مؤتمر اللغات الحية في باريس
خمسة أيام من أيام العلم والتعليم شهدناها في السوربون، حيث انعقد المؤتمر الدولي لمدرسي اللغات الحية، ذلك المؤتمر الذي اشتركت فيه أربع وعشرون أمة من الأمم التي تفهم الواجب في تربية الأبناء.
خمسة أيام رأينا فيها حماسة المدرسين وغَيرتهم، فتذكرنا المدرس المصري الذي يقضي حياته في التضجر والتبرم دون أن يفكر في إصلاح جديد. وللمدرس المصري عذرُهُ فهو يعيش في بيئات مسمومة لا يَسلَم من شرها إلا الجامدون وأهل الخمول.
ولكن أهكذا تكون الحياة؟ وكيف يحيا من يشعر في كل لحظة بأنه مأجور، وتحمله معاملات الحكومة ومعاملات الجمهور على الاقتناع بأن حظه من أسوأ الحظوظ؟
ليس عجيبًا أن يجمُد المدرسون المصريون، ولكن العجيب أن نرى في الأمة ناسًا يُقبلون على وظائف التعليم مع ما يرونه من هوان المعلمين في بلد يزنُ الرجال بما (يقبضون) لا بما يحسنون!
غير أنه في مثل هذه الظروف النكداء تُرجَى شهامة الفتيان من أبناء وادي النيل. فمن العار أن يستمر المدرسون المصريون على اختيار السلامة والسكون، فعهدي بهم يؤدون أعمالهم بغير قلب، ثم يعودون إلى منازلهم ليهجعوا ساعة أو ساعتين، ثم يخرجون إلى القهوات ليقص بعضهم على بعض ما وقع من غفلة الناظر، وسقطات التلاميذ!
من العار أن يظل المدرسون الأقوياء أقلية في المدارس المصرية.
ولكن أي أقلية؟ أقلية مضطهدة تُرمَى من الزملاء بالخرق والتهور وحب الظهور، وعلى هذا النمط تجري الحياة في مدارسنا الخاوية، ومن النادر أن تقرأ لمدرس كتابًا جيدًا، أو بحثًا طريفًا، أو مقالًا شائقًا. وكيف والمسكين قد دَرَجَ على الخمود والهمود، ولم تبق له أية شهوة للظهور بمظهر المفكر أو الباحث أو الخطيب؟
هذه كلمة حق، وسيقرؤها إخواننا الأفاضل وهم يتسامرون في القهوات، وسيتعاهدون على تجديد أنفسهم وإحيائها، ولكنهم سيذكروننا بشرٍّ حين يعودون إلى مدارسهم فيجدون الناظر هو هو بعينه كتلة من الثلج تعجز عن إذابتها شمس الصيف، ويرون التلاميذ هم أنفسهم لم يتغيروا ولم يتبدَّلوا، ولم يُنفَخ فيهم روح جديد؛ لأنهم لم يجدوا حتى اليوم من يحببِّ إليهم الجو المدرسي، ويبعث فيهم الشوق إلى الدرس والتحصيل.
إني لأعرف ما أنتم عليه أيها المدرسون المصريون؛ لأني زميل لكم قاسى بعض ما قاسيتم، وعانى بعض ما عانيتم، فلا تَضِقْ صدوركم لعنف هذه الكلمات، ولكن اذكروا أنكم مسئولون أمام الوطن والضمير والتاريخ عن هذه الحال، فعليكم أن تشحذوا عزائمكم وأن تواجهوا المهنة بقلوب صبَّارة، ونفوس راضية، وأن تزحزحوا تلك الصخرة من طريقكم، صخرة الموت التي وضعها من يرتاعون كلما ظهر في أفق التعليم نجمٌ جديد.
بيدكم لا بيد رؤسائكم أن تصبح المدارس جنات عالية نزع الله ما في صدور أهلها من الحقد، وصيرهم إخوانًا أصفياء، بيدكم أنتم أن تعود المدارس أحب إلى الطلبة من منازلهم وملاعبهم وملاهيهم، وإذ ذاك يعود الجو الصالح جو البر والمنفعة والإخاء.
