شواطئ الإسكندرية
المصايف المصرية
شغلتني المصايف الفرنسية ستة أعوام عن المصايف المصرية، فعدت لا أعرف إلا قليلًا عما جَدَّ في مصايف هذه البلاد، ثم اتفق أنني أقبلت على مَصِيفي في سنتريس لأظفر بسجعة طريفة فأقول: «من سنتريس إلى باريس ومن باريس إلى سنتريس». كما سافر الصاحب بن عباد عمدًا إلى النوبهار ليكتب إلى أبي الفضل بن العميد فيقول: «أكتب إليك من النوبهار، في وسط النهار»، فالحرص على السجع هو الذي شغلني عن الشواطئ في هذا الصيف، وهو حرصٌ له قيمته عند رجل أُغرِم أعوامًا طوالًا بدراسة النثر الفني في القرن الرابع!
ولكني مع ذلك قضيت أيامًا في الإسكندرية من أواخر أغسطس وأيامًا من أوائل سبتمبر تبينتُ فيها ما جدَّ في تلك الشواطئ التي صُرفتُ عنها منذ سنة ١٩٢٥، ويمكن الحكم بأن تلك الشواطئ أصبحت على جانب من الجاذبية، وهذا غُنْمٌ عظيم لمصر التي أمست مصايفها مهددة بالمصايف الشرقية والغربية حيث يعرف طلاب الرزق في الشرق والغرب كيف يخلبون ألباب المصريين.
مآخذ مزيفة
وقد اهتم فريق من الصحفيين في هذا العام بنقد ما زعموا أنهم شاهدوه في شواطئ الإسكندرية من العبث والمجون، ولأولئك الصحفيين عذر مقبول؛ فهم يريدون أن يقفوا موقف الواعظين يحللون الحلال ويحرمون الحرام في نزاهة وإخلاص، وفاتهم أن نقد ما توهموه في الشواطئ من عبث ومجون كان من أكبر الدعايات لزيارة تلك البقاع، والشر لا يفتن الناس ولا يستهوي ألبابهم إلا حين يُنهَون عنه، وصدق أبو العلاء حين قال:
والشواطئ بطبيعتها تذكِّر الإنسان بحياته الفطرية التي غيرتها الشرائع والقوانين، والإنسان حيوان بَرِّيٌّ، ولكن فيه نزعة بحرية ترجع إلى عهده القديم يوم كان لا يسكن إلا شطوط الأنهار وشواطئ البحار، وآية ذلك أنه يتهالك على الماء تهالكًا شديدًا، ويستأنس إذا خاضه، ويجد فيه رَوْحًا لا يجده إذا عاد إلى اليابسة، وهو إذا تعلم السباحة لا ينساها أبدًا ولو تركها عشرات السنين، والسباحة هي العلم الوحيد الذي لا ينساه الإنسان، وفي هذا دليل على أنه في أصل خِلقته حيوان صالح لحياة الماء.
ومن شواهد ما تبعثه الشواطئ من حياة الفطرة الأولى ما وقع هذا الصيف بين إسحق حلمي ووزير النمسا، فقد أراد الوزير أن يعتصم بمنصبه، وهو منصب يعصم صاحبه على البر وهو في الملابس الرسمية، ولكنه إذا وقف على الشاطئ عريانًا لا يستره إلا قميص البحر الشفاف، وأعلن أنه وزير هز الناس أكتافهم وهانت عليهم التقاليد الوضعية؛ لأن الرجل العريان لا يعصمه منصبه ولا جاهه، ولكن يعصمه السلاح الأول الذي يفض المشاكل في الحياة الطبيعية وهو القوة، فلو أن وزير النمسا كان بملابسه وقدم اسمه إلى إسحق حلمي لعرف ملاحظ الشواطئ أن التقاليد الرسمية تعطي الوزير حقوقًا يتميز بها عن سواه، ولكنه نوه بنفسه وبمنصبه وهو عريان، فلم يكن بدٌّ من أن تحيا الطبيعة الأولى التي تقضي لسكان الشواطئ بالمساواة في الحقوق، والشاطئ باب البحر الأعظم الذي لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، وإنما يتعرف الناس إليه بما منحتهم الطبيعة من قوة جسمية وجبروت محسوس.
وقد يتفق لزائري الشواطئ أن لا يغضوا أبصارهم عمن يستقبلهم البحر في الضحى والأصيل، أفيظن القارئ أن أعين المتطلعين تتوسم مظاهر الحياة الرسمية فيمن تحمل الشواطئ؟ هيهات! إن العيون لا تقع إلا على من ميزتهم الطبيعة بميزات حسية، وأعطتهم من ملاحة الشمائل، وسلامة الجوارح، ما يجعلهم أقرب إلى النفوس، وأحب إلى القلوب.
