من غرناطة إلى الإسكندرية
(١) بَدْءُ السَّفَرِ
كان السَّفَرُ والاِنفِصالُ من «غَرْنَاطةَ» حَرَسها اللهُ، للنِّيَّةِ الحِجازيَّة — قَرَنها اللهُ بالتَّيْسيرِ والتَّسْهِيلِ، والصُّنْع الجمِيلِ — أَوَّلَ ساعةٍ من يَوْمِ الخميسِ، الثامِنِ لِشَهْرِ شَوَّالٍ سَنةَ ثمانٍ وسبْعِينَ وخَمْسِ مئة، وَبِمُوافَقَةِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِشَهْرِ فبرايِرَ الأَعْجَمِيِّ.
(٢) إِلى «سَبْتةَ»
وكانَتْ مرحَلَتُنا إِلَى مَدينة «إِسْتِجَةَ»، ثُمَّ مِنها إِلَى غَيْرِها، حَتَّى يَسَّرَ اللهُ عَلَيْنا في عُبورِ البَحْر — إِلَى قَصْر «مَصْمودَةَ» — تَيْسيرًا عجيبًا. ونَهضْنا مِنْهُ إِلَى «سبْتَةَ» غُدْوَةَ يومِ الأَرْبِعاءِ الثامنِ والْعِشْرِينَ من الشهر المُؤَرَّخِ.
(٣) في مَرْكَبٍ رُومِيٍّ
وأَلْفَيْنا بها مَرْكَبًا رُومِيًّا لِبَعْضِ الأَهلِينَ مِنْ سُكان «جَنَوَةَ»، وكانَ مُقْلِعًا إِلَى الإسْكَنْدريَّة، فَسهَّل اللهُ علينا الرُّكوبَ فِيهِ، وأَقْلَعْنا ظُهْرَ يَوْمِ الخميسِ، وكان طريقُنا في البحرِ مُحاذِيًا لِبَرِّ الأَنْدَلُسِ.
وفِي صبِيحةِ يومِ الْجُمُعَةِ السَّابعِ لذي القَعْدةِ، قابلْنا بَرَّ جزيرةِ «يابسةَ»، ثُمَّ قَابَلْنَا — يومَ السبتِ بَعْدَه — بَرَّ جزيرةِ «مَيُورقةَ»، ثُمَّ يَوْمَ الأَحَدِ بعدَهُ قَابَلْنَا جَزِيرَةَ «مِنُورقة» ومن «سَبْتَةَ» إلَيْها نَحوُ ثمانيةِ مَجَارٍ (والمَجرَى: مئة ميل).
(٤) جزيرة «سَرْدانية»
وفارقْنا بَرَّ هذه الجزيرة، وظَهَرَ لَنا برُّ جزيرة «سَرْدانِيةَ» أَوَّلَ ليلةِ الثُّلاثاءِ: الحادي عشَرَ من الشَّهْرِ — دفْعةً واحدةً — علَى نحوِ ميلٍ أَو أَقَلَّ. وَبَيْنَ الجزيرتين: «سَرْدانِيةَ» و«مِنُورقةَ» نحوُ أَرْبَعِ مئة ميل، فكانَ قطْعًا مُسْتَغْرَبًا في السُّرعةِ.
وطرأَ علَيْنا مِنْ مُقابَلَةِ الجزيرة — فِي اللَّيلِ — هوْلٌ عظِيمٌ، عَصَم الله منهُ بريحٍ أَرْسَلَها في ذلِكَ الْحِينِ — مِنْ تِلْقاءِ البَرِّ — فأَخْرَجتْنَا الرِّيحُ عَنِ البَرِّ، والحمدُ لله على ذلك.
(٥) ضلال المَرْكَب
وكُنَّا في حال الوَحْشة وانْغِلاق الجهاتِ بِالْمَطر، فلا نُمَيِّزُ شَرْقًا من غَرْب، فأَطْلَع اللهُ علَيْنا مَرْكَبا للرُّومِ، قَصَدَنا إِلى أَن حاذَانا، فَسُئِل عن مَقْصِدهِ، فأَخْبر أَنَّهُ يُريدُ جزيرةَ «صِقِلِّيَةَ» وأَنَّه من «قَرْطَاجَنَّةَ» — عَمَلِ «مُرْسِيَةَ» — وقد كُنَّا اسْتَقبلْنا طريقَهُ الَّتِي جاءَ منها مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، فأَخَذْنا عِنْد ذلك في اتِّباعِ أَثَرِه — واللهُ المُيَسِّرُ — فخرج علينا طرَفٌ من بَرِّ «سَرْدانِيةَ» المَذكور، فأَخَذْنا في الرُّجوعِ عَوْدًا على بدءٍ.
