يد ديفيد

ذرات الغبار العالقة بخيوط النور المنسدلة من باب الشرفة، تصنع خطًّا مائلًا، يبدأ بموضع قدمي وينتهي بكسر صغير أعلى الباب، لسعة صغيرة بقدمي، تعلن موعد الصلاة؛ فخرجت للشرفة، أصلي للبحر، ومن خلفي تصدح ابتهالات ديبوسي، أسقطت ملابسي عني وأنا عائدة لحجرة جدتي حيث أقيم، التقطت فستانًا يشبهني، يشبهه أيضًا، حذائي الخفيف بيدي، ونزلت السلم فراشة حافية بالكاد تلمس أطرافها سلمات تفصلها عن الطريق، وانتعلت حذائي عند رصيف الوصول.

تركت نسمات البحر تملأ مسام جلدي؛ فأنا الآن على سفر، سائق الأجرة العجوز سألني: «محطة مصر؟» ابتسمت له مؤكدة حدسه، نعم، مصر، حين نزلت لم يقل لي تصحبك السلامة، بل قال تعودين سالمة، أومأت برأسي، وابتسمت شاكرة، تذكرة للقاهرة، وجلسة بجوار النافذة، وقطار المحافظات يقف كلما لمح حائرًا بالطريق، قطار الحائرين ينهي رحلته بمحطة مصر، بالقاهرة، وينطلق الحائرون بالعاصمة، لم أكن منهم؛ فقد أنهى البحر حيرتي.

عجوز آخر يقلني لجامع أحمد بن طولون، كادت أنفاسي المتسارعة تحملني لقمَّة تلك المئذنة الملتفة الصاعدة، راجعت عنوانه، اقتربت من بيت قديم، تطل منه رائحته، رجل ضئيل الحجم يسألني عما أريد، وحين نطقت اسمه، صاح بصوته لأعلى، وأطل وجه عبد الله من سطح البيت، كما هو، يهبط الدرج حافيًا، بنطاله الترابي اللون، قميصه الكتاني المفتوح الصدر، مد يده يلتقط يدي، لم يحافظ على مسافة ذراعه بيننا، بل جذبني خلفه، دفعني أمامه، حتى وصلنا لمشغله، لم تكن غرفة بسطح المبنى، بل مبنًى صغيرًا بسطح المبنى، الموسيقى والفوضى، ثنائي المكان الواضح.

تفضلت كما طلب، عبارات قصيرة، أراقبه بصمتي الكامن، ويراقبني بقلق تلميذ في اختبار مدرسي، ربما لم يكن يعرف الأجوبة، فقرر التحايل ببعض النبيذ، دعاني للبعض منه، لم أشرب من قبل، ولم أرفض يده الممدودة بكأس النبيذ المصنوع منزليًّا بجنوب أفريقيا، أظهرت بعض الاهتمام، كنت سأظهره لو كان مصنوعًا بحي الجمرك بالإسكندرية أيضًا، بللت شفتيَّ كما طلب مني، وكأنني ركبت قاطرته، أو ارتديت ملابسه؛ فقد تمدد وجهه، عاد طفلًا عبوسًا، المحتال الجميل، سألني لمَ أتيت، وأجبته لأرى لوحاته الزفت، أشار للوحة فوق السرير، دوامة سوداء تبتلع كل شيء، الألوان بدت مستغيثة، والدوامة تسحقها بقوة شفط، وددت لو عرفت كيف تخرج الألوان من الجهة الأخرى، بوابة زمنية تحيي وتميت، ألوانًا، وأكوانًا، وأزمنة.

سألته كيف تتخلص تلك الألوان من الدوامة السوداء؟ فأجاب بأن تتعرى من نفسها، بدا خبثه الذكوري في رده، لم يعرفني بعد، سألني إن كنت أخجل من العري؟ أعادني لنفسي، أجبته بأن من يتخفَّون خلف ملابسهم هم من يخجلون مني، ربما فاجأه ردي؛ فأراد نفي تهمة الخجل عنه، قام خالعًا ملابسه، وسألني السير على سور السطح، خرج عاريًا، وأنا خلفه فلم تكن ملابسي ما تخفيني، ولا قِلَّتها ما يخيفني، انتظرت حتى صعد السور ليمد لي يده، ديفيد، يمد يده، لي أنا.

صعدت، أحاطني، رداء حراري يحيطني، يجعلني أكثر اتزانًا، وأنا أسير على السور الحجري، بين يدي ديفيد، ليخيرني بين السقوط خارج السطح وداخله؛ فاجأته باختياري المئذنة، ربما لم يكن ينتظر ردي؛ فقد حملني وقفز بي داخل السطح، يجذبني للداخل مرة أخرى، لميلاد آخر، وبعث آخر، وخلود آخر، كان صمتي صلاة وأنا أرتحل معه عارية، حرة، لم تعد ملابسي تحد فطرتي، لم أشعر بأقل من الحياة، ولن أقبل بأقل منها.

