صور طريفة لأحاديث الناس
أَجْرَتْ وزارة المواصلات طائفة من السيارات بين القاهرة والباجور، فإذا زرت ميدان
الخازندار صباحًا وجدت أفواجًا من الناس ينتظرون السيارات ليذهبوا إلى شطنوف أو النعناعية
أو سنتريس.
وللنظرة الأولى يفهم المسافر أن تلك السيارات ليس فيها إلا درجة واحدة، وقد سمعنا
أن في
بعض السيارات درجتين أولى وثانية، ولكن لم يتفق لنا أن نشهد غير السيارات التي تحشر الركاب
حشرًا ديموقراطيًّا يسوِّي بين الغني والفقير، والرفيع والوضيع، وفي تلك السيارات مسحة
خفيفة جدًّا من النظافة، ويغلب أن تخلو نوافذها من الزجاج: ليتمكن المسافرون من استنشاق
الغبار اللطيف الذي يثور من جانبي الطريق، وهي حكمة ظاهرة من وزارة المواصلات أو من مصلحة
السكة الحديد: فقد فطنتْ إلى قول المرحوم حافظ إبراهيم:
أيشتكي الفقرَ غادينا ورائحُنا
ونحن نمشي على أرض من الذهبِ
فإنه إن عَزَّ علينا أن نملأ جيوبنا من السبائك التي تخرجها تلك الأرض الذهبية فلا
أقل من
أن نكحل عيوننا ونمسح وجوهنا بغبارها التِّبْرِيِّ النفيس!
وليس من الضروري أن ننتظر التِّبْر المسبوك ما دمنا نملك التبر المسحوق!
والترب والتبر كلمتان متقاربتان لفظًا ومعنًى، وليس فيهما إلا القلب المكاني الذي
شرحه
الصرفيون، والذي نجد شواهده في لغة العامة من المصريين حين يقولون مثلًا «الجواز» وهم
يريدون الزواج!
في تلك السيارات المفتوحة النوافذ والأبواب فتحًا أبديًّا وفوق مقاعدها الخشبية يجلس
المسافرون وقد ارتفع بينهم التكليف: فهذا أفندي أصلح من هندامه وكوى طربوشه ولمَّع حذاءه
ليحلو في عين عَيُّوشة بنت خالته في الباجور، وذاك شيخ كوَّر عمامته ولبس قفطانه الجديد
ليصلي بأهل بلده وقد أخذ زينته عند كل مسجد كما يوصي القرآن المجيد، وذلك فلاح متقاعد
رأى
إخوتُه أن يكون رب الدار بعد وفاة أبيه، فلزم المصطبة وأخذ يفد إلى القاهرة يومًا بعد
يوم
لتتم له أُبَّهة الأعيان، وهذه سيدة متأنقة تريد أن تزور أقاربها في الريف ومعها سَفَط
فيه
من حلوى القاهرة ما يدهش له الريفيون، وتلك عجوز حَيْزَبُون تعود إلى بلدها بعد أن قضت
يومين في القاهرة لزيارة ابنها (الفالح) المستخدَم بالديوان!
يجلس المسافرون وقد شُغل أحدهم بمحادثة جاره، أو بقراءة صحف الصباح، أو بالتطلع إلى
المزارع الخضراء، ويظلون كذلك حتى يصلوا إلى ما يقصدون، ولكن يوم الأربعاء (٣ أغسطس سنة
١٩٣٢) كان يومًا مشهودًا بإحدى تلك السيارات: فقد حَمِيَ وطيس الجدال بين الركاب، وظلوا
في
صَخَب ولَجَب ساعةً ونصف ساعة، وكان كاتب هذه السطور من المشتركين في الحديث.
