الجانب الآخر من النهر

تركها عبد الله نائمة، وخرج بهدوء وأمامه وجهة واحدة، عيادة الدكتور أحمد، كان يحتاج لمقابلة منفردة، كان يحتاج ليعرف كل شيء، هل ستُشْفَى أمل؟ هل ستصبح امرأة واحدة؟ هل يمكن أن تتطور حالتها؟ تتدهور؟ وفي مستقر حيرته، كان هناك سؤال يحاول التخفي، هل يريدها أن تُشْفَى؟

«الخوف، هو المصدر الحقيقي للاضطراب، المصدر الأصيل، هو ما يدفع الإنسان لبناء أسواره، والتحصن خلف دروعه، هو الحاجة للمنطقة المريحة الآمنة، وكلما زاد الخوف ارتفعت الأسوار وقويت الدروع، كلما زاد الخوف تزداد القدرة على الادعاء، أو الإنكار.

يتعامل الجسم كيميائيًّا مع الخوف كما يتعامل مع المفاجأة، بالأدرنالين؛ لأنه يرى كليهما حدثًا عارضًا، وحين لا يصبح عارضًا تكون هناك مشكلة، سلسلة قد لا تنتهي من الاضطرابات، وحين تعجز النفس عن مواجهة الخوف؛ فإنها تلجأ للحيلة، تحتال عليه، أو تحتال على ذاتها لإنكاره.»

أنهى دكتور أحمد مراد حديثه بابتسامة ولم يدرك أن عبد الله لم يأتِ إليه ليستمع لمقدمة علم النفس.

لم يدرك أن زائره يطمع في أكثر من هذا بكثير.

– حسنًا دكتور، أريد أن أعرف ماذا بها؟ وهل يمكن أن تُشْفَى مما هي فيه؟

– ماذا تظن دكتور عبد الله علتها؟

– جئت هنا لأسألك دكتور مراد، ومع ذلك أعتقد أنها تعاني من ازدواج الشخصية؛ ففعليًّا أنا أتعامل مع اثنتين، أرتيميس إلهة الصيد، وأرتيميس ربة القمر.

– وأيهما تصدق أنت؟

– كلما اقتربت أكثر أصدق أكثر، لكنني في مأزق؛ فكلتاهما تتهمني بالخيانة.

– هذا حقيقي.

– ماذا تقصد؟

– إن كانتا شخصيتين؛ فأنت حقًّا خائن للاثنتين، أو ربما يلائم الوضع شخصيتك أكثر، بكل الأحوال هي ليست الوحيدة التي تحتاج المساعدة؛ فجميعنا بحاجة لها.

لم تُعجب عبد الله لهجة الدكتور أحمد، شعر بأنه متهم.

استمر الحديث طويلًا بينهما، وبعد انصراف عبد الله، أعاد الطبيب كل حساباته، باتت شخصية عبد الله أكثر وضوحًا الآن، يعرفها جيدًا، لم يتعمد إثارته لكنه يدرك جيدًا ما يدور بذهنه الآن، وصار الأمر أكثر تعقيدًا.

أدار الدكتور أحمد بعض الموسيقى وأعد قهوته، أشعل غليونه وفتح ملف أمل مرة أخرى، يتذكر الدكتور إسماعيل خطاب جيدًا، كان طبيبًا بارعًا، «المريض يظن أنه يعرف علته.» كانت تلك مقولته الشهيرة، المريض يظن أنه يعرف، ربما كان هذا الظن أكبر مصاعب التشخيص؛ فظن المريض يضلله ويضلل طبيبه، لكن الأمراض النفسية تختلف عن العضوية، أمل لا تظن؛ فهي بقدر مقاومتها تدرك أنها بحاجة للمساعدة، هي حقًّا لا تعرف ما بها.

•••

دخلت أمل غرفة الدكتور أحمد مراد هادئة، أمل التي يسميها عبد الله بإلهة الصيد، أستاذة تاريخ الفن، بملابسها البسيطة الفاتنة، وحقيبة نسائية صغيرة انتقلت من يدها اليمنى لليسرى لتسلم عليه، رحب بها، دعاها للجلوس، وأعد القهوة وأشعل الغليون وأدار مسجلته، طقوس تعرفها أمل، وتعرف أن دورها الآن في الحديث، بقدر ما عليها البوح بما يدور في عقلها، بقدر ما تبتغي أجوبة عن مصيرها.

– لديَّ اعتراف دكتور مراد.

– لم تتناولي العقاقير [قالها مبتسمًا].

