ما للبحر

أستطيع العيش بمفردي، صدقتها لسنوات، عشتها لسنوات، كانت أكبر مخاوفي تَسَلُّلها ليلًا لتغمرني برائحتها، وتغطيني بثيابها، أستطيع العيش بمفردي، أنثى كاملة، ما عاد بي ما يشتهي الرجال، نضب مني كل ما يستجيب لاكتمال القمر، أستطيع النوم بمفردي، صدقت نفسي، وبعد ذهاب عبد الله أدركت وحدتي، أتحسس خطواته بالبيت، أفتش عن رائحته بفراشي لتشعرني ببعض الدفء، أتنفس في وسادتي لترتد إليَّ أنفاسي محملة بما بقي بها من رائحته، لم ينضب معيني، لم تكتمل حاجتي، لم تغلق مسام أنوثتي؛ فما زلت امرأة.

لكنها لم تتوقف، كانت تطل بأمورها كي لا تستقر أموري، لم تكن تقدِّر حضرة الصمت.

صمتي، تقطعه دومًا، بصمتها الحاد، بنظرتها الباردة، بجمودها، بحضورها الجاف، بكل خلوها من الحياة، تحتاج الآن الخروج مني ودون رغبتي، لتذهب لمشافي أبيها، لا لشيء إلا لإفساد أمري، كان يمكنها الانتظار حتى موعد عودتي للقاهرة كما اعتدنا تنظيم أمورنا، لكنها لم تنتظر، لم تتحمل سعادتي، أرادت رؤية المنتظر، لم أكن راضية عن خروجها تلك المرة، ينقبض قلبي كلما اقترب خروجها، ستفسد كل شيء.

خرجت أمل مني، أنهت زياراتها وعادت دون تأخير، لكنه كان بانتظاري، عاد لي، لم يقوَ على فراقي، عبر الطريق لي، كان قادمًا ليهمس لي وعدًا، ليجدد الدماء بجرحينا، يشتاقني كما أشتاقه، لكنني لم أكن بانتظاره، كانت هي، وكانت صدمته، ليس غبيًّا، عرف كل شيء، لاحقها عند مدخل البناية، لم تتعرف عليه، لم يتعرف عليها، هو كاد يفقد عقله، وهي رق قلبها، وتحرك بداخلها ما لم تعرف من قبل بوجوده، وبين دهشته وطمعها، بين عشقه ورغبتها، سقطت أنا من بين آلهة الأوليمبس إلى ساحات المجاذيب، سيشفق، سيعطف، وفي النهاية سينصحني بالعلاج، أو ربما يهرب من البداية، نعم سيهرب؛ فلا أحد يحتاج لتلك المختلة في حياته، خصوصًا عبد الله، الفيلسوف البدائي والمحتال الجميل.

صعدت هي ودخلت غرفتها لتترك لي جسدها برائحتها النفاذة، خلعت ملابسها المبالغ فيها، النبيذ والموسيقى وبكاء صامت للرجل الذي عشقته، ثم فقدته، حدثت سيرابيس، توسلت له أن يتدخل، لم يجبني، مزيد من النبيذ ومزيد من الموسيقى، يتحول كل شيء لطنين يتدفق لرأسي، يملؤها، صار الإيقاع يشبه مصنعًا للنسيج، آلاف الدقات المتتابعة، سنون وخيوط، تتشابك، تتعقد، لا أحتمل صوتها، تحيطني، تمنعني من التنفس، لم أعد أفكر إلا في وسادتها، أردت أن أخفي رأسي بوسادتها.

أفقت في غرفة جدتي، وبجواري كتاب يبعث الدفء في فراشي، لا أذكر أني قرأت منه شيئًا، وددت لو أتركها هنا وأذهب، لكنها ارتدتني قبل ملابسها وعادت لأمها بالقاهرة، تسللت منها، لم تكن هي الأقوى، بل صرت أنا الأضعف، ذهبت لصومعته ولم أجده، عبثت بأشيائه، شربت، تنفست فراشه، ملابسه، ثم نزلت، سألت البواب متى سيعود؟ فذهب لجوار المبنى، نظر هناك ثم عاد قائلًا لن يتأخر، سألته ما الذي رآه بجوار المبنى؛ فأجابني: «ما دامت السيارة هنا فلن يتأخر الدكتور عبد الله.» سيارة؟ هل يملك عبد الله سيارة؟ شكرته وذهبت وسرت حيث كان ينظر، إنها سيارة فارهة، لا تتناسب وبدائيته، لم أعد أفهم شيئًا، عدت لها بالكثير من الضعف والمزيد من اليأس.

