مناوشات
مذهب داروين
أراد أحد الكتاب أن يَسخَر ممن يدَّعون التفرد (بالمذهب العلمي) على غير بينة، فساقه ذلك إلى الكلام عن الإنسان وشَبَهه بالقرد، ثم قال: «وقد مَرَّ على مذهب داروين مئات السنين» إلخ.
وظاهر أن هذه زلة سيستطيل بها عليه خصومه الشياطين «سكان» قهوة الفن في شارع عماد الدين؛ لأنه لم يمر على داروين ومذهبه مئات السنين، فقد عاش مؤلف كتاب أصل الأنواع إلى سنة ١٨٨٢م.
فالمرجوُّ من صاحبنا أن «يأخذ باله» كلما عرض لأمثال هذه الشؤون!
على أن له مخرجًا من هذا المأزق، فلمذهب داروين أصول قديمة تنبه إليها العرب واليونان، والجاحظ يحدثنا بأن الشبه ظاهر بين القرد والإنسان، ويُرَى ذلك في ملامح القرد وتغميض عينيه وضحكه وحركته وحكايته وفي كفه وأصابعه في رفعها ووضعها، وكيف يتناول بها، وكيف يجهز اللقمة إلى فيه، وكيف يكسر الجوز ويستخرج ما فيه، وكيف يتقن كل ما أُخذ به وأعيد عليه.
ويقول أبو الحسن بن عبد العزيز: «نحن نجد القرد أكثر شبهًا بالإنسان من سائر الحيوان، ولذلك سماه القائلون بالتناسخ بالصورة المكشوفة. ويزعم أهل الشرع أنهم لم يجدوا في ضروب الحيوان أشبه منه بالإنسان تركيبًا وأعضاءً وجوارحَ، ولم يروا أقرب خِلقة وصورة وأدنى إليه شبهًا ومشاكلة من القرد، وأن مَن تقدَّم جالينوس من الأطباء لم يفصِّلوا قط إنسيًّا، ولم يشرِّحوا آدميًّا، وإنما عرفوا تلك الأمور الغامضة والسرائر الكامنة بما فصَّلوا من أجسام القرود وبعض من وُجد من القتلى على نُدرة في بعض معارك الملوك.»
إذن كان الأطباء منذ آلاف السنين يشرِّحون القرد ليعرفوا أعضاء الإنسان، وإذن كان صاحبنا متواضعًا جدًّا حين قرر أن مذهب داروين مرت عليه «مئات» السنين!
فكاهات
- (١)
يُحكى أن رجلًا قبيح الصورة قال لمنصور بن الحسين الحلاج: إن كنت صادقًا فيما تدَّعيه فامسخني قردًا،فقال الحلاج: أَمَا لو هممت بذلك لكان نصف العمل مفروغًا منه!
- (٢)
قال بعض الخلفاء لأحد ندمائه: عرفت أن في وجه بختيشوع قردية، فقال: الغلط من غيرك، يا أمير المؤمنين، بل في وجه القرد بختيشوعية!
- (٣)
يقال: إن أنصار داروين كلهم قباح الوجوه، وكان بعض أساتذتنا يؤكد أن اهتمام داروين بمذهب التطور مرجعه أن في وجه داروين شبهًا بالقرد، وكان يقول: نظرةٌ إلى صورة داروين في معجم لاروس تقنعك بذلك، وقد أغراني هذا بالتأمل في وجه صديق مصري مفتون بمذهب التطور؛ فلاحظت أن له شمائل تذكِّر بالمخلوق الذي قيل فيه: «القرد قبيح، ولكنه مليح».
زرت ذلك الصديق مرة في منزله بالفجَّالة فأطلعني على صورة له وضعها أحد الرسامين وقال في لهفة: «ما رأيك في هذه الصورة؟»
فقلت: في غاية الإتقان، ولكن ينقصها شيء!
