آراء أبجد أفندي في الأدب الحديث
مَن أبجد أفندي؟
يسألني كثير من الأصدقاء عن شخصية أبجد أفندي، ولا سيما مندوب البلاغ في عالم الإنس
والجن
الأستاذ الغمراوي الذي أخذ يدور في ملاعب القاهرة ومشاربها علَّهُ يتعرف إلى صديقنا المفضال
أبجد أفندي، أو أبجد بك، كما يكتب على بطاقته الغرّاء، وما كنت والله أنتظر أن تَخفى
شخصية
أبجد أفندي على أحد، وهو أعرفُ المعارف في هذا البلد الأمين، ولكن هكذا اتفق أن يسأل
الناس
عنه كأنه أنكرُ النكرات، لذلك أراني مضطرًا لتقديمه إلى القراء حتى لا يضايقني المتشوِّفُون
بالسؤال عنه كلما أصبحت أو أمسيت. وصديقنا أبجد أفندي هو نجل صاحب السعادة سَعْفَص باشا
الذي انتقل إلى جوار ربه منذ ثلاثة عشر عامًا، وكان أحد رؤساء الأقلام بوزارة المالية،
وابن
أخي حضرة صاحب العزة كلَمُنْ بك أحد الأعضاء الصامتين في مجلس الشيوخ، وشقيق الأستاذ
هَوَّز
أفندي أبرع الكاتبين في تاريخ مصر القديم، أما والدته الكريمة فهي الست حُطِّي صاحبة
الفضل
في حرب ما جدَّ من البدع في عالم النسائيات، وله أختان إحداهما الأنسة قَرَشَتْ المدرسة
بإحدى مدارس المعلمات، أما أخته الثانية فهي فتاة لا تزال في أحضان الخَفَر والحياء،
ونرى
من الأدب طيّ اسمها عن القراء.
وأبجد أفندي من المفتونين بنسبهم وحَسَبِهم، وهو يزعم أنه من سلالة ضَظَغُنْ، وضَظَغُنْ
هذا الذي يزعم الانتساب إليه هو أحد ملوك مَدْين الذين وضعوا الكتابة العربية على عدد
حروف
أسمائهم، ثم هلكوا يوم الظُّلة فقالت إحدى بناتهم:
كَلَمُنْ هدَّم ركني
هُلكهُ وسط المحلَّةْ
سيد القوم أتاه الـ
ـحتف نارًا وسط ظُلّةْ
جُعِلتْ نارًا عليهم
دارهم كالمُضْمَحِلَّةْ
وأنا أشك كثيرًا في نسبة أبجد أفندي، والدكتور طه حسين يشك أيضًا فيما نسب إلى آبائه
المزعومين من الشعر. وغرورُ أبجد أفندي هو الذي حمل الدكتور طه على التطرف في شرح نظرية
الشعر المنحول. فليذكر القراء هذا، فسيحتاج إليه تاريخ النقد الأدبي يومًا من
الأيام!
وبعد، فقد لقيني أبجد أفندي في عصر الثلاثاء الماضي، وكنت عائدًا من عملي، وكان هو
في
مشرب بودجا يستنشق نسمات الأصيل، ويتوسم وجوه السارحات في شارع عماد الدين، فناداني فنزلت
من المترو على عجل لأروِّح عن النفس بمغازلة ما تصبو إليه شفتاه من قهوة أبي نواس – ثم
تساقينا أكواب الحديث:
أبجد أفندي
:
هل تذكر يا سيد مبارك مقالك الذي نشرته في العام الماضي عند صدور البلاغ؟
الكاتب
:
ذكِّرني فقد نسيت.
أبجد أفندي
:
المقال الذي تشيطنتَ فيه وبسطتَ لسانك في لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه
حسين.
الكاتب
:
ما أذكر أني أسأت إلى أحد من هؤلاء الفضلاء.
أبجد أفندي
:
هل نسيتَ المقال الذي عنوانه «قلمي بين الصدأ والصقال؟»
الكاتب
:
أذكره.
أبجد أفندي
:
هل تذكر أنك قلت فيه: «وسيكتوي ناسٌ بهذا القلم، ولكنهم سيذكرون صاحبه بخير حين
يَكشف عنهم آصار الخمول؟»
الكاتب
:
أذكر ذلك.
أبجد أفندي
:
إذن فما هذه اليد الرفيقة التي تُربِّت بها على جنب الدكتور زكي أبو شادي؟
الكاتب
:
ماذا تريد أن تقول — لا أصلحك الله —؟!
