محضر جلسة أدبية
نشر حضرة الأستاذ أحمد أمين مقالًا في مجلة الرسالة عنوانه (محضر جلسة)، فظنه القراء
دعابة أدبية، وفاتهم أن الأستاذ أحمد أمين رجل رزين لا يستبيح افتعال الأحاديث،
فليعرفوا أن لذلك المقال أصلًا من الواقع، وليثقوا أني دهشت حين اطلعت عليه؛ لأنه يخالف
الرغبة التي أبداها صاحب العزة الدكتور طه حسين بك، فقد اقترح أن لا يُنشر شيء من أخبار
«لجنة إحياء الأدب العربي» ليستطيع أعضاؤها أن يحققوا كلمة المرحوم قاسم أمين إذ قال:
«الوطنية الصحيحة تعمل ولا تتكلم»، وكان من رأيه أن لا يُذاع خبر تأليف اللجنة إلا يوم
يظهر الكتاب الأول، ليكون ظهوره شاهدًا على خطر تلك اللجنة وصلاحيتها للحياة … وقد
اعترضتُ على اقتراح الدكتور طه حسين، ولكني احترمتُ رأي الأغلبية، فلم أشر في مقالاتي
إلى إنشاء تلك اللجنة بحرف واحد، فكيف يصح لحضرة الأستاذ أحمد أمين أن يخرج على ذلك
الرأي، وأن ينشر محضر الجلسة الثانية في مجلة الرسالة؟
لقد أجهدت نفسي في فهم هذا السّر، ولم أصل إلى فرض معقول، فلم يبق غير توجيه العتب
إلى الدكتور طه حسين، ولذلك اتصلت به تليفونيًّا لأعرف رأيه في هذه المخالفة الصريحة
لرأي الأغلبية، فضحك ضحكة رجَّت أسلاك التليفون وقال: «أكنت تحسبنا جادِّين حين قررنا
طيّ أخبار اللجنة إلى أن تظهر بواكيرها الأدبية؟ إن الكاتب قد يحلو له أن يستبيح ما لا
يُباح».
فقلت: أنا إذن في حِلٍّ من نشر محضر الجلسة الأولى؟
فقال: على شرط أن تقف عند الشؤون الجدية، كما صنع الأستاذ أحمد أمين.
فقلت: وهل هناك بأس من إيراد ما وقع في تلك الجلسة من النوادر والفكاهات، وأخبار
الكُتاب والشعراء والخطباء؟
فقال: أكِل الأمر في ذلك إلى ذوقك، وقد آن لك أن تعرف بعد الذي مرَّ بك من التجارب
أن
المرء قد يطوي بعض ما يعرف في أكثر الأحيان.
فقلت: ألم تقل منذ لحظة: إن الكاتب يستبيح ما لا يُباح؟
فقال: لكل شيء حدود، وأرجوك يا دكتور زكي ألَّا تحرجني معك، وأن تلاحظ أن الأستاذ
الشيخ مصطفى عبد الرازق يضايقه أن يُقرَن اسمه في الجرائد بالنوادر والفكاهات والتعرض
لأخبار الناس، وهو مَن تعرف في الحرص على التوقُّر والاستحياء.
فقلت: اطمئن، فلن أكتب إلا ما تحب ويحب!
وإلى القراء يُساق الحديث بعد حذف ما وقع فيه من شوائب الإسراف.
الأستاذ أحمد أمين
:
يهمني في مطلع هذه الجلسة أن أبين السبب الذي حداني على دعوتكم، فقد قررتْ
لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تقوم بنقل المؤلفات العالمية في العلوم
والآداب والفنون، بمساعدة وزارة المعارف العمومية، فكان من المنطق المقبول أن
تقوم اللجنة أيضًا بإحياء الأدب العربي، لتقدم للجمهور فنين من الثقافة: أحدهما
عربي قديم، وثانيهما أوربيٌّ حديث.
