المدرسون والطلاب
لست أدري كيف يُفْرض علينا ألا نقرأ في الصحف المصرية إلا أخبارًا جِدّية صِرفة يغلب عليها الجفاف، مع أن في الحياة جوانب فكهة لا تخلو من الدعابات الفطرية التي يساق إليها الناس من حيث لا يشعرون، وقد مرت أسابيع والصحف تطالعنا كل يوم بأزمات جديدة حتى خفنا نتائج الاقتناع بأن الحياة كلها جدٌّ عابس أو شَرٌّ مستطير، فليسمح لي القراء هذه المرة بمخالفة ما درجتُ عليه مع سائر الكتاب من إيثار الجد الصُّراح، ولكن ليعلموا أني لا أمزح ابتغاء الترفيه عنهم، وإنما أنقل بعض الصور الحية لحياة المدارس المصرية في شهر إبريل، وهي صور واقعية تثير الضحك عند من يفكر فيها، وبخاصة طلبة المدارس والمدرسون، وكل من قاده حسن الحظ أو نكد الطالع إلى أن يدخل مدرسة مصرية ويشاهد أحوال الدراسة في شهر إبريل.
أساس البحث
هناك قاعدة وضعها أحد أساتذة الأزهر القدماء وهي: «في أول العام الدراسي يوجد طلبة ومدرسون، وفي وسط العام يوجد مدرسون ولكن لا يوجد طلبة، وفي آخر العام لا يوجد طلبة ولا مدرسون!»
وهذه القاعدة تنطبق تمام الانطباق على المدارس المصرية، فشهر إبريل هو شهر الخمود، بالرغم من صياح النظار والمدرسين، ولكنه خمود مزيف في حياة مزيفة، فالطلبة والأساتذة يتكلفون النشاط أو يتكلفون الخمود، كل ذلك يجري بطريقة آلية لا تدري أَتَصْدُرُ عن قوم أحياء أم أموات، وكل ما في الأمر أن المدارس فيها مواظبة ومراقبة وامتحانات شهرية وفسحة وغداء!!
المدرس الحيران
في وسط هذا الجو يوجد مدرس يشبه أُمَّ العروسة «فاضية وملخومة»، وهو جدير بأن يُلَقَّب بالمدرس الحيران، ذلك المدرس هو الإنسان المسكين الذي تثق به إدارة المدرسة فتعطيه الفِرَق التي ستتقدم إلى الامتحانات العمومية في وزارة المعارف «العمومية أيضًا!»، وهذا المدرس أنا أعرفه كل المعرفة، وعهدي به يحرص على أن يعيش عيشة منظمة ليحتفظ بنشاطه وليستطيع إعداد تلامذته للامتحان، وإلى القارئ بعض ما يقاسي ذلك المدرس الحيران: يدخل الفصل وهو مملوء بالنشاط أو تكلف النشاط، ثم يصيح في الطلبة أن اسمعوا وعُوا، وإذا وَعَيْتُم فانتفعوا، ثم يقصد إلى أشد الطلبة تكاسلًا فيدعوه إلى السبورة، فيقوم الطالب يجرُّ رجليه في تباطؤ وخمول، فيأمره الأستاذ بكتابة سؤال، ثم يدعو الطلبة إلى الاشتراك في الجواب.
ثم تمرُّ لحظات يشعر فيها حضرة المدرس الحيران بأن الحالة على ما يرام، ولكنه يفاجأ بعد بضع دقائق بتلميذ يطلب الإذن بالخروج، فإذا سأل عن السبب أجاب الطالب بأنه سيستأذن الناظر ويذهب إلى البيت؛ لأنه يشعر بصداع، ثم يفاجأ حضرة المدرس الحيران مرة ثانية بتلميذ اتكأ على مكتبه ونام، فإذا سأل ما خَطْبه أجاب التلميذ بأنه قضى الليل إلا أقله في مراجعة المقرر، وأنه لذلك لا يستطيع أن يتماسك!!
عندئذ يأخذ المدرس الحيران في إسداء النصيحة للطلبة بأن ينظموا أوقات المذاكرة، وألا يسرفوا في السهر؛ لأن ذلك قد يجني على صحتهم، ويفوِّت عليهم الغرض المنشود. يقول ذلك بلهجة حازمة ليظهر بمظهر المطمئن إلى أن تلامذته مشغولون بأنفسهم، مَعْنِيُّون بواجباتهم، ويعز عليه أن يصارحهم بأن فريقًا منهم قد يسهر الليل في غير الدرس والتحصيل كما يفعل أكثر تلامذة القرن العشرين!
