الاستهداف للقتل في سبيل النقد الأدبي
أهلًا وسهلًا!
في ضحى يوم الأحد الماضي كنت أقلِّب بعض الأوراق في سآمة وملالة: ثم دق جرس التليفون فأنِستُ إليه وقلتُ: «لعله موعد غرام!» ولكني فوجئت بما أخلف فاتن الظنون؛ فقد كان محدثي خليفة الجاحظ في جمال الوجه، وهو الأستاذ عبد العزيز البشري، أثابه الله!
لا تسأل كيف كان الحديث، فإنه فوق الوصف، ولك أن تتصور أنه كان عنيفًا أقسى العنف، ولولا أني كنت أحدِّثه في منزلي وبين أهلي لَانْخَلَعَ قلبي من الرعب، ولكن الله لطف وأحياني حتى أُدوِّن هذا الحديث!
ابتدأ الأستاذ فقال: أنت الدكتور زكي مبارك؟
– نعم!
– أنا عبد العزيز البشري.
– أهلًا وسهلًا صباح الخير يا سيدي الأستاذ.
– لا أهلًا ولا سهلًا، ولا صباح ولا مساء، خلَّيتها خلًّا يا دكتور! أهذا هو التحقيق العلمي يا حضرة المحقق؟! كيف تزعم أني سكت سكوتًا مؤذنًا بالقبول؟ ومتى فهمت من كلامي أني أوافق على أن شرح نهج البردة ليس لوالدي؟ اسمع، اسمع، لقد قضيت حياتي نادمًا على هفوتين اثنتين؛ الأولى: أني لم أحسن لغة أجنبية، والثانية: أني لم أتعلم في أوربا، ثم كان صنيعك معي خير عزاء على ما جنيتُ من تفريط، فإن منهجك في التحقيق العلمي يعزِّي من خانته الظروف فلم يتمكن من التعلم في السوربون! ادَّعُوا ما شئتم فقد أثبتت التجارب أننا خير منكم، والحمد لله، فلا تمنوا علينا وعلى الناس بأنكم أوفر علمًا وأغزر أدبًا، فتلك دعاوى لم تقيموا عليها البينات!
– يظهر أن الصيام يتعبك، يا سيدي الأستاذ!
– لا، ليس الصيام هو الذي يثير غضبي عليك، فقد قطعتَ بيديك ما كان بيننا من أسباب الوداد، وقضيتَ على ما أحكَم الأدب بيني وبينك من وثيق الصلات …
– كيف؟ وما أسأت إليك يا سيدي الأستاذ، ولا جنيت على أحد من أهلك!
– أنت لم تسئ إليَّ، ولم تجنِ على أحد من أهلي؟ وكيف تكون الإساءة والجناية أكثر مما صنعتَ؟
– أنا لم أفعل شيئًا يغضبك، والله العظيم.
– اسمع، يظهر أنك رجل مُرازي، وأنا لن أدخل معك في حرب أعرف أن الغالب فيها أسوأ حالًا من المغلوب، ولكني سأسلط عليك من يُرازيك.
تهديد بالقتل
– وماذا تملك من مرازاتي يا حضرة الأستاذ؟
– أدبِّر لك أشياء شنيعة جدًّا.
– لا حول ولا قوة إلا بالله!
– ما هذه القهقهة العالية، يظهر أنك غافل عن مصيرك!
– وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصيرٌ بالعباد!
– أنا لا أمزح، افهم هذا، إن إخوتي مهتاجون جدًّا، وسترى ما يصنعون!
– وماذا يصنعون؟ أوضِحْ، أوضِحْ!
– إنك إن عدت إلى الكلام عن شرح نهج البردة فسيقتلونك على باب دارك!
– يقتلونني على باب داري؟
– نعم، يقتلونك، ويومئذ لا ينفعك حديث ولا شجون!
– أجِدٌّ ما تقول، يا سيد عبد العزيز؟
– هو الجِدُّ الصُّراح، وما نحن بمازحين!