وإلى القارئ بعض الشخصيات:
- الشخصية الأولى: شخصية التذكريّ (موزع التذاكر: الكمساري)، وهذا التذكريّ من المنوفية
وأهله فلاحون، ومن عادته أن يجلس على كرسي صغير بجانب الباب ويأخذ في
محادثة الركاب، وأحاديثه لا تخرج عن الفلاحة وأحوالها؛ لأن أباه — فيما
حدثني — من كبار الفلاحين، وأبوه هو الذي اخترع عَزْق الذُّرة مرتين،
والفدان في مزارعهم ينتج عشرين قنطارًا فيما قال، وهو يحادثني كلما رآني؛
لأنه يرى في شخصي فلاحًا قديمًا طال عهده بصحبة الفأس والمحراث، ومن وصاياه
أن النَّجِيل لا تُستأصل جذوره إلا إن غزاه المحراث في بَؤُونة، وقد
استكثرت ذلك؛ لأن المحراث فيما كنت أعرف لا يشقُّ الأرض إلا بعد أن يغمرها
الماء بأيام، وهو يرى أن تحرث الأرض المنجلة بعد حصد القمح، فلما راجعته
غضب وقال: أنت يا أفندي لا تعرف! ومن الجائز أن تكون الأرض تطورت تبعًا لما
جد في العالم من مختلف التغيرات، وأنا تركت الفِلاحة منذ عشرين عامًا فلا
يبعد أن يكون صاحبنا على حق، وأن تكون الأرض عادت فلانت بحيث تُحرث عقب
الحصاد!
- والشخصية الثانية: شخصية القاضي الشرعي (بلام التعريف)، وهو من قضاة القاهرة، وأهله من
المنوفية، وقد صاحَبَنا في الطريق، وهو رجل ضخم الهامة قويُّ الجسم يدخن
السجائر الفاخرة ويرى من حقه أن يسيطر بآرائه على الركاب أجمعين، وقد جلس
في الكرسي الأول وقال حين احتدت المناقشة: أرجو أن لا نقرأ شيئًا عن هذه
المنافرات في جريدة «البلاغ»، فسأله أحد الركاب: وكيف تخشى ذلك؟ فأجاب: ألا
ترون هذا الرجل الجالس هناك؟ إنه زكي مبارك الذي لا ينسى شيئًا مما يسمع،
ويستطيع تدوين كل ما يصل إلى أذنيه من شجون الحديث. فالتفتُّ فرأيت رجلًا
يعرفني ولا أعرفه: ولم أر من الذوق أن أسأله عن اسمه بعد أن عرَّفني إلى
الركاب وكأنه صديق حميم، ومن غرائب هذا القاضي أنه كان يمد يده في عنف
متطاولًا على سيدة كانت تقارعه وترميه بحجج أصلب من حججه حتى خشينا أن
نُضْطَرّ إلى مهاجمته وردِّه إلى أدب الخطاب.
- والشخصية الثالثة: شخصية المهندس، وهو رجل لا يعرفنا ولا نعرفه، ويظهر أنه لا يعرف المنوفية
قبل هذه المرة؛ فقد كان يسألنا عما نمرُّ به من البلاد سؤال من لا يعرف من
تقويمها شيئًا، وفي طباعه هدوء، وفي رأسه عقل، وفي أدبه رفقٌ ولين.
- والشخصية الرابعة: شخصية المرأة الجديدة: وهي سيدة سافرة، جميلة الوجه، حلوة التقاسيم، عذبة
الحديث، وإلى جانبها طفلة صافية الأديم تنظر إلينا وإلى الوادي الأخضر
بعيني الظبي الأَلُوف، وعلى وجه تلك السيدة طِلاء خفيف جدًّا من الزينة
يذكِّر بما كان من صباحة وجهها يوم كانت في سن بُنَيَّتِها، وهي سيدة قبطية
وإن أخفت أصلها وزعمت في سياق الحديث أن أهلها مشايخ لتصرف القاضي عما تورط
فيه من العناد!
أحد الركاب
:
الله يقطع الأولاد وخَلَفهم!
التذكري
:
ما الذي جرى لك حتى تكره خِلفة الأولاد؟
– ما الذي جرى لي؟! جرى شيء بطَّال يا سيدنا الأفندي، لي ولد دفعت له دم قلبي حتى
خلصته
ونجيته من الجهادية، وبعد ذلك كان جزائي أن سرق لبة أمه وهرب.
١ وأنا أبحث بنفسي عنه من بلد إلى بلد على غير جدوى، وأمه — عدوك — قلبها تقطَّع
من البكاء والنوح.
التذكري
:
سرق لبة أمه وهرب؟! أعوذ بالله! لك حق في كره خلفة الأولاد (ثم التفت إلى الركاب) وقال: ألم أقل لكم إن البنت
أفضل من الولد؟ والله يا إخواني — وما لكم عليَّ يمين — أنا عندي بنتان أحلا من
السكر، وما شكوت منهما يومًا منذ رزقني بهما الله، الحمد لله على خلفة البنات!