– هيا لنرسم.

– أنا لا أجيد الرسم، مجرد …

قاطعني: «لن نستخدم فرشاة.» قبل أن أفهم كانت الألوان المخلوطة بالنفط تغطي جسدي، خلطها، أذابها، وأذابني بين أطيافها، جذبني للأرض فوق ملاءة السرير التي جذبها قبلي.

أعطاني أطباق الألوان أذيبه فيها، وكنت فرشاته وكان سكيني، يحركني فأستجيب، يحركني فأقاوم، طلب استسلامي؛ فسألته الخضوع لجبروتي، أعجبه لفظ جبروت؛ فطلب أن أجبره على الخضوع، وطلب الاحتفاظ بحق المقاومة، بدا كفارس يرفض الوجبات المجانية، بدا أرقى من وجه المحتال الذي يدعيه، بدا إنساني الأول.

خرجنا بألواننا للسطح، أحتضن المئذنة بعينيَّ، ويحتضنني بذراعيه، تحدثنا، بل تحدث وسمعته، كان لديَّ دومًا ما أقوله، لكنني لم أقل، كنت أفضل الاستماع إليه، وهو ينتقل من حال لحال، ومن قناع لآخر، طلب مني المبيت، راوغته، ودعوته للإسكندرية لأُشْهد سيرابيس عليه كما أَشْهدَ ابن طولون علينا، وبدأ طقسًا آخر لإخضاعي، إزالة الألوان، حمام النفط، حمام الصابون، ثم الماء، وكما أذابتني الألوان، أذابني انسحابها، لم أشعر إلى أي حدٍّ غرست أظافري في كتفيه، رأيت الدماء تسيل لتزيح الألوان من جسده.

– هل تصدقني دكتور مراد؟

– ولمَ لا أصدقك؟

– لأنني لم أصدقني وقتها.

طلبت منه أن يأتي خلفي إن أراد ذلك، كنت أمنحه الفرصة، الوقت، كنت أريد رؤيته يتحرك من أجلي؛ فلم أكن باحثة عن متعة آمنة، أو مشتاقة للحظة ماجنة، كنت أكتشف جزءًا مني، أهملته لعشرين عامًا، ولم أكن أثق به وقتها، وربما ما زلت، وكانت رحلة عودتي للإسكندرية هي الأصمت على الإطلاق.

تمنيت كثيرًا أن يكون وضيعًا، أن يجعلني أندم على زيارته، أن يكون جافًّا، متسرعًا، أو عنيفًا، تمنيت أن يترك لي مخرجًا، لكنه كان نبيلًا، والآن عليه الاختيار بين كأس نبيذ، أو رحلة للإسكندرية، كنت أعرف أنه سيأتي، وأتمنى ألا يفعلها.

كان قطار العودة سريعًا كأنفاسي، باردًا كأطرافي، يطوف المحافظات، يشعرني بالرحلة، بالعودة للإسكندرية، سيرابيس في انتظاري، لأحكي له أين قضيت ليلتي، سيكون في انتظاري، سأروي له، الآن أخلق مساحتي الجديدة، بعيدًا عن الجامعة، بعيدًا عن تلك المثيرة للشفقة، بعيدًا عن كل شيء، اليوم وُلدت، أنا حواء الأولى، وكما بقيت دكتورة أمل، ستبقى حواء، هو يريد، ككل الرجال يريد، لكنه ليس ككل الرجال، هو يحلم بعشتار ويتقمص دور المزارع، وستأتي له عشتار، هو يظن نفسه أريس وينتظر خطط أثينا، سآتيه بكل الخطط، هو يريد فض بكارة العذراوات الثلاث، هنيئًا له فضهن، وهنيئًا لي مملكتي.

غرفة جدتي، أمامي بعض الوقت لطقوسي، تركت ملابسي وتحركت باتجاه الشرفة وقدماي تخفيان ملمس أحجار السطح، رجفة تشبه سريان الكهرباء بكل خطوة تخطوها قدمي، سيأتي خلفي قبل أن تتسرب شحناته، لا مجال لها الآن، لا أريد أن أسمع شكواها مرة أخرى، لا أريد لسُمِّها أن يسري بعروقي، هي تفسد كل شيء، أسير حافية للشرفة وهي تلقي بكل أشواكها بطريقي، لكنني سأصل لمناجاة سيرابيس رغم أنفها، تخاف أن أتوقف عن رعايتها، ولم تفكر يومًا من يرعاني.

نسمات البحر تتسلل لعظامي، هي ما يطهرني، أقف أمامه وله، لا أشعر بالعار، كان البحر يخصب دمي لعشرين عامًا، والآن أحمل سوائل أخرى، نبيذًا وعرقًا وماءً مقدسًا، كم أتمناه مدركًا لقدسية اللقاء، أتمناه لاهثًا للصلاة لا ليفرغ ماءه، أخبرني أيها الملك الإله الغارق، أخبرني يا من مزجت الدم الحار بالبارد، يا من خلطت الحليب بالنبيذ بالماء، أخبرني كيف الطريق، باركني، طهرني له، طهره لي، دعها بعيدًا عن هيكلنا.