أعذر من أنذر
ولحضرة المدرس طُرُقٌ عديدة في توجيه أذهان الطلبة إلى الوَعْي والحفظ، منها أنه يقف حين المراجعة وقفة التثبت عند كل نقطة ويقول: «هذه مسألة مهمة جدًّا جدًّا، وأترقب أن تجيء في الامتحان» ثم يأخذ في الشرح والتوضيح والإعادة، ولكنه — مع الأسف — لا ينفك ينصح ويحذر حتى يدرك الطلبة — وأكثرهم أذكياء — أن هذا التشدد ليس إلا وسيلة لإيقاظ أذهانهم، وأنه ليس من المعقول أن تجيء أسئلة الامتحان في جميع مواد المقرر؛ وبذلك يطمئنون إلى أن هذا تهويش أساتذة، ويعاودون الكسل والخمود.
حقول المكرونة
وقد أذكر أن أحد المدرسين الحيارى الذين يدرسون لطلبة الكفاءة سُئِل مرة: لماذا نشأت النُّبُوَّات كلها في الشرق ولم ينشأ نبيٌّ واحد في الغرب؟ فأجاب المدرس بأن ذلك مرجعه طبيعة الأرض، عند ذلك ثار الطلبة قائلين: كيف تُؤَثِّر طبيعة الأرض في ذلك؟ وأراد المدرس الحيران أن يمزح فقال: «ليس معنى ذلك أن الأنبياء ينبتون في آسيا كما تنبت المكرونة في إيطاليا».
ولكنه ما كاد يتم الجملة حتى صرخ الطلبة: هذا محال إن المكرونة تصنع من العجين.
وأراد الأستاذ أن يمضي في النكتة فقال: «من الذي يعلمكم الجغرافيا؟»
– إبراهيم أفندي.
– هل درس لكم جغرافية إيطاليا؟
– نعم!
– وكيف أهمل الكلام عن حقول المكرونة في تلك البلاد؟
– يظهر يا أفندي أنها غير مقررة على طلبة الكفاءة!
ويذكر ذلك المدرس الحيران أن الطلبة اجتمعوا عند فسحة الساعة العاشرة في حديقة المدرسة، وتناولوا المسألة بالبحث والتدقيق، واتضح لهم بعد لأْي أن المكرونة لا تُزرع، إلا أن تكون هناك أنواع جديدة لا يعرفها المصريون!
وبعد أيام من تلك المشكلة وُفِّق أحد أساتذة اللغة العربية إلى حل: ذلك أن حقول المكرونة في إيطاليا صحيحة، ولكنها مجاز، على حد قولهم، رعينا الغيث … والله أعلم بالصواب!
ومن يدري فلعل حقول المكرونة صحيحة أو لعلها أكذوبة لطيفة من أكاذيب إبريل.
شغل مسخرة
وفي أول يوم من إبريل تجمع الطلبة المصريون في مدرسة أجنبية بالقاهرة، ولونوا ملابسهم بالطباشير في خطوط تجمع بين الاستقامة والاعوجاج، وتم لهم ما أرادوا أثناء الدرس في لحظات قصيرة، وتنبه المدرس الحيران فجأة إلى صنعهم، فقال في حدة وانفعال: ما هذا الذي تصنعون؟ فأجاب أحد الطلبة في ابتسام: «ولماذا ينفرد الأجانب بالمسخرة؟»
آمنا وصدقنا! لماذا ينفرد الأجانب بالمسخرة أو الكرنڨال؟ أنكون أقل منهم حتى في هذه الشؤون؟
هذا كلام يقال، ولكن لا تنسوا أيها المخدوعون أن الأجانب يلعبون بعد الجِدّ، أما أنتم فأخشى أن تكون حياتكم سلسلة ألاعيب، ولكنكم لا تشعرون!
القسط الرابع
يعرف كل من اشتغل بالتدريس أن نُظَّار المدارس يراقبون المدرسين مراقبة مستمرة فيما يتعلق بإتمام المقررات، ويرون أن المدرس الماهر هو الذي يتم المقرر بسرعة ليتمكن من إعادته، وكان الطلبة فيما سلف هم الذين يعطلون المدرسين ويَحُولُون بكسلهم دون الإسراع في إتمام المقررات.