زكي مبارك
:
أنا أول من اقترح نقل المؤلفات العالمية إلى اللغة العربية، وقد أقرت وزارة
المعارف ما اقترحتُ وجعلتْه فرضًا على أعضاء البعثات …
الدكتور طه
:
ألم أنهك يا دكتور زكي عن الإسراف في التحدث عن نفسك، وعن آرائك وأعمالك؟ إن
العالم المخلص ينسى ما يقدم لأمته من محمود الجهود.
زكي مبارك
:
أنا أذكِّركم بنفسي؛ لأني أراكم تنسون أو تتناسون.
الأستاذ أحمد أمين
:
وهذا أيضًا خطأ: فالذي يذكِّر الناس بنفسه يتناساه الناس عامدين، وقد أشرت
إلى ذلك حين نقدت كتاب «النثر الفني».
الأستاذ محمد الهراوي
:
تذكُر ما أخذ الناس منك، وتنسى ما أخذت أنت من الناس، هل تستطيع يا صديقي أن
تنكر أنك استفدت واستفدت من آراء القدماء والمحدَثين؟
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
لعلي قرأت في كتب الصوفية كلامًا يشبه ما يقوله حضرة الأستاذ محمد الهراوي:
ولكن أين قرأتُ ذلك؟ الآن تذكرتُ أني قرأتُ في «لطائف المنن» لسيدي عبد الوهاب
الشعراني كلامًا في هذا المعنى، وكأني به يقول وهو يتحدث عن غرور
العلماء:
من أراد أن يعرف مرتبته في العلم الذي يزعم أنه من أهله فليردَّ كل قول
إلى قائله، وكلَّ علم إلى عالمه، وكلَّ شيء استفاده من أمر دنياه وآخرته
إلى من استفاد منه، وينظر نفسه بعد ذلك.
زكي مبارك
:
هذا ليس من كلام الشعراني، وإنما هو من كلام الخوَّاص، وقد أثبتُّه في كتابي
عن (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق).
الدكتور طه
:
لا تشغلنا بنفسك يا دكتور زكي، الله يلطف بك!
الأستاذ أحمد أمين
:
نعود إلى الكلام في إحياء الأدب العربي.
الأستاذ محمد الهراوي
:
أنا أعترض.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
يا فتاح يا عليم.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
تعترض على إحياء الأدب العربي؟
الأستاذ الهراوي
:
الأدب العربي في أذهانكم هو الأدب القديم، وأنا أرجوكم أن تفكروا قليلًا في
الأدب الحديث، ألا يكفي ما يصنعه القسم الأدبي بدار الكتب المصرية؟ ألا يكفي ما
تصنع وزارة المعارف في مساعدة دار المأمون؟ ألا يكفي ما يصنع المستشرقون؟ إن
الأدب الحديث مجهول في هذا البلد ولا يفكر فيه مخلوق، ونحن والله نحقق كلمة
الشيخ محمد عبده؛ إذ قال: «عاش القدماء لأنفسهم ولنا، ونحن نعيش لهم ونموت
لأنفسنا».
الدكتور طه
:
يجب أن ينهض الأدب الحديث بنفسه: فإن أصحابه أحياء، أتريد أن تصنع لجنتنا مثل
ما صنعت لجنة التأليف حين نشرت كتاب «وحي القلم»؟
الأستاذ أحمد أمين
:
وأيُّ عيب في هذا؟
الدكتور طه
:
لقد هممت وأنا عضو في اللجنة أن أعترض على هذا الصنيع، ولكني خشيت أن أتهم
بالكيد للأستاذ مصطفى الرافعي، وكانت بيني وبينه أحقاد، وأنا بصراحة لا أفهم
كيف تنشر اللجنة كتابًا أُخذتْ موادُّه من رسائل نشرت في الجرائد
والمجلات.
زكي مبارك
:
هذه سعة ذهن من لجنة التأليف، وهي خليقة بالثناء.
الأستاذ الهراوي
:
الرافعي كاتب عظيم بلا جدال.
الدكتور طه
:
ماذا تعني بسعة الذهن يا دكتور زكي؟ أنا لا أقول إن من البدعة أن تُنشَر
المقالات وتُجمَع في كتاب، ولكني أقول إن اللجان الأدبية تنشر ما يعجز الأفراد
عن نشره، وكان الرافعي يستطيع نشر كتابه إن شاء.