مذهب العري
وهناك سبب مهم من أسباب تطور الحياة في المصايف المصرية لم يفطن إليه أولئك الصحفيون: وهو انتشار مذهب العري، فإن مصر كسائر الأقطار تتصل بالحياة العالمية اتصالًا وثيقًا، وتُنقل إليها المذاهب الأدبية والاجتماعية عن طريق الصحف والمجلات. وكل خبر يُنشر يَتْرُك في الجمهور أثرًا ثم يأخذ في التأصل والاستقرار حتى ينقلب إلى رأي، وكذلك كانت الحال في نشر مذهب العري الذي دافع عنه بعض الألمانيين واضطرت الحكومة هناك إلى مقاومته بالعنف، وأنا لا أقول بأن المصريين أصبح لهم في العري مذهب، لا، ولكني أجزم بأن لشيوع هذه الفكرة أثرًا في التسامح الذي نرى اليوم آثاره في الشواطئ المصرية، وقد رأيت بنفسي شابًّا له قيمة أدبية، وله مستقبل مرموق يحضر إلى شاطئ ستانلي ومعه خطيبته فأظهرتُ له دهشتي فاكتفى بإقناعي بأن خطيبته لا تنزل الماء، وإنما تكتفي بالتفرج على السابحين والسابحات من رواد الشواطئ، ورأيت رجلًا مشهورًا من مدرسي المعاهد الدينية بثياب البحر وهو يغدو ويروح على الرمال، فلما تبادلنا التحيات وهنأته على شجاعته اكتفى بأن يقول: «صلِّ على النبي! لا حد شاف الجمل ولا حد شاف الجمال!» فقلت له: اطمئن فلن أنشر شيئًا من أخبارك.
مُنجِّم جديد
هذا المنجم أو الساحر الجديد هو أديب أعرفه كما أعرف نفسي، ذهب إلى شاطئ ستانلي في يوم الأحد الماضي، وأخذ يتنقل من عش إلى عش ومن مظلة إلى مظلة حتى عثر ببعض معارفه هناك، وكان فيمن يعرف فتاة هيفاء أسيلة الخد مشرقة الجبين، فرمى نفسه رميًا تحت مظلتها، فقدمت له كرسيًّا صغيرًا جلس عليه، واضطجعتْ تلاعب حبات الرمل على الشاطئ المأهول.
جلس صاحبنا لحظات يتأمل فيها صنع الله، ويمد عينيه بشرهٍ صارخ إلى ما يعمر الشاطئ من أسراب الملاح، ثم بدا له أن يدرس بعض طبائع الحسان فزعم أنه ساحر، وأنه يعرف ما استتر في عالم الغيوب، وتقدم إلى تلك الهيفاء يسألها أن تسمح بأن «يشوف بختها»، فمدت له يدها في رفق، فوضع مقدارًا من الرمل وتمتم بكلمات قصيرة، ثم ألقى الرمل على الأرض، وشرع ينجِّم على الطريقة الهندية، وفي تلك اللحظة مر منجم هندي يعرفه جميع المصطافين في شواطئ الإسكندرية، فصاح صاحبنا الأديب: «ماذا يصنع هنا هذا الهندي النصاب؟ هاتوه لأختبره، وليرى الملأ من المصطافين أيُّنا أعرف بضروب السحر، وأينا أهدى إلى كشف الغيوب».
وكان مع المنجم الهندي رفيقٌ يفهم العربية؛ فلخص له هذا التحدي، فانفتل الهندي مسرعًا لئلا يفتضح أمره، واعتذر بأنه لا يحسن «ضرب الرمل» وإنما يحسن قراءة «الكف» فصاح صاحبنا الأديب: «وأين تعلم هذا الجلف قراءة الكف؟ هاتوه لأختبره، فقد تلقيت هذا الفن عن كبار الأساتذة في جامعة باريس، وسأريكم أنه نصاب محتال!»
وما كاد ينتهي هذا المنظر حتى هرب الهندي وغاب شبحه عن الأبصار، وجلس صاحبنا الأديب جلسة الظافر المنتصر وقد التفت حوله حسان الشاطئ يقصصن عليه ما وقع لهن مع ذلك الخدَّاع، واستوى صاحبنا على عرش السحر وحوله نطاق من الغواني المضطجعات على الرمال.
وقد رأيت أن أستمتع بهذا المنظر، وأن أرسم بعض ما راقني من صوره الروائع، وإني لأذكر أن إنسانة تقدمت إلى ذلك الأديب وقالت في حنان: «من فضلك شوف لي بختي يا سيدي البيه؟»
فأخذ كفها يقرأ خطوطه، ثم مسح نظارته وأحكم وضعها على عينيه لئلا يفوته شيء من أسرار تلك الخطوط، ثم ابتدأ يقول:
(وهنا تتنهد الحسناء فيضحك الحاضرون جميعًا ويلقون على المنجم نظرات الإعجاب.)