أبجد أفندي
:
أريد تلك الجملة الناعمة التي مسحت بها على وجه هذا الفتى حين قلت: «إن هناك
ناسًا يؤمنون بأن هذا الفاضل يستطيع أن يكون كل شيء، ولكنه لن يكون شاعرًا مُجيدًا
إلا إذا تغير فهمه للشعر، وعرف أن الشعر فنٌّ وروح، ولا يكفي أن يكون كلامًا
محبوسًا في قوافٍ وأوزان».
الكاتب
:
أنت تعرف أن الرفق واجب في محاورة الأصدقاء.
أبجد أفندي
:
الأصدقاء؟ وطه حسين لم يكن صديقك حين زيفت آراءه في نشأة النثر الفني؟
الكاتب
:
لقد زيفت آراءه في أدب ولطف، ولم تكن لي مندوحة من ذلك.
أبجد أفندي
:
أعرف اللطف الذي عاملت به أستاذك، فقد صوَّبت إليه سهمًا مسمومًا، ولكنك بلؤمك
رِشْتَهُ بخيوط من حرير!
الكاتب
:
عَدِّ عن هذا يا أبجد أفندي، ولا تستغلَّ كرمي في مخاطبتك، قلت إن الدكتور أبو
شادي صديق، والرفق واجب في محاورة الأصدقاء.
أبجد أفندي
:
فَلَقْتُمُونَا يا ناس! تأبَون إلا أن تحملوا راية النقد الأدبي، ثم نحسن بكم
الظن، ونكِل إليكم حمل تلك الأمانة الغالية، فتأخذون في المداورة والمجاملة
والمداراة، كأن النقد الأدبي لا يخرج عن رعاية المعارف والأصحاب والأصدقاء
والأُلفاء والعُشَراء والسُّجَراء والندمان والخِلَّان، أَمَا لهذه السفسطة من
حد؟
الكاتب
:
الدكتور أبو شادي رجلٌ طيب، وهو فوق طيبته صديق.
أبجد أفندي
:
رجل طيب؟ وما دخلُ الطيبة في الموضوع؟ أتحسبنا نريده إمامًا في مسجد، أو راعيًا
في كنيسة؟ الطيبة شيء، والشعر شيء آخر، أترانا نقدِّم الشَّبراوي على أبي نواس،
بحجة أن الشبراوي كان من البررة المتقين، وأن أبا نواس من الماجنين
الفاجرين؟
الكاتب
:
وهو — فضلًا عن طيبته وصدق مودته — رجلٌ نافع.
أبجد أفندي
:
ما معنى ذلك؟
الكاتب
:
إنه أول أديب اشتغل بتربية النحل والحمام والأرانب والدجاج.
أبجد أفندي
:
دع الأدب لحظة فسنعود إليه، واسمح لي أن أصارحك بأن ناسًا من المعروفين بوزارة
الزراعة ينكرون معرفته بالنحل.
الكاتب
:
لا تصدقهم فإنهم حاقدون، فقد رأيته بنفسي في معرض رابطة النحل يمسك الخَلِيَّة
بيده ويُرشد الزائرين إلى طرائق اليَعْسوب، ويقول إن اليعسوب أنثى، ويستدل بذلك على
أن المرأة تَصلح للملك!
أبجد أفندي
:
هكذا هكذا وإلا فلا لا
ليس كل الرجال تُدعَى رجالا
ألم أقل لك إن الأدباء مجانين؟ وما دخلُ العلم في هذه الخرافات الأدبية؟
الكاتب
:
ليست خرافات، فإن ما تصلح له الأنثى كان — ولا يزال — مشكلة معقَّدة أشد التعقيد،
وقد اختلف المتقدمون في صلاحية المرأة للنبوة، وقال قائلهم:
فإن صح أن اليعسوب أنثى كان ذلك دليلًا على أن الرجل ليس أفضل من المرأة في جميع
الأحوال.
أبجد أفندي
:
اعقلوا مرة، يا أدباء آخر الزمان! أنا أقول إنك تضيع وظيفة الناقد الأدبي بما
تحرص عليه من المجاملات كلما نقدت زميلًا أو صديقًا، وأنت تأبى إلا أن تدور بنا في
مجاهل من الفكاهة يضيق بها صدري في أكثر الأحيان!
الكاتب
:
أبو شادي شاعر، فهل تنكر ذلك؟
أبجد أفندي
:
شاعر؟ آمنت بالله! أنشدني إن شئت بعض شعره لننظر كيف يُجيد القَصِيد.