الدكتور عزام
:
كتاب (وحي القلم) كتاب نفيس، هو كتاب في تمجيد الفضيلة والطهر والعفاف، فنشره
يعد من حسنات لجنة التأليف.
الدكتور طه
:
قلت لكم إني لا أخاصم الرافعي، ولكني أقول إن اللجنة حين نشرتْ كتابه لم تأت
بشيء جديد؛ لأنها أعادت ما نشر وقرأه الألوف.
زكي مبارك
:
أنا أرى هذا الصنيع شهادة بإعزاز الأدب الحديث.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
وهو أيضًا خطوة في تنظيم النشر، فقد كان مفهومًا إلى اليوم أن المقالات التي
نشرت من قبل لا تستحق عناية الناشرين.
الدكتور طه
:
إذن أستطيع أن أقدم إلى اللجنة منتخبات مما نشرتُ؟
الأستاذ أحمد أمين
:
بالتأكيد، وقد نشرتْ لك كتابًا نشرته من قبل.
زكي مبارك
:
وأنا أيضًا أستطيع أن أعرض على اللجنة كتاب (أكواب الشهد والعلقم).
الأستاذ أحمد أمين
:
العنوان مخيف، ويظهر أن هذا الكتاب يتضمن هجماتك على الأساتذة لطفي جمعة وزكي
باشا وطه حسين وعبد الله عفيفي.
الدكتور طه
:
ويكون ظريفًا أن تنشر اللجنة كتابًا يطعن مؤلفه في أحد أعضائها!
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هذا شيء معروف في فرنسا.
زكي مبارك
:
وقد تكلمتُ عنه في كتاب «ذكريات باريس».
الدكتور طه
:
يا دكتور زكي، ارحمنا من الكلام عن نفسك وعن مؤلفاتك.
الأستاذ أحمد أمين
:
نعود إلى الموضوع.
الأستاذ الهراوي
:
أنا أعترض.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
على إيه يا أخي؟
الأستاذ الهراوي
:
على الوقوف عند الأدب القديم وإهمال الأدب الحديث.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
قبل أن ننساق إلى الخلاف، أرجوكم أن تحدّدوا المراد من الأدب العربي.
الدكتور طه
:
الأدب العربي معروف الحدود، وهو يُدرس في كلية الآداب.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
ماذا تريد بالضبط؟
الدكتور طه
:
أريد الشعر والنثر الفني.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
وأنا أضيف النثر الفلسفي، وأقترح أن يكون في أعمال اللجنة إحياء مؤلفات ابن
سينا والفارابي وابن رشد وابن طفيل والغزالي وابن مِسكويه والمكي والطوسي؛ ومن
إليهم من المؤلفين الذين جمعوا بين الأدب والأخلاق.
زكي مبارك
:
ولا تنسوا أبا حيان التوحيدي، فهو في رأيي أعظم أديب مفكر عرفته اللغة
العربية.
الدكتور طه
:
ستظهر مؤلفات التوحيدي بين مطبوعات كلية الآداب.
زكي مبارك
:
تلك وعود تبرق وتخلف، وهيهات أن ننتظر ما يعدنا به عميد كلية الآداب.
الدكتور طه
:
لقد كنت معنا في الكلية، يا دكتور زكي، وأنت تعرف أن العزيمة موجودة، ولكن
يعوزنا المال، وقد بذلتُ ما بذلتُ من الجهد عند مدير الجامعة فلم أصل إلى شيء،
والأمر لا يزال عند اللجنة المالية، فإن أمدونا بألف أو ألفين من الجنيهات
فسترى العجب العُجاب.
زكي مبارك
:
ومَن غيري ينتظر العجب العجاب، من كلية الآداب؟!
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
المهم أن نقرر أن النثر الفلسفي جزء من الأدب، وأن من الحتم أن نفكر فيه حين
نفكر في إحياء الأدب العربي.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
وما رأيكم في مؤلفات النحاة؟ ما رأيكم في مصنفات المبرِّد والسِّيرافي؟ أليس
من المخجل أن يجهل أدباؤنا رجالًا عرفهم المستشرقون؟
الدكتور طه
:
تلك من أعمال كلية الآداب؛ أي من مطبوعات كلية الآداب.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
فإن عجزت الكلية، فماذا نصنع؟
الدكتور طه
:
هذا كلام مشدود من شَعره، كما يقول الفرنسيون.
