أصدقاء الجامعة المصرية
تمهيد
في باريس جمعية كبيرة تُسمى «أصدقاء السوربون» أشار إليها أحد محرري البلاغ منذ يومين، وهي جمعية عظيمة تُخلص للعلم كل الإخلاص، ولها مآثر عديدة أظهرُها الدراساتُ المنظمة التي تقيمها في فصل الصيف والخريف باسم «الحضارة الفرنسية»، وهي دراسات تشمل جميع فروع الثقافة العقلية من أدب وفن وفلسفة وتاريخ، دراسات جدية يؤديها أقطاب جامعة باريس، ويُجْزَون عليها بمكافآت مالية تقدمها إليهم تلك الجمعية، والطلبة الذين يُواظِبُون على تلك الدروس يُؤدون امتحانات وينالون ألقابًا تشهد بتفوقهم فيما درسوا من الآداب والفنون.
وقد رأيت أن أكون من السابقين إلى التفكير في إنشاء جمعية من هذا الطراز باسم «أصدقاء الجامعة المصرية»، فوصلت بعد الجهد إلى اختطاط الأساس، والله بالتوفيق كفيل.
رأي الدكتور طه حسين
وكان أول من فكرت في الاستفادة من معاونته الأستاذ الدكتور طه حسين؛ لأن التقاليد تفرض ذلك؛ إذ كان من أقدم طلبة الجامعة المصرية، وكان فيما أذكر أول أستاذ من بين الطلبة القدماء، وأصدقاء الجامعات يُخْتارون عادةً من بين قدماء الطلبة، وهم يسمَّون في الأغلب عادة بهذا الاسم الشريف.
عرضت المشروع على الدكتور طه؛ فابتسم ابتسامة الاستخفاف وقال: «ماذا تريد يا زكي؟ أتحسبنا نستطيع أن نعمل عملًا جدِّيًّا في هذه الأيام، إن السياسة شغلت الناس عن كل شيء، فانتظر حتى تنكشف هذه الغمة، ثم عُدْ إليَّ واقترح ما تشاء، أما الآن فأنا من المتشائمين، ومع ذلك فما الذي يُغريني بمطاوعتك؟! لقد أرادت الأمة أن تنشئ الجامعة بصفة جدية فلم تفلح، وأرادت الحكومة أن تنشئ الجامعة بصفة جدية فلم تفلح، وأردنا نحن أن نعمل بصفة جِدية فلم نفلح، فماذا تريد اليوم؟ وما الذي جدَّ حتى نعود إلى الشؤون الجامعية من جديد؟؟»
ولكني استطعتُ بعد إلحاح أن أقنعه بأنها محاولة قد تنفع، فقَبِلَ، وعاد من المتفائلين …
رأي الدكتور أحمد ضيف
وعرضت المشروع على الدكتور أحمد ضيف فرفض كل الرفض، وقال: «لقد نفضتُ يدي من الجامعة المصرية، وعدتُ لا أعرف غير دروسي في دار العلوم، وحسبي ما لقيت في الجامعة من عناء، أنا الآن لا أفكر إلا في تلاميذي وأطفالي، وفيما عدا ذلك يكفيني صفحات أقرؤها من الأغاني أو مؤلفات أناطول فرانس».
وكنت شديد الرغبة في معاونة الدكتور ضيف؛ فألححت عليه أشد الإلحاح؛ فانفجر الرجل وقال: «لا أريد، لا أريد، أنا والله أشتهي أن ينساني الناس، وإني لعاتبٌ عليك أمرَّ العتب، فإنك تُجري اسمي من حين إلى حين في جريدة البلاغ، فإن كنت يا صديقي ممن يذكرون قديم العهد، ويرعَوْن حرمة الوداد، فاطوِ اسمي من ذاكرتك أو امحُه مرةً واحدةً، ولا تُزعجني بإِثارة اسمي في جريدة أو مجلة، فقد صممت على العُزلة كلَّ التصميم، وفي طلاب الشهرة غَنَاءٌ لك عني، فابحث عنهم لتكوين ما تشاء من الجمعيات … أنا أشترك في جمعية جديدة؟؟ هذا والله ما لا يكون!»
رأي الدكتور العناني
وكان من سوء الحظ أن خرجت فتوجهت على الفور لمقابلة الدكتور علي العناني، وكان يعاني ثورة نفسية، فلم أكد أفاتحه حتى اضطرم وقال: «إن هذه الجمعية بطبيعةِ ما تؤلَّف من أجله سيكون من أعضائها فلان وفلان وكلاهما «ديماجوج» وأنا رجل وقفت حياتي على حرب الديماجوجية، فكيف تنتظر أن نتفق؟ إن كان ولا بد فسنستعمل البوكس!»
وكانت مباغتة مزعجة اضطرتني إلى الخروج قبل تناول القهوة … وما كان يغيب عني أن الدكتور العناني سيرفض، ولكني أردت أن أبرئ ذمتي، فإنه من أقدم من عُنِيت بهم الجامعة المصرية؛ فأنفقَت عليه في ألمانيا بضع سنين وعينته بعد عودته أستاذًا للعبرية والفلسفة الإسلامية.
