يوم بين المجانين
-
(١)
خطر لي مرةً أن أزور إحدى دُور المجانين، ثم انصرفت عن ذلك اكتفاءً بما أشاهد من المجانين المتعاقلين الذين يملأون الأندية والمعاهد العلمية، ويلقَوْن من التبجيل المزيف ما يعصف بما بقي في رؤوسهم من بقايا العقل والتمييز، ولكني ضقت ذرعًا بأولئك المتعاقلين الثقلاء، وصممت على الترويح عن النفس بمشاهدة المجانين الذين حقت عليهم كلمة الجنون، وأسلمتْهم المقادير إلى الرضا عن حالهم في غيابات المستشفيات، موقنًا بأن الادعاء الكاذب هو شر أنواع الجنون، وأن المصائب التي نلقاها في حياتنا ليست إلا محنًا يسوقها إلينا المجانين المتعاقلون الذين اصطلح الناس على وصفهم بالعقل والخبرة وصدق الظن واليقين. ويا ويل من ابتُلِي بمصاحبة ناس يتمتعون بشيء من السمعة العلمية أو العقلية أو الإدارية، فإنهم قد يبطشون به باسم العقل على حين لا يُغريهم بالظلم إلا مستور الجنون!
-
(٢)
في صباح الأحد الماضي بكرت لزيارة مستشفى الأمراض العقلية بالخانكا إجابةً لدعوة صديق مهذب يؤدي عمله هناك، فأشرفتُ على أرض واسعة مساحتها خمسمائة فدان، قد زُيِّنت سهولها الرملية بالشجر والنبات. وما كدت أتخطى عتبة الباب حتى رأيت جماعة من المجانين يعملون في رصف الطريق؛ فنظروا إليَّ في سخرية خفيفة ولسان حالهم يقول: هذا رسول المجانين المتعاقلين! ثم مضيت حتى وصلت إلى صديقي في مكتبه فسلمت عليه وعلى إخوانه، والتمسنا الإذن بزيارة المجانين من وكيل المستشفى الطبيب الفاضل الدكتور شفيق، ورجونا الدكتور العروسي أن يصحبنا في هذه الزيارة ليوضح بعض ما نحتاج إليه من أعراض الأمراض.
-
(٣)
ابتدأنا بزيارة المجانين الذين يغلب عليهم الهياج والاضطراب، وقد لاحظت أنهم وُضِعوا في مكان مسوَّر بأسوار عالية؛ حتى لا يتاح لهم تسلق الحيطان، وكنت ظننت أننا قد نحتاج إلى من يحمينا من عدوان أولئك المهتاجين، فلما دخلنا دهشتُ لما يسود في جوّهم من الهدوء والسكون، وعرفت أن لحسن التغذية والنظافة والنظام دخلًا في تهدئة الأعصاب.
-
(٤)
أخذ الدكتور العروسي يشرح أسباب الجنون، وكان من أهم ما قاله أن للتكوين الطبيعي دخلًا في ذلك، وأن هناك ناسًا يجنُّون؛ لأنهم لم يُخلقوا خلقة كاملة يرزقون بها تمام العقل، وأخذ ينادي المهتاجين واحدًا واحدًا ليدلني على مواطن النقص في أجسامهم، ثم وَجَّه نظري إلى مجنون تختلف أذناه في التكوين اختلافًا بَيِّنًا فنظرت إليه فوجدته شابًّا مسكينًا ألوفًا يحسن الحديث، فسألته: ما أتى بك هنا؟ فأجاب في اطمئنان: جئت لأخدم الحكومة!
