من الإسْكندريَة إلى القاهرة
(١) أُمَناءُ السلطان
وكان أَوَّلُ شهر ذي الْحِجَّةِ هُوَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ الَّذِي حَلَلْنا فيهِ بالإِسْكَنْدَرِيَّة، وَأَوَّلُ ما شاهَدْنَا يومَ نُزولنا أَنْ طلَع أُمناءُ إِلى المَرْكَبِ — مِنْ قِبلِ السُّلطانِ — لتقييدِ جميع ما جُلِبَ فيه، فاسْتُحضِر مَنْ كانَ فيهِ من المُسْلِمينَ جميعًا — واحدًا واحدًا — وكُتِبَتْ أَسماؤُهُم وصِفَاتُهم وأَسماءُ بلادهم.
(٢) تَعَسُّفُ الأُمناءِ
وسُئِل كلُّ وَاحِد مِنَّا عَمَّا لَدَيْهِ من سِلَعٍ لِيُؤِّدِّيَ زَكَاةَ ذلكَ كُلِّهِ دُونَ أَنْ يُبْحثَ عَمَّا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكاةُ — مِنْ ذلك — وَمَا لَمْ تَجِبْ. وكَانَ أَكْثَرُهم مسافرينَ لأَداءِ الْفَريضَةِ، لَمْ يَسْتَصْحِبُوا سِوَى زادٍ لِطَريقِهمْ، فلَزِموا أَداءَ زَكاةِ ذلِكَ كُلِّهِ.
(٣) الأُحْدوثَةُ السَّيِّئَةُ
وهذه لا مَحالةَ مِنَ الأُمورِ الَّتِي أَخْفَوْا حقيقتَها، ولبَّسُوا أَمْرَهَا عَلَى السُّلْطَان الكبيرِ المَعروفِ ﺑ«صلاحِ الدِّينِ». ولَوْ عَلِم بذلك — عَلَى ما يُؤْثَرُ عَنْهُ من العَدْلِ وإِيثَارِ الرِّفْق — لأَزالَ ذلك، وكفى اللهُ المُؤْمنِينَ تِلك الْخُطَّةَ الشَّاقَّةَ، واستَأْدَوْا زَكاتَهُمْ، فأَدَّاها النَّاسُ عَلَى أَجملِ الوُجوهِ.
وما لَقِينا ببلادِ هذا الرَّجُلِ — مما تَقْبُحُ ذِكْراهُ — سِوَى هذهِ الأُحْدُوثَةِ التي هي من نَتائج عُمَّالِ الدَّواوينِ.
(٤) عجائب الإسكندرية
وممَّا أُعْجِبْنَا به حُسْنُ وضْعِ البلد، واتِّساعُ أَزقَّتِهِ ومبانيهِ، حتَّى إِنَّنَا مَا شَاهدنَا بلدًا أَوْسَعَ مَسالِكَ مِنْهُ، ولا أَعْلَى مَبْنًى ولا أَحْسنَ منْظَرًا، ولا أَحْفَلَ منه أَسْواقًا.
ومِنَ الْعَجبِ في وَضعه أَنَّ بِناءَه تَحْتَ الأَرْضِ كبنائه فوقَها، وأَعْتَقُ وأَمْتَنُ، كَما أَنَّ الماءَ مِنَ النِّيل يخْتَرقُ جميع دِيارها وأَزقَّتِها تَحْتَ الأَرْضِ، فَتَتَّصِلُ الآبارُ — بعْضُها ببَعْض — ويُمِدُّ بعضُها بعضًا.
وعاينَّا فيها أَيضًا من سَواري الرُّخام وأَلْواحِهِ — كَثْرةً وعُلُوًّا واتِّسَاعًا وحُسْنًا — ما لا يُتَخَيَّلُ بالْوَهم.
(٥) منار الإِسكندرية
ومن أَعْظَمِ ما شاهَدْناهُ من عجائِبها «الْمَنَارُ»، وهُو آيةٌ للمُتَوَكِّلينَ وهِدايةٌ لِلْمُسافِرينَ، لَوْلاَهُ ما اهْتَدَوْا في الْبَحْرِ إِلى برِّ الإِسكندرية. ويَظْهَرُ على أَزْيَدَ من سبعين مِيلًا. ومبْنَاهُ في غايَةِ العَتاقَةِ والوَثَاقَةِ — طُولًا وعَرْضًا — يُزَاحِمُ الْجَوَّ سُمُوًّا وارتفاعًا، وَيَقْصُر عنْهُ الْوَصْفُ، ويَنْحَسِرُ دُونَهُ الطَّرْفُ. ذَرَعْنا أَحَدَ جوانبِه الأَرْبَعِ، فأَلْفَيْنَا فيه خَمْسِينَ باعًا وَنَيِّفًا، ويُذْكَرُ أَنَّ فِي طُولِهِ أَكْثَرَ من مئة وخمسينَ قَامَةً، وأَمَّا داخِلَهُ فَمَرْأَى هائِلٌ اتِّساعُه: مَعارجَ وَمَدَاخِلَ، وكَثْرَةَ مَساكِنَ.