الكاتب
:
اسمع ترجمته لإحدى رباعيات حافظ الشيرازي:
حين أزرارُ ذلك الورد تنفضـ
ـضُ كؤوسًا ويحمل الخمر نرجِسْ
آهِ، ما أسعد العليم بفنٍّ
قِرمزيٍّ يحرِّز الرُّوح والنفسْ
يَمِّمِي والسلاف يا فتنتي النهـ
ـر فنُفني طيَّ الكؤوس الهمومْ
إن وقت الحياة أيامها العشـ
ـر كورد في البشر لا في الوجومْ
يا أُولي الحب في عناق الأيادي
حينما الوقت دائرٌ منسيَّا
أوقفوه متى تمثَّل دوري
لتَرَى ذكريات نيسان فيَّا
بين حسناءَ في ابتسام وعودٍ
توقظ الفجر ثم نجم تحللْ
وملاذٍّ وخمرةٍ رقصت لي
بدمي لستُ جودَ حاتم أسألْ
أبجد أفندي
:
أشعرٌ هذا؟
الكاتب
:
الحاضر!
أبجد أفندي
:
لا، يا عمّ، يفتح الله! ولِمَ اخترت هذه الأبيات؟ أخشى أن يكون لك من وراء هذا
غرضٌ دفين!
الكاتب
:
أصبت يا سيد أبجد! فقد اخترت هذه الأبياتن لأن لها قصة طريفة، نقدها في الأهرام
أديبٌ فاضل هو الشيخ أحمد الزين، فجاء الدكتور أبو شادي وانهال عليه سبًّا وشتمًا
في مجلة أبوللون، ورماه بقلة الفهم وسقم الذوق؛ لأنه لم يقرأ شيئًا من الأدب
الأوربي.
أبجد أفندي
:
وماذا صنع الزين بعد ذلك؟
الكاتب
:
اضطرب وخاف ولاذَ بالصمت؛ لأن كلمة (الأدب الأوربي) أفزعته، والمسكين لا يعرف
شيئًا عما وراء البحار من أدب وتاريخ، ويكفي أن يلوِّح له أبو شادي بكلمةٍ إفرنجية
ليطمئنَّ إلى أن القوم يعلمون ما لا يعلم، وأن الصمت خير من الكلام!
أبجد أفندي
:
ولم يتقدم أحد لإنصاف الزين؟
الكاتب
:
أنصفه بعضهم شفويًّا!
أبجد أفندي
:
من هو؟
الكاتب
:
هو الأستاذ الهراوي الذي يجلس على مصطبة الحلمية!
أبجد أفندي
:
إذن أنت غير راضٍ عن أبي شادي يا صاحبي؟
الكاتب
:
بالعكس أنا راضٍ عنه أتمَّ الرضا، ولا آخُذ عليه إلا فراره من الحق، فقد نقدته في
البلاغ نقدًا خفيفًا ورجوته أن يضع فهرسًا لمجلته، وأن يقتصد في نشر شعره فلا ينشر
ثلاث قصائد بكل عدد، وأن يسمّي المجلة «أبوللون» مطابقةً للنطق الأصيل، لا «أبوللو»
كما ينطق الإنجليز، وأن لا يسرف في العُجمة من غير موجب، فلما ظهر العدد الثاني
رأيته أهمل الفهرس عنادًا، ونشر فيه ست قصائد، وكنت أستكثر أن ينشر ثلاثًا، وزعم
أنه إن أضاف «نونًا» إلى «أبوللو» فقال: «أبوللون» فقد يعرِّض نفسه إلى غضب قلم
المطبوعات!
أما دفاعه عن كلمة «كلاسِّيك» فكان مضحكًا، وكان دليلًا على أنه لا يعرف من الأدب
الأوربي إلا القشور؛ فقد زعم أن «الكلاسيك» هو التقليدي، وأن «الرومانتيك» هو
الإبداعي، ومن الطريف أنه لم يبتكر الخطأ في كلمة «رومانتيك»، وإنما قلد في ذلك
الأستاذ الزيات الذي انفرد بالسبق إلى هذا الخطأ المبين. والترجمة الصحيحة لكلمة
«رومانتيك» هي «وجدانيٌّ»؛ لأن الرومانتيك يعتمد على إيثار العاطفة والخيال، في حين
أن الكلاسيك يعتمد على العقل. ولا أنكر أن كلاسيك ورومانتيك كلمتان لهما معانٍ
أخرى، فقد يكون الكلاسيك دالًّا على الطرائق المدرسية، ويكون الرومانتيك دالًّا على
ما يخالف مذاهب القدماء في أساليب البيان. ولكن المعنى الذي اخترته هو الذي يطابق
مدلول الكلمتين حين يراد بهما تعيين بعض المدارس الأدبية.
