في ظلال الذكريات
في أوائل يوليه الماضي طلبت مني إدارة الليسيه فرانسيه بالقاهرة أن أرافق الطلبة إلى باريس لزيارة المعرض الاستعماري الدولي؛ فانشرح صدري لذلك، ورحبت بالرجوع إلى باريس، ولم يكن مضى على رحيلي عنها غير أسابيع، ثم طلبت تفاصيل تلك الرحلة لأكون على بينة من المصاعب التي يعانيها المدرس حين يراقب الطلبة في بلد زاخر مائج مثل باريس، فهالني أن رأيت نحو ثمانين فتى وأربعين فتاة يستعدون للسفر إلى عروس السين، ورأيت «جدولًا» معقدًا أشد التعقيد عن تفاصيل السياحة وما يتبعها من زيارات رسمية وغير رسمية، فتذكرت أن الطلبة «أشقياء» وأنني لا أراقبهم في الفصل إلا بجهد جهيد، فكيف أروضهم على النظام في باريس وهم كغنم الراعي نجمعهم من هنا فيتفرقون من هناك؟!
عندئذ اعتذرت واكتفيت بحرِّ مصر، ورأيته في هدوئه أجدى عليَّ من مراقبة الطلبة في نسيم باريس.
ثم مضى وفد الليسيه فرانسيه إلى تلك الديار، وبقيت في القاهرة أناضل الشيخ عبد المطلب والشيخ الصعيدي، فما أشنع ما جنيت على نفسي حين جانبت الذاهبين إلى وادي الحياة واكتفيت بمناقشة من يرون أن القرآن ليس من شواهد النثر الجاهلي، أو أن لغة قحطان لا تغاير لغة عدنان، إلى آخر ما أطفأنا ببرده جمرات الصيف!
وتلك أبيات تصور لوعة صاحبها على الخَيْف والغَضَى وزَرُود، وهي ديار كانت أعز على أصحابها من باريس عند عشاق باريس؛ لأنها كانت كذلك مراتع ظباء، ومعالم صبابة، ومعاهد فتون، وكل ماء مع الهوى صدَّاء، وكل أرضٍ مع المها باريس!
وبالأمس ذهبت إلى الليسيه فرانسيه فوجدت الطلبة وقد عادوا فرحين جذِلين، فتذكرت أنهم ظفروا بالحظ الأكبر حظّ من يرى باريس لأول مرة، وهي لأول نظرة من أفتن ما ترى العيون، وبخاصة حي الشانزليزيه وميدان الأنڨاليد وما يحيط ببرج إيفل والتروكاديرو والمدرسة الحربية.
أقبل الطلبة يحيونني، فنظرت إليهم ولسان حالي يقول:
وليلاي هي مدينة السوربون والكولليج دي فرانس ومدرسة اللغات الشرقية وطن أساتذتي وأهلي، حيث عرفت من عرفت من كرام الرجال وكرائم النساء.
ثم أقبلت على الطلبة أحاورهم لأعرف ماذا استفادوا من زيارة باريس.