البنات نعمة ولكن الناس لا يعرفون.
القاضي الشرعي
:
البنت أفضل من الولد؟ ما هذا الذي تقوله يا شيخ؟ إن الله فضل البنين على البنات،
وهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، فكيف ترى غير ما يراه الشرع الشريف؟
السيدة
:
البنت أفضل من الولد ألف مرة، ولا يقول بغير ذلك إلا الغافلون؟
القاضي
:
يا ولية اسكتي، بلاش هذيان!
التذكري
:
معلوم، البنت أفضل من الولد ألف مرة، الولد يسرق لبة أمه ويهرب، ويأخذ مال أبيه
ويهرب، في حين أن البنت تتعلق بوالديها وتنفع أباها يوم المرض، فتغسل هدومه، وتمسح
جسمه، البنت حُنَيِّنة يا سيدنا الشيخ، وليس لعطفها مثيل.
القاضي
:
ولكن البنات لا تتزوج في هذه الأيام، ووجودهن بالغاتٍ بدون زواج خطرٌ شديد، وهنَّ
بعد الزواج أخطر؛ لأن البنت تظل دائمًا متعلقة بأهلها ولا تنقطع مطالبها، بل ربما
زادت بعد الزواج، بنات إيه وزِفْت إيه؟ دا شيء يطلع الروح!
السيدة
:
من قال لك يا سيدنا الشيخ إن البنات لا تتزوج، أنا زوجت إحدى بناتي هذين اليومين،
وبسلامتها في غاية الهناء، وزوجها على كيفك غني وابن حلال.
القاضي
:
وكيف زوَّجْتِها؟ قولي الحق! ألم يَحْفَ قدمك في البحث عن عريس؟
السيدة
:
فَشَر! والله إن ما كان يحضر ورجله فوق رقبته ما يطول ظفرها!
القاضي
:
كان زمان! أمّا في هذه الأيام فالأم هي التي تبحث لبنتها عن زوج، وهي التي تدفع
المهر وتُعِدُّ الجهاز، وتعمل كل شيء للوصول إلى خاطب مهما كان حاله، وأنا بذلك
عليم!
السيدة
:
نحن السيدات نعرف ما لا تعرف من يُسْر الزواج، يا سيدنا الشيخ!
القاضي
:
أنا الذي أعرف؛ أنا قاضي والنساء أمامي كل يوم بالعشرات، وشكواهن من أزمة الزواج
تزلزل الأرض وتَدُكُّ الجبال.
السيدة
:
لا، يا سيدي!
القاضي
:
لا، يا ستّي!
السيدة
:
قلت لك: لا.
القاضي
:
وأنا قلت لك: لا، ثم لا، ثم لا، سبحان الله! أما تَعْقِلِين؟
الكاتب
:
الحق مع السيدة يا فضيلة الأستاذ.
القاضي
:
آراؤك معروفة يا دكتور، أنت من تلامذة قاسم أمين، هل يرضيك أن تخرج النساء عاريات
الأذرع والمعاصم والسيقان.
الكاتب
:
الله يبشّرك بالخير!
السيدة
:
وما ضرر ذلك؟ العفة في النفس ولا قيمة للمظاهر، فقد تَخدع في أكثر
الأحيان.
القاضي
:
ومن أجل هذا أَضْرَبَ الشبانُ عن الزواج، وصارت البنت تقعد بايرة إلى أن تشيخ
وتصبح كالبَيْض الممسوس، فُضِّيها يا ستي، أنا أعرف أربعين بنتًا طال بهن التعنيس،
ولم يبق في زواجهن رجاء.
الكاتب
:
دلني على واحدة، أصلحك الله!
السيدة
:
أزوجك هذه الصبية.
الكاتب
:
يا ستي، أنا محسوب.
القاضي
:
نحن نتكلم جادين، وما كنت أحسب أننا سننتقل إلى (مدامع العشاق).
السيدة
:
ونحن أيضًا نتكلم جادين، ولكنك غاير يا سيدنا الشيخ!
القاضي
:
لا يعجبك الشيخ؟
السيدة
:
العفو، أنا أهلي كلهم مشايخ ومن أجلهم أحترم المشايخ أجمعين.