– نعم، لكن كيف عرفت؟

– لا يهم، لكن كيف لم تتناوله هي؟

– في الحقيقة كنت خائفة أن تتناوله فاستبدلت جميع الأقراص بأقراص المقويات والفيتامين.

ابتسم لها الطبيب، وكانت ابتسامته مرساة لمخاوفها، هدأ خوفها، وتزايدت حيرتها حول مصيرها؛ ففي تلك اللحظة لم تعد مستعدة لتلك المعايشة السلمية، تريد أن تعرف كل النتائج.

حاولت الوقوف على نتيجة ترضيها، لم يكن ليرضيها سوى العيش ببيت جدتها بالإسكندرية.

يكفيها سيرابيس الغارق أمامها، حتى عبد الله لم تعد تفهمه، طال صمتها أمام ابتسامته.

فأوقف المسجلة.

– ما رأيك أن نشرب القهوة قبل أن نبدأ؟

– حسنًا دكتور هذا يريحني أكثر.

فكيف يريدونها أن ترحل وتترك كل شيء؟ وهل ستغتسل الأخرى من أثرها؟ كلا؛ فهي من تحتاج للاغتسال من آثار الأخرى، هل سيتحمل عبد الله إحداهما بمفردها كثيرًا؟ لا تظن؛ فهي تعتقد أنه بدأ الاستمتاع بالتبديل على أوتارهما.

شعرت أن صمتها قد طال رغم رحابة صدر الطبيب وابتسامته الهادئة، طلبت منه إدارة مسجلته لتبدأ الجلسة؛ فاعتدلت في جلستها ولم تنتظر أن يسألها.

– وعدتك بالحديث عن عبد الله، وسأفي بوعدي، لكن هناك ما لم أفهمه، في البداية كان لديَّ سرٌّ أخفيه، سر وجودها، أو وجودي، أو وجودنا سويًّا، كنت أظن أنه بإمكاننا الحياة بهذا الشكل طويلًا، حتى بعد مقابلة عبد الله، كشف سري وكشفت سره، واجهني ولم أواجهه، وسعى لعلاجي ولم أفعل، كيف رضيت أنا بسره ولم يرضه سري؟ كيف تصورت الحياة بوجوهنا ووجودنا الأربعة، وأراد هو الاحتفاظ بسره؟ وحين قابلتك، لم أعد أعرف هل أنا الحقيقية التي ستبقى، أم أنا الوهم الذي ستفيق منه الأخرى، ربما دفعني هذا للقدوم اليوم، ليس لمعرفة حقيقتي فقط، بل لمعرفة حقيقة عبد الله، هل هو مثلي حائر لا يعرف حقيقة وجوده أم أن الأمر برمته لا يعنيه؟

– سنتحدث عن عبد الله كثيرًا، لكن أريد أن تَطْمئني؛ فكلما زادت رغبتك في الشفاء كان وشيكًا، سأجيب أسئلتك بعد أن تفرغي من روايتك، أريدك أن تشعري بالراحة ولا تنتقي كلماتك، فقط دعيها تخرج من عقلك كما هي؛ فما زال لديَّ وأعتقد لديكِ أيضًا الكثير لنعرفه.

– هل لي في المزيد من القهوة؟

الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة، ميناء الحضارات ومنارتها، بيتي الذي يحتضنه البحر ويحرسه سيرابيس، اليوم يبدو الحذر في أمواجها، ويفوح من نسماتها الترقب، حتى الشمس كانت تطل باستحياء التلصص من خلف تلك الغمامة التي حوت إسكندريتي وعزلتها عن زرقة السماء، كان اليوم رماديًّا بلمعة فضية، وكنت كما أنا الآن أزيد معطفًا بنيًّا فوق فستاني وبجيبه عنوان عبد الله حسين مسعود، رئيس مجلس الإدارة.

أعرف المكان جيدًا، بناية قديمة لكنها فاخرة، تطل مباشرة على البحر، قرب حديقة المنشية، مكان معروف بتجمع أصحاب الأموال لقربه من بناية البورصة، سألني حارس البناية فأخبرته أنني أريد الدكتور عبد الله مسعود؛ فأجاب الأستاذ عبد الله بالطابق الثالث، وفتح لي المصعد الخشبي، لكنني فضلت السلم، شكرته وصعدت، لا يختلف عن سلم بيت جدتي، نفس الجدران المحيطة به، حتى الأبواب لا تختلف كثيرًا، التشابه يُشعِر بالألفة، والألفة كانت أكثر ما أحتاجه.