وهنا تقدمت إحدى الطالبات وقالت: إن أهم ما راعني في باريس هو عدم الفضول، فالفتاة أو المرأة لا يُنظر إليها في باريس نظرة تُشعر بالفرق بين جنس وجنس، إنما هي «إنسان» عليه ما عليه من واجبات وله ما له من حقوق، وليس بين الفتى والفتاة أدنى فرق في مواجهة الحياة، فالفتاة تعرف هناك أنها مسئولة عن نفسها في كل شيء، فعليها أن تتعلم وأن تتهذب لتستعد للنضال في ميادين الكسب الشريف، وقلما يخطر للفتاة أن تفكر في حماية أخيها أو ابن عمها أو أحد من ذوي قرابتها، كما يقل أن تعتمد على زوجها في حمل هموم المَعَاش، فالمرأة هناك عضو حي لا عضو مشلول، والأسرة تتكاتف وتتعاون بعملها وجِدِّها في حمل أعباء البيت، وكل فرد في الأسرة يعود عليها بشيء من النفع، جزيل أو قليل، وهذا فيما رأيت هو سِرُّ ما عُرف عن فرنسا من الغنى الذي يعصمها من الاستهداف للكوارث الاقتصادية، فإن الفرنسيين يمتازون بميزتين: العمل والادِّخار، فكل فرنسي يعمل، وكل فرنسي يَدَّخِر جزءًا مما يكسب، وبهذا لا يصل الرجل أو المرأة إلى سن الأربعين إلا وقد جمع ثروة قيمة تنفعه في شيخوخته وتقيه شر السؤال والاعتماد على الأهل والأصدقاء، ولو أننا في مصر فهمنا الحياة كما يفهمها الفرنسيون لكُنَّا من أغنى الناس؛ لأننا نملك أخصب أرض، وأعذب نهر، وأصفى سماء، ولكننا مع الأسف نترك في الأغلب هموم العيش فوق كواهل عضو واحد من أعضاء الأسرة، ثم ينصرف سائر الأعضاء عن العمل، فهذا كهل يرى الشغل مما ينافي الوقار، وتلك سيدة ترى من حقها أن تنفق بلا حساب، وذلك شاب لا يرى غضاضة في أن يتجاوز الثلاثين في الحياة المدرسية وهو يثقل كاهل والديه بلا حياء. ولا كذلك الفرنسيون فإنهم مع شح أرضهم، وقسوة جوهم، وعبوس سمائهم، يتمتعون بثروة عظيمة، وحسبنا أن نعرف أنهم اليوم لا يعرفون ما الأزمة ولا يعرف عمالهم ما العطلة، وإنما ينظرون إلى أزمات العالم نظر المتفرج؛ لأنهم مولعون بالكسب والادِّخار، وهذا أساس القوة؛ لأن الغنى له المقام الأول في حياة الشعوب.
ثم تقدم أحد الطلبة فقال: ولو سمحتْ زميلتي لأضفت إلى كلامها أنني لم أَرَ الناس في باريس يتجمعون على القهوات في أوقات الفراغ، فالصباح كله وقت عمل من صدر النهار إلى الظهر، ثم يُرَى الناس في المطاعم وفي القهوات، فإذا كانت الساعة الثانية عاد الناس إلى أعمالهم وأقفرت المشارب إلى المساء؛ لأن الفرنسي لا يتخذ القهوة «محلًّا مختارًا» إلا في أوقات المسكنة والذلة، وهي الأوقات التي يُقضَى فيها عليه أن لا يجد ما يعمله، وهو يشعر حين تخلو يده من العمل أنه ذليل، وليس في باريس ناس تجدهم حين تشاء في هذا المشرب أو ذاك، كما يقع كثيرًا لأهل القاهرة الذين يُغْرُون إخوانهم بالكسل، ويحبِّبُون إليهم التقاعد والخمول.
عندئذ ابتسمت وقلت: ولكني أعرف يا بني قهوات لا تخلو من «زبائن» دائمين، فيحسن أن لا تعمم الحكم بنشاط أهل باريس.
وهنا تردد الطالب قليلًا ثم قال: نعم هناك قهوات معمورة بزائريها في جميع الأوقات، ولكنها لا تقع أبدًا في الأحياء الشعبية التي لا يوجد بها إلا الباريسيون، إنما تقع تلك القهوات في الأحياء التي يكثر فيها الأجانب مثل حي الأوبرا وحي الشانزليزيه والحي اللاتيني، والأجانب كما تعرف يذهبون إلى باريس في الأغلب حبًّا في لذات البطالة والفراغ: فهم وحدهم رواد المشارب والقهوات، وهم مظهر الكسل والخمول في تلك البقاع، والباريسيون ينظرون إليهم كما ينظرون إلى أصحاب التيجان؛ لأنهم يتوهمون أنهم مغمورون بالسعة والثراء، وأنهم ليسوا في حاجة إلى السعي في طلب الرزق؛ لأن كل أجنبي فارغ يتمثل لدى جماهيرهم من ورثة الكنوز القديمة في الشرق أو من أغنياء الأمريكان.
وبعد لحظات سألتهم عما رأوه في المتاحف من آيات المجد والفن، فتقدم أحدهم وقال: إن أجمل ما رأيته وأبقاه أثرًا في نفسي هو تلك اللوحة التي قرأتها في البانتيون (مدفن العظماء).
