المرسم
كنت على وشك التمدد مع موسيقاي وكأسي، كنت أتمنى أن تصدق يومًا، عام كامل أو يزيد، ولم أتلقَّ إجابةً على دعوتي لها سوى «إن شاء الله» وابتسامة مضطربة وعين ثاقبة تخترق عيني ولا أعرف أين تستقر بداخلي، كل مرة. سمعت بها من بعض طلاب الدراسات العليا، دكتورة أمل مُدرسة تاريخ الفن بجامعة الإسكندرية، تكره الفلسفة، وتَكِيل بعباراتها الكيل للفلاسفة. تَكَرَّر اسمها كثيرًا بين طلاب قسمي، قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، لم أُعِر الأمر اهتمامًا؛ فكثيرون هم من يَسُبُّون الفلسفة، حتى دعتني إحدى الطالبات لمحاضرة تُلقيها الدكتورة أمل، التي وافقت على الإشراف على رسالتها التي أُشْرِف عليها بالفعل، كانت بعنوان «حب الحكمة وحب الجمال». وكنت اقترحت عليها إشراك أحد أساتذة الفنون الجميلة في الإشراف على رسالتها، لكنْ بَدَا أنها فضَّلت الدكتورة أمل، شعرتُ وقتها من إلحاحها على ضرورة ذهابي للمحاضرة وكأنها مواعدة مرتبة، وفي النهاية ذهبتُ، ولم أندم على ذهابي بقدر ما ندمتُ على ما ضاع من عمري قبل هذا اليوم.
كان يومًا ذا لون ورائحة، لم أُميِّزْ أيًّا منهما حتى خرجَت أمل بخطوات رشيقة واثقة على المنصة، رأيتُها مِن قبل، كانت تحضر عرضي لبعض اللوحات التي دائمًا أصِفُها بالزفت، ابتسمت للحضور، أو لي، بادَلْتُها الابتسامة وأنا أكثر استرخاءً؛ فهي مَن لوَّنت اليوم وصبغته برائحتها البرية. استسلمت لنظرتها أول مرة رأيتها، تحرَّكَت عيناها ما بين سيجارتي وصدري، لم أعلم أيهما اشتهت، لكنها فقط ابتسمت وانصرفت. والآن أراها ترقص بين الفن والفلسفة؛ رقصة موت بإيقاع الحكمة وأنغام الجمال: ترقص، ترقص، ترقص على صدري وأكاد أشعر بدقات قلبها من كفَّي قدميها.
ارتخيتُ قليلًا مع الموسيقى؛ ديبوسي، لا أحب موسيقاه بقدر ما تحبني، لا أسمعه، لا أتذكر الألحان، فقط أشعر بانسياب يتمدد بروحي كموج البحر ويعود أدراجه وروحي معلقة بذيوله، ويعاود بها ليسحبها، وكأن موسيقاه تستمتع بتلك اللعبة، لكن ليس بقدر استمتاعي بها. قطع استمتاعي الموجي صوت «عم نصر» يخبرني بأن لديَّ زوارًا … أيُّ زوار الآن؟ أوقفتُ الموسيقى وخرجتُ من غرفتي التي أُطلِقُ عليها «أتيليه» ومشيت حافي القدمين على أرضية السطح الحجرية، ألقيت نظرة لمئذنة ابن طولون قبل أن أصل للسور وأعرف الزائر الذي قطع متعتي.
كان العجوز «نصر» مستمرًّا بالصياح: «يا دكتور عبد الله، يا دكتور عبد الله …» وتجمدت عيناي؛ أمل؟! لا أعرف كيف نزلتُ لأصافحها بنفس هيئتي؛ بنطالي القطني البني الفاتح بلون التراب، وقميصي الكتاني الأبيض، وبالطبع حافي القدمين … أخذتُ يدها وصعدنا سويًّا، دعوتها للدخول، لم تهتم بحال الغرفة بل خَطَتْ كملكة في بلاطها: «غرفة كبيرة.» هكذا قالت، ابتسمت مجيبًا: «هي في الحقيقة ثلاث غرف وحمام، وأزلت كل الجدران، حتى الحمام بلا باب الآن.» ابتسمَت، وانزلقنا في صمت لحظي، شفتاها تجتذبان عينيَّ، وعيناي مستسلمتان لنفاذ نظرتها …
تحدثنا قليلًا بين فترات الصمت، لم تعجبني حالتي، لم أكن أنا، لم أكن بهذا القرب منها من قبل، لم أعْتَدْهُ، سألتها إن كانت تريد بعض النبيذ المصنوع منزليًّا بجنوب أفريقيا، وافقَت بضحكة خفيفة، معلنة أنها مَرَّتُها الأولى، أذابت ضحكتها كل التوتر، عاودني النشاط وأنا أملأ كأسَيْنا، تجنبتُ ملامسة أناملها وأنا أعطيها كأسها، كنت أستمتع بوجودها، أراقبها ترفع الكأس، تشم النبيذ وتبلل شفتيها.