– إن كان حقًّا ما تقول فاعلم أنني لا أخافك ولا أخاف إخوتك، ولو شئت لسُقْت في حربكم ألف نَبُّوت من سنتريس، يحملها قُروم فُحُول قاتلوا الدهر وصابروا الزمان، ولقد صاولتُ من قبلكم محمد بن فريد الوجدي، ومحمد بن عبد المطلب الجهني، ولطفي بن جمعة الطنطاوي، وزكي بن باشا الجيزاوي، وطه بن حسين الجاهلي، ولطفي بن السيد البرقيني، صاولتُ هؤلاء على بأسهم وجبروتهم فما وَهَنْتُ ولا جَزِعْتُ، ومن قبلهم نازلتُ عيون المها على ضفاف النيل، ورماح القدود على شواطئ السين، فما انْشَعَبَ قلبي، ولا انصدع لُبِّي، فاتقوا الله في أنفسكم، واختاروا لأنيابكم طعامًا سواي، فإن لحم الحيات السود أسلم عاقبةً من لحمي وأشهى مذاقًا، وسوف تعلمون! … إنك يا هذا لا تدري عواقب ما تهتف به، ولا تعرف ما يهدد مصر من الخطر حين يُقتل كاتب على باب داره في القرن العشرين، ألا تعلم أن ذلك لو وقع — وقاني الله ولطف! — لقامت أزمة وزارية يتصدع لها حزب الشعب ويهوي بها صدقي باشا في قرار من العزلة مكين، ثم تحبط المفاوضات بيننا وبين حلفائنا الصادقين آل جون بن هامان، وتُصِرُّ الدول الأجنبية على بقاء الامتيازات؛ لأن البلد الذي يُقتَل كُتَّابه وشعراؤه على أبواب منازلهم لا يؤتمن أهله على مصالح الجاليات! كيف يفوتك هذا كله وأنت العالم الأريب؟ ومع ذلك فافعل ما بدا لك، فإن روحي — يوم أموت شهيد الصدق — سينعَمُ بالراحة الأبدية؛ إذ يرى أن الأشياخ فيهم شجعان أبطال يقولون ويفعلون بعد أن طال عهدهم بالقرار والسكون!
أصل النزاع
نُسِب كتاب الأم للشافعي وليس له، ونُسِب كتاب «المدوَّنة» إلى مالك وليس له، ونسب شرح نهج البردة إلى الشيخ سليم وليس له.
لم يأت هذا الفاضل بشيء جديد؛ لأننا نعرف أن في شرح نهج البردة مسائل لم يحررها الشيخ عبد العزيز، وإنما حررها والده — رحمه الله —، وكان الشيخ عبد العزيز — ولا يزال — أعجز من أن يجاري والده في مضمار الفقه والحديث.
أفترى مِن هذا يا سيد عبد العزيز أني أتهم والدك بالتزوير؟ لا شيء مما تظن على الإطلاق، وإنما هي أصول النقد الأدبي نُذيعها بين الناس.
ومع ذلك فبأي حق تغار على الشيخ سليم أكثر من غيرتي عليه؟ لقد ظل الرجل شيخًا للإسلام والمسلمين قُرابةَ عشرين عامًا، وصار له في عنق كل مسلم دَين لا يفكر في التحرر منه إلا الجاحدون، فَلِمَ تستكثر علينا أن نترك لضمائرنا رعاية حقوق ذلك المحدِّث الجليل؟ أتصدِّق ما يُشيع المرجفون من أننا نهاجم رجال الدين ونستهين بعقائد الآباء والأجداد؟ لا، يا سيد، إن غيرتك على الشيخ سليم فيها نزعة من الأَثَرَة، والإسلام لا يعطيك من حق الغضب له إلا بمقدار ما يعطيني من ذلك، فلا تُثر غبارًا في غير ميدان، وانتظر إن كان يعنيك أن «ترازينا» حتى تجد المقبول من أسباب النضال.
