من مَكّة إلى المدينة
(١) الزَّاهر
في عَشِيِّ يومِ الأَحَدِ الثَّامِنَ عَشَرَ من الشَّهْرِ المذْكور، وهوَ أَوَّلُ إِبريلَ كانَ تَبْرِيزُنا (خُروجُنا) إلى مَحَلَّةِ الأَميرِ العِراقِيِّ بالزَّاهِرِ، وهو عَلَى نحْوِ المِيلَيْن من البلَدِ، وقد كَمَلَ اكتراؤُنا (استئْجارُنا ما نَرْكُبُه) إِلى الموْصِلِ، وهو أَمامَ «بغداد» بعَشَرَةِ أَيَّامٍ، عرَّفنَا اللهُ الخَيْرَ والخِيَرَةَ (حُسْن الاخْتِيار). فأَقمْنا بالزَّاهِر ثلاثةَ أَيَّامٍ نُجَدِّدُ العَهْدَ كلَّ يومٍ بالبَيْتِ العتيقِ، ونُعيدُ وَداعَهُ. فلمَّا كانتْ ضحْوَةُ يومِ الخميسِ — الثَّاني والعِشْرِين من ذِي الحِجَّةِ — أَقْلَعَتِ المَحَلَّةُ عَلَى تُؤَدَةٍ ورِفْق، بسَبَبِ البُطءِ والتَّأَخُّرِ. ونزَلَتْ عَلَى نحو ثمانِيَةِ أَمْيالٍ من الموْضِعِ الذي أَقْلَعَتْ منهُ بمقْرَبة من «بَطْنِ مَرٍّ». واللهُ كَفيلٌ بالسَّلامَةِ والعِصْمةِ.
(٢) الحنين إلى «مكة»
فكانت مُدَّةُ مُقامِنا ﺑ«مَكَّةَ» قدَّسها اللهُ — من يومِ وُصولنا إِليها وهو يومُ الخميسِ الثالثَ عشَر لربيعٍ الآخِرِ من سَنةِ تِسْعٍ وسبعِينَ، إلى يومِ إِقلاعِنا من الزَّاهرِ وهو يومُ الخميسِ الثاني والعشرينَ لذي الحِجَّةِ من تِلْكَ السَّنةِ — ثمانيةَ أَشهُرٍ وثُلُثَ شهْرٍ، التي هي — بحِسب الزَّائدِ والنَّاقصِ من الأَشهُرِ — مِائَتا يومٍ واثنتانِ وخمْسَةٌ وأَربعونَ يومًا، سَعيداتٌ مُبارَكاتٌ، جعلَها اللهُ لذاتِه، وجعلَ القَبُولَ لها مُوافِقًا لِمَرْضاتِه. غِبْنا عن رُؤْيةِ البَيتِ الكَريمِ، فيها ثلاثةَ أَيامٍ: يومَ عرفةَ وثانيَ يومِ النحْرِ ويومَ الأَربعاءِ، الذي هو الحادي والعِشرونَ لِذى الحِجَّةِ، قَبلَ يومِ الخميس يومِ إقلاعِنا من الزَّاهِرِ. واللهُ لا يَجعلُه آخر العَهدِ بحَرَمِهِ الكَريمِ بمنِّهِ.
