أبجد أفندي يتزوج
أبجد أفندي يتزوج؟
بالرفاء والبنين، يا رفيق الجميع!
•••
في مثل هذه الأيام من العام الماضي قدمنا أبجد أفندي إلى القراء، وإني لأعرف أن كثيرًا منهم لم ينسَ هذه الشخصية الجذابة التي توحي الرَّوح إلى القلوب، والأنس إلى النفوس، ولكن من المحتمل أن يكون فريق منهم لم يتفق له أن يقرأ ما كتبنا في وصف هذا الصديق الظريف؛ لهذا نقدمه مرة ثانية، وبصورة ثانية، فقد عرفنا من أمره ما لم نكن نعرف، واطلعنا على كثير من خبايا قلبه الممراح، ونفسه الطروب.
ولأبجد أفندي نواحٍ كثيرة تستحق الدرس، وكل ناحية منه تقدم لنا شخصية مستقلة كل الاستقلال؛ فهو موظف، وصديق، وضحوك، وعبوس، وحيوانٌ اجتماعي!
وهو كموظف يمتاز بالحركة الدائبة والنشاط الموصول، وحسبُنا أن نعرف أنه يسوِّد في مكتبه ما لا يقل عن عشرين صفحة في العام الواحد! ولا يلاحظ عليه الكسل إلا حين يُعهد إليه ترجمة أحد النصوص، ولكن كسله في مثل هذه الحال كسلٌ علميٌّ مقبول: فهو يقف أمام الكلمة الفرنسية موقف الخاشع المتبتل، ويأخذ في تأملها من جميع النواحي: فيعُدُّ حروفها ويقارن بينها وبين ما يماثلها من الكلمات القصيرة أو الطويلة، ويجتهد بقدر الإمكان في ردها إلى أصولها اللاتينية أو اليونانية، ويظل على هذا الحال بضعة أيام، ثم يفكر آخر الأمر في ترجمتها إلى العربية، وهنا يبتدئ النزاع: هل اللغة العربية لغة حقًّا؟ وهل هي لغة عِلم؟ وهل هي لغة حضارة؟ كيف وهي تضيق عن التعبير عن بعض الأغراض؟ ويستمر هذا النزاع أسابيع ويشترك فيه جميع زملائه بالديوان، إلى أن يقضي الله بترجمة النص المطلوب!
وهو كصديق آية في الإخلاص: لا يكذب ولا يتجنى ولا يخون، يدعوك إلى طعامه، ويدعو نفسه إلى طعامك، واللحظاتُ معه أيام سعادة وإيناس، ولا عيب فيه إلا أنه يقترح أشياء كثيرة جدًّا، فإذا قُدِّمت المائدة كان نصيبه منها أقل من نصيب الطفل العليل. وأبجد أفندي عزيز جدًّا على أصدقائه، ومن آيات ذلك ما شهدته بنفسي عشرات المرات من صديق فرنسي جليل يرفق بأبجد أفندي ويعطف عليه، وينسى له جميع الهفوات. وهذا حظٌّ يُحسد عليه أبجدنا المفضال.
أما ضحكه وعبوسه ففي يد المقادير، ولا تعرف متى يضحك أو متى يعبس، وأكبر الظن أنه يحمل قلبًا جريحًا، ولكن في أي معركة جُرح ذلك القلب؟ عِلم ذلك عند علّام الغيوب.
وأصدقاء أبجد أفندي يعرفون طبعه، وصديقنا الفرنسي يصفه بالتعاسة والبؤس، وهو وصف يبدو كبيرًا على أبجد أفندي، ولكنه عند التأمل يظهر من أصدق الأوصاف.
وهو كحيوان اجتماعي شخصية عجيبة تستحق بعض التفصيل، ولنترك خوفه من الكلاب، فهو في ذلك مضرب الأمثال، ويكفي أن نذكر أن الكلب (دوك) لا ينبح إنسانًا سواه، بحيث يمكن الجزم بأن أبجد أفندي جبان أو خبيث؛ لأن الكلب الألوف لا ينبح إلا اللئام أو الجبناء، ومن المؤكد أن أبجد أفندي غير لئيم، فلم يبق إلا أن يكون جبانًا، ولو قليلًا، فإن شقَّ عليه ذلك فليتشجع ويقابل (دوك) في صباح أو مساء لنشهد بأنه غير جبان!
ولأبجد أفندي عداوات موسمية تخلقها الظروف؛ فهو اليوم عدو فلان وغدًا عدو علّان، ثم ينسى هذه العداوات نسيانًا تامًّا حين تتغير المناسبات، وهو حين يُعادي خبيث اللسان إلى حد الإسفاف، وقد جهدنا في تقويمه ولم نفلح، مع أنه مهذَّب في حضرة (دوك)! وقد يلاحظ أن له فوق عداواته الموسمية عداوات دائمة يَحسُن طيها عن القراء.
وهذا الحيوان الاجتماعيُّ دميم الشكل، ولكنه عند أهله غزال! وقد اتفق لكاتب هذه السطور أن يزوره مرة في منزله فدهش عندما رأى الفرق الهائل بينه وبين أخواته الملاح، وقد بَدَرَتْ مني الكلمة الآتية لإحدى أخواته: «كيف يتفق لكِ هذا الجمال يا آنسة مع دمامة أخيك؟»
فصاحت في وجهي قائلةً: «دا أخويا قمر!»