وهل من اللائق أن يفهم الجمهور أن أبناء الشيخ سليم مستعدون لأن يدبروا للناس «أشياء شنيعة جدًّا»، وأنهم قد يفكرون في قتل المخلصين من الباحثين على أبواب منازلهم؟ أهذا هو ما تركه الشيخ سليم من الأثر الطيب في أبنائه النجباء؟ اتقوا الله في أبيكم واطوُوا هذا اللجاج.
بشائر الصلح
ولا يفهم القارئ أن المحادثة انتهت بالإصرار على القتال، لا، فقد بدرت من الأستاذ عبد العزيز عبارة عطفتني عليه؛ إذ قال: أنا أغضب لأبي، أنا أغضب لأبي! فقلت: إن أباك جدير بأن تغضب له، فقال: أنا لا أغضب لأبي؛ لأنه كان شيخ الإسلام، لا، والله لو أنه كان حمَّارًا أو كناسًا لغضبت له هذا الغضب! وما كاد الأستاذ ينطق بهذه الجملة حتى بلغ مني التأثر كل مبلغ، وذهب بي الإعجاب به كل مذهب، وقلت: رعاك الله ورحم أباك أيها الشبل النجيب! ثم انتقلنا إلى عتاب أصفى من الصهباء، وأرق من قلوب المحبين، وقال الأستاذ: أنا معجب بك، وأنتظر مقالاتك في البلاغ وأقرؤها بتشوف واشتياق. فقلت: وأنا أقدِّم للأدب الحديث خدمات لا تخطر لكم على بال، ولو أنكم سألتم تلاميذي بالجامعة الأمريكية لرأيتم أني أقرِّبهم من كُتاب العصر وشعرائه أشرف تقريب، وإني لأحرص على أن تكون الجوائز الأدبية التي توزع في آخر السنة صورة صحيحة لجميع المؤلفين، وهناك أناس يطوون اسمي عمدًا في أحاديثهم ورسائلهم، ولكن حبي للأدب وإنصافي للمبدعين يحملني على نشر أسمائهم بين جماهير الطلاب … إنكم تستكثرون يا أستاذ عبد العزيز أن تبدر مني كلمة ينبعث لها جدل أو شقاق، وفاتكم أن الحياة الأدبية في مصر راكدة أبشع الركود، وأن الآداب الأجنبية تحتل أفئدة شباننا احتلالًا أخطر من احتلال الإنجليز للثغور والمطارات. إن أدبنا في حاجة إلى حياة، وهذه الحياة لن تصل إليه إلا عن طريق المشارط القاسية التي تجمع بين الألم والشفاء، فلا تحقدوا إن هجتكم للنزال، فقد تأتون بالبِدع الطريف حين تغضبون.
طلبة كلية الآداب
وما كدنا نصل إلى هذا الحد حتى غضب الأستاذ عبد العزيز للأدب وقال: يظهر حقًّا أننا نقاسي أزمة أدبية قاتلة، وقد عرضت على الأستاذ أحمد أمين أن أقدم بضع نسخ من كتاب المرآة هدايا لطلبة السنة النهائية من كلية الآداب، فأجاب بأن الطلبة لا يفهمون اليوم جمال الأساليب.
أهذا صحيح؟ هل من الحق أن طلبة كلية الآداب لا يفهمون جمال الأساليب؟ وماذا يصنع الأساتذة هناك؟ اسمعوا كلمة الحق أيها الناس! إن فاقد الشيء لا يعطيه، وما دام يتفق في مصر أن يتولى تدريس الأدب قومٌ ليسوا بأدباء، وليس لهم في الأدب ولا في تاريخه أثر معروف؛ فلا تنتظروا أن يكون في معاهدنا العالية نهضة أدبية … إن الأدب صورة الحياة فلا تطلبوه عن غير الأحياء. هل في كلية الآداب اليوم بصيص من النور يُؤْذِن بيقظة عقلية أو روحية؟ هل هناك أستاذ واحد يخطر في باله أنه موَّكل بحرب الخمود والجمود؟ إن الأدب سلطة قائمة بذاتها، ومَن عَرَف كيف يخضع في سبيل الرزق فليذكر أن الأمة كانت تعدُّه لغير هذا المجال!