(٣) بطن مَرٍّ
ثم أقلَعْنا من ذلك المَوْضِعِ إِثْرَ صلاةِ الظُّهرِ من يومِ الخميس إلى«بطن مَرٍّ» وهو وادٍ خصيبٌ كثيرُ النَّخْل ذُو عَيْن فَوَّارَةٍ سَيَّالةِ الماءِ، تُسقَى منها أَرضُ تلك الناحيةِ. وعَلَى هذا الوادِي قُطْرٌ مُتَّسِعٌ وقُرًى كَثيرةٌ وعيونٌ. ومنه تُجلَبُ الفَواكِهُ إلى «مكةَ» —حرَسَها اللهُ — فَأَقمنا به يومَ الجُمُعةِ لسبَبٍ عجيبٍ يَتَّصِلُ بالمَلِكَةِ «خاتُونَ» بنتِ الأَميرِ مسعودٍ مَلكِ الدُّرُوبِ والأَرمَنِ — وما يلى بلادَ الرُّومِ — وهي إحدَى الْخَواتِينِ (الأَميرات) الثلاثِ اللاتي وَصَلْن للحَجِّ مع أَميرِ الحاجِّ أبي المَكارِمِ طاشْتَكِينَ مَولَى أَميرِ المُؤْمِنينَ، المُوَجَّهِ كلَّ عامٍ من قِبَل الخَليفَةِ، وهو يتوَلَّى له هذه الخُطَّةَ نحوَ ثَمانِيَةِ أَعوامٍ أَو أزيدَ. وخاتُون هذه أعظَمُ الخواتينِ قَدْرًا، لأَنَّ مَمْلَكَةَ أَبيها عظيمةٌ. والمقْصُودُ من ذِكْرِ أَمرها أَنها أَسْرَتْ (سارَتْ لَيْلًا) من «بطن مَرّ» لَيلةَ الجُمُعَةِ إلى كَّةَ — في خاصَّةٍ من خَدَمِها وحَشَمِها — فلمَّا أَشرَقَت شمْسُ يومِ الجُمُعَةِ افْتَقَدها الأَميرُ، فوجَّهَ إليها ثِقاتِ من خاصَّةِ أصحابِه، يسأَلونَها عن سَبَبِ انصِرافِها، وأَقامَ بالنَّاسِ ينْتَظرُ الخاتونَ، فوصَلَت في وقْتِ العَتَمةِ (ثُلُثِ الَّليْل الأَوَّلِ) من يومِ السَّبْتِ.
(٤) ظُنون الناس
وتساءَلَ النَّاسُ في ذلك، وعجبوا من انصرافِ تلك المَلِكَةِ المُتْرَفَةِ، وكَثُرتْ ظُنونُهم، واختَلَفَت آراؤُهم في تعرُّف سِرِّها. فمِنهم مَن يقُولُ: إِنها انصَرفَتْ غاضِبةً لبعْضِ ما انْتَقَدتْه عَلَى الأَميرِ. ومنهم مَنْ قال: شِدَّةُ شَوقِها لرُؤْيةِ البَيتِ المُكَرَّمِ عَطفَتْ بها إِليهِ، ولا يعلَمُ الغَيبَ إِلا اللهُ.
(٥) الأَمير «مسعود»
وكَيْفما كانَ الأَمْرُ، فقَدْ كفَى الله العُطلةَ والتَّأَخُّرَ بِسبَبِها، وأَطْلَقَ سَبِيلَ الحاجِّ. وللهِ الحَمْدُ عَلَى ذلك. وأَبُو هذهِ الخاتُونِ وهُوَ الأَميرُ مسعودٌ —كما أَسلفنا — في بَسْطَةٍ منْ مُلْكِهِ، واتِّساعٍ مِنْ إمْرَتِهِ، يرْكَبُ له — عَلَى ما حُقِّقَ عندَنا — أَكثرُ من مئة أَلفِ فارِسٍ، وصهرُه علَيها (زَوْجُ خاتونَ هذِهِ) نورُ الدِّين: صاحبُ آمِدَ وما سِواها، ويَرْكَبُ له أَيْضًا نحوُ اثْنَيْ عَشَرِ أَلْف فارسٍ.
(٦) خاتون الأُولى
ولخاتُونَ هذِه أَفعالٌ من البِرِّ كثيرةٌ في طَريق الحاجِّ، منها سَقْيُ الماءِ للسَّبِيل، وقَدْ عَيَّنَتْ لِذلك نحوَ ثلاثينَ ناضِحةً (والناضحَة: النَّاقَةُ يُسْتَقَى عليها)، ومثلَها للزادِ (الطَّعامِ). واستجلَبتْ — لِما تختصُّ به من الكُسْوةِ والأَزْوِدَةِ (الأطعمة) وغيرِ ذلك — نحوَ مئة بَعيرٍ. وأَمْرُها يَطُولُ وصْفُهُ. وسِنُّها نحوُ خَمْسةٍ وعِشْرينَ عامًا.
(٧) خاتون الثانية
ولِخاتُونَ الثَّانِيَةِ: أُمِّ مُعِزِّ الدِّينِ صاحبِ الموصل أَفعالٌ كثيرةٌ من الْبِرِّ، وهِيَ زَوْجُ بابَكَ أَخِي نُورِ الدِّينِ الذِي كانَ صاحبَ الشَّام. رحِمَه اللهُ.