الأستاذ الهراوي
:
والفرنسيون يُذكرون أيضًا في حارة الكرداسي؟
زكي مبارك
:
ومن يدريك، لعل الكرداسي فرنسيّ الأصل!
الأستاذ توفيق الحكيم
:
أحب أن أعرف ماذا تريدون من إحياء الأدب العربي؟
الأستاذ أحمد أمين
:
نطبع الكتب القديمة طبعات علمية ونبيعها بثمن مقبول.
زكي مبارك
:
ولمن تطبعونها؟
الأستاذ أحمد أمين
:
للجمهور، جمهور أهل مصر والأقطار العربية.
زكي مبارك
:
وكتب النحو أيضًا تطبعونها للجمهور؟ يا ناس، اتقوا الله!
أتريدون أن نظل في وساوس نحوية، إلى يوم الدين؟
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
أنت يا دكتور زكي لا تعرف النحو.
زكي مبارك
:
اسمع، يا أستاذ، أنت أخذتها بالنَّبُّوت وأنا سآخذها بالمسدس!
الدكتور طه
:
أنا من رأي إبراهيم في (إحياء النحو).
زكي مبارك
:
وأنا أرى أن تُحبس المشكلات النحوية في حجرات الأزهر وغرفات دار العلوم
ومدرجات كلية الآداب.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
ماذا تريد بالضبط؟
زكي مبارك
:
أنا أريد قطع دابر الخلافات النحوية، أريد بصراحة أن نقف عند الأوليات من نحو
اللغة القرشية، فلا يكون في كل مسألة قولان أو أقاويل.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هذا تخفيف.
الأستاذ أحمد أمين
:
ولكنه لن يبيح كتابة الروايات باللغة العامية!
الأستاذ عزام
:
هذا تعريض لطيف.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
في فرنسا يحترمون لغة الشوارع.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
فرنسا شيء ومصر شيء.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
لقد نهضت فرنسا باللحن وتأخرنا نحن بالإفصاح.
الدكتور طه
:
وهل يلحن الفرنسيون؟ أنت مخطئ يا أستاذ توفيق؟
زكي مبارك
:
فرنسا لا تلحن أبدًا.
الأستاذ الهراوي
:
أنا أقترح أن تؤلف لجنة لإحياء الأدب الفرنسي!
الدكتور عزام
:
لم يبق إلا هذا.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
يظهر أن فرنسا بلدٌ جميل، ولولا ذلك ما ظفرت بأمثال هؤلاء الأصدقاء الذين
يفضلونها على وطنهم، وينظمون في مدحها فرائد العقود.
زكي مبارك
:
ليتك يا أستاذ إبراهيم قرأت كتب النحو الفرنسي: ليتك اطلعت على كتاب برونو
فيما بين النحو والفكر من الصلات!
الدكتور طه
:
برونو باحث عظيم.
زكي مبارك
:
ما أظنك يا سيدي الدكتور عرفت هذا الرجل، أنا الذي حضرت دروسه في السوربون،
وهو كما تقول باحثٌ عظيم.
الدكتور منصور فهمي
:
ليس عندي من الوقت ما يساعد على مشاركتكم في هذا الحوار الطريف، ولا يهمني في
هذه اللحظة أن أستعيد ذكريات السوربون أو أشهد الدعابة بين التلميذ وأستاذه
كالتندّر الذي يقع بين زكي مبارك وطه حسين، وأنا منصرف لإنجاز بعض الأعمال في
المجمع اللغوي، ولكني أحرص على مصارحتكم بأن الأدب العربي لا يحيا بنشر
المستظرف من أخبار الشعراء والندماء، وإنما يحيا بنشر المؤلفات القيمة التي
خلَّفها العبقريون.
الدكتور طه
:
الأدب القديم يراد في الأغلب لما فيه من الأخيلة والتعابير وصور المجتمع
القديم.