(٦) العناية بالغرباءِ
ومِنْ مناقبِ هذا البلدِ ومفاخِره — العَائِدَةِ في الحقيقة إِلَى سُلْطَانِهِ — المدارسُ التي أَنْشَأَها السُّلطانُ لأَهْل الطَّلبِ والتَّعبُّدِ، الذينَ يفِدون من الأَقطار النائية، فيَلقى كل واحد منهم مسكنًا يأَوِي إِليه، ومدرسًا يعلمه الفنَّ الذي يريدُ تعلَّمَه، وأَجْرًا يكْفِيه في جميع أَحواله، ومحَارسَ لحِراسته وتأْمِينهِ.
•••
واتسعَ اعتناءُ السلطانِ بهؤلاءِ الغُرَباءِ الطارِئينَ، حتَّى أَمَر بتعيين حمَّاماتٍ يَسْتَحِمُّون فيها متى احتاجُوا إِلى ذلك، ونصَب لَهُمْ مُسْتَشْفًى لعلاج مَن مَرِضَ منهمُ، ووكَلَ بهم أَطِبَّاءَ يتفقدون أَحوالَهم. وتحت أَيْدِيهم خُدَّامٌ يَأْمُرونَهم بالنَّظر في مصالِحهم التي يُشِيرونَ بها، مِنْ علاجٍ وغِذاءٍ. وقَدْ رُتِّبَ — أَيضًا — فيهِ أَقوامٌ بِرَسْمِ الزِّيَارة لِلْمرْضَى الذين يأْنَفُونَ مِنْ دُخُولِ ذلك المارَسْتانِ (المُستشفى) — مِنَ الغُرَباءِ خاصَّةً — ويُنْهُون إِلى الأَطباءِ أَحوالَهم، لِيتكَفَّلوا بمُعالَجَتِهم وهُمْ في بُيوتِهمْ.
ومنْ أَشْرفِ هذه المَقاصدِ أَيضًا أَنَّ السلطانَ عَيَّنَ لأَبْناءِ السَّبيلِ — مِنَ المَغارِبةِ — خُبْزَتين لِكُلِّ إِنسانٍ في كلِّ يَوْم، بالِغًا ما بلغُوا، ونَصَب لِتَفْرِيق ذلك — كلَّ يَوْمٍ — إنسانًا أَمِينًا مِنْ قِبَله. ولهذا كُلِّهِ أَوقافٌ مِنْ قِبَلهِ، حَاشَا مَا عَيَّنَهُ لَهُ من زَكاة العَيْنِ. وأَكَّدَ عَلَى المُتَوَلِّين لِذلك — مَتى نقَصهُم من الأَمْوالِ والوظَائِف المَرْسُومَةِ شَيْءٌ — أَن يَرْجِعوا إِلى صُلْبِ مالِه.
(٧) دسائس المتَقَرِّبين
وهذا السلطانُ الَّذِي سنَّ هذه السُّنَنَ المَحمودَةَ، ورسم هذه الرسومَ الكريمةَ، هو «صَلاحُ الدِّين أَبو الْمُظَفَّرِ يوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ» وصَلَ اللهُ صَلاحَهُ وَتوفيقَهُ.
ومنْ أَعجبِ ما اتَّفَق للغرباءِ أَنَّ بعضَ من يُريد التَقرُّبَ بالنصائِح إِلى السُّلطانِ، ذكرَ: أَنَّ أكثرَ هؤلاءِ يأخُذون جِرَايةَ الْخُبْز، ولا حاجةَ لهُم بها، لأَنَّهم لا يَصِلُون إِلا بِزَادٍ يَكْفيهم، فكاد يُؤَثِّر سعيُ هذا المُتَنَصِّحِ المُتَظَاهِرِ بالْغَيْرةِ.
(٨) عدل صلاح الدين
فلمَّا كانَ في أَحَدِ الأَيَّامِ خرج السُّلطانُ — عَلَى سبيلِ التَّطلُّعِ — خارجَ بلدهِ، فتَلقَّى منهم جماعةً قد لَفَظتهُم الصَّحْرَاءُ المُتَّصلةُ بطرابُلْسَ — وقد كادوا يَهْلِكونَ عَطَشًا وجُوعًا — فسأَلَهُم عن وِجْهَتهم، واستطلع ما لديهم، فأَعلموه أَنهم قاصدونَ إِلى بيتِ اللهِ الحرامِ وأَنهم رَكِبوا البَرَّ، وكابدوا مَشَقَّةَ الصَّحْراءِ. فقال: «لَوْ وَصل هؤلاءِ، وهُمْ قد اعْتَسفُوا هذه المجاهِلَ (سَارُوا فيها على غَيْرِ مَعْرِفَة) وكابدُوا من الشَّقَاءِ ما كابَدُوا، وبِيد كُلِّ واحد منهم زِنتُه ذهبًا وفضةً، لوَجب أَنْ يُسَاعَدُوا ولا يُقْطَعُوا عن العادةِ الَّتي أَجْرَيناها ووَقفناها علَيْهم، فالْعَجب مِمَّن يَسْعَى على مِثْل هؤلاءِ ويرومُ التقرُّبَ إِليْنا بِالسَّعي في قَطْعِ ما أَوجَبْناهُ — للهِ عزَّ وجَلَّ — خالصًا لوَجْهِهِ».
