وتحكي إلهة الصيد
كان الطبيب مندهشًا، لم يكن بعدُ متأكدًا من حالة أمل، وبعد أن فجرت مفاجأة أن عبد الله أيضًا مزدوج، هل تدرك حقًّا ما تقوله هذه السيدة الشابة؟ قد سمع عبد الله لفترة طويلة، له بعض الملاحظات على شخصيته، لكنها في حدود المقبول نفسيًّا وإنسانيًّا، بدا الطبيب مترددًا بين إنهاء الجلسة وبين سماع المزيد من شخصية أمل الأخرى، وفي النهاية انتصر فضوله العلمي، وقام ليعد القهوة له ولأمل ليسمع منها المزيد.
– شكرًا على القهوة.
– أتمنى أن تعجبك، أفضل أن أفعل كل شيء بنفسي.
– رائحتها ذكية، لي سؤال دكتور، وبعدها أعدك بالمساعدة.
– تفضلي دكتور أمل.
– ماذا سيحدث لي إن شُفِيَتْ هي مني؟ أو ماذا سيحدث لها إن شُفِيتُ أنا منها؟
– دعيني أحاول توضيح الأمر بشكل مبسط، قد تكون الحالة حقيقية ولدينا شخصية منبثقة عن شخصية أخرى، هناك مراحل وأنواع مختلفة من الازدواج، في النهاية الشفاء يأتي باتفاق أو اتساق العقل الواعي بالعقل الباطن، فلا يحتاج الشخص لعدد من الشخصيات لتعبر عما داخله، سواء من مخاوف أو أحلام أو رغبات.
– قد أعتبر هذا الرد دبلوماسيًّا من طبيب مهذب.
– أن يقبلك عقلها، أو يقبلها عقلك، أو تَصِلَا لدرجة من التسوية.
– أراه أسعد حالًا بكثير الآن، وأنا امرأة تحفظ وعدها، ماذا تريد أن تعرف دكتور؟
– كل شيء عنك، إذا أذنتِ لي بالطبع؛ فبقدر المعرفة يمكنني النصح أو المساعدة.
أعرف أنها لم تكن طفلة مدللة على الإطلاق، كانت تشبه دليل إدانة يذكِّر والدها بجريمته، هي لم تدرك ما أصاب أمها؛ فكانت تحذو حذوها، حتى اقتربت من فقدان عقلها هي الأخرى، كنت أثور كلما أخفت رأسها بوسادتها، كانت تقاوم ثورتي في طفولتنا، كانت توافقني في عقلها فقط، وعند التنفيذ كانت تهرب لتلك الحجرة، لم أتحمل تلك الدرجة من الخنوع، وكان صدامي معها حين أجبرها هو على دخول كلية الطب، ربما كان هذا هو ميلادي الحقيقي خارجها، هي قبلت بخضوع، وأنا رفضت بثورة، وبدأت الصدام بوالدها، تزوجت من بليد غبي لأخرج وأخرجها من بيته، لكنها خذلتني ووافقت على الإقامة بمبناه تحت عينه، في لحظة تحول البليد لنسخة مشوهة ممسوخة وحقيرة من والدها، صفعها، اغتصبها بكل وحشية؛ فلم أصمت وقتها، خرجت وسحبت أوراقها من الجامعة وقدمتها في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وأقمت ثلاثة أشهر كاملة ببيت جدتي، لا تتعجب دكتور، ليست جدتها، هي جدتي أنا، نعم هي منها من ذات دمائها، لا أنتمي لتلك الذليلة المثيرة للشفقة، وأمها، لا أنتمي لهذا الرجل القاسي، وحين علمت بوفاة والدها عدت لأنهي علاقتها بهذا البليد، لكنها خذلتني مرة أخرى، حين تركت لأعمامها أكثر بكثير مما يستحقون من ميراث أبيها.
لم أكن أرغب في أكثر من دراسة تاريخ الفن، كان التاريخ هو بوابة حريتي، لم أتورط في علاقات، لم أنفصل عنها طمعًا في رغبات ترفضها، لم أكن أرغب إلا بحياة سوية أحقق فيها حلمي، لم أكن أتركها إلا لحضور محاضراتي حتى أتممت دراستي وعُيِّنْتُ في الجامعة، كان أساتذتي يقدرون مجهودي، كنت أدعي مرض أمها ليسمحوا لي برعايتها، وانتهيت من دراساتي العليا، وناقشت الدكتوراه، وقاربت الأستاذية، والآن هي تريد أن تأخذ كل شيء؟! أين كانت هي وأنا أحارب الجميع من أجلها؟ كانت تخفي رأسها بوسادتها، وحين رفعت الوسادة تريد كل شيء؟
– ما هو اﻟ «كل شيء» الذي قصدتِه؟
– كل شيء، أعنى كل شيء.