الكاتب
:
أهلك ليسوا مشايخ تمامًا، يا هانم إلا أن يكون فيهم قسيسون، فإن شكل العمامة
واحد، وإن اختلف السواد والبياض!
القاضي
:
هذه إهانة للعمامة الإسلامية.
الكاتب
:
ليس هناك عمامة إسلامية، وإنما كانت عند المسلمين عمامات إقليمية أو محلية، كما
يشاء لك التعبير، فالمسلمون في جزيرة العرب كانت لهم عمامة عربية أخذها عنهم كثير
من المسلمين، ولا تزال موجودة عند الهنود، وهي العمامة ذات العذبة التي يحرص عليها
الشيخ محمود خطاب ظنًّا منه أن فيها شعارًا إسلاميًّا، وكان للمسلمين في غير
الجزيرة عمامات تشبه العمامات الأهلية في البلاد التي افتتحوها، وكان لهم في مصر
هذه العمائم القبطية التي يلبسها القسيسون سوداء، ويلبسها المشايخ بيضاء، ويلبسها
الأشراف خضراء، والوضع واحد وإن اختلفت الألوان.
القاضي
:
ما هذه الفلسفة؟
الكاتب
:
لا فلسفة ولا سفسطة يا سيدنا الشيخ! المسألة هينة، ولكنكم تظنون كل سمات المسلمين
ترجع إلى أصول إسلامية، في حين أن الإسلام في جوهره لم يكن يرمي إلى غير إصلاح
النفوس، وتطهير القلوب، وسلامة العقائد من أوضار الريب والشِّرك، وما عدا ذلك من
المظاهر الاجتماعية أخذه المسلمون عن الأمم التي عرفوها بعد الفتح.
المهندس
:
خرجتم عن الموضوع.
الكاتب
:
أعرف ذلك، ولكن الحديث ذو شجون.
القاضي
:
هذا ما أخشاه، وإني لأتوقع كارهًا أن ينشر شيء من حديثنا في «البلاغ».
الكاتب
:
اطمئنَّ يا فضيلة الأستاذ! فليس من شأننا تدوين مثل هذه المحادثات، إنها لحظة
وتنقضي، ويذهب كل منا إلى أهله علَّه يظفر بفطيرة أو دجاجة محمَّرة في
الفرن.
القاضي
:
الله أكبر، هذه هي الحياة، لقد اشتقنا إلى جلسة المصطبة وأكل الفطير!
السيدة
:
والفطيرةُ مَن يُسَوِّيها؟ البنت أم الولد؟
القاضي
:
يا وليه اسكتي؟ انتظري حتى يفرغ الرجال من الكلام.
السيدة
:
ولية؟ أتظن كل النساء ولايا حتى تجابههن بهذا التعبير الغليظ؟
القاضي
:
لقد كانت المرأة محترمة يوم كانت (ولية)، ثم عادت مبغوضة منذ أصبحت (هانم). أنا
لا أحب الفَرْنَجَةَ، ولكم أن تسألوا موظفي المحكمة عن قسوتي في معاملة النسوان
المتبرجات؟
المهندس
:
ألا يتفضل أحدكم فيدلنا على المسئولين عن بلايا التبرج؟
الكاتب
:
المسئولون عن التبرج هم الشبان.
القاضي
:
ما معنى ذلك؟
الكاتب
:
معناه أن الفتاة لا تتبرج — حين تتبرج — إلا طاعةً لنزعة خفية أو ظاهرة عند
الشبان، فالشباب العصري يُؤْثِرُ المرأة المتبرجة على المرأة المحتشمة، والفتاة
تشعر بذلك، فهي تتزين لتستأثر بهواه، ولو انصرفت رغبة الشبان إلى زينةِ أشرف من
زينة التبرج لسارعت الفتيات إلى التحلي بالعلوم والآداب والفنون؛ لأن الفتاة بطبيعة
أنوثتها تتودد إلى الفتى عن طريق ميوله وأهوائه: إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر؛ ومن
هنا تعرفون أن تبرج النساء ظاهرة اجتماعية خبيثة؛ لأنها تُخفي في ثناياها معنًى
خَطِرًا هو ميل الرجال إلى النعومة والانحلال.