الدكتور منصور
:
لا تهمني الأخيلة ولا التعابير، وإنما يهمني السمو العقلي والروحي.
الدكتور طه
:
أنت إذن تبحث عن الحقيقة، وحقائق القدماء أصبحت في الأغلب من الأباطيل، وهل
يكون ابن خلدون إلا طفلًا إذا قيس تفكيره بتفكير الفلاسفة من أهل هذا
الجيل؟
الدكتور منصور
:
لا يهمني غير العدوى العقلية. وقراءة كتب العبقريين تحمل الذهن على التحليق،
وتنقل القارئ إلى آفاق من العظمة الذاتية، وإن أصبحوا في رأينا جهلاء.
زكي مبارك
:
أيريد أستاذنا الدكتور منصور أن تكون المطالعات كلها من الجد
الصُّراح؟
الدكتور منصور
:
الحياة يا أستاذ زكي لا تتسع للهزل.
زكي مبارك
:
وهي أيضًا تضيق عن الجِدّ.
الدكتور طه
:
فلنجعلها مزاجًا من الجِدّ والهَزْل.
الدكتور منصور
:
تريدون الهزل للترويح عن النفوس، وأنا أرى أنه يكفي أن ينتقل القارئ من الصعب
إلى السهل حين يدركه الملال؛ لأن قراءة الهزل تترك أثرًا في النفس قد لا تُحمَد
عقباه، والكتاب الماجن كالصديق السفيه يفسد كرائم الخلال.
الدكتور طه
:
كان ذلك رأيي حين نقدت كتاب «مدامع العشاق» لما فيه من إثارة الشهوات.
زكي مبارك
:
الشهوات عنصر أصيل من الثروة الإنسانية، وهي لا تحيا إلا في الأمم
القوية.
الدكتور طه
:
أنت تسيء إلى نفسك يا دكتور زكي بنشر هذه الآراء.
الدكتور منصور
:
الشهوات من الحوافز الإنسانية، ولكن لا بد من تهذيبها.
زكي مبارك
:
وهل نُهذِّب ما لم يُخلق؟ فلنخلقها أولًا، ثم لنهذبها بعد ذلك.
الدكتور منصور
:
وهل انعدمت الشهوات حتى نفكر في خلقها من جديد؟
زكي مبارك
:
وهل ترى التحذير من الشهوات بابًا إلى السلامة من خطرها المَخُوف؟ إن الشهوات
في الشرق تقوى وتستفحل بفضل الإسراف في التخويف منها، والنهي عنها، فلنُغْضِ
عنها إغضاء الكرام ليتناسى الناس ما فيها من طرافة وبريق.
الأستاذ أحمد أمين
:
نعود إلى الموضوع، فقد بعدنا منه.
زكي مبارك
:
ما بعدنا عن الموضوع، ولكن الحديث ذو شجون.
الأستاذ أحمد أمين
:
إحياء الأدب العربي هو نشر مؤلفات القدماء بطريقة علمية.
الأستاذ الهواري
:
ومؤلفات المحدَثين أيضًا؛ أي الذين يعيشون في عصرنا هذا.
زكي مبارك
:
هنا مسألة يجب النص عليها، وهي الاتصال بمن يشتغلون بإحياء الأدب العربي، فإن
الناس في مصر لا يفقهون للتعاون معنى، وقد يُطبع الكتاب الواحد طبعتين في وقت
واحد.
الدكتور عزام
:
هذا مدهش.
زكي مبارك
:
ألم تسمع بكتاب خزانة الأدب؟ ألم تعرف أنه طُبع مرتين في وقت واحد، فنشره
الأستاذ إسماعيل مظهر، ونشره الأستاذ محبّ الدين الخطيب؟
الدكتور عزام
:
هذه منافسة ينكرها الأدب الصحيح.
زكي مبارك
:
من واجب أهل العلم أن يتعاونوا، وأن يشد بعضهم أَزْر بعض.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
قل هذا الكلام في غير مصر.
الأستاذ أحمد أمين
:
وهل كفرتْ مصر؟ أنتم تسيئون إلى كرامة هذه البلاد.
الدكتور طه
:
نرجع إلى ما كنا فيه.