طلائع الحياة
لقد جرَّتنا محادثة الأستاذ البشري إلى التفكير في بعث الحياة الأدبية، وقد تحمس الرجل أبلغ التحمُّس، واتفقنا على أن نقوم بإذاعة طائفة من المحاضرات في الراديو لحث الشبان على التعلق بروائع الأدب القديم والحديث، واتفقنا أيضًا على أنه لا أمل في النجاة إلا أن نحرر الفكر من ذلك التزمت الممقوت، فالحياة حركة ويقظة وحرية، ولا قيمة لأولئك الأدباء الموسوسين الذين يتوهمون أن الموت ينتظرهم في كل لحظة، وأن الفقر يطالعهم من كل باب، وأنه لا ينبغي أن يُخط حرف واحد قبل التفكير فيما يتبعه من قيل وقال … إن أمثال فلان وفلان ممن لبسوا قناع الصقل والطلاء يجب أن يخرجوا من الميدان ليفسحوا المجال للمجاهدين الصادقين.
أترون أيها الناس ما يصنعه الأدباء الأجانب للغاتهم؟ إن سينما رويال مثلًا أنفع للغة الإنجليزية من ألف مدرسة، والسينما الناطق الفرنسي يؤدي من الخدمة للغة الفرنسية أضعاف ما تؤديه المدارس الفرنسية في هذه البلاد؟
فهل استطاع دعاة الأدب في مصر أن يقيموا خَيَالةً ناطقة لخدمة اللغة العربية؟ ألا يستطيع الأستاذ البشري أن يستفيد من أصدقائه أغنياء الأدباء فيضعوا بناءً للسينما المصري الناطق الذي يذيع حضارة مصر الحديثة في الأقطار العربية؟
إنه لم يبق لخدمة اللغة في مصر إلا الصحافة، ولها قيود من الحكومة، وعليها رقابة من عقول الجامدين، فاتقوا الله في لغتكم ولا تَصرُخوا في وجه النقد الأدبي كلما صال أو جال.
أفمن هذا الحديث يغضب الأستاذ البشري والأستاذ زكي باشا ويعجب الدكتور طه حسين؟
يا قوم! أنتم تعيشون في عصر سمَّوْه القرن العشرين، فلا تعودوا بضجركم إلى القرن الرابع عشر، بحجة أنكم تعيشون في القرن الرابع عشر للهجرة، فقد دالت دولة الألفاظ وجاء عصر المعاني والأغراض، واتقوا يومًا تسيطر فيه الآداب الأجنبية سيطرة فاحشة على جميع العقول المصرية والشرقية. ولا يزال في أيديكم شيء من الأمر، فاعملوا على تثبيت أقدام اللغة العربية بأسباب القوة والحياة؛ ففي حياتها حياة لكم ولإخوانكم في الشرق، لو تشعرون.
باب المناقشة مفتوح
لقد رجانا الأستاذ البشري أن نقفل باب المناقشة، وكنا نود أن نغلقه بالضبَّة، كما يعبر أهل سنتريس، ولكن المصلحة الأدبية تحتم أن تنتقل المناقشة من فنّ إلى فنّ؛ ليتسنى للقراء أن يطلعوا على وجوه من مذاهب الحياة العقلية، فليخلع الأستاذ البشري ثوب الكسل والسكون، وليتقدم إلى الميدان بكلمات ينفض بها غبار الغفلة عن شبابنا الزاهدين في أدبنا القديم والحديث؛ فإن كتابة مقال نافع تساوي درس العلم الذي فضَّله السلف على عبادة ستين سنة، فإن لم يفعل فسأقتله أنا، لا على باب داره، ولكن على صفحات البلاغ!!! وسلامٌ عليه من العارف لفضله الجم، وأدبه الرفيع.