الحرَمُ المدَنِي
(١) الرَّوْضة الْمُقدَّسة
الْمَسْجدُ الْمُباركُ مستطيلٌ، وتَحُفُّه — من جهاتِه الأَربعِ — بلاطاتٌ مُسْتَديرةٌ به. ووسَطُه كلُّه صحنٌ مفروشٌ بالرَّمْل والحَصَى. فالجِهَةُ القِبْلِيَّةُ منها لها خَمْسُ بلاطاتٍ، كل بلاطةٍ منها تُشبِه البلاطةَ الأُخرى. والجهةُ الغربيةُ لها أَربع بلاطاتٍ. والروضةُ المُقَدَّسةُ مع آخرِ الجهةِ القِبليةِ، مِمَّا يلي الشَّرْقَ، وانتظمتْ من بلاطاتِه — مما يلي الصحْنَ — في السَّعَةِ اثنَتَيْنِ، وَنَيَّفَت (زادَت وامْتَدَّت) إلى البَلاطِ الثَّالثِ بمقدارِ أَربعةِ أَشبارٍ. وَلها خمسةُ أَركانٍ بخمْسِ صَفَحاتٍ (جوانبَ)، وَشكلُها شكلٌ عجيبٌ، لا يَكادُ يتَأَتَّى تَصوِيرُه وَلا تَمثيلُه. والصفحاتُ الأَربعُ محرَّفَةٌ من القِبلَةِ تحريفًا بديعًا لا يَتَسَنَّى لأحد معه استقبالُها في صَلاتِه، لأَنه يَنحرفُ عن القِبْلةِ. وَأُخبِرْنا أَن عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ —رضي اللهُ عنه — قد اخترعَ ذلك في تدبيرِ بنائِها مخافةَ أَن يتَّخذَها الناسُ مُصلًّى. وَأَخذتْ أَيضًا من الجهةِ الشرْقيةِ سَعَةَ بلاطَتَين. فانتظَم داخلُها — من أَعمِدةِ الأَبْلِطَةِ — ستَّةً. وَسَعةُ الصَّفحةِ القِبليَّةِ منها أَربعةٌ وَعشرونَ شِبرًا. وَسَعَةُ الصَّفحَةِ الشرقيةِ ثلاثونَ شِبرًا. وَما بينَ الرُّكْنِ الشرقِيِّ إِلى الرُّكْنِ الجنوبيِّ صَفحةٌ سَعَتُها خمسةٌ وَثلاثون شِبرًا. وَمن الركْنِ الجنوبيِّ إِلى الركْن الغَرْبيِّ صَفحة سَعتُها تسعةٌ وَثلاثونَ شِبرًا.
(٢) الرأْسُ الكريمُ
ومن الرُّكْنِ الغرْبِيِّ إِلى القِبْلِيِّ صفحةٌ سَعَتُها أَرْبعةٌ وعشْرُون شِبْرًا. وفي هذه الصَّفحةِ صُندوقٌ آبنُوسٌ مُخَتَّمٌ بالصَّنْدَلِ مصفَّح بالفِضَّةِ مُكَوْكَبٌ (مُسَمَّرٌ) بها، هو قُبالَةَ رَأْسِ النَّبِيِّ. ﷺ وطولُه خمسةُ أَشْبارٍ، وعرْضُهُ ثلاثةُ أَشْبارٍ، وارْتِفاعُهُ أَرْبعةُ أَشْبارٍ.