الأستاذ أحمد أمين
:
إحياء الأدب العربي هو نشر مؤلفات القدماء بطريقة علمية وبيعها بثمن
مقبول.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هذا لا ينفع، وبالعربي الفصيح لا يُغني فتيلًا.
زكي مبارك
:
وهل تعرف ما هو الفتيل؟
الأستاذ توفيق الحكيم
:
لا تصرفني عن المهم، أنا أرى أن الأدب القديم لا يحيا إلا بتحويله إلى
أقاصيص. ولعلكم رأيتم تباشير هذا الفن في كتابي (محمد).
زكي مبارك
:
أنا أنكر ما صنعتَ يا أستاذ توفيق، فأنت لم تزد على تحويل السيرة النبوية إلى
حوار مصطنع، وأنا أُفضِّل ما صنعه أستاذنا الدكتور طه حين ألف كتابه (على هامش
السيرة)، فهو تحفة من قصص التاريخ.
الدكتور طه
:
تعجبني يا دكتور زكي، فأنا من النوابغ حين تَرْضَى وأنا من الجاهلين حين
تغضب، ويا ضيعة الحق بين غضبك ورضاك!
زكي مبارك
:
وهذا أيضًا حالي عندك، يا سيدي الدكتور، فأنا كنت عندك من النوابغ حين ألفت
كتاب (حب ابن أبي ربيعة)، فلما أصدرت كتاب (النثر الفني) تفضلت فقلت: كتاب من
الكتب أخرجه كاتب من الكُتَّاب.
الدكتور طه
:
ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية.
الأستاذ أحمد أمين
:
وما الذي يغضبك من ذلك؟ أليس كتابك كتابًا من الكتب، وألست أنت كاتبًا من
الكُتَّاب؟
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
أوَكنت تريد أن يقول: كتاب من الكتب أخرجه عِفريت من الجن؟
الدكتور عزام
:
عشت حتى رأيت الأستاذ مصطفى عبد الرازق يمزح.
زكي مبارك
:
وعلى حسابي!
الأستاذ الهراوي
:
أمرك لله!
الأستاذ أحمد أمين
:
نعود إلى الموضوع.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
وهل خرجنا من الموضوع حتى نرجع إليه؟ نحن نناقش المبادئ التي يقوم عليها
إحياء الأدب العربي.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هو لا يحيا إلا بتحويله إلى أقاصيص.
زكي مبارك
:
الأقاصيص عكاز العاجزين في هذا الزمان.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
وماذا تقول في الأقاصيص الأوربية؟
زكي مبارك
:
الأقاصيص هناك فنٌ أصيل، وهي هنا فنٌ يقوم على التزويق والتهويل، ودليل ذلك
أنها في الأغلب من فنون الناشئين … إن الكاتب الأوربي لا ينشئ قصة إلا بعد أن
يدرس آراء المفكرين في القديم والحديث، وبعد أن ينظر في مشكلات عصره نظر الباحث
المتعمق؛ فيعرف ما يحيط به من المعضلات الذوقية والاجتماعية والاقتصادية، فيكون
لقصته مغزًى مأخوذٌ من أزمات النفوس والقلوب … أما في مصر فالقصة مطية من لا
يعرف، وعوامُّ الناشئين يؤكدون أنها فن جديد، وأن الأدب لا ينهض إلا إذا أطال
القول في التحدث عن الحاجة خدُّوجة والحاج مشحوت، وهم يزعمون أن القصة فن يوجب
التحلل من القواعد النحوية والإنشائية، ولا يصلح له غير المُفتَعَل من
الأساليب. وأكثر ما نراه من الأقاصيص العصرية ليس إلا انتهابًا من القصص
الصغيرة التي تباع في محطات أوربا ليتلهى بها المسافرون، فإن لم يكن بُدٌّ من
فن القصة في مصر فلنُفهم هؤلاء المتأدبين أن العنصر الأساسي في كل قصة هو وصف
الأدواء المحلية، ومخاطبة الناس بما يفهمون، أما انتهاب الأزمات الوجدانية
والاجتماعية من الأقاصيص الأوربية فهو تقليدٌ سخيف.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هذا تعريضٌ بالجيل الجديد.