النصر أو الموت Vaincre ou mourir
وهي شعار الفرنسيين الذين يغلو الدم في رءوسهم كلما أحسوا بضَيْم أو توقعوا أن ينالهم أحد بهوان.
وقد صحت عزيمتنا على أن يكون شعارنا كذلك: «النصر أو الموت»؛ فإنه لا حياة بلا كرامة، ولا كرامة بلا حياة، وقد تلقينا في دروس اللغة العربية أن علي بن أبي طالب قال: «الناس من خوف الذل في ذل، ومن خوف الفقر في فقر.»
فمن واجب المصري أن لا يرى للموت درجات بعضها محتَمَل وبعضها بغيض، فإن هذه سياسة لا تليق بغير العبيد، وإنما يجب على الرجل الحر أن يفهم أنه ليس بعد الحياة إلا الموت، والحياة التي تليق بالمصري الحر هي حياة الكرامة والإعزاز، وما عداها موتٌ ذريع لا يفاوت بين طبقاته إلا الأذلون، ورحم الله أبا فراس؛ إذ قال:
فإن سألتني ماذا رأيت في المتاحف والمزارات فلن أقدم غير هذه الكلمة «النصر أو الموت»، وليتك تختارها موضوع إنشاء؛ ليتمكن رفاقي من شرح ما فيها من معانٍ وأسرار.
– ثم ماذا يا أطفالي؟ هاتوا ما عندكم من طيبات الأحاديث!
عندئذ تقدم أحد الطلاب وقال: لقد استقبلَنا رئيس الجمهورية في قصره، وتقبلْنا تحيته بأحسن قبول.
قلت: وكيف كان شعوركم يومذاك؟
فأجاب: شعرنا بالعزة والكرامة، أدركنا أننا نُكرَم من أجل مصر، فلو كانت مصر بلدًا مهينًا لما استطعنا أن ندخل قصر رئيس الجمهورية مُكرَمين، وقد اتخذنا من تلك الحفاوة درسًا وطنيًّا لن ننساه على الأيام؛ فإن رئيس الجمهورية لا يرى في طلبة الليسيه فرانسيه إلا شبانًا يتعلمون لغته في بلادهم ويُؤْثِرُونها على غيرها من اللغات الحية، وفي ذلك عبرة لنا؛ لأن الذي يتعلم لغة قوم ينتقل جزء من قلبه إليهم، ومن أجل هذا قَدَرْنَا أساتذتنا الذين يبذلون من الجهد ما يبذلون ليجعلوا حظ اللغة العربية في الليسيه أعلا من حظ اللغة الفَرَنسية. فنحن يجب أن نكون لأنفسنا قبل أن نكون لأحد من الناس، والفرنسيون لا يطمعون منا في غير ذلك حين نتعلم في معاهدهم العلمية، ونحن جديرون بأن نفرض احترامنا على الأجانب بما نريهم من حرصنا على قوميتنا وضننا بالاندماج في أية هيئة أجنبية؛ لأن الذي لا يحترم نفسه ولا يضن بكرامته خليق بأن يسومه الناس سوء الهوان.
قلت: هناك معانٍ أخرى وددت لو تنبهتم إليها.
فتقدمت إحدى الطالبات وقالت: لعلك تريد الديموقراطية، فقد شعرنا بأنس بالغ حين صافَحَنَا رئيس الجمهورية وسأَلَنَا عما لقينا في سفرنا من تعب وما لقينا في باريس من ارتياح، فإن من المؤنس حقًّا أن يصافحك مصافحة المؤاساة والرفق رجلٌ يملك كل شيء في فرنسا ولا يمنعه مركزه من التنازل باستقبال فريق من الشبان المصريين.