رأي الدكتور منصور فهمي
ثم ذهبت إلى الرجل الحكيم الدكتور منصور فهمي فقابلني بعطف ورفق، وسألني عن حالي، كعادته حين يتلطف بتلامذته وأصدقائه … وابتدأت فقلت: يا سيدي الدكتور، أنا أفكر في إنشاء جمعية باسم «أصدقاء الجامعة المصرية»، وأبادر فأخبرك أن الدكتور طه كان أول من فاتحته.
فابتسم الدكتور منصور وقال: وهل تظن يا زكي أن اشتراك الدكتور طه في هذه الجمعية يحملني على التردد، لقد ذهبت في مجاملة الدكتور طه إلى أبعد حدود المجاملة، وواسيته يوم كانت تجب المواساة، ولم أُلْقِ بالًا للاعتبارات الرسمية، فَثِقْ كل الثقة بأن قلبي معكم، ولكن لا تسرفوا في الأماني، وابدأوا متواضعين لتُكتَب لعملكم الحياة، فإني أرى الناس في مصر يكثرون من القول، فتضيع الثقة في حياتهم العملية.
ثم سكت لحظة وقال: هل دعوتم الشيخ مصطفى عبد الرازق؟ وهل فكرتم في أخينا ضيف وأخينا العناني؟ والشيخ أحمد أمين لا تنسوه؛ فإنه رجل مفضال.
رأي الأستاذ مصطفى عبد الرازق
وعرضت المشروع على الرجل المهذّب الشيخ مصطفى عبد الرازق فقال: والله فكرة طيبة!
وكان بالمجلس الأستاذ علي عبد الرازق، فقال: أنا أذكر تمامًا المحاضرات التي تنظمها جماعة أصدقاء السوربون، وكنت أحب أن أواظب عليها، ولكنها مع الأسف كانت تبدأ في وقت مبكر فكان يضيع مني الدرس الأول.
فقلت: إن الدرس الأول يبتدئ في التاسعة صباحًا.
فأجاب: والتاسعة صباحًا في باريس شيء ثقيل!
وأردت أن أظهر بمظهر الباريسي المفتون فقلت: هذا صحيح!
رأي الأستاذ أحمد أمين
واتفق أن صادفت الأستاذ أحمد أمين في المترو، حيث نلتقي من حين إلى حين، فعرضت عليه المشروع فرحب به وقال: إن الفكرة جميلة، وهي تمكننا من نشر الثقافة العالية خارج المدينة الجامعية، ويحسن أن تكون مجلة «الرسالة» لسان تلك الجمعية …
فابتسمت وقلت: انتظر، إن الله مع الصابرين!
في بيت لطفي السيد بك
لم أر من الذوق أن أستشير أستاذنا لطفي بك في موضوع سيكون بطبيعة تكوينه تحت رعايته، فحادثته تليفونيًّا، وأخبرته أن جماعة من أصدقاء الجامعة المصرية سيتشرفون بزيارته؛ فتفضل وحدد الساعة الخامسة بعد ظهر الاثنين الماضي بمنزله العامر بمصر الجديدة.
جلسة التعارف
وجلسة التعارف من المصطلحات الحديثة، وإلا فقد تعارفنا من قبل، وتساقينا كؤوس الود والعَتْب، وجمعت بين قلوبنا ألوف من الذكريات فيها الشهد والصاب، وقد كاد قلبي يَثِبُ حين صافحت الأستاذ لطفي بك، الرجل العالم الفيلسوف الذي أعزني في مطلع حياتي الأدبية إعزازًا لن أنساه … وما هي إلا لحظات حتى رُفع بيننا التكليف فصار الأستاذ لطفي بك يخاطبني بعبارة «يا سي زكي»، والدكتور طه يخاطبني بعبارة «يا سيدنا الشيخ»! فإن لطفي بك لا يقول «يا دكتور زكي» إلا إذا كان عاتبًا أو غضبان، والدكتور طه لا يقول: «يا دكتور زكي» إلا إذا أحرجته، أو كنا بمشهد من الناس، وأنا عنده فيما عدا ذلك «سيدنا الشيخ»، وهي علامة مودة حين يطيب بيننا الحديث، والدكتور طه محدِّث بارع ظريف.
أفتدرون كيف كانت عاقبة ذلك؟ هاج الصحفيون في فلسطين وسورية ولبنان، وقال الشبان هناك بإحراق كتب طه حسين، والسخط على طه حسين، وتوعدوا المصريين جميعًا بإحراق مؤلفاتهم إن قالوا بالشعوبية، وهل قلت بالشعوبية يا ناس؟ وهؤلاء الذين يغضبون أقبح الغضب لكلمة صغيرة تقع في مقالة يومية هم الذين يدعوننا إلى تكوين وحدة سياسية، فكيف بالله نتفق مع ناس لا يعرفون ضبط النفس ولا أدب الخطاب؟