الأدب بين الفطرة والذكاء
كثير من الناس يعجبون بآثار الكُتّاب والشعراء من غير أن يبحثوا عن مصدر ذلك الإعجاب، وفي رأيي أن المطالعة لا تُثمِر إلا إن تبيَّن للقارئ جيدًا ما هو السر في جمال ما يقرأ من النثر الجيد والشعر البليغ. وقد يكون السبب في اختلاف النقاد على الأثر الأدبي الواحد أنهم لا يتنبهون إلى تحديد الأصل الذي يبنون عليه حكمهم بقوة الأثر الذي يختلفون فيه أو ضعفه، ولو قد فعلوا لذهب كثير من أسباب الخلاف.
وقد نظرت في أصول الأدب فوجدتها تنتهي إلى أصلين: الفطرة والذكاء. فكل أثر أدبي يرجع إلى سلامة الفطرة التي أوحت به، أو قوة الذكاء التي ابتدعته. فعلى القارئ أن يتأمل أصول ما يقرأ ليعرف أهو معجبٌ بآثار الفطرة أم بآثار الذكاء. وعلى من يختلفون في تقدير الآثار الأدبية أن يرجعوا إلى هذا الأصل لعلهم يتفقون.
ولنوضح هذه النظرية بعض التوضيح: قد نقرأ خطبة واحدة لعلي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — مثلًا، فنرى فيها فقرات أوحتها الفطرة وفقرات أرسلها الذكاء.
وأي امرئ منكم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من أحد من إخوانه فشلًا فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه كما يذُبُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله.
وكأني أنظر إليكم تكِشُّون كشيش الضِّباب لا تأخذون حقًّا ولا تمنعون ضيمًا.
فهذه صورة بشعة لمواقف الجبناء، لم توحها الفطرة، وإنما ساقها الذكاء.
وأوضحُ من هذا أن الشاعر قد يقدِّم لنا حجة داحضة ولكننا نقبلها معجبين؛ لأنه استعان مواهبه العقلية في بعض الصور الشعرية: كقول البحتري يعتذر إلى صديق قصَّر في توديعه يوم الرحيل:
فهذا شعر مقبول، ولكنه لا يمس القلوب؛ لأننا نرى فيه حيلة المُحتال، لا وجد المشوق. وأقربُ منه إلى القلب قول ابن زيدون وهو يتوجع على أن لم يُطل خطوات التوديع:
ومن المعروف أن المبالغات من صنع الذكاء، ولكنها تبدو أحيانًا وفيها نفحة من الفطرة، كقول ابن الأحنف:
ففي هذا البيت مبالغة، ولكن صدق الشاعر في لوعته يكاد يقنعنا بأنه من صنع الوجدان، وفي هذا المعنى نفسه يقول الحسين بن مطير الأسديّ:
فإنه لا يمتري أحد في أن هذا البيت مصنوع، ولكنه لا يزال رائعًا بفضل ما فيه من أثر الذكاء، وقد سقط المتنبي حين قال:
لأنه بالغَ في استغلال قدرة الذكاء، ومثله قول بعض المتأخرين:
فهذا شعر قتلته الصنعة؛ لأن الشاعر لم يهتم إلا بإعلان ذكائه وتفوقه في تصيد الخيال.
وأين هذا من قول مدرك الشيباني وقد أوحت إليه الفطرة هذه الأبيات في محاورة من عاده وهو عليل:
وقد يفهم القارئ مما أسلفنا أننا نُؤْثر وحي الفطرة على صنع الذكاء، ونحن نرى أن الحال يختلف باختلاف الموضوعات؛ فهناك شؤون يجب أن يُترَك الرأي فيها للفطرة الخالصة، وشؤون يترك الإفصاح عنها لعمل العقل. والأديب المتفوق هو الذي يفرق بين مقتضيات الأحوال؛ فلا يخلط بين مقام الفطرة ومقام الذكاء.
عيشي أضيقُ من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سوادًا من الحبر، وحظي أحقر من شِق القلم، وبدني أضعف من قصبة، وطعامي أمرُّ من العفص، وسوء الحال ألزم لي من الصمغ.
فهذه قطعة تدل فقط على أن منشئها من الأذكياء، ولكنها — لبعدها عن الفطرة — لا تعطف عليه القلوب.