ومَآثِرُ هذا السُّلْطَانِ ومقاصدُه فِي الْعَدْلِ لا تُحْصى كَثْرةً.
(٩) مَساجدُ الإِسكَندَريةِ
ومنَ الْغَرِيبِ أَيْضًا — في أَحوالِ هذَا البَلَدِ — تصرُّفُ النَّاسِ فيهِ باللَّيْلِ كتَصرُّفِهم بالنهارِ، فِي جَمِيعِ أَحْوالِهمْ. وهو أَكْثَرُ بلادِ اللهِ مساجِدَ، حتَّى لَيَكُونُ مِنْها الأَرْبَعَةُ والْخَمْسَةُ في مَوضع. ورُبَّما كَانَ لَها أَئِمَّةٌ مُرَتَّبُونَ مِنْ قِبَلِ السُّلطانِ. فَمِنْهُم مَنْ له خَمْسَةُ دَنَانِيرَ مصْريَّةٍ في الشَّهْرِ، وَمنْهُم مَنْ لَهُ فَوْقَ ذلِكَ، ومنْهُم منْ لَهُ دُونَهُ.
(١٠) مدينة «دمنهور»
ثُمَّ كَان الاِنفِصالُ عنِ الإِسكَنْدرِيةِ — عَلَى بَركَةِ اللهِ وحُسْنِ عَوْنِهِ — صَبيحةَ يوْمِ الأَحَدِ الثَّامِنِ لذِي الْحِجَّةِ، فكانَتْ مَرْحَلَتُنا مِنْهُ إِلَى مَوضعٍ يُعْرَفُ ﺑ«دمَنْهُورَ»، وهوَ بَلَدٌ مُسَوَّرٌ فِي بَسِيطٍ — مِنَ الأَرْضِ — أَفْيَحَ (فَسِيحٍ رَحْبٍ)، وهذا الْبسِيط مُتَّصِلٌ مِن الإِسْكَنْدَريَّةِ إِلَى مِصْرَ، والْبَسِيطُ كُلُّه مُحَرَّثٌ (مَزْروعٌ) يعُمُّهُ النِّيلُ بفَيْضِهِ، والْقُرَى فِيه — يمينًا وشِمالًا — لا تُحْصَى كَثْرَةً.
(١١) مدينة «طنطا»
ثُم أَجَزْنَا النِّيلَ فِي مَرْكَبِ تَعْدِيَة. واتَّصَل سَيْرُنا إِلَى مَوْضِع يُعْرَف ﺑ«برْمَةَ»، فكانَ مَبِيتُنا بِهَا. وهي قَرْيَةٌ كبيرَةٌ فِيها السُّوقُ وجَمِيعُ الْمَرافِقِ.
ثُمَّ بَكَرْنَا مِنْهَا يَوْمَ الثُّلاثاءِ، وهو يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ من سنَة ثمانٍ وسَبْعِينَ وخَمْسِ مئة، فَشاهَدْنَا الصَّلاةَ بِمَوْضِعٍ يُعْرَفُ ﺑ «طَنْدِتَا» وهي مِنَ الْقُرَى الْفَسِيحةِ الآهِلَة.
(١٢) مدينة «القاهرة»
واتَّصلَ سَيْرُنا إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ ﺑ«سُبْك»، وكان مَبِيتُنا بها.
واجْتَزْنا ذلكَ اليَوْمَ عَلَى مَوضعٍ حَسَن يُعْرَفُ ﺑ«مَليجٍ»، والعِمارَةُ مُتصلةٌ، والْقُرَى مُنْتَظِمَةٌ فِي طرِيقِنَا كُلِّها.
ثُمَّ بَكَرْنَا مِنها يوْمَ الأَربعاءِ بَعْدَهُ. فَمِن أَحْسَنِ بَلَدٍ مَرَرْنَا علَيْه، موضعٌ يُعْرَفُ ﺑ«قَلْيوبَ»، عَلَى سِتَّةِ أَمْيالٍ من «الْقَاهِرة»، فيهِ الأَسْواقُ الجمِيلَةُ، ومَسْجِدٌ كَبِير.
ثُمَّ مِنها إِلَى «القَاهرةِ» — وهي مدينةُ السُّلْطَانِ الْحَفيلةُ المُتَّسِعَةُ — ثُمَّ مِنْها إِلَى مِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ.