لقد اختبرت هذه المهنة وشربت ما فيها من علقم وصاب، فقد اشتغلت بتدريس اللغة الفرنسية عشرة أعوام، وعرفت جو التدريس بالمدارس المصرية والأجنبية من ابتدائية وثانوية وعالية، ودرست أخلاق الطلبة من جميع الأجناس، وانتهيت بعد الخبرة الطويلة إلى النتيجة الآتية: «أشقى الناس جميعًا في مهنة التدريس هو المدرس الكسلان».
فالكسل يا حضرات الزملاء هو عدوكم المبين، هو الذي يُطمع فيكم الطلبة، ويبسط فيكم ألسنة المتقوِّلين وهو الذي يشعركم بأن مهنتكم ثقيلة، وبأن حياتكم ضائعة، وبأن وجودكم عدم من الأعدام، وهو الذي يُشمت فيكم أعداءكم حين تظهر نتائج الامتحانات العمومية ويُكشف تهاونكم للناظرين.
والإخلاص وحده هو صديق المدرس، هو الذي يبث فيه الإقدام والمثابرة، ويمثل الطلبة لعينيه في صورة الأطفال المحبوبين، ويجعل له في جدران المدرسة وأساسها وأدواتها وكل كائن فيها بابًا من أبواب المتعة الروحية التي شقي في البحث عنها طلاب السعادة من لدن آدم إلى اليوم.
والمدرس المخلص هو أجدر الناس بالظفر في ميدان التعليم، وهو العُدَّة والذخيرة للوطن العزيز.
•••
تذكرت المدرس المصري وأنا أشهد أعمال مدرسي اللغات الحية وهم يتساجلون الآراء في السوربون. وقد حضروا من أقطار مختلفة ومتباعدة، وبيد كل منهم تقرير عن ملاحظاته واختباراته التعليمية. وقد استمرت تلك المعارك الفكرية خمسة أيام كانت من أَنْفَس ما شهدنا في باريس. ومما يُذكر للتنويه بحرص بعض الأساتذة على قوميتهم أن المؤتمر قرر أن تكون الخطب والمناقشات باللغة الفرنسية، ولمن يجهل الفرنسية أن يخطب بالإنجليزية أو الألمانية أو بلغته القومية، وقد قبل المؤتمرون ذلك ما عدا المدرسين الألمان، فقد أصرَّ خطباؤهم على أن يتكلموا بالألمانية ثم يلخصوا ما قالوه بالفرنسية، وبذلك فرضوا أن تكون الألمانية قريعة للفرنسية في قلب السوربون. وفي ذلك عبرة لمن ينسون قوميتهم ولغتهم حتى في بلادهم، وفي ذلك فناؤهم لو كانوا يعقلون.
كان أهم ما شغل المؤتمر مسألة شرح النصوص الأدبية. فما شرح النصوص هذا؟
إن شرح النصوص يا حضرات القراء هو أهم ركن في تدريس اللغات. وهو فن مجهول في مصر، وبخاصة عند مدرسي اللغة العربية. وقد يكون أخطر مقتل في كلية الآداب بالجامعة المصرية هو إغفالها لشرح النصوص، واعتمادها على طريقة المحاضرات.
ومن الغريب أن كلمة (محاضرة) لها في مصر معنى رنان تُرهف له الأسماع والقلوب. والمدرس في الجامعة عندنا لا يرضيه أن يقال إنه ألقى (درسًا)؛ لأن كلمة (درس) كلمة صغيرة في بعض الأذهان، فمن الواجب أن تكون أعمال التدريس كلها محاضرات، وبذلك تُقْلب كلية الآداب إلى سوق عكاظ جديد! والطلبة يستمعون في صمت مُبهَم كأن على رؤوسهم الطير، أو لا أدري ماذا؛ لأنهم يستمعون محاضرة والمحاضرة تتطلب خشوعًا دونه خشوع الصلاة.
فإن رأيتم طلبة كلية الآداب يجهلون أسرار اللغة العربية فاذكروا أن الأساتذة هم الجناة؛ لأنهم يُشغلون بالطنطنة الفارغة التي تتمثل في مدرس يتكلم وطلبة يسمعون، ولو أنهم أعدوا العُدَّة لشرح النصوص على الطريقة الأوربية أو على طريقة الشيخ سيد المرصفي الذي لم يعرف في دنياه غير حي سيدنا الحسين لأمكن أن يكون للطلبة ذوق مهذب في فهم أصول الآداب.