سألتها لِمَ وافقت أخيرًا على زيارتي فأجابت لترى لوحاتي «الزفت»، فأشرتُ لتلك اللوحة فوق السرير بأنها «الأَزْفَت» على الإطلاق، كانت لوحة مربعة كبيرة بها دوامة من اللون الأسود سُحِبَ بسكين مبتلعًا كل الألوان، فسألتني كيف للألوان الخلاص من تلك الدوامة؟ فأجبتها بأن تتعرى منها وتخرج عارية وحين تشعر بالخجل تعود فترتديها، سألتها: «هل تخجلين من العري؟» أجابت بنفس ابتسامتها المرتعشة وعينيها الثابتتين بمستقرها داخلي «بل يخجل مَن يرتدون ملابسهم مني.» كانت تراقصني بكلماتها …
– هل تحبين المشي على سور السطح؟ [لم أنتظر إجابة وأضفتُ] اتركي ملابسك وتعالي بكأسك.
وخلعتُ ملابسي كلها وخرجتُ عاريًا للسطح لم أنظر خلفي، لم تتأخر؛ عارية وكأسها بيسراها. قدماها تعرفان أحجار السطح. تسير ببطء، بهدوء، ويمناها تبحث عن يدي، أمسكتها وصعدنا على سور السطح، هي أمامي وأنا خلفها ممسكٌ أنا بيدها وملاصق لها، مشينا قليلًا، لم أقصد بعريها رؤيتها عارية، لم أكن أيضًا أحاول إغواءها بعريي، لم أكن أهدف إلى شيء، ربما كنت أحاول منح جسدينا الفرصة للتعارف، تعارُف البراري بنسمات الشمال.
كلاهما يمنح رائحته للآخر ومعها يمنح سره.
كانت خطوتها تتناغم مع السور الحجري، خشونته تلتهم نعومة قدميها، ونعومتهما تقتحم خلوته، كنت أشعر بخوفها، وكنت أشعر بإحساسها بالأمان التام! طلبت منها أن تحاول السقوط وتختار أي جهة تودُّ السقوط، فاختارت ابن طولون، فجذبتها وقفزتُ بها للسطح مرة أخرى: «هيا لنرسم.» قلتها وأنا أجذبها من يدها للداخل مرة أخرى.
– أنا لا أجيد الرسم، مجرد …
– [قاطعتها] لن نستخدم فرشاة.
وقفت أمام المنضدة وفتحت أنابيب الألوان والزيت الخام والنفط الرومي وبدأت في تخليط كميات من الألوان بسرعة، وألقيت عليها الألوان تنساب على جسدها وتبتلع من سمرتها، وقبل أن تفيق من المفاجأة جذبت ملاءة السرير وفرشتها على الأرض قائلًا وتلك هي اللوحة، جذبتها للأرض وكِلانا يغطي الآخر بالألوان، وبدأنا نتحرك، نترك بصماتنا بثقل أوزاننا على القماشة البيضاء، كانت تتحرك، لا، كانت تزحف، همست لها: «كنت أعرف أنَّ خلف الدكتورة أمل كوبرا ملكية متمردة.» فهمستْ: «وكنت أعرف أن خلف الدكتور عبد الله إنسانًا بدائيًّا متوحدًا مع الطبيعة.»
أمسكت بها أحركها، أرفعها قليلًا فتستجيب، لم تكن مستسلمة تمامًا ليدي التي ترسم بها؛ فطلبت منها الاستجابة، فهمست: «هل تخضع لجبروتي دقائق؟» كثيرة هي مفاجآتها.
– أجبريني على الخضوع.
– الخضوع الكامل، وتتسلم الصولجان وتصبح مملكتك.
– أحاول المقاومة وأحاول الاستسلام.
– قاوم فلا معنى لنصر بلا مقاومة، يشبه الوجبة المجانية، لا يقبلها الفرسان.
– ليس لي خيار، سأحارب للنهاية، وأستمتع باستسلامك.
– قلت لك تعجبني ثقتك بنفسك، تبدو أفَّاقًا، كاذبًا، مراوغًا، جريئًا لحد التطاول، لكنك تعجبني.
لم تكن تراوغ، كانت تعرف موطئ قدميها، طلبت منها المبيت، فاشترطت الوصول لمحطة القطار قبل الثامنة صباحًا.