(٣) سَعة الروضة
وفي الصفحةِ — التي بينَ الرُّكْنِ الجنوبيِّ والرُّكْنِ الغَرْبيِّ — موْضِعٌ عليهِ سِتْرٌ مُسْبَلٌ، يقال: إِنهُ كان مهبِط جبريلَ (عليه السَّلامُ)، فجميعُ سعَةِ الرَّوْضَةِ المكَرَّمَةِ — من جميعِ جِهاتها — مائتا شبْر واثنانِ وَسَبْعونَ شِبْرًا. وهي مُؤَزَّرَةٌ بالرُّخامِ البديعِ النَّحْتِ، الرائعِ النعْتِ، وينتهي الإِزارُ منها إلى نحْوِ الثُّلُثِ أَو أَقَلًّ يسيرًا. وعليهِ من الْجِدارِ المُكَرَّمِ ثُلُثٌ آخَرُ قد عَلاه تضميخُ المِسْك والطيبِ مقدارَ نصفِ شِبْر، مسوَّدًا مُشَقَّقًا مُتراكِمًا مع طول الأَزْمِنَةِ والأَيَّامِ. والذي يعلوهُ من الجدار شَبابيكُ عُودٍ مُتَّصِلَةٌ بالسَّمْكَ الأَعْلَى (السَّطْحِ)، لأَنَّ أَعْلَى الرَّوْضَةِ المُباركة متصلٌ بِسَمْكِ المَسْجِدِ (سَقْفِهِ)، وإِلى حَيِّز إِزارِ الرُّخامِ تَنْتَهي الأَسْتارُ. وهي لازوَرْدِيَّةُ اللَّون مُخَتَّمَةٌ بخواتِيمَ بيضٍ مُثَمَّنةٍ ومرَبَّعَة. وفي داخلِ الخَواتيمِ دوائرُ مستديرةٌ، ونقطٌ بيضٌ تَحُفُّ بها. فمنظَرُها منظَرٌ رائِقٌ بديعُ الشَّكل. وفي أَعلاها رسمٌ مائلٌ إلى البيَاضِ.
(٤) الصِّدِّيق والفاروق
وفي الصَّفْحَةِ القِبْلِيَّةِ — أَمامَ وَجْهِ النبيِّ ﷺ مِسْمارُ فِضَّةٍ هو قُبالَةَ الوَجْهِ الكريمِ. فيقِفُ الناسُ أَمامَه للسَّلامِ. وإِلى قدَمَيهِ ﷺ رأْسُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ورأْسُ عمرَ الفاروقِ مِمَّا يَلِي كَتِفَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. فيَقِفُ المُسَلِّمُ مستدبِرَ القِبْلَةِ، ومُستَقْبِلَ الوَجْهِ الكريمِ، فيُسَلمُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ يَمينًا إِلى وَجْهِ أَبي بَكْر، ثم إلى وَجْهِ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهُما. وَأَمام هذِه الصَّفْحَةِ المُكَرَّمَةِ نحوُ العِشرينَ قِنديلًا معلَّقَةً من الفِضَّةِ، وفيها اثْنان منْ ذَهَب.
(٥) الحَوْض المبارك
وفي جوْفِ الرَّوْضَةِ المُقَدَّسَةِ حَوْضٌ صغيرٌ مُرَخَّمٌ، في قِبْلَتِهِ شكلُ محرابٍ، قِيلَ: إِنّه كان بَيْتَ فاطمةَ — رضيَ اللهُ عنْها — ويقالُ هو قبْرُها. والله أَعْلَمُ بحقِيقةِ ذلك. وعن يَمِين الرَّوضَةِ المُكَرَّمَةِ المِنْبَرُ الكريمُ. ومنه إِليها اثْنَتانِ وأَربَعون خُطوةً. وَهو في الحَوْض المُبارَكِ الذي طولُه أَربعَ عشْرَةَ خُطوةً، وعَرضه ست خُطًا — وهو مُرَخَّمٌ كلُّه — وارتفاعُه شبرٌ وَنصفُ شِبْر. وبيْنه وبيْن الرَّوْضَةِ الصَّغِيرَةِ التي بين القبرِ الكريمِ والمِنْبَرِ — وَفيها جاءَ الأَثَرُ أَنَّها روضةٌ من رياضِ الجنةِ — ثمانِي خُطُوات.
(٦) مِنبر الرَّوضة
وفي هذه الرَّوْضةِ يتزاحمُ الناسُ للصلاةِ، وحُقَّ لهم ذلك. وارتفاعُ المِنبرِ الكَريم نحوُ القامةِ أَو أَزيدُ، وسعَتُه خمسةُ أَشبارٍ، وطُولُه خَمْسُ خُطواتٍ، وأَدراجُه ثمانٍ. وله بابٌ — عَلَى هيْئَةِ الشُّبَّاك — مُقفَلٌ يُفتَحُ الْجُمُعةِ، وطُولُه أَربعَةُ أَشبارٍ ونصفُ شبرٍ. والمِنبَرُ مُغَشًّى بعُود الآبنُوسِ.