والمعروف اليوم أن الأساتذة الفرنسيين هم أعرف الناس بشرح النصوص، وهم يتفاضلون في ذلك كما يتفاضل غيرهم في الطريقة العقيمة طريقة المحاضرات، وقد قال لي أحد أساتذة السوربون مرة: يكفي فرنسا مجدًا وعظمة أن مدرسيها يمتازون من بين الناس بإجادة شرح النصوص، فسألته: وما هي قيمة هذه الطريقة؟ فأجاب: قيمتها ترجع إلى التحديد.
التحديد؟ يا عجبًا! وما قيمة هذه الكلمة؟
وللقراء أن يعرفوا بعد ذلك، إن أهَمَّتهم المقارنة، أن وزارة المعارف المصرية تسلك في تدريس الأدب بالمدارس الثانوية طريقة تذكِّر بالعقم المتبع في كلية الآداب، فهم يفرضون على الطلبة أن يستظهروا كتابًا في تاريخ الأدب من أقدم العصور إلى اليوم الحاضر، وهذا الكتاب كان اسمه أولًا «الوسيط» واسمه اليوم «المجمل»، ومن العجيب أن الدكتور طه حسين من الذين اشتركوا في هذه الجريمة الشنعاء.
أقول: جريمة شنعاء، وأنا أعرف جيدًا أن الدكتور طه حسين يقرأ رسائلي حرفًا حرفًا، وأعرف أنه سيغضب، ولكني موقن أنه مقتنع بأن ما أقوله حق.
وعذر الدكتور طه أنه لم يدرِّس يومًا في مدرسة ثانوية، ولكن ما عذر الشيخ السكندري والشيخ الجارم في الموافقة على مواجهة الطلبة بما لا يفهمون من تاريخ الآداب؟
لقد اشتغلت زمنًا بالتدريس في المدارس الثانوية، وعرفت استعداد طلبة الكفاءة وطلبة البكالوريا، وأستطيع بعد التجربة أن أقول: إن الذين قرروا منهج تدريس الأدب بالمدارس الثانوية يخدعون الناس؛ لأن الطالب في التعليم الثانوي لا يسمو ذهنه إلى فهم تطور العصور الأدبية، وإنما يحتاج إلى تذوق الأدب، وهذا لا يجيء إلا عن طريق شرح النصوص.
وقد حادثت الدكتور طه عن كتاب «المجمل» الذي وضعتْه بمساعدته لجنةٌ من وزارة المعارف، وقلت له: إنه كتاب غير صالح؛ لأنه يحادث الطلبة فيما لا يدركون، فقال: لقد يسَّرْناه كل التيسير، ومع هذا فأين هو في مادته من كتاب دوميك في اللغة الفرنسية؟
وهنا قلت للدكتور: إن كتاب دوميك في الفرنسية أوضح من كتاب المجمل في العربية، مع أن الفرق بين الشباب الفرنسي والشباب المصري ملموس؛ لأن الشبان الفرنسيين من طفولتهم يغشون المسارح، وتاريخ الأدب الفرنسي في الأغلب يرجع إلى النوع المسرحي، فالمؤلف الذي يؤرخ الأدب يذكِّر الشبان بما شهدوا بأعينهم منذ كانوا أطفالًا. أما الأدب العربي فيرجع في جملته إلى الخطب والرسائل والقصائد، فمن الواجب أن يتعرف الشبان إلى هذه الأنواع قبل أن يدرسوا تاريخها في كتاب.
وجملة القول أن أعضاء المؤتمر خصوا مسألة شرح النصوص بجانب عظيم من مناقشاتهم وخطبهم، وكان أهم ما قيل فيها خطبة لأحد الأساتذة الألمان، تُلخص في أن المهم ليس في شرح الألفاظ وتحديد المعاني فقط، وإنما ترجع أهمية شرح النصوص إلى قدرة المدرس وبراعته في حمل الطلبة على تذوق أسرار الألفاظ والحروف متصلة بأغراض الخطباء والشعراء والكُتّاب، ويمكن المدرس وهو يشرح النص الأدبي أن يبيِّن لتلامذته كيف تكون هندسة التراكيب من الوجهة النحوية.