وصلت لطابق المؤسسة القانونية الضخمة، حركة في كل مكان، تشبه البنوك التي لا أحبها كثيرًا، رجال بملابس رسمية وسيدات أيضًا، كأنني انتقلت لفيلم أمريكي لا ينقصهم إلا القبعات، وقفت أراقب بعينيَّ خلية النحل القانونية، ويبدو أنني أطلت الوقوف حتى لاحظ البعض وجودي، بدأت الملاحظة بنظرات الاستنكار ربما لا أشبه عملاءهم الأغنياء، كنت واضحة لهم كعشبة ضارة بين أغصان الزهور، بينما كنت أشعر أنني زهرة برية صغيرة في صحراء لا أشعر بمحيطي بأيٍّ من أنواع الحياة، اقتربت مني سيدة بابتسامة استقبال الفنادق الكبرى، وسألتني بتأدب كيف يمكنها خدمتي؟ طلبت مقابلة عبد الله؛ فسألت عن وجود موعد مسبق، لم أفهم أهمية كل هذا، فأجبتها أنني أريد مقابلته لأمر شخصي الآن وليس بعد دقيقة من الآن، لا أعرف سبب حدتي، لكنني لم أكن مرتاحة في هذا المكان القاسي لي.

•••

أمام حدتي وجدتني في مكتب صغير وسيدة تبتسم تلك الابتسامة الفندقية وطلبت مني الجلوس، رفضت الجلوس، فقامت من مكتبها واقتربت مني بود تطلب مني الجلوس لأرتاح حتى تبلغ الأستاذ بوجودي، جلست أمام ذوقها، حاولت الابتسام، لكن كان التوتر باديًا في ملامحي، سألتني عن سبب المقابلة، فلم تنل مني سوى اسمي وانصرفت لغرفة أخرى عبر باب داخلي، غابت للحظات ثم عادت تدعوني للدخول عبر نفس الباب.

•••

كانت رحلتي الأطول عبر هذا الباب، غرفة كبيرة مثل غرفة نوم جدتي مرتين ويزيد، رائحة أخشاب الورد العجوز تفوح من مكتبات تغطي الجدران، والثرايا الذهبية تتدلى من السقف المرتفع المرسوم الأركان، صالون فرنسي من القرن الخامس عشر، وأمامهم مكتب فرنسي أمامه كرسيان من نفس طرازه وخلف المكتب الأنيق كان عبد الله جالسًا، ملابس رسمية، رابطة عنق، شعر مهندم لامع، عينان من الزجاج، لم يعرفني! حقًّا؟ ألا يعرف من أنا؟ وقف مبتسمًا، ومد يده لمصافحتي، يد باردة لم أعرفها، طلب مني الجلوس مرحبًا، جلست ودهشتي تتحول للذهول وتنتهي بالحزن، عرفني بنفسه، مؤسسة قانونية دولية تتولى قضايا الشركات الكبرى وذوي الشأن الرفيع من الأشخاص، شعرت من طريقته التي تحاول التظاهر بالأدب أنه يخبرني بأنني في المكان الخاطئ، فلا يبدو عليَّ أنني صاحبة شركة كبرى أو من ذوي الشأن الرفيع.

•••

تبدد حزني دون سبب واضح وحلت الرغبة في اكتشاف حقيقة ما يحدث؛ فعرفته بنفسي دكتورة أمل خطاب، أستاذ تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، وابنة الدكتور إسماعيل خطاب صاحب مراكز الاستشفاء المنتشرة بالقاهرة والإسكندرية، ترحم هو عليه ولم أعلق، واسترسلت بأن لديَّ مشكلة في الميراث مع أعمامي وأبنائهم لكوني الابنة الوحيدة لوالدي الراحل، ترحم مرة أخرى ولم أعلق أيضًا، بدا أنني تحولت لذوي الشأن بمجرد ذكر أملاك العائلة، كنت أنظر لعينيه مباشرة، وبعد أن اطمئن أن وقته لن يذهب هباءً، بدأ يتفحصني بعينيه، جائع يتفحص وليمته، ربما فاته أن يلعق شفتيه، أو ربما كان مدربًا ألا يفعل.