(١٣) المسجد الحسيني
ومن الآثارِ الَّتِي شَهِدنَاها بمدينة «الْقَاهِرَةِ»، ذلك المَشْهَدُ العظيمُ، حيثُ رأْسُ «الحسين بن عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالب» — رَضِيَ اللهُ عَنْهُما — وهُوَ في تابوتِ فِضَّةٍ مَدْفُونٍ تَحْتَ الأَرْضِ، قَدْ بُنِيَ علَيْهِ بُنْيانٌ رَائِعٌ، يَقْصُر الوَصْفُ عنْهُ، ولا يُحِيطُ الإِدراكُ به، مُجَلَّلٌ بأَنْواعِ الدِّيباجِ، مَحفوفٌ بِأَمْثَالِ الْعَمَدِ الكِبارِ: شَمْعًا أَبْيَضَ، ومنْهُ ما دُونَ ذلك، قَدْ وُضِعَ أَكْثَرُها في أَتْوَار — أَعْنِي أَوانِيَ صَغِيرَةً — وكلُّ تَوْر من تلك الأَتوارِ منَ الفضة الخالِصَةِ والْمُذهَّبَةِ.
وعُلِّقت عليه قَنادِيلُ مِنْ فِضَّةٍ، وَحُفَّ أَعْلاَهُ كلُّهُ بأَمْثالِ التَّفَافِيحِ، وكلُّ تُفَّاحَة مِنْ تِلْك التَّفافِيحِ مَصْنوعَةً مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِص، فِي مَصْنَعٍ رائِعِ الْمَنْظَرِ، شبيهِ الرَّوضَة، يُقَيِّدُ الأَبْصَارَ فَلا تَسْتَطيعُ أَنْ تَتحوَّلَ عنهُ لِحُسْنِه. وَفِيهِ مِنْ أَنْواعِ الرُّخَامِ المُجَزَّعِ (المُلَوَّن)، الْغَرِيبِ الصَّنْعَةِ، الْبَدِيع التَّرْصيعِ ما لا يتَخيَّلُه المُتَخَيِّلُونَ.
والْمَدْخَلُ إِلَى هذِهِ الرَّوْضَةِ على مسجدٍ عَلَى مِثَالِها — في التأَنُّق والغرابَةِ — حِيطَانُه كلُّها مِنْ مِثْلِ ذلِكَ الرُّخامِ المُجَزَّعِ الَّذِي وصفْناهُ.
ورأَيْنا الأَسْتَارَ الْبَديعَةَ الصَّنْعةِ — مِنَ الدِّباجِ — مُعَلَّقَةً ترُوعُ الناظِرَ إِليها في كلِّ مكان.
(١٤) مَشاهِدُ أَهْلِ البيت
وفِي تلكَ اللَّيلةِ بِتْنا فِي الجَبَّانَةِ الْمَعْرُوفَةِ بالْقَرافَةِ، وهِي أَيْضًا إِحْدَى عَجَائِبِ الدُّنْيَا — لِمَا تَحْتَويهِ مِنْ مَشاهِدِ الأَنْبِياءِ وأَهْلِ الْبَيْتِ والصَّحابَةِ والتَّابِعين والْعُلَماءِ والزُّهَّادِ والأَوْلياءِ.
(١٥) الْمَشْهَدُ الشافعيُّ
وفيها مَشْهَدُ الإمَامِ الشَّافِعِيِّ، وهو من المَشاهد العظيمة: احتفَالًا واتِّساعًا، وقد بَنَى السُّلْطانُ بإِزائه مَدْرَسَةً لَمْ يَعْمُرْ — بهذِهِ البلادِ — مِثلُها، ولا أَوْسَعُ مِساحَةً، ولا أَحْفَلُ بناءً، يُخَيَّلُ لِمَنْ يتَطوَّفُ عَلَيها أَنَّها بَلَدٌ مُسْتَقِلٌّ بذَاتِه، بإِزائها الحَمَّامُ، إِلَى غَيْرِ ذلِكَ منْ مَرافِقِها. والبِناءُ فيها حتَّى السَّاعَةِ، والنَّفَقَةُ علَيْها لا تُحْصَى.
(١٦) مَأْوَى الغُرَباءِ
ومن العجب أَنَّ تلك القَرَافَةَ كلَّها مساجدُ مبنيَّةٌ ومشاهدُ معمورةٌ، يأْوِي إلَيْها الغرباءُ والعلماءُ والصلَحاءُ والفقراءُ، وإِنَّما يُنْفَقُ عَلَى كُلِّ موضِعٍ منها من قِبَل السُّلطان في كُلِّ شهر. والمَدارِسُ الَّتِي ﺑ«مِصْرَ» و«الْقَاهِرةِ» كذلِكَ. وَحُقِّقَ عِنْدَنَا أَنَّ الإِنْفَاقَ عَلَى ذلك كلِّه نيَّفَ على أَلْفَيْ دينارٍ مَصْرِيٍّ في الشَّهر.
•••
وذُكِر لَنا أَنَّ لجامعِ «عَمْرِ بْنِ الْعَاصِ» ﺑ«مِصْرَ» — مِنَ الْفَائِدَةِ — نَحْوَ الثَّلاثينَ دِينَارًا مصريًّا فِي كلِّ يَوْمٍ: تَتَفَرَّق في مَصالِحه ومُرتَّبات قَوَمَتِه وسَدَنَتِهِ (خُدَّامِهِ) وأَئِمَّتِهِ، والْقُرَّاءِ فيهِ.