هذا كلام يُقال في باريس وفي القرن العشرين، فمن يُبلغ عبد القاهر الجرجاني في قبره أن أناسًا يقولون بمثل ما كان يقول في شباب الزمان؟ أم من يبلغ هؤلاء المؤتمرين أن مؤلفًا عربيًّا سبقهم بهذه الآراء منذ أكثر من تسعة قرون؟
•••
وجاءت بعد ذلك مسألة الفنوغراف (الحاكي) وأهميته في دراسة اللغات، وقد انقسم المؤتمر إلى فريقين: فريق يرى أن للحاكي المكان الأول في تعويد الطلبة على صحة النطق والتثبت من مخارج الحروف، وأكبر المتحمسين لهذا الرأي الأستاذ ستالينج مدرس اللغة الفرنسية بالسويد،وقد طَبع نشرة بَيَّن فيها طريقته، ووزعها على الحاضرين، ومن رأيه أنه لا يكفي أن يكون في كل مدرسة حاكٍ واحد، بل يجب أن يكون لكل تلميذ حاكٍ في بيته مزوّد بأكبر عدد ممكن من الإسطوانات، وقد ضحك الحاضرون لهذا الفرض.
والفريق المعارض يرى أن أهمية الحاكي ثانوية؛ لأنه ميت؛ إذ كان الطلبة لا يستمعون إليه بشوق أكثر من عشر مرات. والأهمية الحقيقية تنحصر في نشاط المدرس وحلاوة إلقائه، وتذوقه معاني ما يُلقي على التلاميذ.
وقد أُخذت الأصوات، فوافق أكثر الحاضرين على أهمية الفنوغراف، وقرروا أن المعلم مسئول عن بعث الروح في مختلف الإسطوانات؛ لأنه لا يَجمل بالطبع أن يترك الحاكي يصيح بدون أن يثير في نفوس الطلبة روح التشوق إلى متابعة الإلقاء.
وأذكر مع الأسف أن مدير الليسيه فرانسيه بالقاهرة وزع على المدرسين في العام الفائت منشورًا يلفتهم فيه إلى الفنوغرافات التي أعدها لمعونة الأساتذة، وطلب منهم أن يقدموا إليه بيانًا بالإسطوانات الصالحة، فوجد مدرسو اللغة الفرنسية والإنجليزية بغيتهم، أما أنا فظللت أبحث عن إسطوانة عربية واحدة تصلح لتعليم الإلقاء فلم أجد؛ لأن الإسطوانات العربية أكثرها باللغة العامية وفي موضوعات تافهة لا تصلح إلا لتسلية الفارغين، وما كان منها باللغة الفصيحة فأكثره في موضوعات غرامية وهي لا تصلح للدرس؛ لأن ذلك لو وقع لأصبحت حجرات الدراسة ميدانًا للهذر والإسفاف.
فهل لنا أن نقترح على وزارة المعارف المصرية أن تملأ نحو خمسين إسطوانة من متخيَّر الخطب والقصائد؟ إنه ليوجد بين مدرسي اللغة العربية من يحسنون الإلقاء، وفي معهد التمثيل كذلك شبان مثقفون يستطيعون أداء هذا الواجب، وفي تنفيذ مثل هذا الاقتراح توحيد لكيفية الأداء في الأقطار العربية.
إن وزارة المعارف المصرية تتبع خطوات الأوربيين في ميادين كثيرة، فلنتبعهم أيضًا في هذا الميدان. ولعلها تجيب هذا الاقتراح، ولو ترضيةً لمدرس مصري يسوءُه أن يتخلف مواطنوه في حومة النضال.
وقد تكلم المؤتمرون كذلك عن المذياع وأهميته في ربط الطلبة بأهم المراكز الفنية التي تذيع أشهر الخطب والمداولات والمحاضرات، وقد يصعب أن نقترح على وزارة المعارف أن تهيئ للطلبة نصيبًا من ذلك، فلنكتف بالملاحظات السالفة؛ لأن تحقيقها سهل المنال، إن صحت العزائم القلوب.