فقال في وحشة: ما هو؟
فأجبت: «كان يجب أن تكون فوق شجرة!»
ولا مؤاخذة يا صديقي، فأنت تعلم أن الحديث ذو شجون.
كما قال شكسبير
كلما لقيت صديقي الأستاذ توفيق اليازجي سألته: كيف حالك؟ وهو يجيب دائمًا بما نصه: «بخير، إلا من الناس. كما قال شكسبير».
ويظهر أنه يرى هذا الجواب من بدائع شكسبير، فليعلم إذن أن هناك جوابًا أبرع منه سبق جواب شكسبير بقرون، ذلك أن يقول: «بخير، إلا من الأصدقاء».
وهذا جواب أصدق؛ لأننا لا نشكو كل الناس، وإنما نشكو مَن نعرف أو من نصادق من الناس، فقد كان أبو الحسن بن الفُرَات يقول: «جزى الله عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيرًا»، وكان يقول: «أحصيتُ ما أنا فيه من المكاره فما وجدت منه شيئًا لحقني إلا ممن أحسنت إليه».
وهذا صحيح، ولكن حدث عند فساد الزمان، وإلا فالأكثر من عدد الناس كان قديمًا على تصرف زمانهم عندما يعتقدونه من مودات إخوانهم. فلما فسدت الطباع وتسمَّح الناس في شروط موداتهم صار الإنسان سالمًا ممن لا يعرفه، لا يلحق به شره ولا يناله ضره، وإنما يلحق الآن الضرر من المعارف وممن يقع عليهم اسم الإخوان، وذلك أنهم يطالبون في المودة بما لا يفعلون مثله، فإن أسدى الإنسان إليهم إحسانًا عرف طعمه فهي العداوة القليلة، وإن حفظ الإنسان ما يصنعونه أبدًا حصل تحت الرق، وإن قارضهم الأفعال ثارت العداوة، وتواترت عليه المكاره. هذا إذا سلمت من أن يبدأك من تظنه صديقًا بالشر والتجني والمعاملة القبيحة بالتوهم والتظني من غير تثبت ولا استصلاح، فأما إذا كان ليس بينكما أكثر من المعرفة فالضرر منها بالثقة؛ لأن كل مكروه يلحقك إذا حصَّلته كان ممن يعرفك ويقصدك به على علم بك، فأما الضرر ممن لا تعرفه فبعيد جدًّا، ومَثَلهم مَثَل لصوص يقطعون عليك الطريق غرضهم أخذ المال منك أو غيرك؛ فإن أشد الضرر من اللصوص ما وقع عن تعيين وعلى معرفة بالإنسان. فمهما أمكن العاقل أن يُقِلّ من المعارف واجتلاب من يسمى أخًا في هذا الزمان فليفعل، وليعلم أنه أقلَّ من الأعداء، وكلما استكثر منهم فقد استكثر من الأعداء.
ولا جدال في أن هذه الفقرة أدل على معناها وأدق وأصرح من كلمة شكسبير، ورحم الله المتنبي؛ إذ قال:
فلسفة قديمة
كتب الأستاذ الشيخ محمد عبد المطلب مقالة مطولة عن سفور المرأة، ثم تلاقينا أمس فصارحني بأنه سيمضي فيما سماه (الغارة الشعواء) على أنصار السفور، فلنقدم إليه بعض الملاحظات ليتبين صدق قول الخنساء:
وهو يقول: «إن الحكماء — فلاسفة كانوا أو متصوفين — أجمعوا على أن الإنسان يتركب وجوده من إنسانين، هذا روحاني من السماء، والآخر أرضي عنصري من عالم الكون والفساد، والأول هو الروح التي أجمعوا على أنها من الجواهر المجردة العاقلة، وأن من السماء مهبطها ومنشأها وإلى السماء مصيرها».