زكي مبارك
:
وأين الجيل الجديد حتى نواجهه بالتعريض؟
الدكتور طه
:
لا تخرج عن الموضوع.
الأستاذ الهراوي
:
أحب أن أعرف ما هو الموجب للتعلق بأهداب الأدب القديم؟
الدكتور عزام
:
بفضل الأدب القديم يعيش موظفو دار الكتب المصرية!
الأستاذ الهراوي
:
يا خويا، أنا هناك رئيس حسابات.
الدكتور طه
:
الأدب القديم أساس الأدب الحديث، كما كان الكلاسيك أساس الرومانتيك.
زكي مبارك
:
هذا كلام يحتاج إلى تعديل.
الدكتور طه
:
لم يبق إلا أن تصحح آرائي في الأدب الفرنسي، يا دكتور زكي!
الأستاذ توفيق الحكيم
:
للمدنية الحديثة رجعات إلى المدنيات القديمة، وقد كنت أرى في بعض حانات باريس
جدرانًا تلبس ثياب القديم، وهي عند التأمل زُخرفت كذلك لتُشوق الناظرين، وقد
نرى في بعض المعارض زجاجات من الصهباء مغبَّرة معفَّرة لتُوهم الناظر أنها
مُعتَّقةٌ، وقد لا يكون مضى عليها أكثر من شهرين: والذي يزور مونمارتر يرى
الأعاجيب!
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
ويكون معنى ذلك أننا نحيي صور الأدب القديم لننفض على الأدب الحديث غبار
العصور الخوالي.
زكي مبارك
:
هذه عبارة مبتكرة، وهي في رأيي من وثبات الخيال.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
لا تغرقني في لُجَّة من الثناء.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
وهذه أيضًا عبارة مبتكرة، وبالعربي الفصيح عبارة نحوية.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
أهذا هو «إحياء النحو» يا حضرات الزملاء؟
زكي مبارك
:
نترك الصور الباريسية التي عرضها الأستاذ توفيق الحكيم، وننظر فيما نراه
بأعيننا في بعض المساجد، ألا ترون المصابيح الكهربائية وقد وُضعت في هيئة
الشموع؟ ألا تفتنكم تلك المناظر حين تتخيلون المصباح القديم وقد استمدَّ نوره
من التيار الحديث؟ نحن كذلك نريد صورًا قديمة تحييها الأفكار الحديثة على نحو
ما نرى صورة الشمعة وهي مصباح تمده الكهرباء.
الدكتور عزام
:
وهذا ما فعله العرب قديمًا حين نقلوا الأخيلة الفارسية.
زكي مبارك
:
وما صنعه الأوربيون حين نقلوا الأساطير اليونانية.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
وهذا ما يفعله الجيل الجديد وهو ينقل الأخيلة العامية.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
في عبارات العوامِّ أشياء تفسر الخلاف بين الكوفيين والبصريين
والبغداديين.
زكي مبارك
:
وفي عبارات العوام ألفاظ تشرح الصلة بين العربية والعبرية.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
وفي كلامهم عبارات تمثل اختلاف المذاهب الفلسفية.
الأستاذ الهراوي
:
ولماذا لا تؤلَّف لجنة لتخليص اللغة من هذه الديون؟ أنتم والله تذكِّرونني
بما صنعت وزارة الأشغال حين فكرت في عرض مسابقة دولية لتجميل ميدان العتبة
الخضراء، أفي كل عبارة، وفي كل لفظة، وفي كل إشارة، صدًى لأصوات الفرس والروم
واليهود والفرنسيس والإنجليز والألمان؟
الدكتور طه
:
من الصعب يا أستاذ أن تظفر المدنيات بالاستقلال المطلق؟
الأستاذ الحكيم
:
وهل خلت مصر من السمات الأجنبية؟ إن في القرى المصرية شواهد لذلك، ففي
المنوفية بلد اسمه شطانوف، وبقليل من التأمل نعرف أنه اسمٌ فرنسي.
