سرقات شوقي
١
قضى صديقنا الأستاذ طاهر الطناحي ثلاث سنين وهو مشغول بجمع سرقات شوقي، فليسمح لي حضرته بتوجيه نظره إلى سرقة جديدة من سرقات شوقي، وهي جديدةٌ من حيث الاستكشاف، ولكنها من حيث وقوعها قديمة العهد، وإليه البيان:
كان الناس يعجبون من براعة شوقي في بيان حكمة الجهاد، جهاد الرسول؛ إذ قال يصاول من وصفوا الرسول بحب الدماء:
وهي أبيات على جانب عظيم من جودة المعنى وقوة الرصف، وكان يُظن أن شوقي هو مبدع هذا المعنى، وأنه أول من أفصح عن حكمة الجهاد، ولكن سرقته انفضحت يوم أقيم موسم الشعر في الأسبوع المنصرم، فقد تبين أنه انتهب هذا المعنى من قول الشاعر محمد الأسمر الذي قال:
والأسمر شاعر مجيد، ولشعره أفنان يقطف الناس من ثمارها ما يشتهون، وكان شوقي — رحمه الله — مغرمًا بأخذ معاني الشعراء، فإغارتُه على معاني الأسمر تدخل فيما أُثِر عنه من الطغيان، ومهمةُ النقد الأدبي هي رد الحقوق إلى أصحابها، وكشفُ سرقات الشعراء بعضهم من بعض، فلا يتهمنا أحد بالغض من شوقي والعدوان عليه وهو ميت، فإن الحق لا يبالي الأحياء ولا الأموات.
قد يقول معترض: ولكن أبيات شوقي جزء من نهج البردة، وهي قصيدة نظمها شوقي في سنة ١٣٢٧ﻫ ونحن اليوم في سنة ١٣٥٥ﻫ؛ أي أنه نظمها منذ نحو ثمانية وعشرين عامًا، فكيف يصح اتهامه بالسرقة من الأسمر؟
ونجيب بأن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأسمر رجل عجوز جدًّا، بالرغم من تصابيه، وقصيدته التي ألقاها في موسم الشعر نظمها منذ أكثر من ثلث قرن وألقاها في معهد دمياط، ونشرها في مجلة «الأمانة»، واطلع عليها شوقي فانتهب منها ما شاء.
ولكن لا بدَّ مع هذا من إنصاف شوقي الذي لا يملك الدفاع عن نفسه بعد أن أسكته الموت، وإنصافُهُ سهل؛ فقد نص القدماء على أن السرقة لا تُعاب دائمًا، وإنما تُعاب حين يسوء الأخذ؛ أي حين يكون المعنى المسروق ورد في صورة أقل جمالًا من الأصل، وتُقبل السرقة حين يلطف الأخذ؛ أي حين يصور المعنى المسروق بصورة أبرع من الأصل، وهذا ما وقع لشوقي؛ فإن أبياته أجمل من أبيات الأسمر، وهي كذلك أروع وأرشق، وحَسْبُ الأسمر من الفوز أنه كان السابق ولم يكن المسبوق!
٢
عرضتم في حديثكم منذ أسبوع لسرقات شوقي، ونبهتم إلى إغارته على الأستاذ الأسمر في أبيات كشف عنها موسم الشعر الأخير، وبذلك فتحتم عيوننا على سرقة أخرى من سرقات شوقي كشف عنها نقلُ رفات الزعيم سعد زغلول، فقد كنا نعجب أيضًا بقصيدة شوقي على قبر نابليون التي يقول فيها:
حتى كان نقل رفات سعد وقرأنا للأستاذ علي بك الجارم قصيدته التي يقول في أولها:
فتحيرنا بأي الشاعرين نعجب؛ لأنَّا لم ندر أيهما صاحب المعنى، بل صاحب الشعر جملة؛ لتوافق معانيه وألفاظه في القصيدتين. أجل، إن قصيدة الجارم لم تظهر إلا بعد وفاة شوقي، ولكن من يدري؟ فلعل الأستاذ الجارم أنشأها قبل أن ينظم شوقي قصيدته، ولعله هو الآخر نشرها في مجلة «الأمانة» كما فعل الأستاذ الأسمر!
عفا الله عن شوقي فما أكثر ما كان يُغِير على الشعراء!
أما الموازنة بين القصيدتين فإني أَكِلُها إليك، والسلام.
ذلك خطاب الأديب (م. ع)، وهو يرى أن شوقي سرق من الجارم كما سرق من الأسمر، ولكن مهلًا، فنحن لا نرى هذا الرأي؛ لأنه لا يجوز في شرع العقل أن نحكم بلا بيِّنة، فإننا حين قضينا بسرقة شوقي من الأسمر كنا نعرف جيدًا أن الأسمر نظم قصيدة في مدح الرسول ونشرها في مجلة «الأمانة» منذ أكثر من ثلث قرن، وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأسمر رجل طعن في السن، فهو من أتراب شوقي، وكان لا يبعد عن شوقي أن ينتهب شعره كما فعل بشعر الشيخ عثمان زناتي. أما الأستاذ الجارم فمن الشبان ولم ينشر شعره إلا من عهد قريب، وقصيدة شوقي في نابليون نُظمت قبل أن يقرأ الجارم بيتًا من الشعر، فاتقوا الله في شوقي أيها الناس ولا تكونوا من المسرفين!