شهيد الفاقة والاغتراب
في ربيع سنة ١٩٢٧ كنت في باريس، وكانت لي فيها بَدَوَات وصَبَوَات، بعضها باسمٌ وبعضها حزين، ولكن حادثًا واحدًا لا يزال يعتادني كلما غفوتُ أو تطلعتُ إلى ما مَرَّ من غفلات الشباب، وقد بقي هذا الحادث تَرِنُّ أصداؤه في أجواء قلبي كما تبقى أصداء العاصفة تَرِنُّ في أسماع من شهد أهوالها في لُجَجِ البحر المحيط.
ألقيتُ عيني وقلبي على تلك الفتاة، ثم نظرت فإذا بجانبها فتًى أسمر اللون حسبته من أمريكا الجنوبية، وقد فهمتُ أنه لها صديق حميم، فتماسكتُ واعتزمتُ الاكتفاء بالنظر المباح، وصرت أتحوَّل في رفق حيث يتحول الرفيقان، وكنت أقدِّر أنني أَتْبعهما من حيث لا يشعران، ولكن الفتاة كانت قديمة العهد بنضال العيون، وتكاد تدرك وساوس النفوس وخطرات القلوب، ويَظهر أنه سَرَّهَا أن تُسِرَّ إلى رفيقها أن هناك «مسيو» يرمُقها بعينيه ويميل حيث تميل.
وما هي إلا لحظات حتى التفتَ إليَّ ذلك الفتى الأسمر وقال بلغة عربية: حضرتك مصري؟
– نعم، يا سيد، أنا مصري، وأنت؟
– أنا أيضًا مصري من الصعيد.
– من أي بلد؟
– من أسيوط.
– من أسيوط؟ أهلًا وسهلا، بلد الأهل والحبايب.
– تعرف أسيوط حضرتك؟
– ومن الذي يجهل أسيوط؟ إنه ليكفي أن تسمع بعض الباعة في القاهرة يصيحون: «قصب أسيوط يا سُكَّر».
– ولكنك تقول: «بلد الأهل والأحباب» فهل لك فيها أهل وأحباب؟
– كان لي فيها أهل وأحباب ثم تناسَوْني، وكأنما عناهم الشاعر حين قال:
– وما اسمك يا بلدينا؟
– أنا؟ اسمي زكي، وحضرتك؟
– اسمي محمود.
– تشرفنا، يا سي محمود! ولكن حدثني ما تلك الفتاة بيمينك؟
– هذه صديقة ألمانية.
– شيء جميل. ألا ترى يا سي محمود أنها حلوة العينين؟
– الله يسترك، يا سي زكي، كتَّرْ خيرك، دا من لطفك.
– هل عرفتها من زمن بعيد؟
– نعم، ولكن حذارِ أن تظن أنها خليلة، أو من الساقطات، إنها فتاة متينة الأخلاق، وقد أرسلتها الحكومة الألمانية لإتمام دراسة الفنون في باريس، وقد تفضلت بمصادقتي في شرفٍ ونزاهة بدون أن يصل بيننا الشيطان، ونحن نقضي أكثر الوقت معًا في الاطلاع على روائع الفن الفرنسي، يا سلام يا سي زكي لو رأيتها وهي ترسم! إن عيني لم تَرَ أصنع منها يدًا ولا أخفَّ بنانًا، وإن ريشتها على اللوحة لتَمُرُّ مَرَّ النسيم على وجوه المِلاح!
وما كاد الحديث يصل إلى هذا الحد حتى رأيتُني صرتُ ثالث الرفيقين، واقترحتْ الفتاة أن نذهب إلى أحد مقاعد الحديقة لترسمني، ففرحتُ، وجلستُ في خشوع وهي تنظر إليَّ تارة وإلى مصوَّرها تارة أخرى، وبعد لحظة أعطتني صورتي فرأيتها دون ما أُحبُّ، وكنتُ أنتظر أن أظهر في رسمها شابًّا جميلًا، فتململت وقلت: لعل البرنيطة هي السبب في رداءة الصورة! فتفضلي يا آنسة وارسميني مرة أخرى عاري الرأس!
ثم مرت أيام ونحن نتلاقى صباح مساء، حتى كدت أُشغَل عن الدروس، مع أنه لم يكن لي من تلك الفتاة نصيبٌ غير النظر إلى جسمها الريَّان.