زكي مبارك
:
لا تقل ذلك، يا أستاذ، فشطانوف ليست من (شاتونيف) كما تتوهم، وإنما هي في
الأصل شط النوف، ولها حديث في أقوال الشعراء.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
لقد سمعت أن كلمة «عرب» كلمة عبرية.
زكي مبارك
:
وأنا سمعت أن كلمة «عبر» كلمة عربية.
الأستاذ إبراهيم مصطفى
:
هذا يسمى القلب المكاني عند علماء الصرف.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
كنت أنتظر أن أسمع غير هذا الكلام، كنت أنتظر أن تقولوا مثلًا: إن الأدب
القديم يمثل مدنية لم يبقَ لها سلطانٌ أدبي، وإننا نحيا في العصر الحديث
متأثرين بما فيه من لغات وتقاليد.
الأستاذ الهراوي
:
هو ذلك يا فضيلة الأستاذ.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
ولكن هل يصح هذا القول على إطلاقه؟ أليس من الحق أننا في أكثر المذاهب
الحيوية نصطنع أفكار القدماء؟
الدكتور طه
:
النظام البرلماني في العصر الحديث مقتبس من نظام الآتينيين، ولا جديد تحت
الشمس، كما يقول الفرنسيون.
الدكتور عزام
:
والذي يقرأ الشهنامة يدرك أن غرام الملك إدوارد الثامن ليس إلا صورة لما عرفه
الفرس الأقدمون من جموح الأهواء.
الأستاذ الهراوي
:
أليس في تاريخ مصر ما يصلح لضرب الأمثال؟
زكي مبارك
:
وتاريخ مصر هو أيضًا شيء قديم.
الأستاذ الهراوي
:
قديمنا ولا جديد الناس.
الأستاذ توفيق الحكيم
:
هذه الكلمة تصلح موضوعًا لقصة اجتماعية.
الأستاذ أحمد أمين
:
نعود إلى الموضوع.
الأستاذ مصطفى عبد الرازق
:
أقترح أن نبدأ بنشر المؤلفات التي يعجز عن نشرها الأفراد، فهناك مؤلفات مطولة
أخشى أن لا تُنْشَر مرة ثانية، مثل تاج العروس وشرح الإحياء والفتوحات
الملكية.
الدكتور طه
:
اسمحوا لي أن أستعمل سلطة الرئيس المؤقت فأرفع الجلسة، على أن نجتمع في مثل
هذا المساء من الأسبوع المقبل.
•••
أما بعد فهذا محضر الجلسة الأولى من جلسات لجنة إحياء الأدب العربي، فإن سأل القارئ
عما تم بعد ذلك فأنا أخبره أني لم أحضر الجلسة الثانية، ولكني عرفت من مقال الأستاذ
أحمد أمين أن أكثر الأعضاء تخلفوا، وأن الجلسة الثانية ضاعت في مناقشة لفظة واحدة،
وفهمت أيضًا من كلام الأستاذ أن اللجنة قد لا تنعقد مرة ثالثة إلا في المشمش!
نحن في مصر، أيها القراء، نحن نتكلم كثيرًا ونعمل قليلًا، ولو رأيتم الحماسة التي
ثارت في الجلسة الأولى لظننتم أننا سنُخرج ألف كتاب في العام الواحد، ولكنكم رأيتم كيف
عجزت تلك الحماسة عن البقاء ثلاثة أسابيع، والرئيس المؤقت الدكتور طه حسين، ما عُذْرُهُ
المقبول؟ وكيف رضي أن يشهد انحلال هذه اللجنة قبل أن تفرغ من صيغة التأسيس؟
أهذه هي الحماسة للأدب العربي ونحن نزعم أننا وارثوه وحارسوه؟
وأين الأستاذ مصطفى عبد الرازق؟ ومتى ينشر المكنون من النثر الفلسفي؟
إن في مصرع هذه اللجنة عبرةً لمن يظنون أن الدنيا تُهدَم وتُبنَى في جلسة واحدة، ومن
يفوتهم أن الأدب لا يحيا إلا بالمصابرة والجهد الموصول.
وسننظر، فلعل أعضاء هذه اللجنة ينتبهون بعد قراءة هذا الحديث.