الفصل الثاني
(تُرفع الستار عن قصر الملك وبه قبر والعجوز واقفة.)
عجوز
:
قد تمت الحيلة، وبلغتُ المراد، وساعدَني على ذلك رب العباد،
واجتهدت في سبك الحيل، حتى بلغت سيدتي زبيدة غاية الأمل؛ وهو
أن الخليفة يُحب قوت القلوب، وفي إحساسات الحب ما يُغطي
العيوب، وكان يُحبها محبة زائدة، ولا يصبر عليها دقيقة واحدة،
فاستولت على زبيدة الغيرة، ووقعت في الحيرة، فعند ذلك طلبتني،
وبما جرى أخبرتني، وطلبت مني الإعانة فأعنتُها، وعلى أفكارها
ساعدتُها، وبلغتُها القصد والمرام، وصرفت عنها تلك الأوهام،
وذلك أني بنَّجت قوت القلوب، واستحصلت على كل المرغوب،
وأرسلتها مع جملة من العبيد، فذهبوا بها إلى مكان بعيد، ولخوف
الملكة من خليفة العصر، صنعتُ لها قبرًا في هذا القصر، ودفنتُ
فيها شخصًا من الخشب، وقد أعلنتُ موت قوت القلوب في الدار،
واشتُهر ذلك بين الكبار والصغار، وقد بلغني اليوم أن الملك
سيعود من الصيد والقنص، ولا شك أن ذهابه هو الذي مكننا من
انتهاز الفرص، ومع كل يلزمني أن أستحضر الجواري إلى هذا
المكان؛ ليندبن على قبرها عند دخول الملك، ونُظهر أمامه
الأحزان، ونتمِّم سبك الحيل؛ لنقطع منه الأمل.
جميلة
(تدخل)
:
سيدتي زبيدة تُقرئك السلام، ومنها إليك مزيد الإكرام، فقط
ترغب سبك الحيل منكِ لأن الخليفة آتٍ على عجل.
عجوز
:
قولي لها أن تُرسل الجواري إلى هذا المكان؛ ليندبن معي،
ويُنشدن الألحان.
جميلة
(لنفسها)
:
أفٍّ لهذه الماكرة، والغادرة الخاسرة، التي قد غدرت بقوت
القلوب، وأذاقتها الكروب. (تذهب
وتدخل الجواري.)
الجواري
(لحن)
:
أسفًا عليك يا قوت القلوب
من ذَواكِ قد نمت منا الكروب
ويحنا، الدهر علينا قد سطا
إنما الحكم لعلَّام الغيوب
(يدخل الملك.)
الجواري
:
مرحبًا أهلًا وسهلًا بالهُمام
المليك الأمجد سامي المقام
فتعزَّى سيدي فيما مضى
وتسلى عن بَهَا قوت القلوب
قد ذوى غصن محياها الرطيب
واختفى بدر محياها العجيب
فاسلُ عنها أيها المولى الأريب
نلتَ أجرًا في الصباح،
والغروب
ملك
:
قوت القلوب، قد عظُمت لفقدها الكروب، فوا أسفاه وا حرَّ
قلباه، وقعنا في أعظم المصائب، وحلت بنا جميع النوائب، قوت
القلوب، آه قوت القلوب.
وا رحمتاه لسقيم عز دواه، وزاد به الحزن ما دهاه، قوت
القلوب، أتذكَّر حسن زمان مضى، وعيشًا بالسرور قد
انقضى.
هلمَّا إلى قوتِ وقولا لقبرها
سقتك الغوادي مربعًا ثم مربعا
فيا قبر قوت، كيف واريت حسنها
وغادرت قلبًا هام حتى تصدَّعا
ويا قبر قوت أنت أول حفرة
من الأرض خُطَّت للمحاسن
مضجعا
ضممتَ فتاةً بالدلال تسربلت
وواريت وجهًا بالجمال تبرقعا
سأسقيك من عيني بكل دقيقةٍ
مُذاب فؤاد بالفِراق تقطَّعا
ولما مضت قوتُ مضى الحسن وانتهى
وأصبح عرنين المحاسن أجدعا
أنت في رحمة الإله، وقلبي
في عذاب وفرط حزني ضجيعي
قد تنهدت إن ذكرتكِ حتى
زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
الجواري
:
اسل يا فخر الموالي
يا عميم الكرم
واسل عن ذات الدلال
يا وافر النعمِ
دمت يا كهف المعالي
يا عالي الهممِ
وابق يا وافي النوال
آمنًا من النقمِ
إنما الدهر زوال
يا كريم الشيمِ
واسل عن قوت القلوب
يا رفيع العلمِ
ملك
:
صبرًا على الدهر الجاني، الذي لم يرعَ حقي ومكاني، فحتَّمَ
هذا الحال الشنيع؟ وإلامَ هذا الحزن المريع؟ قوت القلوب كانت
في مودتها لي أنيسة، وعلى حفظ حقوقي حريصة، فاغتنم الدهر
الفرصة، حتى تجرعت منه الغُصة، وعاندني جهارًا، وانهمل دمعي
مِدرارًا، وانهزم جند الأفكار، بهجوم جيش الأكدار، لعَمري هذا
هو البلاء العظيم، والشقاء الجسيم … اكشفوا لي عن قبرها، لأرى
ضجيعها في سرها.