وفي أحد الأَمسية تقدم إليَّ محمود وهو يقول في صوت خافت: «هل تستطيع أن تقرضني مئة فرنك إلى أن يجيء بريد أسيوط؟»
فقلت: لك ذلك، وأعطيتُه ما سأل، ثم اقترحت أن يكون هو ورفيقته في ضيافتي إلى أن يجيء بريد أسيوط، وكذلك ظللت أدعوهما للغداء والعشاء إلى أن نَفِدَ مالي أو كاد، وأنا أنتظر أن يجيء بريد أسيوط لأسترد بعض ما أنفقت على ذَيْنك الرفيقين، وزاد في همي وبلائي أنَّ نفسي تعلقت بتلك الفتاة، وصرت لا أقدر على الفرار من أَسْر وجهها الجميل.
ثم تكشَّفتْ لي الحقيقة فجأة؛ فعرفتُ أن الفتى مَدِين للفتاة بمبلغ عظيم من المال، وهو يعللها بما سيحمل بريد أسيوط من قَيِّمات الصكوك، ولم يكن ذلك الدَّين إلا أكلات طَعِمَها الفتى على حساب الفتاة، ووعودًا أخرى صارت في حكم الدَّين؛ لأن الفتى كان قد انتهب منها بعض ما يوحي به الغرام … واشتدتْ لجاجة الفتى في الاقتراض، وكان يشجعه على لجاجته ما عَرَفَ من حبي لأهل أسيوط، ورغبتي العاتية في أن أقضي ليلة أو ليلتين في حَيِّ الحمراء.
•••
وما زلت أواسيه حتى أصبحتُ أفقر منه، وحتى وقعت لي معه نوادر يبتسم لها المحزون: من ذلك أني لقيته مرة في حديقة لكسمبور جالسًا كاسف البال، فقدَّرت أنه يُعاني ما أعاني من قسوة الجوع، فقلت: انتظرني هنا يا محمود حتى آتي بغداء، وذهبت إلى أحد المخابز فاشتريتُ رغيفًا وعدت فقسمته بيني وبينه؛ فأخذ نصيبه وقال: «طيب، والله العظيم، دي أول مرة آكل فيها حاف».
فضحكتُ وقلت: «كلْ وأنت ساكت: بلاش أَوَنْطَه، فهذه فيما أعتقد المرة الأولى بعد الألف التي تأكل فيها حاف!»
فتخاذل ورضي بقسمته، والْتَهَمَ نصف الرَّغيف في أقل من لمحة العين!
ثم حالت الفاقة بيننا وبين دعوة الفتاة إلى غداء أو عشاء، وذلك كان أقسى ما مرَّ بنا في تلك الأيام، وأشرتُ إلى محمود أن يواجه بعض مواطنيه بحالته؛ عَلَّهُ يقرضه شيئًا ينقذه من أزمته إلى أن يجيء بريد أسيوط، وحرصتُ على ما بقي من دراهمي حرصًا شديدًا، فكنت لا أعطيه في كل يوم إلا ما يحصل به على الخبز القَفار، وعلمت الفتاة أنني النصير الأوحد لرفيقها المأزوم، فأخذت تتودد إليَّ علَّنِي أتحول إلى رفيق جديد، وكانت ساعات عصيبة اصطرعَ فيها الهوى والشرف صراعًا داميًا عنيفًا، ثم قررت أن أغلق في وجهها بابي حتى لا يمرَّ ببالها أن المصري يغدر برفيقه حين يراه صريع العجز والضيق … فلما شكتْ حالها وعددتْ ما لها من الدَّين في عنق (محمود) صارحتها بالحقيقة، وأنه في مقدوري أن أنفحها كل يوم بما تحصل به على أكلة واحدة، كما اكتفيتُ أنا بأكلة واحدة، إلى أن يأتي الله بفرج من عنده، وهو خير الراحمين.
•••
في تلك الأثناء كان محمود يرسل إلى أبيه كل يوم خطابًا خاليًا من طوابع البريد، وكان يظن أن الخطاب يصل على أي حال، وأن أباه سيطوَّق بالغرامة، وكان يذهب كل يوم ثلاث مرات إلى البعثة المصرية علَّه يجد بارقة من بريد أسيوط، وكان لا يلقى مصريًّا في إدارة البعثة إلا شكا إليه حاله وحدثه عن رسائله اليومية التي لا يجيء عنها جواب، وهو في كل ذلك يستعطف ولا عاطف، ويستغيث ولا مغيث.