(٧) مقعد الرسول
ومقْعَدُ الرسولِ — من أَعلاهُ — ظاهرٌ قد طُبِّقَ عليهِ بلوْحٍ من الآبنُوسِ غير مُتَّصِلٍ به، يَصونُه من القُعودِ عليهِ، فيُدْخِلُ الناسُ أَيديَهم إِليهِ، ويتَمسَّحُونَ به، تبرُّكًا بلَمْسِ ذلك المَقْعَدِ الكَريم.
(٨) لُعبة الحَسَنَينِ
وعَلَى رأْسِ رِجل المِنبر اليُمْنَى — حيثُ يضعُ الْخَطيبُ يدَهُ إِذا خطَبَ — حَلْقَةُ فِضَّةٍ مُجَوَّفَةٌ مُستطيلَةٌ تُشبهُ حلْقةَ الْخَيَّاطِ التي يَضعُها في إِصبَعِهِ، صِفَةً لا صِغَرًا، لأَنها أَكبَرُ منها، لاعِبَةٌ، تستَديرُ في مَوضِعها، يزعُم الناسُ أَنها لُعْبةُ الحَسنِ والحُسين — رضيَ اللهُ عنهما — في حال خُطبةِ جَدِّهِما، صلواتُ اللهِ وَسلامهُ عليهِ.
(٩) عمَد المسجد
وطولُ المسجدِ الكريِم مئة خُطوَةٍ وَسِتٌّ وَتِسْعُونَ خُطوَةً. وَسعَتُه مئة وَسِتٌّ وَعِشْرُون خُطوَةً. وَعدَدُ سوارِيه مائَتان وَتِسعُون. وهي أَعمِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ بالسَّمْكِ (السَّقْفِ) دُونَ قِسِيٍّ تَنْعَطِفُ عليْها، فكأَنَّها دعائِمُ قوائِمُ. وهي من حَجَرٍ منْحُوتٍ قِطَعًا قِطَعًا، مُلَمْلَمَةً ومُثَقَّبَة (والْمُلَمْلَمة: المُدَوَّرة المَضْمُومة). تُوضَعُ الواحِدَةُ في الأُخْرَى، ويُفرَّغُ بينَهُما الرَّصاصُ المُذابُ إِلى أَنْ تتَّصلَ عمودًا قائمًا، وَتُكْسَى بِغِلالَةِ جَيَّارٍ (والغِلالَةُ: الطَّبَقَةُ الرَّقِيقَةُ، والجَيَّار: أَخْلاطٌ يُبَيَّضُ بها).
ويبالَغُ في صَقْلِها وَدَلْكِها، فتظهرُ كأَنَّها رُخامٌ أَبْيَضُ.
والبلاطُ المُتَّصِل بالقِبْلَةِ — من الخمسِ الْبَلاطات المذكورة — تَحُفُّ به مقصورةٌ تكتَنِفُه طولًا من غرب إلى شرقٍ، والمحرابُ فيها.
(١٠) مكتبة الحرَم
ويُصلِّي الإمامُ في تِلك الرَّوْضَةِ الصغيرةِ إلى جانبِ الصُّندوقِ. وَبينَها وبينَ الرَّوْضَةِ والقبرِ المُقَدَّسِ مَحْمِلٌ كبيرٌ مدهونٌ، عليه مُصحفٌ كبيرٌ في غِشاءٍ مُقْفَلٍ عليهِ، هو أَحد المصاحِفِ الأَربَعةِ التي وَجَّهَ بها عثمانُ بنُ عفَّانَ — رضَى اللهُ عنه — إِلى البلادِ. وبإِزاءِ المَقْصورةِ إلى جِهَةِ الشَّرْقِ خِزانَتانِ كَبِيرَتان تَحتَويانِ كُتُبًا وَمصاحِفَ، موقوفةً على المسجدِ المُباركِ.
(١١) منازل الأَصْفِياءِ
وَيَلِيهما في البلاطِ الثاني — لجهةِ الشرقِ أَيضًا — دَفَّةٌ (صَفْحَةٌ وَطَرِيقٌ) مُطْبَقَةٌ عَلَى وَجهِ الأَرضِ تُفضِي إِلى خارجِ المسجدِ إلى دارِ أَبي بكرٍ الصِّديقِ. وَهو كانَ طريقَ عائشةَ إِليها. وبإِزائِها دارُ عمرَ بنِ الخطابِ وَدارُ ابنهِ عبدِ الله رضي الله عنهما. وَلا شك أَنَّ ذلك الموضِعَ هو مَوضِعُ الْخَوْخَةِ المُفْضِيَةِ لدارِ أَبي بكرٍ التي أَمرَ النَّبيُّ ﷺ بإِبقائِها خاصةً.