(١٧) خطيب المسجد
وفي بعْضِ الْجَوامِعِ رَأَيْنا الْخَطِيبَ يَجْمَعُ — في خُطْبَتِهِ — الدُّعاءَ للصَّحابةِ وللتَّابعين ومَنْ سِواهُم، ولأُمَّهات المُؤمنينَ زَوْجاتِ النَّبِيِّ — صلَّى الله عليهِ وسلَّم — ولعَمَّيْهِ الكَرِيمَيْنِ: «حَمْزَةَ» و«العَبَّاسِ» رَضِيَ الله عنهما، ويُلَطِّفُ الْوَعْظَ، ويُرَقِّقُ التَّذْكِيرَ، حَتَّى تَخْشَعَ الْقُلُوبُ الْقَاسِيَةُ، وتَتَفَجَّرَ الْعُيون الْجَامِدَةُ.
•••
ويأْتِي للْخُطْبَةِ لابِسًا السَّوادَ عَلَى رَسْمِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وصِفَةُ لِبَاسِهِ بُرْدَةٌ سَوْدَاءُ علَيْها طَيْلَسانٌ أَسْوَدُ — وهُو الَّذي يُسَمَّى بِالْمغْرِبِ: الإِحْرَامَ — وعِمامَةٌ سَوْدَاءُ، مُتَقَلِّدًا سَيْفًا. وعنْدَ صُعودِه الْمِنْبَرَ يَضْرِبُ بنَعْلِ سَيْفِهِ الْمِنْبَرَ — فِي أَوَّلِ ارْتقائِه — ضَرْبةً يُسْمِعُ بها الْحَاضِرِينَ، كَأَنَّها إِيذانٌ بالإِنْصَاتِ، وفي تَوَسُّطِه أُخْرَى، وفِي انتهاءِ صُعودِهِ ثَالِثَةً، ثُمَّ يُسَلَّم عَلَى الْحَاضِرِينَ يَمِينًا وَشِمالًا، وَيَقِفُ بَيْنَ رايَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ فِيهِما تَجْزِيعُ بَياضٍ قَدْ رُكِّزَتا فِي أَعْلَى الْمِنبَرِ.
•••
ودُعاؤُه في هذا التَّاريخ للإِمامِ الْعَبَّاسِيِّ «أَبي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ النَّاصِر لدينِ اللهِ»، ثمَّ لمُحْيي دَوْلَتهِ «أَبِي المُظَفَّر يُوسُفَ بنِ أَيُّوب صلاحِ الدين»، ثُمَّ لأَخيهِ — وَلِيَّ عهدِهِ — «أَبي بكْرٍ سَيْف الدِّين».
(١٨) حِصْنُ القلعَةِ
وشاهَدْنا — أَيضًا — بُنْيانَ القَلعةِ، وهُوَ حِصْنٌ يتَّصِل ﺑ«القاهرة» حَصينُ الْمَنَعَةِ، يُرِيدُ السُّلْطانُ أَن يَتَّخِذَهُ مَوْضِعَ سُكْناهُ، وَيَمُدَّ سُورَهُ حتى يَنْتَظِمَ الْمَدِينَتَيْنِ: مِصْرَ الْمَحْروسةَ والْقاهِرَةَ. والمُسَخَّرُونَ في هذا الْبُنْيانِ هُمُ الأُسارَى من الرُّومِ، وعَدَدُهم لا يُحْصَى كَثْرَةً. وَلا سَبيلَ أَنْ يَمْتَهِنَ ذلكَ الْبُنْيانَ أَحدٌ سِواهُمْ.
وهؤُلاءِ الأَسْرَى هُم الْمُتَولَّوْن لجميع امتِهانِهِ ومَئُونته العظيمةِ، كَنَشْرِ الرُّخامِ، ونحْتِ الصُّخورِ العِظامِ، وحَفْرِ الْخَنْدَقِ الْمُحْدِقِ بسُورِ ذلك الْحِصْنِ، وهُو خَنْدَقٌ يُنْقَرُ بالمْعَاوِلِ نَقْرًا فِي الصُّخُور، ولا يزَالُ عَجَبًا مِنَ الْعَجائِبِ الْبَاقِيَةِ الآثارِ.
ولِلسُّلْطَانِ أَيْضًا — بِمَواضِعَ أُخَرَ — بُنْيَانٌ. وهؤلاء الأَسْرَى مِنَ الرُّومِ — الَّذِينَ أَسْلَفْنَا ذِكْرَهُمْ — يَخْدُمونَ فيه.