ليس الغذاء الصحي والنوم المنتظم، ليس الهواء النظيف والتعرض للشمس، ليست تلك الأسباب مجتمعة أو منفردة ما تجعل أرواحنا تنتشي، أريد استعادة قوتي، تمر أساطير التاريخ والفن أمامي وتختفي قبل أن تخبرني عبرتها، لم أقبل يومًا بعودة الأمور لأصلها؛ فأنا أَصْل الأمور وفرعها، أنا النقطة التي بدأت كل شيء، أنا المبتدأ لكل خبر، لكني الآن متعبة، فقط متعبة، سأستريح قليلًا وأتركها، ستتعثر، ستخطئ، ستضعف، وأزداد قوة.

لم أكن أتوقع أن يأتي خلفها، نعم هو كاذب ومخادع، أعرف جيدًا، حتى ما يردده من أساطير الإغريق، أعرف جيدًا أنه يحتفظ بكتاب للديانة الإغريقية في مكان ما ويأتي بما يناسب الحدث دومًا، أقسم أنه لا يستطيع سرد آلهة الأوليمبس أو حتى يعرف عددهم، لكنه يعجبني، نعم يعجبني كما هو، والآن أتى خلفها! لم أكن أتصور أن يصل ذوقه لتلك الدجاجة المذعورة من كل شيء، هي لا تعرف شيئًا عنه، تخدعها نظراته الثاقبة، الحالمة، الجريئة، الحزينة، المشرقة، ومن لا ينخدع بكل هذا التناقض؟! ومن لا ينجذب لكل هذا التضاد؟!

لا شيء يدعو للخوف من المستقبل، هكذا ظننت دومًا، أن الخوف كل الخوف من الماضي، ولم أكن أخاف؛ فليس لي ماضٍ أخشاه، الجامعة، التدريس، الأبحاث، النجاح، أشياء لا تخيف، لكنني أيضًا لم أكن أنوي التورط، لا أظنني تورطت حقًّا فيه، ظننت أنه سيختفي، سيعتبرني مغامرة أخرى، لن يقف عندي، لن يتحمل ظهوري واختفائي، لن يتحمل تقلبات بحري المالح، لن يفهم أن ما للبحر للبحر، ومن يجيء البحر طافيًا يمكنه العودة، أما ما يبلعه البحر فلا يخرج إلا بإذن البحر.

من أطلق الريح العاصفة؟ فضوله؟ طمعها؟ أم حديث سناء العجوز الثرثارة؟ تحدثت معه عن كل شيء، وكلما عرف أكثر هاجت أمواجي، وتقلبت رمال القاع، لتلفظ الأمواج بقايا عشرات السفن الغارقة، صارت مياهي عكرة، ومغرقة، ولم يعد السكون والاختفاء مجديًا، يجب أن أقابله الآن، أواجهه بكل شيء، وعليه أن يختار بين الحياة بصومعته الآمنة، بمغامراته النسائية، ولوحاته الرديئة، وأحاديثه الساحرة، وبين حياة بين السطح والقاع، عليه أن يختار بيتًا وزوجة أو يختار قاربًا يدفعه شراعه فوق الأمواج؛ فيحل حيث تقف الريح وينطلق حيث تحمله الأمواج.

عاد النور يطل منها، هي تعود طفلة وأنا يصيبني العجز، هي تحبه، وماذا عنه؟ هو لا يعرف الحقيقة، يملك أجزاءً مبعثرة منها، له حق الاختيار، له حق المعرفة، أما أنا فلم أعد أملك إلا قرارًا إما بتركهما وإما التمسك بالحياة، لم يعد الأمر هو، لم يعد هي، بل الآن كل شيء يتعلق بي أنا، حياتي أنا، لا يمكنني الاستغناء الآن عني، لا يمكنني الاختباء بوسادتها، لن أحاول إجباره، ولن أحاول إيذاءها، سأتمسك فقط بحقي في الحياة، وأرجو ألا تحملني الضرورات على فعل محظورات أخشى إفشاءها يومًا ما.