كان سيرابيس يهمس لي بأنني أعبر نهرًا من نار على جسر من ماء، لم أفهم لكنني شعرت قلقه، قلق الأب على طفلته، لا تقلق أبتاه؛ فما زلت ابنتك، تمنَّ لي الكثير من الحظ؛ فأنا الآن على موعد بمحطة قطار، وسآتيك به، أو أعود وحيدة أقبل يديك.

نزلت مرة أخرى وقد غسلتني نسماته، هكذا أولد كل يوم، كنت في اتجاه محطة مصر، لكن هاتفًا راودني لأذهب لمحطة سيدي جابر، وقد فعلت، وقفت بباب المحطة، دقائق على وصول القطار التالي، دقائق ويأتي أو لا يأتي، مددت يدي مصافحة، تعلق بها كطفل وجد أمه، سار بجواري غير معنيٍّ بالكون؛ فهو الآن بحمايتي، يجعلني أبتسم بصبيانيته، ما أروع شيطنة الملائكة! حتى لو كان شيطانًا؛ فهو شيطان ظريف يستحق اللهو بحضرة الملائكة، لم تنتهِ مفاجآته، طلب مني سكينًا!

– هل تصدق دكتور؟ سكينًا!

سألته هل ستقتلني بتلك السرعة؟ وددت معرفة ما يريد، حسنًا سآتيه بواحدة، تركته، وأحضرت سكينًا من بوفيه المحطة، عدت إليه بها، لمحت سعادته في عينيه، طفل هو فرح بسكاكري، وسكيني، لا ينتهي عقله أبدًا من مداعبة وجداني، حدق في عينيَّ وطلب أن أشق كفه بصليب يدمى، لم أتردد، لم أفكر، شققته، لم يتألم، لم ترتجف يده، أخذ السكين بالأخرى وقال لي دورك الآن، ماذا يفعل هذا العاشق المجنون؟ مددت يدي، شقها، وخلطنا دمانا، لا أصدق ما فعله للتو، تزوجنا، يا إلهي! أنا الآن زوجته، رباط الدم يجمعنا.

لماذا لم ينتظر؟ هل سيغضب مني سيرابيس؟ سيتفهم الأمر، لن يغار أيهما من الآخر، الآن تسري دماه في عروقي، تسحق في طريقها ما تصلب بجدران أوعيتي، دماء زكية، تطرد سمومها، مصل الحياة، توقفنا في الطريق، ليأتي ببعض النبيذ، لم يبقَ لنا من مقدسات السوائل غير الحليب، سأحممه به، وأخلطه بالنبيذ والعرق والدماء، هو لم يسألني التربع بعرشي، بل تربع، لم يطلب مني الزواج، بل تزوجني، لم يحاول أسري، بل أسرني، أريد العودة سريعًا لأخبره، سيفرح لي، سينتهي قلقه على صغيرته، كنت أخفي سعادتي، ابتسامة ثابتة، كنت أريد أن أعرف المزيد مما يخفيه عني، وما يخفيه لي.

تعرف سريعًا على شقة جدتي، قادتنا الأرواح المسترخية لشرفة سيرابيس، مرة أخرى، يُسقط ملابسي، لأصلي، وأطلب بركته، يهمس بأذني الآن يمكنك الصلاة، إنه يعرف كل شيء، عفوًا سيرابيس؛ فلن تكون صلاتي الآن لك، هو من يستحق اليوم الترقي لمراتب الآلهة، تجاوز كل الاختبارات، ولم يبقَ سوى الاختبار الأخير بمذبحي المقدس، سأمدده كقربان لي، وأمنحه روحي قربانًا له، ستحيا ملايين الأرواح بأناتي والروح تغادرني لجسده، وسترشد عودتها كل الأرواح التائهة، ستحرق صرخاته الشياطين، ونيرانه تحيل مائي أثيرًا كونيًّا، لن ينطفئ هذا اللهيب، حَلَّقْنا سويًّا حول الشجرة المقدسة، أَغْنَيْتُه عن تذوقها، تجاوزنا سيرابيس الغارق في عمق الأرض، وعلونا فوق كل آلهة الشمس، حتى أصابنا الوهن؛ فجلسنا في حضرة سيرابيس، كان يخفي ثورته، وكان عبد الله يتفاخر بإرثه، ابتسم له، ابتسمت لهما، أعرف تلك الذكورة، أعرف فيما يفكر كلٌّ منهما، الآن لم أعد وحدي؛ فبداخلي روحان، وبجسده روحي، وخلاصنا خلود وخلودنا خلاص، أشعلت النار وقمت بشيِّ اللحم أغمره بالنبيذ وأعطره بدمانا، دماء الآلهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