(١٩) المارَسْتَان
ومِمَّا شاهدناهُ أَيْضًا — من مفاخرِ هذا السلطانِ — المارَستانُ الَّذِي بمدينةِ القاهِرَةِ، وهُو قَصْرٌ من الْقُصورِ الرَّائِعَةِ حُسْنًا واتِّساعًا، أَبْرَزَهُ لِهذه الفَضيلةِ تَأَجُّرًا واحْتِسَابًا، وعيَّنَ قيِّمًا — مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ — وَضَعَ لَدَيْهِ خزائِنَ الْعقَاقِير، ومكَّنَهُ مِنِ اسْتِعْمالِ الأَدْوِيةِ والأَشْرِبَة وإِقامَتِها — عَلَى اخْتِلافِ أَنْواعِها — وَوُضِعَتْ فِي مَقاصِيرِ ذلك الْقَصْرِ أَسِرَّةٌ — يتَّخِذُها الْمَرْضَى مضاجعَ — كامِلةُ الْكُسَا، وَبَيْنَ يَدَىْ ذلكَ الْقَيِّمِ خَدَمَةٌ يتكَفَّلُون بِتَفَقُّدِ أَحْوالِ المَرْضَى بُكْرةً وعَشِيَّةً، فيُقابِلون من الأَغذيةِ والأَشْربِة ما يَليقُ بهم.
وبإِزاءِ هذا الموضِعِ مَوْضِعٌ مُقتطَعٌ لِلنِّساءِ المرضَى، ولهنُّ من يَكْفلُهنَّ.
(٢٠) محابسُ المَجانين
ويتَّصِلُ بهذين الموضِعَيْنِ موضِعٌ آخرُ متَّسِعُ الْفِناءِ، فيهِ مَقاصِيرُ — عليها شَبابيكُ الحديدِ — اتُّخِذَتْ مَحابسَ للمجانينِ. ولهم أَيضًا من يتفَقَّدُ — في كلِّ يوْمٍ — أَحوالَهم، ويُقابلُها بما يَصْلُح لها.
•••
والسُّلطانُ يتَطَلَّع هذه الأَحْوالَ كلَّها بالبحْثِ والسُّؤَال، ويُؤَكِّدُ — في الاِعْتِناءِ بها والْمثابَرَة عليها — غايةَ التأْكيدِ.
وﺑ«مصر» مارَسْتانٌ (مُستشفًى) آخَرُ، على مِثلِ ذلك الرَّسمِ بعَيْنِهِ.
(٢١) في مَسْجِدِ ابْنِ طُولونَ
وبيْنَ مِصرَ والْقَاهِرَةِ المَسجِدُ الكبيرُ المنسوبُ إِلى أَبي الْعبَّاسِ: أَحْمَدَ بن طُولُونَ، وهو من الْجَوامِع العتِيقَةِ الأَنيقَةِ الصَّنْعةِ، الواسِعةِ البُنْيان. جَعلهُ السلطانُ مأْوًى لِلْغُرَباءِ — من المَغارِبةِ — يسكُنونَهُ ويَجْتَمِعُون فيه. وأَجْرَى عليْهِمُ الأَرْزاقَ في كلِّ شهر.
•••
ومِنْ أَعجبِ ما حَدَّثَنا بهِ أَحَدُ المُتَخَصِّصِينَ مِنْهُم: أَنَّ السُّلطانَ جعل أَحكامَهم إليهم، ولَم يَجْعل يدًا لأَحد عليهم، فقَدَّموا — مِن أَنْفُسِهم — حاكِمًا يَمْتَثِلُونَ أَمرَهُ، ويتَحاكمونَ في طَوارِئِ أُمورِهمْ عنْده. واسْتَصْحَبُوا الدَّعَةَ والعافِيةَ، وتفرَّغُوا لِعبادةِ ربِّهِمْ، ووجَدوا — مِن فَضْل السُّلطان — أَفْضل مُعينٍ على الْخَيْرِ الَّذِي هُمْ بِسَبيله.
(٢٢) الفقراءُ واليتامى
وما مِنْها جامِعٌ مِنَ الْجوامِع، ولا مسجِدٌ مِنَ المَساجِدِ، ولا رَوْضةٌ من الرَّوضاتِ المبنِيَّةِ على الْقُبورِ، ولا محْرَسٌ من المَحارس، ولا مدْرسةٌ من المدارس، إِلاَّ وَفَضْلُ السُّلطانِ يعُمُّ جمِيع مَنْ يَأْوى إِليها، ويُلْزَمُ السَّكَنَ فيها. تَهُون عَلى السُّلْطانِ — في ذلِك — نفقاتُ بُيوتِ الأَموالِ. ومنْ مآثِرهِ الْكَريمةِ الْمُعْرِبةِ عنِ اعْتِنائِه بأُمورِ المُسْلِمينَ كافَّةً: أَنَّهُ أَمَرَ بِعمارَةِ محاضِرَ أَلْزمها مُعَلِّمين لِكِتَاب اللهِ — عزَّ وجَلّ — يُعَلِّمُون أَبْنَاءَ الفُقراءِ والأَيْتامِ خاصَّةً، وتَجْرِي عليْهِم الْجِرايةُ الكافِيةُ لهمْ.