أبجد أفندي
:
ولماذا يورِّط أبو شادي نفسه في هذه المزالق؟
الكاتب
:
علم ذلك عندك، يا سيد أبجد!
أبجد أفندي
:
أيظن صاحبنا أن كل شيء في مصر جائز؟
الكاتب
:
أنا أنزِّهه عن ذلك!
أبجد أفندي
:
وأنا أرجح أنه يتحدث عن علمه الواسع بالآداب الأجنبية، كما يفعل بعض من تعرف
وأعرف، رغبةً في ستر الجهل بالآداب العربية.
الكاتب
:
نحمد الله على أن الآداب العربية أصبحت بمنجى من غرور الأدعياء.
أبجد أفندي
:
تعتقد ذلك؟
الكاتب
:
أعتقد على الأقل أن الأدعياء يترددون ألف مرة قبل أن يتحدثوا عن الآداب العربية؛
لأن في مصر قومًا يستطيعون أن يقولوا للمخطئ أخطأتَ، ولا كذلك الآداب الأجنبية التي
لا يعرف عنها الجمهور إلا القليل، وآية ذلك أننا نرى بعضهم يلوذ بأكناف الأدب
الروسي فيطيل الحديث عنه والتغني بروائعه، ثم لا يعرِّج على الأدب الفرنسي أو
الإنجليزي إلا قليلًا؛ لأن في مصر ناسًا مطلعين على أدب الإنجليز والفرنسيس.
أبجد أفندي
:
لا أحب أن يُذهلنا الاستطراد عن نقد ما ترجمه أبو شادي للشيرازي، فما رأيك في تلك
الترجمة؟ وما هو — على التعيين — وجه الخطأ في نظم تلك الرباعية؟
الكاتب
:
أبو شادي لا يعرف الفارسية فيما أظن، فهو إذن نقل عن الإنجليزية، فيكون الشيرازي
تغير مرتين بهذه الترجمة. ومن المحتمل أن تكون المعاني باقية ولكن الروح والأسلوب
ضاعا ضياعًا تامًّا، وللروح والأسلوب أعظم الأثر في رفع قواعد الشعر البليغ.
أبجد أفندي
:
أنا ألاحظ أن شعر أبي شادي ينقصه دائمًا الروح والأسلوب، فما رأيك؟
الكاتب
:
هو ذلك، ولكن بعض أصدقائه يغفر له هذا النقص.
أبجد أفندي
:
وكيف؟
الكاتب
:
يقولون إن له مذهبًا في الشعر يتلخص في أن جميع الكلمات بطبيعتها شعرية، فلا موجب
لإيثار كلمة؛ لأن في ذلك استبدادًا ينافي روح العصر الحديث، ومن رأيه فيما يقولون
إنه لا موجب أيضًا للحرص على الموسيقا الشعرية؛ لأن في ذلك خلطًا بين الفنون؛
فالشعر ينفرد بالنظم، والموسيقا تُقْصَر على الأنغام والألحان، والنثر يفوز بالخلاص
من جميع القيود!
أبجد أفندي
:
ولكنَّ هذا ينافي جميع التقاليد الأدبية.
الكاتب
:
الدكتور أبو شادي يعرف هذا جيدًا، ويعرف أنْ ليس لشعره وشعر أمثاله سوق، ولذلك
يعلل نفسه بالأمل في تغيير المقاييس الأدبية، كما صرح في مجلته الغراء!
أبجد أفندي
:
إذن نحن مقبلون على فوضى أدبية؟
الكاتب
:
يجوز!
أبجد أفندي
:
ولِمَ لا تتدخل الحكومة إذن فتقطع دابر هذا الاضطراب؟
الكاتب
:
إي والله، يا أبجد أفندي، هذا ما بقي من الميادين خاليًا من سلطان
الحكومة!
أبجد أفندي
:
اسمح لي أن أشرح رأيي، إن قلم المطبوعات يحظر على الصحف نشر ما يفسد الأخلاق،
فكيف يبيح نشر ما يفسد الأذواق؟
الكاتب
:
لأن الأمة لا تعيش بغير خُلُقٍ، ولكنها قد تعيش بدون ذوق!
أبجد أفندي
:
أعوذ بالله! اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمر!
الكاتب
:
إن هذا حقًّا من أشراط الساعة!
أبجد أفندي
:
ألا يضر ذيوع الشعر السخيف بسمعة الأمة المصرية ويقلقل زعامتها في الشرق؟
الكاتب
:
سمعةُ مصر أقوى وأمنع من أن تُزعزَع بذيوع كتاب ضعيف أو ديوان سخيف.