والحال في هذا العام يختلف عن الأعوام السالفة أشد الاختلاف، فإن الطلبة الذين سيتقدمون للامتحانات العمومية في مدارس الحكومة خاصة يُلِحُّون إلحاحًا شديدًا في إتمام المقررات، ولكن لا تحسب أنهم يفعلون ذلك جدًّا ونشاطًا، هيهات هيهات! إنهم يفعلون ذلك لينجُوا من دفع القسط الرابع!!
فليلاحظ ذلك معالي وزير المعارف، وليأمر بإضافة جزء جديد إلى مقرر الكفاءة والبكالوريا، قبل أن «يطير» باقي المصروفات!
شعراء إبريل
ومن أوضح الظواهر في شهر إبريل اهتمام الطلبة بقرض الشعر بحيث يصح تلقيبهم بشعراء إبريل: ألم يقل الأقدمون: أعذب الشعر أكذبه؟ وأي وقت أصلح للكذب من شهر إبريل؟!
فإذا رأيت جماعة من الطلبة يتجمهرون في فِناء مدرسة أو في أحد الفصول أو في شارع أو في حارة فاعلم أنهم قد التفوا حول شعرور من الشعارير، والشعارير طبقة حدثنا عنها الجاحظ في كتبه، ولم نعرفها بالعِيان إلا حين تشرفنا بالتعرف إلى شعراء إبريل.
ومن خصائص هؤلاء الشعارير السطو على نفائس الشعر القديم، وأريد به الشعر الذي كان يروج في مصر والشام منذ نحو ثلاثة قرون، فقد انتهب شعرورٌ منهم هذين البيتين:
ثم أخذ يطوف بهما على مدرسي الرياضة أولًا وعلى التلامذة ثانيًا، فكان يقابَلُ بالإعجاب، ثم قاده النَّزَقُ والغرور إلى عرضهما على أحد أساتذة اللغة العربية، وكان ذلك الأستاذ يحفظ أشعارًا كثيرة منها هذان البيتان، فقال للطالب: هذا ليس من شعرك، إنه شعر قديم، فأقسم التلميذ بشرف والده بأن الشعر شعره وأنه تلقاه عن وحي خاطره في ليلة مقمرة وهو يطوف بحدائق الجزيرة بين الشجر والنخيل.
حيوانات
نعود إلى ما يعلل به المدرس الحيران نفسه حين يرى تلامذته كسالى مصروفين عن المراجعة والتحصيل، وعهدي به يتفلسف فيقول: لا خطر ولا خوف، فسينشط هؤلاء التلامذة لواجباتهم حين يقترب الامتحان، أليسوا كسائر الحيوانات يدفعهم تنازع البقاء إلى الكدح في سبيل الغُنْم والنجاح؟ إنهم يتباطأون ويتكاسلون، ولكن مهلًا فالإنسان حيوان لئيم، وسيعرف هؤلاء اللئام كيف يقاومون الكسل فرارًا من شماتة الأعداء.
فإلى الأمام يا أسراب الحيوان الناطق!
الطبيعة والإنسان
رحم الله من قال:
وإنه لمحزن أن نرى الطبيعة تأخذ زينتها في شهر إبريل، على حين يخمد المدرسون والطلاب، والتعليل واضح؛ فإن الطبيعة تستريح في الشتاء ثم تستيقظ في الربيع، أما المدرسون والطلاب فيفنون نشاطهم في أشهر الشتاء، فإذا جاء الربيع وجدهم أجسامًا بلا أرواح.
فهل من منصف حكيم ينقل مواعيد الامتحانات العمومية ليؤديها التلامذة في فصل الشتاء فصل النشاط، بدلًا من تأديتها في أوائل فصل الصيف فصل الخمود؟
الحمد لله
أكتب هذا وأنا أذكر أن إخواني المدرسين قد نجوا من مضايقات الامتحانات المدرسية، ولم يبق إلا أن يتحكموا في مصير الطلاب عند التصحيح، فلينظر الطلبة إلى مصالحهم، وليعرفوا شغلهم، فقد نجونا والحمد لله!
ومن ظفر بإجابة تلميذ فليمزقها طولًا وعرضًا وشمالًا وجنوبًا ولفظًا ومعنًى؛ فقد لقينا منهم ومن زملائهم شعراء إبريل أقصى صنوف العناء!
أيها الطلبة والمدرسون: تعاونوا على قتل هذا الشهر الثقيل، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والمدرسون والطلاب إخوان تجمع بينهم الكتب والكراريس.
ويرحم الله من قال: