يا بحر يوسف
١
ليتني أعرف من هو ذلك السنتريسيُّ الظريف الذي نقل إلى سنتريس مَوَّال:
فقد كنت في طفولتي أجد أنسًا شديدًا بهذا الموَّال، وكنت أغنيه في الصباح والمساء، وكان يحلو لي أن أترنم به وأنا أصطاد السمك من الترعة العامرية في سنتريس.
وكنت لسذاجتي أفهم أن «البُلطية» هي السمكة الحقيقية التي تعيش في النيل، فكنت أمنِّي النفس بسفر سعيد إلى بحر يوسف لأصطاد من البلطيات ما أشاء.
ثم تعاقبت الأيام وأخذت أتنبه إلى ما في القصائد والمواويل من الرمزيات.
وأخيرًا فهمت أن البلطية اليوسفية ليست سمكة نيلية تتشهّاها البطون، وإنما هي ظبية فيومية تتشهّاها القلوب.
الآن فهمت مغزى الموال:
ولكني، وا أسفاه، لم أفهم إلا بعد فوات الوقت: لأن الشهرة التي ظفرتُ بها بحق أو بغير حق جعلتني ممن يُشار إليهم بالبنان، وأنا أخشى إن مضيت لزيارة بحر يوسف أن يقال: هذا صياد البلطيات! وأهل الفيوم فيما أعرف لا يسرهم أن يكون واديهم غابة صيد!!
فيا أيها الأديب الذي اسمه «محمود» تذكَّرْني كلما شاكتك «بلطية»، وتذكَّر أن في الدنيا إنسانًا يتلهف على ما في بحر يوسف من الأسماك الحقيقية والمجازية!!
وسلام عليك وعلى بلدك من المحبّ المُشتاق.
٢
كان الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك جمع أوائل المتخرجين في كلية الآداب في شهر مايو سنة ١٩٣٣، وأخذ يزودهم بالنصح، ويعرض عليهم استعداده لمعاونتهم إذا اقتضى الحال، وبدا له يومئذ أن يسأل كل متخرج عما يقصد إليه من الأعمال، وجاء دور الأستاذ محمود شافعي فقال: أما أنا فسأعمل مع أبي في تحرير جريدتنا (بحر يوسف)، وكنت بالمجلس فقلت: يستطيع سيدي الدكتور أن يعاون هذا الفتى فيرسل لجريدته مقالًا أو مقالين، فقال الدكتور منصور: ساعده أنت يا زكي، فإن قلمك أطوع.
وانتهز الأديب الفرصة فطلب مني مقالًا للعدد الممتاز من جريدته، فكتبت المقال، وفي هذا العام كتب إليَّ ذلك الأديب خطابًا طريفًا قال فيه: إن لجريدة بحر يوسف ضريبة سنوية على قلمي، وهو يتقاضاها، فأخذت أبحث عن موضوع أكتب فيه فلم أهتد، وأخيرًا رأيت أن أشرح الموَّال:
فقلت: إني كنت أغنِّيه في طفولتي وأنا أصطاد السمك من ترعة سنتريس، وكنت لسذاجتي أفهم أن (البلطية) هي السمكة الحقيقية التي تعيش في النيل، فكنت أمنِّي النفس بسفر سعيد إلى (بحر يوسف) لأصطاد من (البلطيات) ما أشاء، ثم تعاقبت الأيام وأخذت أتنبه إلى ما في القصائد والمواويل من الرمزيات، وأخيرًا فهمت أن البلطية اليوسفية ليست سمكة نيلية تتشهَّاها البطون، وإنما هي ظبية فيومية تتشهَّاها القلوب، وأسفتُ على أنْ لم أفهم هذا إلا بعد فوات الوقت؛ لأن الشهرة التي ظفرت بها بحق أو بغير حق جعلتني ممن يشار إليهم بالبنان، وأنا أخشى إن مضيت لزيارة بحر يوسف أن يقال: هذا صياد (البلطيات)، وأهل الفيوم فيما أعرف لا يسرهم أن يكون واديهم غابة صيد.
تلك خلاصة الكلمة التي نشرتْها جريدة بحر يوسف، وهي كما يرى القراء دعابة بريئة من الإثم والسوء، فهل يدرون كيف تقبلها الناس هناك؟ لقد رأتها جريدة الفيوم من الجرائم الأدبية؛ فكتبت تشتمني أقبح الشتم وترميني بالإفك والبهتان، وانبرت جريدة بحر يوسف للدفاع عني فنشرتْ مقالين أحدهما للأستاذ محمود شافعي وثانيهما للأستاذ عبد الحكيم عابدين، ونشرتْ كلمة ثالثة بإمضاء حضرة الأستاذ السيد الحكيم سكرتير مجلس النواب الأسبق رجا فيها أن لا أكون قصدت بكلمتي الطريفة غير مجرد المداعبة.
وكذلك كُتِبَ علينا أن لا نصبح ولا نمسي إلا مزوَّدين بالأراجيف، وهذه دنيا الأدب، وهي دنيا غادرة تنضح بالعقوق، ولا نرى فيها طيف البِرّ إلا في سِنات الأحلام.
وقد كتب إلينا الأستاذ محمود شافعي يعتذر عما سبَّب لنا من الضجر، ونُجيب بأننا غير غاضبين؛ لأن من المقبول أن يُشتَم المرء في بلد مثل الفيوم، وقديمًا قيل:
ومن موجبات الأسى أن عهدي بالنضال الأدبي سيطول، فما فُتِح أمامي باب للهدوء والطمأنينة إلا أغلقته بيدي، فمتى أتوب عن مساجلة الناس؟ متى أتوب؟ فقد كدت أضجر من تقول المتقوِّلين، وإرجاف المرجفين، وعدوان المعتدين.
أمن الإثم أن يقال: إن البلطية اليوسفية رمز إلى الظبية الفيومية؟
أمن الوقاحة أن يقول كاتب: إن أهل الفيوم لا يسرُّهم أن يكون واديهم غابة صيد؟
يا محرر جريدة الفيوم!
إن كان ساءك أن نفسِّر الموال بالطريقة الرمزية، فانتظر فسنشرح ما يتصل ببلدكم من الرمزيات، حتى العنب والتين!
واحذر أن تعرض مرة ثانية إلى ذكر سنتريس بسوء، وإلا فسأجرِّد عليكم حملة فيها عشرة آلاف نبُّوت … وقد أعذر من أنذر، والسلام.