وإلى القارئ مثالًا من صنع الذكاء الخالص، وقد وقع أحسن موقع؛ لأن كاتبه لم يرد إلا إتحاف القارئ بطائفة من الأخيلة جمع بعضها إلى بعض في نظام جميل.
فقال الجوهري: أحسن الكلام نظامًا ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ووصل جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عُجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه ففاح نسم نشقه، وسطعت رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بِكِير الفكر، وسبكْته بمشاعل النظر، وخلَّصته من خبث الإِطناب، فبرز بروز الإبريز في معنًى وجيز.
وقال الصيرفيّ: خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، وجلَته عين الروية، ووزن بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيِّفُه، ولا سماع يبهرجه.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لَطُفتْ رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه، فتنزهت في زرابيّ محاسنه عيونُ الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فكذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بمِيل البلاغة، واجلُ رمص الغفلة بمرود اليقظة.
وهذه فقرات اقتطفناها من ذلك الحديث، وهو مثبت برمته في الجزء الأول من زهر الآداب، فليَرجع إليه القارئ إن شاء. والمهم هو بيان أن هذا نوع من المران العقلي يتقبله القارئ بارتياح، ولا يغض منه أن كان من أثر الذكاء وحده؛ لأن آثار الذكاء هي كذلك مما تشتهي النفوس.
•••
ولكن هل يمكن الفصلُ بين عمل الفطرة وعمل الذكاء في الآثار الأدبية؟
قد يقع ذلك في بعض الأحيان، وإلا فأي فطرة أوحت إلى أبي العلاء وصف الليل والنجوم حين قال:
ومن هنا كان ابن المعتز أقرب منه إلى القلوب حين قال:
لأن ابن المعتز تأثَّر بما رأى فكان خياله وليد الفطرة والذكاء، وعملُ الذكاء قد يَرِقُّ ويلطُف حين تسري إليه نفحات الإحساس.
وقد عُنِيَ الدكتور طه حسين غير مرة بوصف البواخر والشواطئ والوديان الفرنسية، فكان يتكلم عن كل أولئك بعبارات بارعة تُعجز المُبصرين، ولكنه لم يقنع القارئ إلا بأنه من الأذكياء، وكانت أجمل عبارة قرأتها له في هذه الأوصاف قوله: «وكانت السفينة تلتمس مرساها».
وجمال هذه الجملة يرجع إلى ما فيها من دقة التعبير عن إحساسه بحركات السفينة وهي تواجه الميناء.
وقد زرته مرة في باريس وهو يسكن في فندق يطل على ميدان الأوبسرڨتوار، فسألته كيف تخير المقام في هذه الضوضاء، فأجاب: «أنا أحب ضوضاء باريس!»
وعبارة «أنا أحب ضوضاء باريس» أثر من آثار الفطرة الخالصة، وهذه العبارة لا يدرك القارئ مدلولها تمام الإِدراك إلا إن ذكَّرناه بقول الشريف الرضي:
وقد جلس بشار بن برد مرة في مجلس فيه نساء، فقال لصاحب له: إن فلانة جميلة المضحَك، فقال له صاحبه: كيف عرفت ذلك ولم تر أسنانها؟ فأجاب: إنها تكثر من الضحك، وفي ذلك دليل على أن ثناياها عِذاب!
وهذه لمحة من لمحات الذكاء عند بشار، وقد عاب الناس عليه قوله:
لأنه كان جسيم البدن لا يعرف ما النحول، ولم يتنبهوا إلى وحي الفطرة في قوله:
لأن حاجته إلى عصًا يتوكأ عليها هي التي ساقت إليه هذا الخيال.
•••
بقي أن نذكر أن هناك آثارًا أدبية نحار في ردها إلى الأصل الذي نبعت منه؛ لأنها أسمى من أن تخضع لتحليل النقاد، فمن ذا الذي يستطيع أن يعيِّن سر الحسن في قول ابن المعتز:
فإن البيت الأخير أُعجوبة من أعاجيب الخيال … ومن ذا الذي يستطيع الإفصاح عن أسرار الحسن في قول أبي نواس:
وبعد فهذه إشارات عن أثر الفطرة والذكاء في الأعمال الأدبية، نقدمها للقارئ الذي يهمه أن يتلمس أسباب الإجادة فيما يقرأ من الرسائل والخطب والقصائد، وهي فيما نظن بعض الصواب، إن لم تكن كل الصواب.