(٨) خاتون الثالثة
وخاتونُ الثالثَةُ ابنةُ الدَّقُوسِ صاحبِ أَصْبَهانَ من بلادِ خُراسانَ. وهي أَيضًا كبيرةُ القدرِ، عظيمةُ الشَّأْنِ، مَيَّالَةٌ للخَيْر، كثيرة المَبَرَّات.
وشأْنُ هؤلاءِ الْخَواتِينِ عَجيبٌ جدًّا، فيما هُنَّ بسبِيلِهِ مِن الخَيْرِ، والاحْتِفال في الأُبَّهةِ المُلُوكيَّةِ.
(٩) آبار عثمانَ
وَلمَّا حانُ ظُهْرُ يَوْمِ السَّبْتِ الرابع والعشرينَ لذي الحِجَّةِ أَقْلعْنا وَنَزَلْنا بمقْرَبَةٍ من عُسْفانَ. ثُمَّ أَسْرَيْنا إِليها نصْفَ الليْلِ، وصبَّحْناها بُكْرَةَ يومِ الأَحدِ.
وهي في بَسيطٍ من الأَرْضِ بينَ جِبالٍ، وبِها آبارٌ مَعِينةٌ (ذاتُ ماءٍ ظاهِرٍ جارٍ) تُنْسبُ إِلَى عُثْمانَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ. وبها حَصْنٌ عَتِيقُ البُنْيانِ، ذُو أَبراجٍ مُشَيَّدَةٍ، غَيْرُ مَعْمُورٍ، قَدْ أَثَّر فِيه القِدَمُ، وأَوْهَتْهُ قِلَّةُ العِمارَةِ ولُزُومُ الخراب.
فاجَتْزنا «عُسْفانَ» بأَمْيالٍ، ونزَلْنا مُرِيحين قائلِين (ارْتَحْنا ونمْنا نَومَةَ القَيْلُولَةِ، وهي النومُ في مُنْتَصَفِ النَّهار).
(١٠) مَحَلَّةٌ «خُلَيْصٍ»
ثُمَّ أَقلَعنا إِلَى خُلَيْص — إِثْرَ صلاةِ الظُّهْر — فبلْغَناها عَشِيَّ النَّهارِ. وهِيَ أَيْضًا في بَسِيط منَ الأَرْضِ. وحدائِقُ النَّخْلِ فيها كثيرة. ولهذه المَحَلَّةِ جبل، فِيهِ حِصْنٌ مُشيَّدٌ في قُنَّتِه (أَعْلاهُ)، وفِي البَسيطِ حِصْنٌ آخَرُ قدْ أَثَّرَ فيهِ الخَرابُ.
(١١) عيْنُ «خُلَيْص»
وبها عَيْنٌ فَوَّارَة، قَدْ أُحْدِثَتْ لها أَخادِيدُ في الأَرْضِ مُسَرَّبةٌ (شُقُوقٌ مُسْتَطيلَةٌ في جَوْفِ الأَرْض) يُسْتَقَى منها عَلَى أَفواهٍ كالآبارِ، يُجَدِّدُ الناسُ بها الماءَ، لِقِلَّتِه في الطريقِ، بِسبَب القَحْطِ المُتَّصِلِ. واللهُ يُغِيثُ بِلادَهُ وعِبادَهُ.
وأَصْبَحَ الناسُ بتلكَ العَيْنِ مُقِيمِين — يومَ الإثنين — لإِرْواءِ الإِبل، واسْتِصْحابِ الماءِ.