وكانت الفاقة تُلحُّ من ناحية، والفتاة تلح من ناحية أخرى، وأنا بينهما مُوزَّع القلب أعطيها رغيفًا وأعطيه لقمة، وأحرم نفسي إلى أن نويتُ الصيام في غير رمضان!
وفي صباح يوم ذهب محمود إلى إدارة البعثة يتلمس بريد أسيوط؛ فسأل وألحَّ؛ فقال له الكاتب: «هل أنت محمود. ف؟»
فتهلل وجه الفتى فرحًا وقال: نعم! أنا محمود. ف.
فقال الكاتب: «إليك عشرين رسالة ردتها إلينا إدارة البريد؛ لأنها خالية من الطوابع».
فأجهش الفتى بالبكاء وقال: تُرَدُّ إليكم رسائلي ولا تخبرونني مع أنني أموت جوعًا منذ أسابيع؟ ممن أقترض؟ وإلى من أتوجه؟ وماذا آكل؟ وكيف أعيش؟ لقد بعت ملابسي كلها ولم يبق على جسمي غير هذه الثياب التي لا تُباع، وطردني صاحب الفندق من غرفتي، وعدت شريدًا طريدًا أهيم على وجهي في شوارع باريس، أدخلْني من فضلك على مدير البعثة أشكو إليه حالي.
وعندئذ تأثَّر الكاتب ودخل على مدير البعثة وأخبره الخبر، فرفض مدير البعثة أن يستقبله، فعاد فألحَّ، وعاد مدير البعثة فرفض، فأخذ الفتى يصرخ صراخ المسعور المجنون، فدق المدير الجرس فدخل عليه حاجبه فقال له: «اطرُدُوا هذا الشريد وأريحونا من عوائه الثقيل»!!
وعاد محمود يبحث عني ثانيًا ويقص عليَّ ما وقع له في دار البعثة المصرية، وكنت قد أفلست إفلاسًا تامًّا ولم يبق عندي ما أواسيه به، فقلت له: يا رفيقي! ليس مدير البعثة هو الممثل الوحيد للحكومة المصرية: فهناك القنصل وهناك السفير، وتستطيع أن تذهب فتستنجد أحد هذين الرجلين.
فابتسم ابتسامة الجزع وقال: هل تحسب أنني لم أفكر فيما فكرت فيه؟ لقد ذهبت ولكني لم أجد أحدًا؛ لأنه لم يسمح واحد منهم باستقبالي.
فقلت: عد إليهم مرة ثانية.
فقال: وإذا لم أفلح؟
قلت: ارجع إليَّ فلن تموت جوعًا وأنا موجود.
فقال: انتظرني إذن في قهوة لاسورس في الساعة التاسعة مساءً لأخبرك عما يتم.
فقلت: لم يبق في جيبي ما أجلس به على قهوة: وأنا منتظرك إن شئت في جُنينة نوتردام.
وقبيل الساعة التاسعة ذهبت أترقب الموعد، ولكن روَّعني وهدَّ من عزمي أن رأيت نهر السين مطوَّقًا بالناس عند قنطرة سانت جنيڤييڤ؛ إذ خطر ببالي أن الغريق في هذه الساعة لن يكون إنسانًا آخر غير محمود، فقد سمعته غير مرة يتحدث عن فضل السين في ابتلاع البؤساء.
ثم اقتربت من الجمهور، وأخذت أسأل عن الغريق: من هو؟ ومن عسى أن يكون؟
وكانت الصدمة شديدة حين حدثوني أن الغريق شاب أسمر اللون شهدوه منذ ساعة وهو يغالب الأمواج.
ووقفت مأخوذًا بهول ما صُدمت به، وقررت أن أذهب فأُبلغ أحد المراجع المصرية في باريس، ولكنني عدت فقلت: ما الذي يهم ممثلي مصر من خبر شاب مات وقد خذلوه وهو يطلب كسرة من الخبز القفار!
وانتظرت انتشال الجثة، ولكن لم يجدها المنتشلون في ذلك المكان، وكنت قد وقعت صريع الضجر والإِعياء، فعدت إلى منزلي في ضعف شديد، وأخذت أهيئ القلم والقرطاس لأصف تلك الفاجعة، وبعد لحظة طرق الباب طارق فقلت: «من بالباب؟»
– أنا محمود!
أنت محمود؟ الله يلعنك! لو أنك كنت حقًّا غريق السين في هذا المساء لكانت فجيعتك من أجمل ما يُكتب لقراء (البلاغ).