لم يكن الخروج منها بتلك الصعوبة يومًا، لكنها معركة بقائي ويجب التحمل، خرجت شاحبة، تلاحقني دعوات العجوز الثرثارة سناء: «ستتزوج ويمتلئ بطنها بطفل يفضح قصتك.» تعرف الكثير تلك العجوز، كم أتمنى أن تختفي تلك المرأة، ابتسمت لها: «نهارك سعيد.» وانطلقت لبيت عبد الله، نظرة باهتة لبوابه المرحب دائمًا، وبدأت الصعود لسطح المبنى، وكلما صعدت سلمة شممت رائحتها، خلعت حذائي بالطابق الأول لأتحسس الأحجار بقدمي، لم يكن ملمسها كما كان، كانت أكثر خشونة، نعم أكثر خشونة، تحسست الجدران، طمأنتني قليلًا، ما زلت هنا، وإن لفظتني الأرض فما زالت الجدران تحتضنني.

وصلت أخيرًا لحيث بدأ كل شيء، لم يكن موجودًا، قررت انتظاره، حاولت التصرف بحرية، خلعت ملابسي، أدرت بعض الموسيقى، المكان بارد، رائحتهم سويًّا تمتص الدفء، تنشر البرودة، بعض النبيذ قد يفيد، سيشعل حرارتي ويشعها في المكان، سيطرد لهيبي برودتها، وتبقى رائحتي له، تلف عريه وتغمره، أردت العبث قليلًا بأسراره، أين أبحث؟ أو عمَّ أبحث؟ لا أعرف من أين أبدأ؛ فليس لديه غرفة مغلقة.

أوراق، لوحات ناقصة وأخرى مكتملة، مسودات كتب لم تكتمل، وكتب ذيلها اسمه «الدكتور عبد الله مسعود؛ أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة» خزانة ملابسه، ألوانه الترابية، رائحة عطره، كنت ألامس قمصانه المعلقة، أفتح أزرارها وأرى صدره خلفها، كم أشتاق النوم برحاب صدره، أزحت بعض القمصان ودخلت خزانة الملابس، أردت الرقص بين ثيابه، أردت النوم، جلست بأرضية الخزانة وأسندت ظهري إلى ظهرها، ألقيت رأسي للوراء، ارتطم بشيء معدني، التفتُّ، إنه مقبض، أثار فضولي ففتحته، يا إلهي! خزانة أخرى، أضاءت حين فتحتها، بحجم غرفة متوسطة، ملابس رسمية، رابطات عنق، أحذية فاخرة، قمصان وجوارب حريرية، حقائب أوراق جلدية، ابتلعت دهشتي بصعوبة، بدت لي خزانة ملابس السيد عبد الله مسعود، ليس دكتور عبد الله الذي أعرفه، بل صاحب السيارة الفارهة.

تجولت قليلًا بخزانة الملابس ثم فتحت الحقائب الجلدية، أوراق قانونية، قضايا متعددة، جميعها تحمل اسم «مكتب حسين مسعود؛ المحامي» مكتب والده، احتفظت ببطاقة بها عنوان المكتب بالإسكندرية تحمل اسم عبد الله مسعود «رئيس مجلس الإدارة» هو إذن صاحب الخزانة الفاخرة، لكن لم أفهم؛ لماذا يخفي ذلك عني؟ أعدت كل شيء مكانه وغادرت الخزانة، وغادرت المكان ومعي بطاقة المكتب.

نزلت السلم سعيدة، حييت البواب العجوز بابتسامة وانطلقت، هو أيضًا لديه سر، لم تعد معركة بقاء، ستكون جلسة مصارحة، سأذهب لمكتبه، سأنتظر وصوله بملابسه الرسمية وسيارته الفارهة ثم أدخل إليه، لن يتمكن من المراوغة، سأسامحه على ما أخفاه، سأتفهم أسبابه أيًّا كانت، وسأصارحه أيضًا، سيتفهم، سيسامحني، سيَقْبَلني كما أنا، وسأقبله كما هو، لن يكون لها مكان بيننا مرة أخرى، يكفيها وسادتها وأمها وجارتها الثرثارة، يكفيها إدارة مشافي أبيها وصراعات أعمامها المادية، ويكفيني عبد الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