•••

أكملت ما بدأت، خلعت معطفي بهدوء، فقام معتذرًا أنه لم يأخذه من البداية، اقترب مني يساعدني على خلع المعطف، وهلَّت رائحته متخفية خلف عطر فرنسي شهير، علَّق المعطف وعاد لمكتبه مبتسمًا، سألته عن إجراءات التقاضي لحالتي؛ فرفع هاتف المكتب ليطلب السيدة بالمكتب الصغير وطلب بطاقة هويتي، أخذتها السيدة بأدب وانصرفت، لم أفهم شيئًا، لكنني لم أتوقف عن إغواء هذا النمر الجائع، طلب أن يفهم طبيعة المشكلة، وشعرت أنها فرصتي، قمت وبدأت الحديث واقفة، أتحرك بالغرفة أمام المكتب وكأنني في بطولة عرض مسرحي، استخدمت كل ما يمكن استخدامه من لغة جسدي، كان يصدر بعض الأصوات والإيماءات المدللة على متابعته، لكن عينيه كانتا تتعطلان في تسلطهما على جسدي، كان يراقب كل ما ظهر مني، ساكنًا أو متحركًا، كان الأمر في بدايته رخيصًا لي، لكنني بدأت بالاستمتاع به وأنا أراه أسيرًا لرغبته فيَّ؛ فأضفت مشهدًا مؤثرًا للختام فانحنيت في مواجهته ومعصماي على سطح المكتب فانزلقت عيناه من رقبتي لتسرقا ما يمكنهما سرقته من خلف فستاني.

– يبدو أنني لا أجيد شرح الخلافات القانونية، ربما لأنني لا أفهمها كثيرًا.

– بالعكس دكتورة، مما رأيت، يمكنك عرض أي شيء ببراعة.

– أي شيء؟

– أين تحتفظين بأوراق أملاك والدك رحمه الله؟

– لديَّ الكثير من الأوراق، لا أعرف ما يخص الأملاك وما يخص أعماله، ربما.

– ربما من الأفضل أن أفحصها جميعًا بنفسي.

– لا أريد أن أثقل عليك أستاذ عبد الله.

– متى يناسبك دكتورة أن تتحملي زيارتي؟

– الليلة تناسبك؟

– حسنًا، الليلة موعدنا.

تركت له عنوان بيت جدتي ونظرت لمعطفي فقام مسرعًا، ساعدني في ارتدائه وضمه وضمني متنفسًا في رقبتي من الخلف، وددت الالتفاف لأبكي كل شيء في صدره، لكنه ليس عبد الله الذي أعرفه، أخذت بطاقة هويتي من السيدة بالمكتب الملحق وانصرفت، خلعت حذائي وتقافزت حافية على السلم كما أفعل ببيت جدتي، وصلت لباب البناية فانتعلته مرة أخرى وعدت لبيت جدتي بالشاطبي.

•••

البيت دافئ، من خلف باب الشرفة وقفت أناجي سيرابيس، ما هذا الجنون الذي أفعله؟ كانت أمواج البحر تحذرني عواقب نيتي، سيأتي عبد الله المهندم اليوم، هل سيتذكر هذا البيت؟ تلك الأريكة؟ غرفة جدتي؟ هل سيتذكر ما قضيناه من وقت سويًّا في هذا المكان؟ لم يتعرف عليَّ، فكيف سيتذكر المكان؟ كان تصرفًا أحمقَ أن دعوته، كان عليَّ التريث، لماذا ذهبت إليه؟ تركني سيرابيس لحيرتي، قطعت الوقت بخَبز بعض فطائر التفاح، المكان نظيف، الرائحة جميلة، فستان أقصر قليلًا، وانتظار طويل.

•••

السابعة مساءً، سيارته الكبيرة تقف أمام البيت، يحمل لفافة كبيرة، يحدث حارس البناية ويصعد، إنها المرة الأولى التي يزورني شخص بتلك الهيئة ومظاهر الثراء المبالغ فيها تلك، وقفت خلف الباب وفتحته قبل أن يدق الجرس، ابتسم فقد كان يهندم ملابسه قبل طرق الباب، ابتسمت له مرحبة ودعوته للدخول، لم تَنْتَبْني حالة الإغواء الصباحية، كنت بلا حالة مزاجية معينة، علقت عنه معطفه، وبدا وسيمًا بملابسه الرسمية الداكنة ورابطة عنقه بلون النبيذ فوق قميصه الأبيض، كان يتحسس خطواته في المكان، كأنه لم يكن هنا منذ أيام، قبل جلوسه فك لفافته وأخرج زجاجة من النبيذ الفرنسي قائلًا إنه لا يعرف ذوقي فأحضر نبيذًا أحمر للعشاء، شكرته وحملتها للمطبخ.

كان عبد الله يتصرف براحة، وكان يتعامل مع الأوراق كأنه يعرفها، كان الوقت بطيئًا وأنا أراقبه يفحص الأوراق، ويتوقف مع ابتسامته لي، وكان سريعًا حين نتناول الشاي والفطائر أو نتحدث في أمور أخرى، لم يكن عفويًّا لي، كان دقيقًا محددًا مختصرًا، لم يكن همجيًّا كما تعودته، لم يكن أيضًا حانيًا محبًّا، كان لي ماديًّا مهذبًا، ينتظر فقط الفرصة، إشارة مني لينقض عليَّ، صبورًا كان أيضًا.