(١٢) رَكْبُ أَمير الحج
وهذه الجُملَةُ العِراقِيَّةُ، ومَنِ انْضافَ إِليْها من جُموعِ الخُرسانيَّةِ، والمَوَاصِلة (سكان الموصل) ومِن سائرِ جهاتِ الآفاق — مِن الواصِلينَ صُحْبَةَ أَمِير الحاجِّ — جَمْعٌ لا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلاّ اللهُ تعالَى، يَغَصُّ بهم (يضيق) البَسِيطُ الأَفْيَحُ (الواسِعُ الرَّحْبُ)، ويَضِيقُ عنهم المَهْمَهُ الصَّحْصَحُ (الصَّحْراءُ الفَسِيحةُ الأَرْجاءِ). فتَرَى الأَرَضَ تَمِيدُ بهم مَيْدًا (تُزَلْزَل)، وتَمُوجُ بجَمعِهمْ مَوْجًا، فتُبْصِرُ منهم بَحْرًا طامِيَ العُبابِ (زاخرَ المَوْج)، ماؤُهُ السَّرابُ (وهو الَّذي تَراه يَلْمَعُ فِي الأَرْضِ نِصْفَ النهار كأَنَّهُ ماءٌ)، وسُفُنُهُ الرِّكابُ (الإِبِلُ)، وأَشْرَعُتُهُ الظَّلائِلُ المَرْفوعَةُ والقِبابُ. وهي تَسيرُ سَيْر السُّحُبِ المُتَراكِمَةِ، يَتداخَلُ بَعْضُها على بَعْضٍ، ويَضْرِبُ بَعْضُها جَوانِبَ بَعْضٍ، فتُعايِنُ لها تَزاحُمًا — في الْبَراحِ المُنْفَسِحِ — يَهولُ ويَرُوعُ، وتَسْمَع لها اصْطِكاكًا عاليًا، وتَقْرَعُ المحاراتُ فيه بَعْضُها بَعْضًا (والمحاراتُ: نَوْعٌ من الشقادِف يُشْبِهُ الهَوْدجَ). فَمن لم يُشاهِدْ هذا الرَّكْبَ العِراقِيَّ لم يُشاهِدْ مِنْ أَعاجِيب الزَّمانِ ما يُحدَّثُ به، ويُتْحَفُ السَّامِعُ بِغَرابَتِهِ.
(١٣) ضلال المُنفرد
وحَسْبُك أَنَّ النازلَ في منْزلِ مِن منازلِ هذه المَحَلَّةِ، متَى خَرجَ عَنْها لِبَعْضِ شَأْنِهِ — ولم تَكُنْ له دَلالةٌ يَسْتَدِلُّ بها على موْضِعِه — ضَلَّ وتَلِفَ، وعادَ مَنْشُودًا في جُمْلَةِ الضَّوالِّ (أَصْبَح في عِداد التَّائهين الَّذِين لا يُهْتَدَى إِليهم بِغَيْرِ المُنادين)، ورُبما اضطُرَّ إلى الوصولِ إلى مضربِ الأَميرِ، ورفْعِ مسأَلَتِه (حاجَتِه) إِلَيْه، فيأْمُرُ أَحدَ المُنْشِدِين (المُنادين) والهاتِفين (الصائحين) بأَوامِرِه — مِمَّن قد أُعِدَّ لِذلك — أَن يُرْدِفَه خَلْفَه على جمل، ويَطُوفَ به المَحَلَّةَ العجَّاجَةَ (الصَّاخِبَةَ المَمْلوءَةَ صِياحًا وجَلَبةً وضَوْضاءَ) وهو قد ذَكَر له اسمَه، واسمَ جمَّالِه، واسمَ البلد الذي هو منه. فيرفعُ عقِيرَتَه (صَوْتَه) بِذلك، مُعَرِّفًا بهذا الضَّالِّ، ومنادِيًا باسْمِ الجَمَّالِ وبلَدِه، إِلى أَنْ يَقَعَ عليهِ فَيُؤَدِّيَهُ إِليهِ. ولوْ لم يَفْعَلْ ذلك لكان آخِرَ عَهْدِهِ بصاحِبهِ، إِلاَّ أَن يَلْتَقِطَهُ التِقاطًا، أَو يَقَعَ عليهِ مُصادَفَةً واتِّفاقًا.
فهذا من بَعْضِ عجائِبِ شُئونِ هذه المَحَلَّةِ، وعجائبُها أَكْثَرُ من أَن يُحِيطَ بها الوَصْفُ. ولأَهْلِها من قُوَّةِ الجِدَةِ (الْغِنَى) واليَسارِ ما يُعينُهم عَلَى ما هم بسَبِيلِهِ، والمُلْكُ بيدِ اللهِ يُؤْتِيهِ من يَشاءُ.