– تظنينها تريد الحصول على وظيفتك مثلًا؟ درجتك العلمية؟
– لا، لا، بالطبع لا يمكنها، ستُطْرَد بعد أول مناقشة.
– مسكنك؟
– أقيم في بيت جدتي لا يمكنها طردي منه.
– دكتور عبد الله؟
– ماذا عنه؟
– هي تريد دكتور عبد الله؟ هل هذا ما قصدتِه؟
– ربما.
– ربما هذا ما قصدتِه، أم ربما دكتور عبد الله هو كل شيء؟
– [ابتسمت أمل قائلة] أعرف أنني لن أسلم من مكر الأطباء، حسنًا دكتور أحمد، أتحدث عن دكتور عبد الله، هو من تسبب في كل هذا، راقبني، راقبها، ولم يعرف أنني أيضًا راقبته، ولم يعرف أنني أعرف عنه أشياء ربما لا يعرفها هو عن نفسه، كما قلت لك من قبل، هو أيضًا له حياتان.
– إذن لو لم يراقبك دكتور عبد الله لما حدث شيء؟
– دكتور مراد لقد عشت عشرين عامًا، بين الأبحاث والدراسات والمراجع والرسائل العلمية، لم تحدث مشكلة، ولي سمعة طيبة بالجامعة، منذ دفعتها للانفصال عن ذاك البليد ولم يكن هناك رجل في حياتي، ليس لدي مشاكل دكتور.
– وماذا عنها؟
– ماذا عنها؟!
– نعم، هل حدث لها مشاكل طوال تلك الفترة؟
– هي تسير في طريق أمها نحو فقدان العقل، أفيقها من وقت لآخر لكن ليس دائمًا ما تستجيب.
– وإن فقدت عقلها مثل أمها، فهل تفقدين عقلك أنت الأخرى؟
نظرت أمل إلى الطبيب نظرة طويلة؛ فقد فهمت ما يقصد، وبدا عليها بعض الضيق «نعم دكتور؛ فما يحدث لها يحدث لي.»
– ولماذا لا تفكرين أن شفاءها سيكون أيضًا مفيدًا لك؟
– كيف يكون مفيدًا؟ أنا بذلت الكثير لتستقر حياتي بعيدًا عنها، لا أريد نصف حياة، لا أريد جزءًا من حياة، لا أريد أن أعكر حياتي بتفاصيل حياتها، يكفيها ما أتركه لها من وقت تفعل به ما تشاء، لم أعد أتدخل في حياتها، ليس الآن، منذ سنوات عديدة.
– حتى ظهر دكتور عبد الله.
– حتى ظهر الدكتور عبد الله، [رددتها خلفه بابتسامة لم تكن للدكتور أحمد].
استلقت أمل أكثر في جلستها، لم تعد تنظر للدكتور أحمد، بدت كمن يحدث نفسه، بينما الدكتور أحمد هادئ، يدون ملاحظاته ويتابع لغة جسدها، ويسجل علامات استفهام من وقت لآخر.
لم أكن مهتمة باللوحات التشكيلية كثيرًا رغم دراستي، أميل أكثر للتماثيل، النحت، أرى المنحوتات كائنات منفردة، لا ترتبط حتى بناحتيها، حتى ذهبت مع بعض طلابي للقاهرة، زيارات متحفية، وانتهت بإصرار منهم لزيارة افتتاح معرض للفنان التشكيلي عبد الله مسعود.
ما كنت قد سمعت عنه من قبل، سمعت صوته قبل أن أراه، لم أسمعه بأذنيَّ، كان يتردد بداخلي، كان يشرح لوحاته التي يسميها دومًا ﺑ «الزفت»، وكلما أعادها يلقى استحسانًا أكثر، اقتربت أكثر بين الحضور لأرى صاحب الصوت، رأيت خليطًا، مزيجًا، طفلًا عنيدًا، شابًّا فتيًّا، رجلًا لعوبًا، ذكيًّا، نصابًا، لكنه أعجبني.