-
(٥)
وفي هذا القسم — قسم المجانين المهتاجين — رأينا رجلًا حسن الوجه، طويل الشاربين، مفتول الجسم، يجلس في ناحية جلسة العاقل الرزين، فاقتربنا منه، ودارت بيننا وبينه المحاورة الآتية:
الدكتور العروسي : ألا تزال مصرًّا على دعواك؟المجنون : لا فائدة من الكلام معك، وقد صممت على أن لا أجيب إلا إذا سُئلت بصفة رسمية، فافهم ذلك وأعفني من اللجاج.الدكتور : إنك تدعي النبوة، ولكنك لم تُظهر أيّ معجزة، فكيف نُصدِّق دعواك؟المجنون : وماذا تريدون بعد ما قدمتُ من المعجزات؟ ألم يكف أن أحول الإنسان إلى حِصان؟الدكتور : ليس بصحيح أنك حولت إنسانًا إلى حصان؛ لأنا لم نر شيئًا من ذلك.المجنون : انظر في هذه الحجرة ففيها خمسة أفراس كانت قبل ذلك من الناس!الدكتور : لا أرى شيئًا!المجنون : انتظر حتى يمنحني الله معجزة إبراء العميان.الدكتور : هل تستطيع أن تحولني حِصانًا.المجنون : العفو! أنت تستحق أن تكون باشا!الدكتور : لو كنت نبيًّا حقًّا لاستطعتَ الخروج وحدك من هذا المكان!المجنون : وهل استطاع يوسف أن يخرج وحده من السجن؟الدكتور : وهل ترى أنك في منزلة يوسف الصِّدِّيق؟المجنون : أنا خير من يوسف؛ لأنه لم يهتم إلا بإصلاح مصر، أما أنا فأهتم بإصلاح العالم كله، وسترى كيف أحوِّل الصحاري إلى بساتين فيحاء.الدكتور : متى يكون ذلك؟المجنون : متى خلصت منكم.الدكتور : ومتى تخلص منا؟المجنون : حين يَقْدم الحواريون لصدع هذه الجدران!وهنا جذبني الدكتور العروسي من يدي فانصرفنا والرجل يقول: «مجانين والله، وسبحان من يعلم أينا العاقل وأينا المجنون!»
والمهم أن أقيد ما لاحظته من أن ذلك الرجل يعيش في طمأنينة تامة مبتعدًا عن بقية المجاذيب، وعلى سيماه الاقتناع التام بأنه نبيٌّ مغبون، وأن في مقدوره أن يمنع الحروب، ويقيم العدل بين المخلوقات بحيث تعيش الحُملان في أمن مع الذئاب، فليت عصبة الأمم تعلم شيئًا من أخبار هذا النبي السجين فتنتفع بأسراره في الإصلاح بين الشعوب!
-
(٦)
رؤية المجانين تُشعر الإنسان بصدق الحكمة التي تقول: «العقل السليم في الجسم السليم»، فأكثر المجانين تنقصهم سلامة الأجسام، وهيهات أن تصل المستشفيات إلى تعويض ما ضاع من قوُاهم في مختلف الظروف. ومن علامات الجنون فيمن رأينا من المرضى الهادئين قطع أوصال الحديث، فقد يبدأ المجنون فيتكلم في عقل واتزان، ثم ينتقل فجأة إلى موضوع غريب لا يمتُّ إلى الموضوع الأول بأية صلة، وأكثرهم يتحدث بعبارات مقتضبة عن الأشخاص البارزين في السياسة المحلية والدولية، وقليل منهم من يتكلم في قوة؛ إذ كان يغلب عليهم الضعف والخمود.
-
(٧)
دفعني التطلع إلى السؤال عن عبد اللطيف عبد الخالق الذي اعتدى على المرحوم سعد باشا، وكنت أقدِّر أنه يمتاز عن بقية المرضى بشيء من حضور الذهن، ولكن الدكتور العروسي أكد لي أن المسكين فعل ما فعل في غير وعي، ولما ذهبنا إليه لم نُثِر اهتمامه إلا بصعوبة، فلما حادثناه وجدت عينيه خاليتين خلوًّا تامًّا من أمارات اليقظة، وليس فيه إلا جسم عريض الألواح، وسأله الدكتور لماذا اعتدى على سعد باشا، فأجاب بأنه لم يَعْتَد على أحد، وأن ذلك محض اختلاق! وهنا أجاب بعض المجاذيب بأن ذلك وقع منه بتحريض المرحوم الشيخ عبد العزيز شاويش، فسألت عن هذا المجنون الذي أسرع بالجواب فقيل: إنه مخلوق جيء به إلى المستشفى بعد أن أُخِذ متلبسًا بجريمة.
-
(٨)
وهناك مجنون يلقب بالباشا، وهو شخصية جَذَّابة جدًّا، يتكلم الفرنسية في طَلاقة وعُذوبة، ويكتب العربية في إجادة وبيان، وقد عرف الدكتور العروسي رغبتي في محادثته، فمضى بنا إلى مكتب خاص لأتمكن من أخذ ما أشاء من البيانات؛ لأن كبرياء «الباشا» أبى عليه محادثتي إلا إن كنت موفدًا في مهمة رسمية، فأفهمته أنني جئت خاصة لبحث الشكايات التي قدمها إلى المراجع العليا؛ فتهلل وجهه وأخذ ينظم ما لديه من المكاتبات والمذكرات. والرجل واضح الحديث، خفيف الروح، ليس فيه من أمارات الجنون إلا توهمه أن الحكومة لا تحجزه مع المجانين إلا طمعًا في ماله، وحسدًا للمستقبل الذي كان ينتظره في تولي أحد الأقاليم المصرية أو السيطرة على بلاد العرب، وزعمه أنه إن مات في المستشفى فستغرم الحكومة لورثته نصف مليون من الجنيهات!