(١٢) سَدَنة الحرم
وأَمامَ الروضةِ المقَدَّسةِ أَيضًا صُندوقٌ كبيرٌ هو للشَّمَعِ والأَتْوارِ التي تُوقَدُ أَمامَ الرَّوضِةِ كلَّ لَيلَةٍ. وفي الجهةِ الشرقيَّةِ بيْتٌ مَصنوعٌ من عُودٍ، هو مَوضعُ مَبِيتِ بعضِ السَّدَنَةِ الحارسِين للمسجدِ المبارَكِ. وَسدنَتُه فِتيانٌ أَحابِيشُ وصَقالِبُ (وَهُما جِنسانِ من النَّاس)، ظِرافُ الهَيئات، نِظافُ الملابس والشَّاراتِ. والمُؤذِّنُ الراتِبُ فِيهِ (الثَّابتُ) أَحدُ أَولاد بلال رضي اللهُ عنه.
(١٣) قبة الزيت
وفي جهةِ جَوفِ الصَّحْنِ قُبةٌ كبيرَةٌ مُحْدَثَةٌ جديدةٌ تعرفُ بقُبَّةِ الزَّيتِ. هي مخزَنٌ لجميعِ آلاتِ المسجدِ المبارَكِ وما يُحتاجُ إليهِ فيه. وَبإِزائِها في الصَّحنِ خمسَ عشْرَةَ نخلةً، وَعَلَى رأْسِ المِحراب الذي في جدار القِبلَةِ — داخِلَ المقصورَةِ — حجرٌ مُرَبَّعٌ أصفَرُ، قدرُ شِبر في شِبرٍ، ظاهرُ البريقِ والبَصيصِ، يقالُ إِنه كان مِرآةَ كِسرَى. واللهُ أعلَمُ بذلك.
وفي أَعلاهُ — داخِلَ المِحرابِ — مِسمارٌ مُثَبَّتٌ في جِدارِه. فيه شِبهُ حُقٍّ صغيرٍ، لا يُعرَفُ من أَيِّ شيءٍ هو. وَيْزْعَمُ أَيضًا أَنه كان كأْسَ كِسرى. واللهُ أَعلَمُ بحقيقَةِ ذلك كلِّه.
(١٤) بدائع الصَّنعة
ونصفُ جدارِ القِبْلَةِ الأَسْفَلِ رخامٌ — موْضوعٌ إِزارًا عَلَى إزار — مُخْتَلِفُ الصَّنْعَةِ والَّلوْنِ، مُجَزَّعُ أَبدع تجزيع. والنصفُ الأَعْلَى من الجدار مُنَزَّلٌ كلُّه بِفُصُوصِ الذَّهبِ المعروفَةِ بالفُسَيْفِساءِ. قد أَنْتَجَ الصُّنَّاعُ فيه نتائِجَ منَ الصنْعَةِ غريبةً تضمَّنَت تصاويرَ أَشجارٍ مختَلفاتِ الصِّفاتِ، مائِلاتِ الأَغْصانِ بثَمَرِها. والمسجدُ كلُّه على تلك الصِّفَةِ، لكنَّ الصَّنْعةَ في جدارِ القِبْلَةِ أَحفلُ، والجدارُ الناظِرُ إِلى الصَّحْنِ من جهةِ القِبْلَةِ كذلك أَحفلُ، وَمن جهةِ الجَوْفِ أَيضًا. والغربِيُّ والشرقِيُّ الناظرانِ إِلى الصَّحْن مجرَّدانِ أَبيضان، قد زُيِّنا برسْمٍ يَتَضَمَّنُ أَنواعًا من الأَصْبِغَةِ، إلى ما يَطُولُ وصفُهُ وذكْرُه، منَ الاِحتفالِ في هذا المسجِدِ المُبارَكِ، المُحْتَوِي عَلَى التُّرْبةِ الطاهرةِ المُقَدَّسَةِ، وَموْضُوعُها أَشْرَفُ، ومحلها أَرْفَعُ من كلِّ ما بهِ تُزَيَّنُ.