عجوز
:
أيها الملك المعظم، والشهم العادل المكرَّم، أنت السيد
السديد، والكامل الرشيد، أسألك بالذي رفعكَ إلى هذا المقام، أن
تسمع مني هذا الكلام؛ لأن الدنيا قاطعة مانعة، والآخرة جامعة،
واتَّبع رضا المولى بالتصبر على المصائب، والتجلُّد عند حلول
النوائب، ولا ينبغي لمولانا السلطان، كثرة الهموم والأحزان،
على جارية مرغوبة، وغادة محبوبة، وفي ملكه ما يغنيه عنها، وفي
قصره أجمل منها.
الناس للموت كخيل الطراد
فالسابق السابق منها الجواد
والله لا يدعو إلى داره
إلا من استصلح من ذي العباد
والموت نقَّاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
لا تصلح الأرواح إلا إذا
سرى إلى الأجساد هذا الفساد
ملك
:
أيتها الجواري، قد ازدادت أشجاني، وتلهبت نيراني، ولا يمكنني
أن أخرج من هذا المكان، لما اعتراني من الهموم والأحزان،
فأتوني بشيء عليه أنام، لعلي أراها ولو في المنام. (تذهب الجواري ثم تدخل جميلة وجليلة
بفراش الملك.)
جميلة
:
أمرك أيها الهمام.
ملك
:
نعم، لا ينبغي الحزن للملوك والأمرا، ولكن ماذا أصابني فيما
قد جرى (ثم ينام).
جليلة
:
أظن أن مولانا ليس له علم بما قد جرى يا جميلة، حتى إنه يحزن
على قبر خالٍ صنعته يد الحيلة، وليس فيه إلا خشبة مصنوعة، وهي
بيد العجوزة موضوعة.
جميلة
:
وأي شيء أصاب قوت القلوب؟
جليلة
:
يعلم الحقيقة علَّام الغيوب، وهي أن السيدة زبيدة أرسلت
إليها من يبنِّجها وفي الصندوق يضعها، وأعطتها لجملة من
العبيد، فذهبوا بها إلى محل بعيد، وعلى ما بلغني أنه أخذها شاب
من بلاد الشام، يُدعى غانم بن أيوب ولها عنده مدة من
الأيام.
جميلة
:
إني لأعجب من هذا، ألم تمت قوت القلوب؟
جليلة
:
لم تمت بل هي عند غانم بن أيوب.
جميلة
:
وعلامَ يشتكي مولانا السلطان، كثرة الهموم والأحزان؟
جليلة
:
لأنه لا يعلم بهذه القضية، وهو حزين على خشبة في هذا القبر
ملقيَّة.
جميلة
:
ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا.
ملك
:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود، أقوت القلوب لم تمت؟
جليلة
:
سلامتها يا مولاي، من الموت.
ملك
:
ومن أين لك هذا يا جليلة، كيف تعلمين أن ما جرى هو محض
حيلة؟
جليلة
:
قد سمعت من بعض الزائرين إلى القصر، لما يزيل عنك
القهر.
ملك
:
اخرجن، وأرسلن من يأتي بجعفر، ومسرور.
الاثنتان
:
أمرك يا معدن السرور (تذهبان).
ملك
:
لا حول ولا قوة إلا بالله، قد انخدعت بهذيان هذا الكلام،
وسهرت الليل الطويل في الظلام، وأشغلت بالي، على قبر خالٍ،
وجاريتي عند غيري مقيمة، لعَمري حالتي ذميمة، ولا شك أنهما
تواصَلا ببعضهما، فالويل لهما ولا بد من قتلهما، وسأقتل غانم
بن أيوب، وألحِق به جاريتي قوت القلوب. (يدخل جعفر ومسرور.)
جعفر
:
أقبِّل أعتاب المليك أخا العُلا
عميم الندى، وافي المكارم
والولا
فلا زلتَ كهفًا للمكارم والندى
وحصنًا منيعًا في البرية
والملا
مسرور
:
أيا ملك الأنام لك التحية
ودمت مُحكمًا بين الرعية
فدم واسلم بعزٍّ ما يغنِّي
حمام في الصباح وفي العشية
ملك
:
يا جعفر قد علمتُ بالخبر اليقين، وظهر لي ما خَفيَ على
العين، وعرفت ما جرى لقوت القلوب، وأرشدني للحقيقة علَّام
الغيوب، وظهر لي ما دبرتْه تلك العجوز الغادرة، والخائنة
الماكرة، فقد فعلت بجاريتي ما فعلت، وصنعت بها ما صنعت، وقالت
إنها في هذا القبر دُفنت، فاذهب وفتِّش على غانم بن أيوب،
وأوقع به الكروب، واقتله بلا مهل، وأحضر جاريتي على عجل، وإن
لم تجده فاكتب لعامل الشام أن يقتله ويذيقه الإعدام.
جعفر
:
أمرك أيها الهمام، سأسير من الآن، وأفتش على ذاك المُهان،
وأوقع به الذل والهوان.
ملك
:
وأنت يا مسرور اذهب الآن، واقتل العجوز بلا توان.
مسرور
:
أمرك يا معدن الإحسان. (لحن
الختام.)
الجميع
:
أي نعم هذا هو الحق ولا
غيره يجدي لابلاغ الأرب
فلنسر بالحزم، والعزم على
سرعة كبرى مجدِّين الطلب
نسأل الستَّار سترًا دائمًا
ليُزول الهم عنا، والكرب