(٢٣) قناطرُ صلاح الدِّين
ومِنْ مَفاخرِ هذا السُّلطانِ وآثارِهِ — الْبَاقِيةِ الْمَنْفعةِ لِلْمُسْلمينَ — القناطرُ التي شرعَ في بِنائِها بِغَرْبيِّ مِصْرَ. وعَلَى مِقْدارِ سَبْعةِ أَمْيال مِنهَا رصيفٌ ابْتُدِئَ من حَيِّزِ النِّيلِ بإِزاءِ «مصر»، كأَنَّهُ جَبَلٌ مَمْدُودٌ عَلَى الأَرْضِ، تسِيرُ بهِ مقدارَ سِتةِ أَمْيال حتى يتَّصِلَ بتلك القَنْطَرةِ، وهيَ نَحْوُ الأَرْبعينَ قَوْسًا — مِنْ أَكْبَر ما يكونُ — منْ قِسِيِّ الْقَناطرِ. والقَنْطَرةُ مُتَّصِلَةٌ بالصَّحْراء التي تُفْضِي مِنها إلى الإِسكَنْدَرِيَّةِ. له في ذلك تَدْبيرٌ عجيبٌ حازِمٌ — مِن تدابيرِ المُلوك الْحَزَمةِ — إِعْدادًا لحادِثَة تَطْرَأُ مِنْ عدُوٍّ يَدْهَمُ جِهةَ ثَغْرِ الإِسكَندرِيَّةِ عندَ فَيْضِ النيلِ وانْغِمارِ الأَرضِ به، وامتناعِ سلوكِ العساكرِ بسببه.
فَأَعَدَّ ذلك مَسْلَكًا في كُلِّ وقت — إِن احْتيجَ إِلى ذلك — واللهُ يدْفَعُ عَنْ حوْزَةِ المسلمينَ كلَّ متوَقَّعٍ ومحذُور.
(٢٤) أَهرامُ مصر
وبِمَقْربةٍ من هذهِ القنطرةِ الْمُحْدثَةِ، تَرى الأَهرامَ القَديمةَ المُعْجِزَةَ البِناءِ، الغريبةَ المنظر، الْمُرَبَّعةَ الشَّكلِ، كَأَنها القِبابُ الْمَضْرُوبةُ قَدْ قامَتْ في جَوِّ السماءِ، ولا سِيَما الاِثْنانِ مِنها، فإِنَّهما يَغَصُّ الْجَوُّ بهما سُمُوًّا. في سَعةِ الواحدِ مِنها — منْ أَحد أَرْكانِهِ إِلى الرُّكْن الثَّانى — ثَلاثُ مئة خُطْوَةٍ وسِتٌّ وسِتُّون خُطْوَةً، قَدْ أُقيمتْ مِنَ الصُّخورِ العِظامِ المَنْحُوتَةِ، ورُكِّبَتْ تَرْكيبًا هائلًا، بديعَ الإِلْصاقِ دون أَن يتَخَلَّلَها ما يُعينُ على إِلْصاقِها. وَهي مُحدَّدة الأَطْرافِ في رأَى الْعيْنِ، ورُبَّما أَمْكَنَ الصُّعودُ إِليها، عَلَى خَطرٍ ومشَقَّةٍ. فَتَلْقَى أَطرافَها المُحدَّدةَ كأَوْسَعِ ما يكونُ من الرِّحاب. لَو رام أَهلُ الأَرْضِ نَقْضَ بِنائِها لأَعْجزَهُمْ ذلك.
ولأَحدِ الكَبيريْنِ منها بابٌ يُصْعدُ إِليه عَلَى نَحْوِ القامَةِ مِنَ الأَرضِ — أَوْ أَزْيَد — ويُدْخَلُ منهُ إِلى بيْت كَبيرٍ، سَعتُه نَحْوُ الْخَمْسِينَ شِبرًا، وطولُه نحوُ ذلك.
وفي جَوْفِ ذلك البيت رُخامةٌ طويلةٌ مُجَوَّفَةٌ، يُقالُ إِنها قَبْرٌ.
ودونَ الكَبيرِ هَرمٌ سَعتُهُ من الرُّكْنِ الوَاحدِ إِلى الرُّكْنِ الثَّانى مئة وأَرْبعونَ خُطْوَةً. ودونَ هذا الصغيرِ خمسةٌ صِغارٌ; ثَلاثةٌ مُتَّصلَةٌ، والاثنان — عَلَى مَقْربةٍ منها — مُتَّصِلانِ.
(٢٥) «أَبو الهَوْل»
وعَلَى مقْربة منْ هذهِ الأَهْرامِ صُورَةٌ غَرِيبةٌ مِنْ حَجَرٍ، قَدْ قامتْ علَى صِفَةِ آدمِيٍّ هائِلِ المَنْظَر، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الأَهْرَامِ، وظَهْرُهُ إِلى القِبْلَةِ: مَهْبِطِ النّيلِ. وهي تُعْرَفُ بِأَبِي الأَهْوَالِ.
(٢٦) مدينةُ «الجيزة»
وعلَى شَطِّ النِّيلِ مِمّا يَلِي غَرْبِيَّ مِصرَ — والنِّيلُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُما — قَرْيةٌ كَبيرَةٌ حَفْلَةُ الْبُنْيانِ، تُعْرَفُ ﺑ«الْجِيزَةِ»، لهَا — كلَّ يَوْمِ أَحَدٍ — سوقٌ من الأَسْوَاقِ الْعَظِيمَةِ يُجْتَمَعُ إِليها.