فمن أين عرف الأستاذ أن هذه الأشياء مما أجمع عليه الحكماء من فلاسفة ومتصوفين؟
الروح جوهر مجرد عاقل؟
يا سلام! من الذي (أجمع) على هذا؟
تلك فلسفة قديمة، يا حضرة الأستاذ، وهي بعينها الفلسفة التي أخرت الأزهريين ووقفت بهم من نعيم الدنيا عند الكراث والفول، كما وقفت بأتباعها من اليونان عند الإتجار بالسردين والزيتون.
والأستاذ ينقل لنا أبيات ابن سينا في النفس، ثم يتعب في شرحها ليصح له أن يقول: «هذا بيان للناس واضح في أصل النفس».
آمنا وصدقنا، ولكن كيف نقبل من الأستاذ النتيجة الآتية: «إذا تكونت المادة العنصرية بشرًا سويًّا أُهبطت إليه من الملأ الأعلى تلك الروح»؟
وهذا معناه أن المادة العنصرية تتكون بشرًا سويًّا بدون روح، وهو غير معقول فضلًا عن أن يكون محل إجماع.
ويقول الأستاذ: «الروح قبل اتصالها بالبدن عُلوية كاملة ذات وجه واحد تواجه به ما حولها من عوامل الكمال لا صلة لها بغيره ولا نظر إلى سواه، ولها في هذا الطور نور نفسيٌّ كامل تتحرك به في تلك العوالم العُليا، وتدرك به ما لتلك العوالم من الصفات».
كلام لطيف جدًّا يريد الأستاذ أن يصل به إلى هذه النتيجة: «الروح جوهر نورانيٌّ لا يعرف البلاء والعناء إلا حين يتصل بالبدن؛ لأنه من عالم السفليات».
فحدثني بالله: لماذا ينحط «ذلك الجوهر المجرد العاقل» إلى عالم الأرض وكان نورًا يتألق في السماء؟
أتراه انجذب إلى العوالم الأرضية؟ إنه إذن يجد هواه في الأرض؛ لأن فيه عنصرًا أرضيًّا، وإلا فهو أضعف من الأرض؛ لأن الجاذب أقوى من المجذوب.
لقد كانت للقدماء مذاهب فلسفية تجد من معاصريهم بعض القبول، فلنروِ تلك الفلسفة بتحفظ شديد؛ لأن العقول الحديثة طغت على تلك الفلسفات، وللأستاذ عبد المطلب أن يتسامح فيما سماه «الإجماع» حتى لا يجد من يقول له: أخطأت في هذه المرة!
كلام غير مفهوم
ووصف الأستاذ أنصار السفور بأنهم مفتونون بتقليد أوربا، ومع ذلك لا يتمسكون من برودها إلا بخملها وأطراف أهدابها، إلى أن قال: «فمَثَلهم في ذلك مثل من يحاول ارتقاء أعلى درجة من سلم البيت من غير أن يتدرج إليها مما هو تحتها، وما أبعد هذا المرتقى على من يريد الارتقاء».
ولعل الأستاذ يراجع نفسه ليرى أن هذا التشبيه مقلوب!
إليكم ترد التهمة
يرى الأستاذ أن أنصار حريَّة المرأة لا يخدمون إلا شهواتهم، وفي هذا شيء من الحق؛ لأننا في حاجة طبيعية إلى المرأة، ونريد أن تكون بحق جنسًا لطيفًا مهذبًا يَفهمنا فهمًا أعلى وأشرف مما كانت تفهمنا به المرأة الجاهلة بأصول الحياة. ونريد بدعوتنا إلى حرية المرأة أن يكون لنا منها رفيق أنيس، وشريك ألوف يُذهب عنا وحشة الدنيا، ويشاطرنا ثقل ما نحمل من آصار التكاليف، وما نبرِّئ أنفسنا من حب المرأة؛ لأننا نكره الرياء والنفاق في سبيل الإصلاح، ونحرص مع هذا على أن تكون المرأة المستنيرة على جانب عظيم من شرف الأخلاق.