(١٤) هدايا الخواتين
ولهؤُلاءِ النِّسْوَةِ الْخَواتِين في كلِّ عامٍ — إِذا لَم يَحْجُجْنَ بأَنْفُسِهن — نَواضِحُ مُسَبَّلَةٌ مع الحاجِّ (إِبلٌ يُسْتقَى علَيها الماءُ ليشربَ منهُ الحُجاجُ بِلا ثَمَنٍ). وَهنَّ يُرْسِلْنَها مع ثِقاتٍ يَسْقُونَ أَبْناءَ السَّبيل في المواضِعِ المعروفِ فيها الماءُ، في الطريقِ كلِّه، وﺑ«عرفات» وبالمسجِدِ الحرامِ في كلِّ يومٍ وليلَةٍ. فلَهُنَّ في ذلك أَجْرٌ عظيمٌ. فتَسْمَعُ المُنادِيَ عَلَى النَّواضِحِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بالماءِ لِلسَّبِيلِ، فيُسْرِعُ إِليهِ المُرْمِلُونَ (الذين فَرغَ ما مَعَهم من الزَّادِ والْماءِ — بِقِرَبِهم وأَبارِيقِهِم — فيملَئُونَها)، ويقولُ المُنادِي بصَوْت عالٍ، مُنَوِّهًا بِفَضْلِهِنَّ: «أَبْقَى اللهُ المَلِكَةَ خاتُونَ بنتَ المَلك الذي من أَمرِهِ كَذا، ومن شأْنهِ كذا». ويُحَلِّيهِ بِحُلاهُ (يُلَقِّبُهُ بأَسْمَى رُتَبِهِ، ويُنَوِّهُ بأَنبلِ مَزاياهُ) إِعلانًا باسْمِ الخاتُون، وإظهارًا لصَنِيعها، واسْتِجْلابًا للدُّعاءِ لها من الناسِ. والله لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
وتفسيرُ هذه اللَّفْظَةِ: «خاتونَ» أَنها — عِنْدَهُمْ — بِمَنْزِلَة السَّيِّدَةِ، أَوْ ما يَلِيقُ بهذا اللَّفْظِ المُلُوكيِّ النِّسائِيِّ.
(١٥) طُبول الرحيل
وهذه المَحَلَّةُ — لعِظَمِها وكِبَرِها — تُخَيِّلُ لِرائِيها أَنها دُنْيا بأَسْرِها، وهي على ذلك الاِتساع والاِزدحام، إذا حَطَّتْ رِحالَها، ونَزَلَتْ مَنْزِلَها؛ ثمَّ ضَرَبَ الأَميرُ طَبْلَهُ — للإِنْذارِ بالرَّحيلِ — لَمْ يَكُنْ بينَ اسْتِقْلالِ (انْتِقال) الرَّواحِلِ بأَوْقارِها (أَحْمالِها) ورِحالها ورُكَّابها إِلاَّ لَحَظاتٌ يَسِيرَةٌ.
فلا يكادُ يَفْرُغُ النَّاقِرُ من الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ، إِلاَّ والرَّكائِبُ (الإِبِلُ) قد أَخذَتْ سبيلَها. كلُّ ذلك من قُوَّةِ الاِسْتِعْدادِ، وشدَّة الاِسْتظهارِ (التَّهيُّوِ) علَى الأَسْفارِ.
(١٦) أَنْوارُ الطريق
وإِسْراؤُنا باللَّيلِ بِمَشاعيلَ مُوقَدَةٍ، يُمْسِكُها الرَّجَّالَةُ بأيْدِيهم (والرَّجَّالَةُ هُم: المُشاةُ)، فلا تُبْصِرُ ناقةً من النِّياقِ إِلا أَبصرْتَ أَمامَها مِشعَلًا. فالناسُ يَسِيرونَ منها بين كَواكِبَ سَيَّارَةٍ تُوَضِّحُ غَسَقَ الظَّلْماءِ، وتُباهِي بها الأَرضُ أَنجُمَ السَّماءِ. والمَرافقُ الصِّناعِيَّةُ وغيرها — من المَصالِحِ الدِّينِيَّةِ، والمَنافِعِ الْحَيوانِيَّةِ — كلُّها مَوجودةٌ بهذه المَحَلَّةِ غَيرُ معدُومة، ووَصْفُها يَطولُ، والأَخبارُ عنها لا تَنحصِرُ.
•••
فلمَّا كان ظُهْرُ يومِ الإثنين إِثْرَ الصَّلاةِ، أَقلَعْنا مِن«خُلَيصٍ» مُرْتَحِلِين. وتمادَى سيرُنا إِلى العِشاءِ، ثم نَزَلْنا ونمْنا نومًة خَفِيفَةً. ثم ضُرِبَت الطُّبولُ، فأَقلَعْنا وأَسْرَينا (سِرنا لَيْلًا)، ومازِلْنا في سيرِنا إِلى ضُحًى مِن النَّهارِ، ثم نَزَلْنا مُرِيحِين إِلى أَوَّل الظُّهرِ من يوم الثُّلاثاءِ.