لا أعرف كم الساعة الآن، لكني شعرت بالراحة، فلو كانت الثامنة إلا دقيقة فسأطير بها للإسكندرية لا لمحطة القطار. لم أمارس معها ألاعيب الشيطان المثقف. كانت هي وكنت أنا، أمسكت يدها وقمت لنخرج للهواء، أوقفتها أمامي واحتضنتها: ذقني يستريح على رأسها، ورأسها يسترخي على كتفي، وأمامنا ظلام القاهرة ومئذنة ابن طولون، وسلمها يحتضنها كما أحتضن أمل، تحدثنا عن الاحتواء، الاحتضان، التوحد، وختمت حديثي بهمسة بأذنها: «محتاج لك.» بادلتني الهمسة وكأنها تقتلعني من جذوري، ما أروع طريقتها! سألتها أن تأتي إليَّ بكل جبروتها، ووعدتها ألا أقاوم، فصرَّحت لي بنفس طريقتها: «سأمتص دمك، وأبقي قطرات قليلة تأتي بها للإسكندرية؛ لأعيد إحياءك وقت الشروق، وطقس البعث سيكون بالبحر، وسأُشْهِد سيرابيس بعثك، كما أشهدت ابن طولون غرقي.»
جذبتها مرة أخرى للداخل هامسًا أن تحكي لي عما تريد إخبار سيرابيس به ونحن نستحم بحمامي المتواضع، المكوَّن من قاعدة وخرطوم وبالوعة لتصريف المياه، لم تعترض ووقفت أمامي، أحضرت طبقين ملأت أحدهما بالنفط الرومي والآخر بالماء والصابون وقطعتين من الإسفنج، وبدأت في تحميمها كالأطفال؛ أمسح الألوان بالنفط، بالكاد تلامس قطعة الإسفنج جسدها، ثم أزيل أثر النفط بالماء والصابون، ثم أزيل أثر الصابون بالماء، وأُقَبِّل كل ما أنتهي منه. قبل أن أصل لخصرها كانت يداها تستندان إلى كتفيَّ، لم يتحرك جسدها، وكأنني أغسل تمثالًا من الرخام، حتى شعرت بأظافرها تشق كتفي، ألسنة من اللهب، جحيمها يُسيل دمي؛ لينساب كاسحًا الألوان من جسدي، دماء حارة، وأظافر حادة، جذبتْ من يدي الخرطوم، وأزالت الدماء، وبقي وشم أظافرها، وكأنها تقول لقد مررتُ من هنا.
لا أعرف متى ارتدينا ملابسنا، أذكر ابتسامة سائق سيارة الأجرة في المرآة الداخلية، كان رأسها مستندًا إلى صدري، وأحيطها بذراعي، وكلانا مبتسم، وزادت ابتسامتنا بابتسامته، كأنه يعرفنا، وحين أعطيته أُجْرته ابتسم، وأوصاني بالعناية بها، نظرت إليها ثم شكرته مبتسمًا.
مشينا لشباك التذاكر، طلبت تذكرتين، مدت يدها لتأخذ النقود من يدي، ومدتها للموظف بالشباك قائلة: «تذكرة واحدة.» انتظرتها حتى انتهت، وأخذت التذكرة، ووضعت باقي النقود بجيب قميصي، وأنا أراقبها، سألتها لماذا، أجابت أنها لا تريدني أن أركب القطار الخاطئ، إن أردتُها فعليَّ أن ألحق بها … رفعت حاجبي ونظرت لها ما بين الإعجاب والاستنكار، مدَّت سبابتها لتُلامس شفتيَّ كي لا أتكلم، وأضافت: القطار التالي يتحرك بعد ساعة، ساعة كافية لتعرف إلى أين تريد الذهاب.
شدَّت على يدي وأعطتني ظهرها وانصرفت، لم أصدقها، هززت رأسي كي أفيق، ابتعدت وأنا أتابعها، ابتسمت، كنت سعيدًا بهذا الجنون. ساعة لأعرف إلى أين أريد الذهاب. بالطبع كنت تخطيت خط العودة. عدت لشباك التذاكر واشتريت تذكرة في قطار التاسعة، وأحضرت بعض القهوة ومشيت لرصيف القطار لأنتظر ساعتي هناك.
رائحة القهوة، دخان السجائر، أثر النبيذ، ووشم أظافرها، عام كامل، أنتظرها وتقضي ليلة معي، لم أرها عارية، بل كانت ترتدي سمرتها، لم يظهر منها الكثير، أي روح تلك التي تسكنها، أي روح تختفي خلف هذا الجسد الممشوق؛ كمال دون إسراف، واكتمال دون إفراط، تخطت الكفاية، ومنحها الله التمام، فإن نقص ما لديها نقصت، وإن زاد ما زادت، فما بعد التمام زيادة. باحت دون رجاء، وطلبت دون تردد، ومنحتني مهلة لأقرر، صدقت حين تحدثت عن الجبروت. لا أذكر أن امرأة من قبل تذكرت سيرابيس، وهي تذوب بين يدي رَجُلها، طقس البعث، العودة، اقتربت ساعتي من الانتهاء، لأعود إليها، عودتي الأولى. ركبت القطار، وجلست مبتسمًا، مأخوذًا. صرير يعلن تحرك القطار، وآخَر يعلن وصوله، وما بينهما، أنا وهي وسيرابيس الذي لا يعرفه أحد، قمت من مقعدي وتذكرت أنني لا أعرف عنوانًا لها؛ ابتسمت.