ثم دعت أمها وقصت عليها ما قلتُه فغضبت الستُّ وكادت ترفع العَشاء!
تجلنَزَ أبجد أفندي حينًا، وتفرنسَ حينًا، ولكنه لم يتمصَّر في روحه ووجهه إلا قليلًا، وسرُّ هذا أنه ظل شاهدًا على أن الفراعنة احتلُّوا زمنًا بلاد الصومال، وسِحنتُه الصومالية نفعته يومًا في باريس، وكاد مخزن اللوڤر يتخذه حاجبًا ليرفِّه بطلعته (البهية) عن أنفس الزائرين. ولا يزال مخزن اللوڤر يسعى لتحقيق ذلك الغرض، وآيةُ سعيه ما نرى من عناية مندوبه بمصر وسهره على إدراك هذا المطلب، وإلا فما الذي يجمع بين أبجد أفندي والمسيو بوسان؟
ومن العسير على أبجد أفندي أن يحفظ نظام المحادثة خمس دقائق؛ فهو يقفز من حديث إلى حديث بطريقة مضجرة لا يحتملها إلا الصابرون، وعلى المحادثين أن يغتفروا له ذلك، وإلا سكت وعَلَتْهُ الكآبة وغمرَ المجلس بأثقال الضجر والاكتئاب.
ولأبجد أفندي قهقهة عالية لو أُخِذَتْ في إسطوانة لعادت عليه بالرِّبح الجزيل، وله شدق واسع جدًّا لا يظهر خطره إلا عند أكل المانجة، ولهذا يحسن أن نسميه (أبجد أفندي الأشدق).
•••
أبجد أفندي جاوز الأربعين، ولا يزال مع ذلك عَزَبًا والعياذ بالله، ومشروعُ زواجه مشروعٌ قديم يرجع إلى عشرين عامًا، ولا يُفتح الحديث في منزله أو مكتبه أو ملهاه أو سامره إلا عن الزواج، وما زارت أمَّه أو أختَه جارةٌ أو صديقةٌ أو قريبةٌ إلا سألت عن زواج أبجد أفندي، وتُختم المحادثة دائمًا بهذه العبارة الدُّعائية: «ربنا، يا ستي، يرزقه ببنت الحلال!»
وبنت الحلال المنشودة هي المشكلة؛ فهي في نظر الست أم أبجد يجب أن تكون (بنت بلد) تعجن وتخبز وتطبخ وتغسل. وفي يوم الخميس من كل أسبوع تحضر فلّاحةٌ وسيمةٌ لتوريد ما يلزم المنزل من البيض والبط والدجاج فتأخذها الست أم أبجد على ناحية وتُسرُّ في أذنها الكلمات الآتية: «تعرفيش يا أختي، واحدة عندكم بنت حلال؟»
فتجيبها الفلاحة الوسيمة: «علشان مين، يا ستي؟ أظن علشان بسلامته المحروس أبجد أفندي، أعرف يا ستي واحدة ست بيت وبنت ناس بس إيدك عالفلوس، دا الحلو يستاهل، يا أم أبجد!»
أما «بنت الحلال» في نظر أبجد أفندي فيجب أولًا أن تكون:
وهو لهذا لا يحفظ من الشعر إلا قول أبي نواس:
وقول مسلم بن الوليد:
وقول ابن التعاويذي:
ويتلخص ذوق أبجد أفندي في الهيام بالمرأة العَجْزاء، وهو يحفظ من اللغة ألفاظًا خاصة في وصف المرأة السمينة كالرَّضراضة والخَدلَّجة والمَرمارة والعَضَنَّكة والرَّبْلة والعُطبول والمؤكَّمة والوركاء، وقد يضيف إلى ذلك اللخفاء، ويحفظ كذلك كل ما يتصل بالعَجُز والوركين كالقَطَن والغُرابَين والحَجَبتين والمأكمتين والحُقّ والفائل والحارقة والخُربتين والصَّلَوين والحَرْقَفتَين والعَجْب والقُحْقُح والعُصْعُص والرانِفة والكرمة والزّرين والوابِلَتين والمحارَتَين؛ إلى آخر ما يعرف من الأسماء والأوصاف.
ومن عجيب أمره أنه لا يصدِّق أن للمرأة جمالًا في غير تلك المنطقة الخطِرة، فإذا حدثته عن صباحة الوجه، وأسالة الخد، ووضاءة البَشَرَة، وملاحة الأنف، ورشاقة القدِّ، وعذوبة الثغر، وحلاوة العينين، ولباقة الشمائل، وظرف اللسان؛ سَخِر منك وعدَّك طفلًا لا تفهم أسرار الجمال.
وهو في هذه النقطة من المجدِّدين في اللغة، فهو يقول: امرأة رَدْفَاء وكَفْلَاء: إذا كانت وثيرة الردف والكفَل، قياسًا على قولهم في عظيمة العَجُز: عجزاء، وهو من أهل البصر بهذه الشؤون!
وبعد فقد اجتمعنا في سنتريس مساء الخميس الماضي، وتحدثنا عن زواج أبجد أفندي، وكان المجلس مُكوَّنًا من ستة أشخاص فيهم صديقنا الفرنسي الجليل، وثلاث سيدات فرنسيات، إحداهن عذراء غَضيضة الطرف، غَنَّاء الصوت، رَزَانٌ قَدُوع، وعَطيفٌ شَمُوع.