(١٧) وادي السَّمَك
ثم أَقْلَعْنا — من مَنْزِلِنا ذلك — إلى وادٍ يُعرَفُ بِاسْمِ «وادِي السَّمَكِ»، وهوَ اسْمٌ يكادُ يكونُ واقِعًا عَلَى غيرِ مُسَمًّى.
فنزلْناه مع العِشاءِ، وأَصْبَحْنا بهِ مُقيمِينَ يوْمَ الأَرْبعاءِ، لتجديدِ حَمْلِ الماءِ. وهو بهذا الوادي في مُسْتَنْقعاتٍ، ورُبَّما حُفِرَ عليهِ في الرَّمْل.
(١٨) مرحلة شاقة
فأَقْلَعْنا منه أَوَّلَ ظُهْرِ يومِ الأَرْبعاءِ. ثمَّ أَجَزْنا — مع اللَّيْل — عقبةً مُحَجَّرَةً (مملوءَةً حجارةً) كَؤُودًا (صَعْبَةً)، وقد هلك فِيها من الْجِمالِ كثيرٌ. ونزَلْنا في بَسيطٍ من الأَرْضِ، ونِمْنا إِلى نِصْفِ اللَّيْلِ. ثمَّ رحَلْنا في مَهْمَهٍ أَفْيَحَ (فَضاءٍ فسيحٍ)، لا يُدرِكُ آخِرَهُ مَدُّ البَصَرِ، ورَمْلَةٍ مُنْثالَة (مُنْصَبَّة)؛ فَمَشَت الْجِمالُ فيها دُونَ مُقطَّرَةٍ لانْفساحِ طريقِها (مَشَتْ مُتَفَرِّقَةً. والْمُقَطَّرَةُ: أَنْ تَمْشِيَ الجمالُ واحدًا بَعْدِ واحِد).
(١٩) محلة «بدر»
ثمَّ نزلْنا مُرِيحين قائلين يومَ الخميس (نائمين في القيلُولَةِ وَهي وَقتْ الظهر). وَبينَنا وَبينَ «بدْرٍ» مقدارُ مرْحَلَتَيْنِ. فلما كان أَوَّلُ الظُّهْرِ رحلْنا إلى مقْرَبَة من «بدْرٍ» فنَزَلْنا لِنَبيتَ فيها، ثمَّ قُمْنا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْل، فوصَلْنا «بَدْرًا» وَقد ارْتَفَعَ النَّهارُ.
(٢٠) موقعة «بدر»
و«بَدْر» قريةٌ فيها حدائقُ نَخْل مُتَّصِلَةٌ، وَفيها حِصْنٌ عَلَى رَبْوَة مُرْتَفِعَةٍ. ويُدْخَلُ إِليها عَلَى بَطْنٍ وادٍ بين جبالٍ. وَبِبَدْرٍ عيْنٌ فوَّارةٌ. وموضِعُ القَليبِ (البئْر) — الذي كان بإِزائِه الوقْعَةُ الإِسْلاميةُ (غزوَةُ «بَدْرٍ»)، التي أَعَزَّتِ الدَّينَ، وأَذَلَّتِ المُشْرِكِينَ — هو اليومَ نَخيٌ. وَموضِعُ الشُّهَداءِ خلْفَه. وَجبلُ الرَّحْمَةِ — الذي نزلَتْ فيه المَلائِكَةُ — عن يَسارِ الداخِل منها إِلى الصَّفْراءِ.