(٦) عاصِفَةُ الْبَحْرِ
وفي لَيْلَةِ الأَرْبِعاءِ — التاسعَ عشرَ لذِي القَعْدَة — عصفَتْ علينَا مِنْ أَوَّلِها، ريحٌ هاجَ لها الْبَحْرُ وهال، وجاءَ معها مطَرٌ أَرسلَتْهُ علينا الرِّياحُ بقُوَّة، فكأَنَّما أَمْطَرتْنا السَّماءُ سِهامًا، فعَظُم الخَطْبُ، واشْتَدَّ الكَرْبُ، وجاءَنَا الْمَوْجُ — من كلِّ مكان — أَمثالَ الجِبَال السائِرَةِ، فبقِينا على تِلْك الْحَالِ اللَّيلَ كلَّه، والْيَأْسُ قدْ بلَغ منَّا مَبْلَغَه، وارتجَيْنَا — مع الصَّباحِ — فُرْجةً تُخَفِّفُ عنَّا بَعْضَ ما نزَل بنا.
فجاءَ النَّهارُ بما هو أَشدُّ هَوْلًا، وأَعظمُ كَرْبًا، وزادَ البحر اهْتِيَاجًا، وتغيَّمتِ السَّماءُ، واسْوَدَّتِ الآفاقُ، واشْتدَّتِ الرِّيحُ والْمَطرُ عُصوفًا، حتى لم يثْبُتْ معها شِراعٌ، فلجأْنا إِلَى اسْتِعمال الشُّرُعِ الصِّغارِ، فأَخذتِ الرِّيحُ شِراعًا مِنها ومزَّقَتْهُ وكسَرتِ الخَشَبةَ الَّتي ترتبطُ الشُّرُعُ فيها، وهي المَعروفَةُ عِنْدَهم بِالْقَرِيَّةِ. فحينئذٍ تَمَكَّن اليأْسُ من النُّفوسِ، وارتفعتْ أَيدي المُسلمينَ بالدُّعاءِ إِلى اللهِ — عزَّ وجلَّ — وأَقمنا عَلَى تلك الحالِ النهارَ كُلَّهُ. فلما جَنَّ الليلُ فَترتِ الرِّيحُ بعْضَ فُتور، وسرْنا — في هذه الحالِ كُلِّها — سيرًا سَريعًا.
(٧) زوالُ المِحنةِ
وفي ذلك اليومِ حاذَيْنا جزيرةَ «صِقِلِّيَةَ»، وبِتْنا تلك الليلةَ التَّالِيَةَ متَرَدِّدِين بين الرَّجاء والْيأْس، فلمَّا أَسْفَر الصُّبْحُ نشَر اللهُ رَحْمَتَه، وانْجلَى الغَيْمُ، وأَقْشَعتِ السَّحابُ، وطابَ الْهَواءُ، وأَضاءَتِ الشَّمسُ، وأخَذَ الْبَحْرُ في السُّكون، فاسْتبشَر النَّاس، وعاد الأُنْسُ وذهَب اليأَسُ، والْحمدُ للهِ الذي أَرانا عَظيمَ قُدْرته، ثم تَلافَى بجميلِ رحمتهِ، ولطيفِ رَأْفَتِهِ، حَمْدًا يكونُ كِفاءَ مِنَّتِه ونِعْمَتهِ.
وفِي هذا الصَّباحِ ظهَر لنا بَرُّ «صِقِلِّيَةَ»، وقد اجْتَزْنا منه أكثرَهُ، ولَمْ يَبْقَ منهُ إِلاَّ الأَقَلُّ.
(٨) جَبلُ البُرْكان
(٩) ظهورُ المنار
وفِي صبيحةِ يومِ الأَرْبِعاءِ السادِسِ والعشرينَ منهُ ظَهر لنا البرُّ الكبيرُ المُتَّصلُ بالإِسكندرية، المَعروفُ بِبَرِّ الْغَرب، وحاذَيْنَا منهُ موضِعًا بينَهُ وبينَ الإِسْكَندريةِ نحوُ أَرْبَعِ مئة ميل، عَلَى ما ذُكِرَ لنَا، فأَخَذْنَا في السَّير، والْبَرُّ المَذْكُورُ منَّا يمينًا.
وفي صَبيحةِ السَّبْتِ التاسِع والعشرينَ من الشهر، أَطْلَع اللهُ عَلَينا البُشْرَى بالسَّلامة، بظهور مَنارِ الإسكندريَّةِ عَلَى نحو العِشْرينَ ميلًا، والحمدُ لله عَلَى ذلكَ.
(١٠) مِيناءُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ
وفي آخر الساعَةِ الخامسةِ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ، كان إِرساؤُنا بمُرْسَى الْبلد، ونُزولُنا منهُ إِثْر ذلك، فكانَتْ إقامتُنا عَلَى مَتْنِ الْبحْرِ ثلاثين يومًا، ونزولُنا في الحادي والثلاثين.
وكان نُزُولنا بفُندُقٍ يُعْرَف بفُنْدُقِ «الصَّفَّار»، بِمَقْرَبة منَ «الصَّبَّانَةِ».