الأخلاق عند الضعفاء
أظهرُ ما يميِّز الرجال فهمُهم للأخلاق.
والأخلاق نوعان: أخلاق إيجابية وأخلاق سلبية، ولهذين النوعين حقائقُ نافعة وظاهرٌ بَرَّاق، والحقائق من حظوظ الأقوياء، أما المظاهر فهي من حظوظ الضعفاء.
وإني لأذكر أنه حين اشتجر الخلاف بيننا وبين الطليان على جغبوب في وزارة زيور باشا كنت في منزل أحد المشاهير من المصريين الذين يفهمون كثيرًا ولكنهم لا يتذوقون ما يفهمون، وكان لذلك الرجل الشهير مكتبة غنية بمراجع التاريخ وتقويم البلدان، فمدَّ يده فأخرج أطلسًا كبيرًا، ثم أخرج منه خريطة أفريقيا الشمالية، وبعد أن تأمل طويلًا قال: «انظر، انظر، هذه جغبوب، ألا ترى أنها أقرب جغرافيًّا إلى مستعمرة الطليان؟»
وبذلك علل الرجل نفسه والتمس المعذرة لوزارته الضعيفة. ولو أنه تأمل قليلًا لعرف أن الطليان هم الأجانب هناك، ولكنه رجل ضعيف يتمسك «بالعدل» في الحدود التي يفهمها الضعفاء. فالخريطة واحدة للجميع، وهي عادلة للجميع، ولكن «العدل» يدعو القويّ إلى السيطرة والفتح، على حين ينظر الضعيف إلى العدل فيُؤْثر الاستكانة والخشوع.
ومنذ أيام لقيت أحد أساتذة كلية العلوم فسألته عما نُشر في البلاغ عن التعليم بالعربية لا الإنجليزية، راجيًا أن يكون الرجل استفاد من ملاحظات الجمهور الغاضب من صبغ كلية العلوم بالصبغة الإنجليزية. ولكن الرجل انفعل وقال: «أنتم يا أخي تنظرون إلى المسألة من جهة قومية!»
وكان ذلك هو الجواب المقنع الذي اطمأنَّ إليه المصري المتجلنز الذي علمه أساتذته أن العلم شيء والقومية شيء آخر، وهي — والله — فلسفةٌ تدل على نظر بعيد!
والذي يهمني هنا أن أَدُلَّ القارئ على أن المسألة لا تزال مسألة أخلاق، ولا يزال الخُلُق الطيب موضع نزاع بين الأقوياء والضعفاء؛ فالأقوياء يرون أن الكرامة هي في المحافظة على القومية، أما الضعفاء فيتفلسفون ويرون أن المحافظة على القومية لون من ألوان الهمجية لا يليق على الأقل بالقرن العشرين!
ولن أنسى ما حييت أني حضرت مؤتمر اللغات الحية في باريس، وكان المؤتمرون قد اتفقوا على أن يتكلموا الفرنسية في محاوراتهم إكرامًا لمقر المؤتمر وهو السوربون، فلما جاء دور مندوب ألمانيا قام فتكلم بالألمانية فصاح الحاضرون محتجين، فأجاب في هدوء: «سأترجم لكم الخطبة بعد أن أؤديها بلغتي».
ومع هذا العناد لم يتهمه أحد بالهمجية، ولكنهم عذروه حين آثر المحافظة على القومية.
فيا فلاسفة العصر في وادي النيل … تذكَّروا أن «القومية» هي كذلك فلسفة مشرِّفة يحرص عليها أمثال أولئك الجرمان الذين يريدون أن تكون «ألمانيا فوق الجميع».
وبعدُ فلكم أن تتفلسفوا كيف تشاءون. ولكن احذروا أن تؤثروا فلسفة الضعفاء.