قضيت مع «الباشا» — شفاه الله — نحو ساعة عرض عليَّ فيها مذكرات كثيرة وخطابات مطولة بعث بها إلى رئيس الوزراء، وقد لاحظتُ أن أطباء المستشفى كانوا في جميع المرات يكتبون له إفادات منظمة عن المطالب التي يقدمها إليهم ليطمئن إلى أنه يشكو إلى سميع مجيب. وتلك طريقة حكيمة في تهدئة مرضى العقول.
طلبت من «الباشا» أن يقدم إليَّ إحدى مذكراته، فطلب مني أن أقدم له اسمي، فأعطيته بطاقة الزيارة، فلما وجد اسم «زكي مبارك» صاح: لقد خدعتني! فأنا أعرف أن زكي مبارك ليس موظفًا في الحقانية، ومد يده فأخرج نسخة من السياسة الأسبوعية وفيها مقال يشتمني فيه أحد أدباء فلسطين، فابتسمت وقلت: ومع ذلك أحب أن أظفر بإحدى مذكراتك، فدفع إليَّ مذكرة كتبت في ورقة حمراء كانت لفافة تبغ، وفيها الكلمات الآتية:ملحوظة في يوم السبت ٦ مايو سنة ١٩٣٢، وهو يوم زيارة زوج كريمتي مع شقيقي.
أما بعد؛ فيجب أن تكون كل مصلحة مستقلة برأيها في عملها، متخصصة بقانونها الذي وُضع لها، خاضعة للنظام العام الذي يقضي عليها بالاحتفاظ على النفس وعلى الشرف وعلى الحقوق التي وكل بها الاحتفاظ عليها، وعلى النفس وعلى الشرف من قبل ذلك النظام.
وكل تلك الزورات التي لا تتعقب بخروج المَزُورين مع زائريهم ضربات مخيفة قد تقضي على النفس القضاء الأخير، كل واحدة منها بمثابة ضربة قوية من مقمع من حديد في يد زبون موكل يقمع كل رأس تنتصب وتتحفز للخروج من عذابها – لا يشعر بهذا الطبيب في المستشفى ولا المدير ولا وكيله ولا معاونه على تعذيب النفوس وإرهاقها أخيرًا وفي النهاية، ولا الأجنبي عن المستشفى إلا إذا لحق بهذا الفريق الذي كتب له أن يبقى فيه سنوات عديدة أو مدة حياته إلا إذا اتبع الطريقة المتبعة من البهائم الراتعة، وهي طريقة دفع الفداء أو قبول شروط مخصوصة لذلك ستبدو فيما آت. كتب على ذلك الفريق البقاء في هذا المكان الذي تعتبره الميزانية العمومية سنويًّا «مستشفى»، ويعتبره مديروه ووكلاؤه وأطباؤه ومعاونوه وبقية خَدَمَته سجنًا مؤقتًا للبعض ومؤبدًا للبعض الآخر، أو منفى مؤقتًا للبعض ومنفى مؤبدًا للبعض الآخر … إلخ.
وفي هذا كفاية. وقد أحزنتني حال هذا الرجل؛ لأنه مهذب حقًّا لولا ما أصيب به من عارض الجنون. على أن جنونه لا يُعرف في جميع شمائله، وإنما يضطرب كلامه من حين إلى حين، ثم يعود إلى ربط الحديث.
وعند الانصراف رجاني أن أقابل شاهين باشا وأن أحدثه عن قصته، وأن أخبره أنه لولا طمع الحكومة في ماله لما مكث بهذا المستشفى ساعة من زمان!
-
(٩)
قلت: إن الأرض التي بُني بها مستشفى الخانكا تبلغ خمسمائة فدان، فلأذكر الآن أن هذا المستشفى أنشئ سنة ١٩١٥، وأن التقاليد جرت بأن يُزرع جزء كبير من تلك الأرض، وأن يكون الزارعون هم المرضى أنفسهم ليدخل في أذهانهم أنهم أصحاء وأنهم ناس في الوجود.