لم أتأثر برجل من قبل، لم يحركني رجل، ولست الفتاة الريفية الساذجة التي هبطت للمدينة لتنبهر، تعرضت لمضايقات كثيرة وبطرق متنوعة، في العمل، في الطرقات، في أماكن كثيرة، ظننت لبعض الوقت أن حياة الرهبان ليست بالشيء الصعب، حتى عرفت أنها ليست بالشيء الهين، ظننت أنني سأنتقل من هذا العالم وحيدة، ليست وحدة المجاورة، ولكن أيضًا وحدة النفس.
كانت عيناي تسبح بين ضفتي قميصه المفتوح، سمرة أشعرتني بجمال سمرتي، وشعرات كثيفة كادت تجرح نعومتي، رقبة صلبة وحنجرة قوية ذات رنين، وكانت ضربته القوية في سيجارته الطويلة، التي تنسحب منتحرة بين شفتيه، لم أدرك كيف أصبحنا متقابلين، كيف تلاشى كل شيء ولم يبقَ إلا هو وما بقي من سيجارته، وصدره يدغدغ خواطري أن أدفن وجهي بين ضلوعه، رفعت رأسي كي لا تورطني خواطري فيما لا أعلم عقباه؛ فواجهت خطرًا أكبر، إما صدره وإما شفتيه، مددت يدي سريعًا مصافحة له، لم أكن طامعة في معرفة لمسة يده، أو قوة كفه، فقط كنت أحاول الحفاظ على مسافة ذراعي على الأقل بيننا.
لم يفارقني وجهه، صوته، تصرفاته الصبيانية، ملابسه البدائية الترابية الألوان، صدره المفتوح دومًا، يذكرني ببئر مسعود، أود أن ألقي به أمنياتي، أقبلها، وألقيها، أو أتمنى القفز كالأطفال لأعبر فتحته الضيقة لبحره الممتد، أقابل سيرابيس بالأسفل، أشكره على منحته رحلته، والتي صارت محنتي.
كانت المحاضرات هي ساحتي، ما إن تبدأ حتى أحلق بسماء القاعة، أحدثه فنًّا وشعرًا ونحتًا ورسمًا، حتى رأيته بين الحضور، ابتسمت، وجاءتني ابتسامته بسيطة، شقية، ساحرة.
وبدأ ديبوسي عزفه في أذني، وأنا أرقص بالقاعة، تراقصني نظراته، تجذبني، تحيطني، تدور بي، وأدور بها، جسور تبنيها العيون، أعبرها إليه، يعبرها لي، وأسفلنا نهر الحياة، يبدأ من حيث لا بداية، وينتهي حيث لا نهاية.
تحدثنا يومها قليلًا، سألته عن لوحاته الزفت، دعاني لرؤية ورشته حيث يرسم، أعطاني عنوانه، عام كامل، يدعوني وأردد: «إن شاء الله.» مجموعة من الجمل البسيطة تبدأ بدعوته وتنتهي بتقديمي المشيئة، عام كامل أحاول أن أقاوم رغبتي، وأود أن أشعر اهتمامه، هل حقًّا رآني؟ كان واضحًا عليه أنه شقيٌّ لعوب، لم يكن يعنيني أن يكون لي وحدي، بقدر ما تمنيت أن يكون لي فيه، ولو جزءًا بسيطًا، ما بين كل أجزائه، جزء لي وحدي أغلقه خلفي حين أمضي.
هل حان وقت تجاور الأرواح؟ هل يمكن لجزء من روحه مجاورة نصف روحي؟ هل سيقبل نصف حياة؟ هل سأسامحه في نصفه الآخر؟ كانت الأسئلة تفيض وتنحسر، وهو دائمًا يقف كتمثال ديفيد، لم تكن تفاصيله بكمال التمثال، أضاف أنجلو ملامحه لكنه لم يمسس روحه، لم يبدأه من قطعة حجر، بل كانت البداية من تمثال لم يكتمل، حمل روح عبد الله، ليرفع أنجلو بنيانه، ويخلد ديفيد، ويقدس روح عبد الله.
آن الأوان، أن أقبل زيارته، ديفيد، الواقف بثقة، عاريًا، يمد يده … لي؛ ليصطفي قلبي لجواره، آن الأوان للذهاب، لم أعد أهاب رفقته، قررت الذهاب إليه، بلا موعد.