بدأ البرق يداعب جلستنا يتبعه الرعد وانهالت الأمطار على الإسكندرية، وزحف البرد لداخل البيت، كاد الليل أن ينتصف، سألني إن كنت أنوي الاحتفاظ بالنبيذ، ابتسمت وأحضرته، حتى طريقة تناوله للنبيذ كانت مختلفة، كان يبلل شفتيه وينتظر قليلًا، ثم يجرع جرعة كبيرة ويضع الكأس، ويفعل ذلك كل مرة حتى فرغت كأسه، نظر في ساعته، عبد الله يرتدي ساعة! الكثير من الدهشات في يوم واحد، وربما الأكثر منها بليلة واحدة.

تملكتني الحيرة، هل حقًّا لا يعرفني؟ يراني امرأة جديدة عليه؟ ينتظر بصبر الصائم أن يتذوقني؟ هل يجب عليَّ الاستمرار؟ ألا أريد أن أتذوقه أنا أيضًا؟ كم أنا حائرة الآن بين المضي للنهاية وبين الهروب للنهاية! ربما سيسقط منه قناعه ويظهر عبد الله الذي أعرفه، أو ربما أريد خيانته معه، أو ربما أريد كل شيء، ابتسم عقلي؛ فلطالما سخرت من فضول النساء، وها هو الآن يتحكم بعقلي، ويسيطر عليه، فضول قد يكون مجرد ستار لرغبتي؛ فأفعلها بدافع الفضول، وليس الرغبة؛ فأعف نفسي من التصريح برغبتي، كامرأة عاشقة تحاول استخراج حبيبها من نفسه، كيف أخجل من رغبتي فيه؟ حسنًا، ليس الفضول؛ فهو عبد الله، نعم ليس كما اعتدته، لكنه هو.

•••

وقف عبد الله ليستأذن بالرحيل، لم أتوقع أن أفعل ما فعلت، أسقطت فستاني أمام باب الشقة ووقفت عارية وقلت له: «إن أردت الرحيل فعليك أن تتخطاني.» كدت أن أضحك مما أصابه من ذهول، أطبقت فمي ورسمت ابتسامة تخفي ضحكتي، وأنا أراه وبعقله تحوم كل شياطين الدهشة، تردد، أصابه الخوف، ثم اقترب إليَّ بحذر، مد يده، بدت لي مرتعشة ليلامس التقاء رقبتي بكتفي، يد باردة، لكن وقت ترددي قد مضى؛ فمضيت أنا الأخرى قائلة: «لا، لن أقتلك اليوم هنا.» وتحركت لغرفة جدتي وهو خلفي صامتٌ متعثر الخطا، كان يتفحص جدران البيت كأنه يراها للمرة الأولى، لا أهتم كثيرًا، سأصل لتلك اللحظة التي تتحرر فيها الروح ويستحيل الكذب؛ لحظة الحقيقة المطلقة، زفرة النشوة بأناتها، بارتعاشها، بقوتها، وبصفوها، سيخرج لي كل ما بداخله، وسأعرف سره.

لا أستطيع القول بأنه تقليدي؛ فلست ذات الخبرة الكافية لذلك، لكنه لم يكن عفويًّا، مهندمًا حتى في ملامستي، لا تتحسس يداه موضعهما بل يمدهما فقط حيث يريد، وما من لمسة أخطأت مرماها، كنت أقاوم الذوبان بين يديه، كنت أقاتل سقوطي لأذيبه، كانت معركة الخضوع والإخضاع، صرنا سويًّا، ملحًا ذائبًا في عذبٍ شرِه الشوق للفناء، كذرات الملح في البحر، بأي موجة كان الفناء؟ وبأي شط لامسنا الرمال، أجسادنا تحيل البرد شمسًا، وأناتنا الخافتة تعزف لحنًا غجريًّا، وأنفاسنا تعيد ضبط الإيقاع، كلما تمادينا في جملة موسيقية … وعند ختام المعزوفة صرخت الآلات كلها بصيحة النصر، ثم هدأ كل شيء عدا أنفاسنا المتلاحقة، وضربات قلبينا، وانتهينا، لم يكن هو عبد الله الذي أعرفه، وفي الصباح لم يكن بفراشي، لم يكن ببهو البيت، لم يكن هنا، وجدت ورقة صغيرة فوق كومة الأوراق بخط يده، قائمة بالأوراق التي أخذها للقضية، احتفظت بالورقة، وفي خيالي كنت أراه يعزف في فرقة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