وتلك سياسة حكيمة في شفاء العقول. وقد حضرت وقت الغداء فوجدت كل مريض يُعطى ثلاثة أطباق ورغيفًا، وهو غذاء كافٍ جدًّا، ومع هذا فهناك نحو عشرة من المرضى يأكلون على حسابهم في جناح خاص وعليهم أمارات النعيم، والغنى ينفع أصحابه في كل مكان، حتى ليمكن الحكم بأن الغني المجنون «أعقل» من الحكيم الفقير، فاتقوا الله في أنفسكم وحافظوا على أموالكم أيها القراء!
-
(١٠)
بعد أن عدت من الخانكا إلى القاهرة حدثت صديقًا أديبًا بتلك الزيارة، فلما عرف من حديثي أن أكثر المرضى هادئون، سأل: وما الذي يمنع من إطلاقهم؟ والآن أجيبه بأن بقاء المرضى بالمستشفى أنفع لهم؛ لأن ذلك الهدوء قد يكون مصدره انتفاء أسباب الاضطراب، فإن عادوا إلى الجماعات التي نشأوا بها كان من المؤكد أن تعاودهم نزوات وأحقاد قد تردُّهم إلى أسوأ الأحوال.
يضاف إلى ذلك أن في حَجْز مرضَى العقول مانعًا من التزاوج والتوالد، وقد أثبتت الأبحاث الطبية أن الوراثة لها دخل عظيم في تقدير أسباب الجنون؛ فقلما يوجد مجنون إلا وله شبيه في أهله الأقربين أو الأبعدين، حتى ليلاحظ على زائري هؤلاء المرضى قرب أكثرهم من حالة الانجذاب.
-
(١١)
وليست الوراثة وحدها هي سبب الخَبَل، فليعلم الناس أن الأمراض الخبيثة شديدة الخطر من هذه الناحية، وأكثر المجانين ذهبت عقولهم ضحية تلك الأمراض، ورب إشارة أبلغ من عبارة!
-
(١٢)
أشرت إلى أن بعض أسباب الجنون يرجع إلى نقص الخلقة فلأضف إلى ذلك أني رأيت في المستشفى شخصًا فيه سمات ظاهرة من الحيوانية، من ذلك أنه يأكل عَبَل الجزْوَرِين ويستطيبه بشهية لا تقلُّ عن شهية الحيوان، وهو يأكل أطراف الأشجار، وقد حدثني الدكتور العروسي أن ذلك الشخص يجترُّ عَبَل الشجر بعد مضغه ببضع ساعات كما يفعل الحيوان. وقد سألناه بضعة أسئلة فلم يحسن النطق فضلًا عن الجواب، وهو في تكوين وجهه يمثل القرد أكثر مما يمثل الإنسان، بعكس صديقنا فلان الذي يمثل الإنسان أكثر مما يمثل القرد!
-
(١٣)
من أغرب ما علمته أن الموظفين بمستشفيات الأمراض العقلية يقل وقوعهم في مخالب الخبل والجنون، وسبب ذلك فيما قيل يرجع إلى احترازهم من شمائل المجانين، والتطبُّع سبيل إلى الطبع، والمنتظر بعد نشر هذه الكلمة أن يطلب كثير من الموظفين نقلهم في مثل درجاتهم إلى الخانكا أو العباسية!
-
(١٤)
وبعدُ فقد كنت أظن أن ساكني البيمارستان يختلفون اختلافًا بينًا عن الجماهير المعروفة بسلامة العقول، ولكني رأيت الفرق ضئيلًا جدًّا بين العقل والجنون، ورأيت الإنسان في جملته متقارب الإدراك، وصح عندي أن العبقرية كما قيل لون من الجنون؛ إذ كانت فنًّا من الشذوذ، والفرق بين جنون العبقرية وجنون الخبل أن العبقريين يغلب عليهم النشاط وأن المخبولين يغلب عليهم الهمود.
وكل الناس مجنونٌ ولكنْعلى قدر الهوى اختلف الجنونُواللهَ أسأل أن يهب أولئك المساكين الذين أحزنني مرآهم ما يحتاجون إليه من عافية البدن والعقل، وأن يهبنا — عز شأنه — معرفة أنفسنا حتى لا تهوي بنا الغفلة والغرور إلى حضيض الجنون.