ويعْتَرِضُ بيْنَها وبيْنَ «مِصْرَ» جَزِيرَةٌ فِيها مساكِنُ حِسَانٌ، وعَلاَلِىُّ مُشْرِفَةٌ. وَهي مَجْمَعُ اللَّهْوِ والنُّزْهَةِ، وبينها وبينَ «مِصْرَ» خَليجٌ مِنَ النِّيل، يذهبُ بطُولِها نَحْوَ الْمِيلِ، ولها مَخْرجٌ لَهُ.
(٢٧) الْمقياس
وبِهذِهِ الْجزيرَةِ مَسْجِدٌ جَامِعٌ يُخْطَبُ فيهِ، وَيَتَّصِلُ بهذا الْجامِعِ الْمِقياسُ الذي يُعْتَبَرُ فيهِ قَدْرُ زِيَادَةِ النِّيلِ عِنْدَ فَيْضِهِ كلَّ سَنَةٍ. واسْتِشْعارُ ابتدائِهِ في شَهْر يُونْيةَ، ومُعْظَمُ انْتِهَائِهِ أَغُشْتُ (أُغْسْطُس)، وآخِرُهُ أَوَّلُ شَهْرِ أُكْتوبَر. وهذا المِقياسُ عَمُودُ رُخَامٍ أَبْيَضُ مُثَمَّنٌ، في مَوْضِعٍ يَنحَصِرُ فيهِ الماءُ — عِنْدَ انْسِيابِهِ إلَيْهِ — وهُو مُفصَّلٌ على اثْنَتَيْنِ وعشرينَ ذِراعًا مُقَسَّمةً على أَربعةٍ وعشرينَ قِسْمًا: تُعْرَفُ بالأَصابعِ، فإِذا انْتَهَآ الْفَيْضُ عِنْدَهُمْ إِلى أَن يَسْتَوْفي الماءُ تِسْع عشْرةَ ذِراعًا فهي الْغايةُ عِنْدَهُمْ في طِيب العام. والمُتوسِّط عندهُم ما استَوْفى سَبْعَ عشرةَ ذِراعًا، وهُوَ الأَحْسَنُ عِنْدَهُمْ من تِلْكَ الزِّيادةِ. والذي يَسْتَحِقُّ بهِ السُّلْطانُ خَراجَهُ مِنْ بلادِ مصْرَ: سِتَّ عَشْرةَ ذراعًا فصاعِدًا، وعليها يُعْطَى الْبِشارَةَ الذي يُراعِى الزِّيادَةُ في كلِّ يَوْمٍ، ويُعْلِمُ بها مُياوَمَةً حتى تَسْتَوْفِيَ الغايةَ. وإِنْ قَصَّر عَنْ سِتَّ عَشْرةَ ذِراعًا فلا جبايةَ لِلسُّلْطَانِ في ذلك الْعامِ ولا خَراجَ.
ومن مفَاخِرِ هذا السُّلطَانِ أَنَّه سهَّلَ السَّبِيلَ للحُجَّاجِ — بعْد أَن كَادَت تنقَطِعُ. وكَفَى اللهُ المؤمنينَ عَلَى يَدَىْ هذا السُّلطانِ العادِلِ حَادِثًا عَظيمًا، وخَطْبًا أَلِيمًا، فَاسْتَحقَّ بذلك الشُّكْرَ مِن كلِّ مَن يَعتَقِدُ أَنَّ حَجَّ البيتِ الْحَرامِ، أَحدُ القَواعِدِ الْخَمْسِ مِن الإِسلامِ. وَاسْتَوْجَب الدعاءَ له في كلِّ صُقعٍ مِن الأَصْقَاعِ، وَبُقْعَةٍ مِن البِقَاعِ. واللهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ من أَحسنَ عَملا.
(٢٨) الْمُكوس والضرائب
وكان في البِلادِ المِصرِيةِ وسواها مُكُوسٌ وضرائِبُ علَى كلِّ ما يُبَاعُ ويُشْتَرى — ممَّا دَقَّ أَو جَلَّ — حتى كَان الْمَكْسُ يُؤَدَّى عَلَى شُرْبِ ماءِ النِّيلِ، فضْلًا عمَّا سِواهُ. فمَحا هذا السُّلطانُ هذه البِدَعَ اللَّعِينَةَ كلَّها، وبَسَطَ الْعَدْل، وأَمَّنَ السُّبُلَ.
فَاطمَأَنَّ الناسُ — في بلادِه — وزاوَلُوا أَعمالَهم في سَوادِ اللَّيل، كما يُزاوِلونَها في ضَوءِ النَّهار، ولَمْ يسْتَشْعِرُوا لظلامِ اللَّيلِ هَيبةً تَثْنِيهِم عن ذلك، كما شاهدْنا أَحْوالَهم في «مِصرَ» و«الإسْكَنْدَريَّةِ».