(٢١) جبل الطُّبول
(٢٢) الصَّفراءُ
واستهلَّ هِلالُ شهر المحرم سنةَ ثمانين وخمس مئة، ليلَةَ السَّبْتِ بمُوافَقَةِ الرابعَ عَشَرَ لشهرِ أَبريلَ — ونحنُ مُقْلِعُون من بدرٍ إلى الصَّفْراءِ، فبِتْنَا بهذه البُقْعَةِ الكريمةِ: «بدرٍ»، حيثُ نصرَ اللهُ المُسلمينَ وقَهَرَ المُشركينَ. وكانَ نُزولُنا بالصَّفْراءِ إِثْرَ صلاة العِشاءِ، فأَصْبَحْنا ذلك اليومَ — أَعْنِي يومَ السبْتِ — مُقِيمِينَ مُرِيحِينَ بها، ليَتَزَوَّدَ الناسُ منها الماءَ، ويأْخُذوا نَفَسَ اسْتِراحَة إلى الظهرِ. ومنها إِلى المدينةِ المُكَرَّمَةِ — إِن شاءَ اللهُ — ثلاثةُ أَيَّام.
(٢٣) الرَّوْحاء
فأَقلَعنا منها — ظُهْرَ ذلك اليوْمِ — وَتمادَى السَّيْرُ بنا إلى إِثْرِ صلاةِ العِشاءِ. والطَّريقُ في وادٍ متَّصِلٍ بينَ جبالٍ. فنزلْنا لَيْلَةَ الأَحَدِ، ثم أَقْلَعْنا نصفَ الليلِ، وَتمادَى سَيْرُنا إلى ضُحًى من النهارِ، فنزلْنا مُرِيحين قائِلين (اسْتَرَحْنا ونِمنا في وَقت القَيْلولَة، وهي: منتصَفُ النَّهار) ببئْرِ «ذاتِ العلَمِ»، وَيَزْعُمونَ أنَّ «عَلِيَّ بنَ أَبي طالبٍ» قاتَلَ الجِنَّ بها. وتعرَفُ أَيضًا بالرَّوْحاءِ. وهذِه البئرُ متَناهِيَةُ بُعدِ الرِّشاءِ (حَبْلُ دَلْوِها طَويلٌ)، لا يكادُ يُلْحَقُ قَرارها، وَهي مَعِينَةٌ (كثيرةُ الماءِ).
(٢٤) وادي العقيق
(٢٥) الرَّوْضة المكرمة
وأَوَّلُ ما يظهرُ للعينِ منارةُ مسجدِها بيضاءَ مرتَفِعَةً. ثُمَّ رحلْنا منها إِثْرَ صلاةِ الظهرِ من يومِ الاثنَيْن، فنزلْنا بظاهر المدينةِ الزهراءِ، والتربةِ البيضاءِ، والبُقْعَةِ المُشَرَّفَةِ بِمُحَمَّدٍ سيِّدِ الأَنْبِياءِ ﷺ صلاةً تَتَّصِلُ مع الأَحيانِ والآناءِ. وفي عشيِّ ذلكَ اليومِ، دخلْنا الحرمَ المُقَدَّسَ لزيارَةِ الرَّوْضَةِ المكرَّمةِ المُطهَّرةِ، فوقَفْنا بإِزائِها مُسَلِّمين. وصلَّيْنا بالروْضَةِ التي بيْنَ القَبْرِ المُقَدَّس والمِنبر، ثم صلَّينا صلاةَ المَغْرِبِ معَ الجماعةِ. وكانَ منَ الاِتِّفاقِ السعيدِ لَنا أَنْ وَجدْنا بَعْض فُسحةٍ في تلكَ الحالِ لاشتغالِ الناسِ بإِقامَةِ مَضارِبِهم، وترتيب رحالِهم؛ فتمكَّنَّا من الغرضِ المقصودِ، وفُزْنا بالمشَهدِ المحمودِ، وأدَّيْنا حقَّ السلام على الصاحِبَيْن الضَّجِيعَيْن: صِدِّيقِ الإِسلامِ وفاروقِه، وانْصَرفْنا إلى رِحالِنا (مَنازلنا) مَسْرُورِين، ولِنعمةِ اللهِ شاكرين.
ولم يبْقَ لنا أَمَلٌ — من آمالِ وِجهَتِنا المبارَكَةِ — ولا وطرٌ إِلاَّ قضَيْناه، ولا غرضٌ — من أَغراضِنا المأْمولةِ — إِلاّ بَلَغْناهُ. وتفرَّغَتِ الخواطرُ للإِيابِ للوطنِ. نظَمَ اللهُ الشَّمْل، وتَمَّمَ عليْنا الفضلَ. والحمدُ لله على ما أَولاه وأَسْداه، وأَعادَهُ من جميل صُنعِه وأَبداهُ، فهو أَهلُ الحمدِ والشكرِ.