قلت: كل هذا جميل، ولكن اسمحي لي يا بنيتي أن أقدم لك بعض التصحيح، فإن رئيس الجمهورية الفرنسية لا يملك شيئًا في فرنسا، والأمر كله للشعب، فليس هناك سيد ولا مسود؛ لأن أمرهم شورى بينهم، ولأن الفرنسي أصلب عودًا وأقوى نفسًا من أن يترك أمره لرجل فرد يسوسه كيف شاء، في زمن لا سلطان فيه لغير الشورى والقانون، فإن سمعتم أن هذا العصر من أزهى العصور في تاريخ الإنسانية فاذكروا أن ذلك بفضل الحرية المدنية التي جعلت كل امرئ سيد نفسه، ومكنته من تمرين ملكاته الفنية والأدبية والإدارية، وأعانته على استغلال مواهبه لمصلحته ومصلحة المجتمع، لا لمصلحة الملوك المستبدين كما كان الحال في الزمن القديم؛ فتلك عهود كان الناس يعملون فيها لفرد واحد، فكان نشاطهم مشلولًا؛ لأنهم كانوا مُسَخَّرِين، وكانت مُتَع الحياة لديهم لا تزيد عما يجده الأرقاء من لذة الخضوع، فإن الذليل يجد لذة في خضوعه لسيده، ولكنها لذة منحطة تذكِّر بما يجد الكلاب من لذة الطاعة والامتثال، والنعيم درجات فبعضه للضعفاء، وبعضه للأقوياء، وفي هذا تفسير لرأي المتنبي؛ إذ قال:
فقد يكون الذليل أسعد الناس بِذُلِّه؛ لأنه لا يستطيب العيش إلا في حمى من يملك رقه من الأقوياء الغالبين، ولكن كرام النفوس يرون بعض السعادة أَمَرَّ من الصَّاب، ويرون بعض الشقاء لونًا من النعيم، وليس للسعادة ولا للشقاء رسوم وحدود، وإنما نشقى ونسعد حسبما تشاء أنفسنا من قناعة أو طموح، وتلك المشيئة تُربَّى في الأمم وفي الأفراد، وتحتاج في تربيتها إلى رياضة شديدة؛ لأن أكثر الناس مفطورون على الدَّعة والخمول … ألم يُخلقوا من التراب؟!
عند ذلك ابتسم أحد الطلبة وقال: هذا يناقض ما تَرَوَّضْنَا عليه من النظام، وفي هذا دعوة إلى الثورة على طمأنينة التقاليد.
فأجبت: أنا أروِّضُكم على النظام على شرط أن يكون من صنع أيديكم، وأن تكون لكم إرادة في إقراره والدعوة إليه، ولست أدعوكم إلى الثورة على طمأنينة التقاليد، وإنما أحارب «بلادة» التقاليد؛ لأن هذه اللفظة تتضمن معنى القرار والسكون، والرضا بما كان، والزهد في تعديل ما سيكون، والرضا والبلادة كلمتان متقاربتان؛ لأن الحياة في طبيعتها ثورة على القبح، وشوق إلى الحُسن. وكل راضٍ بحظه ميت نوعًا من الموت؛ لأن الرضا سلبٌ والحياة إيجاب، وكل شيء في الدنيا يمثل الحرب القائمة بين الحركة والسكون، والعدم والوجود، فتخيروا لأنفسكم ما تشاءون، ولا تنسوا أن الحركة بشير الحياة، وأن الجمود نذير الفناء.
وهنا تقدم أحد طلبة الفلسفة وقال: لا أفهم كيف يكون السكون قوةً تحارِب الحركة، ولا كيف يكون العدم قوة تجاهد الوجود.
فقلت: ستفهم على الأيام أن العدم والسكون من الكائنات ذوات الوجود؛ فإن الذي يجده بعض الناس من لذة الراحة والفراغ والاستكانة والخضوع، وما إلى ذلك من اللذات السلبية، كل ذلك دليل على أن هناك حيوية في نواحي العدم والسكون، وهي حيوية تجتذب إليها النفوس التي لا يستهويها من متاع الحياة إلا الجانب السلبيُّ الخسيسُ!
أيها القارئ!
تلك شذرات من محاورة كانت بيني وبين طلبة الليسيه فرانسيه العائدين من باريس بعد زيارة المعرض الاستعماري الدولي، فاقرأْ إن شئت هذه الكلمات وتأمَّلْها، فقد تعود عليك بأجزل النفع.