور،
ومن أتى بي من بين الستور، ووضعني بين القبور، فعدِمت
السرور، لا أعجب فالدهر أبو العجائب، ومُفرِّق الأتراب،
ومشتِّت شمل الأحباب، ولا ينفع حذر من قَدر، وقد نزل
القضاء، وعمي البصر.
من أنت أيها الأخ الكريم، والصديق الحميم؟
أخلَّاي من لي، والزمان أضاعني
أطال عذابي، وانتحابي،
وخانني
أخلَّاي من لي إن دهري خانني
وضاع فؤادي، واصطباري
وزادني
على أسفي حزنًا، وذبت من الوجد
أقول وصبري من هواني، وحسرتي
جفاني وزادت يا أخلَّاي
بلوتي
غرامي، وأشجاني، ووجدي ولوعتي
وسُقمي، وتبريحي، وسُهدي،
وحيرتي
وذُلي، وتغريبي عدِمت بهم رشدي
غانم
:
أنا عبد جمالك الزاهي، وأسير قوامك الباهي، أنا غانم بن
أيوب، ساقني إليك علَّام الغيوب، لإنقاذك من هذه
الكروب.
قوت
:
بمكارمك العميمة، ومحاسن أخلاقك الكريمة، قد أوليتني
الإحسان، وسلكت بي طريق الامتنان، بما لا يقطعه سيف
الحدثان، فأنعم بك من خليل كريم خطير، وجليل ذي رأي
مستنير، من الهلاك أنقذتني، وبفضلك غمرتني، ولكن أقسم عليك
ببارئ النِّسَم، وموجد الأشياء من العدم، أن ترثي لحالي،
وتُخبرني بما جرى لي، ومن أتى بي إلى هنا، ورماني في الشدة
والعنا.
غانم
:
حفظ الله طلعتك المحروسة، وأبقى ذاتك المأنوسة، إن جملة
من العبيد أتوا بك إلى هذا المكان، وأنت في هذا الصندوق يا
ربة الحسان.
قوت
:
يا زمان أهنتني، وفي نفسي أفجعتني، وبحالتي أفزعتني،
وبحسرتي تركتني، وبحرمتي غادرتني، وبذلتي أوجعتني، وفي
البلاء أوقعتني، هلا رثيت لدمعي الغزير، وحزني الكبير،
ارحم فتاة يجرح النسيم خديها، وقد جار الزمان عليها، وأوصل
يد الأذى إليها، وقد عدمت قواها، وصبرها جفاها، وازداد
عناها وبكاها، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، لقد
ازدادت بلوتي، واشتدت مصيبتي، وعدمت هنائي، فمن فعل بي هذه
الفِعال، ورماني في هذا الحال؟ فيا دهر تحكَّم فالبلاء
تحتَّم، والدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو
من فتنة، ولا تتخلى من محنة، رفقًا بفتاة عيشها قصير،
وحزنها كبير، ودمعها غزير، ويسرها عسير، إلهي ما هذا
الحال، فقد ذقت مُر الوبال، واغتنمَتْ أعدائي فُرص الزمان،
وانتهزَتْ فرصة الإمكان، حتى فعلوا بي ما فعلوا، وعن طريق
الاستقامة عدلوا.
لفرط الأسى قلبي يذوب، وهل
يغني
نُواحي؟ وصبري زال من شدة
الحزن
بكيت على نفسي وزاد تأسفًا
لما بي ولي قلب من الهم في
شجن
عتبت على الدهر الخئون لأنني
بكيت دمًا لو كان سفك الدما
يُغني
أرى العيش في الدنيا كأحلام
نائم
فلذاتها تُقضى، وأقدارها
تُضني
شكوت إلى دهري عظيم مصيبتي
فأصبح عني نائيًا مالئًا
أذني؟
غانم
:
يا شقيقة البدر، ودرة هذا العصر، انْفِي عنك الأحزان،
واجعليها في خبر كان، واستعملي الصبر بدلًا من الجزع،
والرفق بدلًا من الفزع، وتحققي حسن نيتي، واستبشري بخلاص
طويتي، وأوضحي لي حقيقة حالك، وأخبريني بما جرى لك.
قوت
:
ما هذا وقت إخبارك بقصتي، فقد زادت غُصتي، فخذني إلى
دارك وبعدها أخبرك بحقيقة الحال، وما قاسيت من
الأهوال.
غانم
:
أمرك يا أخت الهلال، فهلمِّي معي لنسير، وعلى الله حُسن
التيسير.