السيدة
:
والشبان أيضًا متبرجون.
القاضي
:
يا ولية اسكتي حتى يفرغ الرجال من الكلام.
المهندس
:
لقد سرني هذا التعليل، ويؤلمني أن يكون هذا هو الواقع، فإن شباننا يتطلبون من
المرأة أن تساير آخر ما جد من البدع في باريس، والفتاة المحتشمة في نظرهم غشيمة
مغفلة لا تصلُح زوجة ولا رفيقة، أما الفتاة المتبرجة الخليعة فهي صاحبة الحَوْل
والطَّوْل في هذه الأيام.
القاضي
:
أتريدون الحق؟
المهندس
:
إنه غاية ما نبتغيه.
القاضي
:
الحق أن الشبان والبنات كلهم زفت في زفت، وقد ظهر الفساد في البر والبحر، ولم يبق
إلا أن تقوم القيامة، فقد ظهرت أشراطها منذ زمن بعيد.
الكاتب
:
القيامة؟ انتظر قليلًا، إن الله مع الصابرين!
القاضي
:
ماذا أنتظر، ولم يبق في الدنيا خير يُرتجَى ولا بِرٌّ يُرْتَقَب! لقد فسد العالم؛
فاقضِ فيه بعدلك لا برحمتك، فإنك فعالٌ لما تريد!
الكاتب
:
يا أخي! ولماذا تستكثر علينا رحمة الله؟
السيدة
:
ربنا يلطف!
القاضي
:
إلى متى يلطف، يا ستي؟
الكاتب
:
بقيتْ كلمة أحب أن لا تضيع.
المهندس
:
تفضل!
الكاتب
:
تحدثتم عن أزمة الزواج، وذكرتم أن من أسبابها تبرج الفتيات، فهلا ذكرتم جبن
الشبان؟
المهندس
:
أوضِحْ.
الكاتب
:
إن الشاب حين يُعْرِض عن الزواج لا يتأثر فقط بتبرج البنات، فهناك ألوف غير
متبرجات.
القاضي
:
كل البنات متبرجات، وأنا أعرف ذلك.
المهندس
:
صبرك، يا فضيلة الأستاذ!
الكاتب
:
ليس التبرج وحده سبب أزمة الزواج، ولكن هناك جبن فريق من الشبان عن مواجهة الحياة
العائلية، فإن الشاب حين يتزوج ينصرف طوعًا أو كرهًا إلى ملاحظة بيته والبر بأهله؛
وهذا يتطلب تضحيةً من شبان اليوم الذين ألفوا السهرات الطوال في الملاهي والمشارب
والقهوات، وهي تضحية هينة، ولكنها تبدو شاقة جدًّا على من ألف حياة اللهو واللعب،
واستطاب مرافقة البنات السارحات.
القاضي
:
تعجبني كلمة (السارحات) في هذا الموضع.
السيدة
:
قيِّدها عندك!
المهندس
:
والأزمة الاقتصادية لها دَخْلٌ أيضًا.
الكاتب
:
لنفرض ذلك، ولكني أعرف كثيرًا من الشبان الموسرين الذين يتجاوزون الثلاثين وهم
عزاب، وليس لهم عذر مقبول، ومن هؤلاء من أصبح زاهدًا أشنع الزهد في الزواج، ولهم
فلسفة سخيفة يبررون بها هربهم من تكاليف الحياة العائلية التي لا يعرف قيمتها غير
الفتيان الشجعان.
المهندس
:
الزواج يحتاج حقًّا إلى شجاعة.
الكاتب
:
إلى شجاعة عظيمة؛ لأن حبس النفس عن الشهوات المحرمة يحتاج إلى عزيمة دونها عزيمة
الأبطال في ميدان القتال، فإن رأيتم شابًّا موسرًا يجنح إلى العزوبة فاعلموا أنه
ضعيف أو فاجر أو جبان.
السيدة
:
هذا هو الكلام.
القاضي
:
نعم؛ لأنه لا يُرضي الهوانم إلا براءة النساء وإدانة الرجال.
التذكري
:
هذا هو البلد الذي زاره المتنبي حين قدم مصر وقال فيه نونيتين هما خير ما في
ديوانه من القصيد الرنان.
عندئذ التفتُّ وقد خفق قلبي فرأيتني أمام سنتريس.