من عَيذاب إلى جُدّة
(١) سُفُنُ الحُجَّاج
والمَراكِبُ — التي يُصَرِّفونها في هذا البحِرِ الفِرْعَوْنِيِّ — مُلَفَّقَةُ (مُتَضامَّةُ) الإِنشاءِ والتَّرْكِيبِ، لا يُسْتعملُ فيها مِسْمارٌ الْبَتَّةَ، إِنما هي مَخِيطةٌ بِأَمراس من القِنْبارِىِّ، وهو قِشْرُ جَوْز النَّارَجيل (الْجَوْزِ الهنْدِيِّ). وَهُمْ يَدْرُسونهُ إِلى أَن يُصْبِح خُيوطًا، وثَمَّ يَفْتِلون منهُ أَمْراسًا (حبالًا) يَخيطون بها المَراكِبَ، ويضعون في خلالها قِطَعًا منْ عِيدان النخل، بَدلا من الْمَسَامِيرِ. فإِذا فَرَغوا منْ إِنشاءِ المَرْكَبِ عَلَى هذه الصِّفَةِ، سقَوْها بالسَّمْنِ، أَوْ بدُهْنِ الْخِرْوَعِ، أَوْ بِدُهْنِ القِرْش، وهُو أَحْسَنُها. وهذا القِرْشُ حُوتٌ عَظيمٌ في البحْرِ، يَبْتَلِعُ الغَرْقَى. وإِنما يدْهُنون المَرْكَبَ بدُهن القِرْشِ لِيَلينَ عودُه ويَرْطُبَ — لكَثْرَة الشِّعاب التي تَعْتَرِضُ المَراكِبَ في هذا البَحْر — ولذلك لا يُصَرِّفون فيهِ الْمَرْكَبَ المِسْمارِيَّ.
وعُودُ هذه المَراكِب مَجْلوبٌ منَ الهنْدِ واليَمَن، وكذلك الْقِنْبارِيُّ الذي ذكَرْناهُ آنفًا. ومن أَعْجَبِ أَمْرِ هذه المَراكِب أَنَّ شُرُعَها منْسوجةٌ من خُوصِ شَجَر الْمُقْلِ. فَمَجْموع ما في تلك السُّفُن مُتَناسِبٌ في اختلالِ البِنْيَةِ وضَعْفِ التَّرْكيب، فَسُبْحَان مُسخِّرِها عَلَى تلْك الحال، وتَبَاركَ الْمُسَلِّمُ مِنها، لا إِله سِواهُ.
(٢) طمع المَلاَّحين
ولأَهْلِ «عَيْذَاب» — في الْحُجَّاجِ — أَحْكَامٌ جائِرةٌ، وذلِكَ أَنَّهُمْ يَشْحَنُونَ بِهِم الجِلابَ — وَهِي المَراكِبُ — حتَّى يَجْلسَ بَعْضُهم عَلَى بَعْضٍ، وتَعودَ بِهِم كأَنَّها أَقْفَاصُ الدَّجاجِ الْمَمْلوءَةُ. يَحْمِلُ أَهْلَها عَلَى ذلِكَ الْحِرْصُ والرَّغْبَةُ في الْكِراءِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صاحِبُ الْمَرْكَبِ مِنْهُمْ ثَمَنَهُ فِي طَرِيق واحِدَة، ولا يُبالي بِمَا يصنَعُ الْبَحْرُ بها بَعْدَ ذلِكَ. ويَقُولُونَ:
«عَلَيْنَا بالأَلْواحِ، وعَلَى الحُجَّاجِ بالأَرْوَاحِ».
هذَا مَثَلٌ مُتَعارَفٌ بينَهُم، وهذهِ الْبَلْدةُ هِيَ أَحَقُّ بلاد الله بأَن يُطَهِّرَهَا السَّيْفُ وَيَمْحُوَ مظالمَ أَهْلِيها، ويُنْقِذَ الناسَ من شرورهم.
(٣) سُبُل الحُجَّاج
والأَوْلَى بِالْمَرْءِ أَلاَّ يرَاها وأَلاَّ يذهبَ إِليْها، وأَنْ يكونَ طريقُهُ عَلَى الشامِ إِلى العِراقِ، ويَصِلَ معَ أَمير الحاجِّ البَغْدَادِيِّ. وإِنْ لَمْ يُمْكنْهُ ذلكَ أَوَّلًا، فَيُمكنُه آخِرًا عِنْدَ انْفِضَاضِ الحاجِّ، لِيَتَوَجَّهَ — مع أَمير الحاجِّ هذا — إِلى «بَغْدَادَ»، ومنها إِلى «عَكَّةَ»، فإِنْ شاءَ رَحَلَ منها إِلى «الإِسْكَنْدَرِيَّةِ»، وإِنْ شاءَ إِلى «صِقِلِّيَةَ» أَوْ سِواهُما. ويُمْكِنُ أَنْ يجِدَ مَرْكبًا منَ الرُّومِ يُقْلِعُ إِلى «سَبْتةَ» أَوْ سِواها من بلادِ المُسْلمينَ.
وإِنْ طالَ طريقُه فَيَهونُ لمَا لَقِيَ بِمَدينةِ «عَيْذَاب» ونحْوِها.
(٤) سُلطانُ البُجاةِ
وأَهْلُها الساكنون بِهَا منْ قَبيلِ السُّودانِ، يُعْرفُونَ بالْبُجَاةِ، ولهُمْ سُلْطانٌ منْ أَنْفُسِهم يَسْكُن مَعهُمْ في الْجبالِ المُتَّصِلَةِ بِها.
ورُبَّمَا وَصَل في بَعْضِ الأَحْيانِ، واجْتَمع بالْوالِي — الذي فيها من الْغُزِّ — إِظْهارًا للطَّاعةِ. والْفَوائِدُ كلُّها للسُّلْطان إِلاَّ الْقَليل. وهذه الفِرْقَةُ — مِن النَّاسِ — هيَ أَضَلُّ من الأَنعام سبيلًا، وأَقَلُّ عقولًا، وليسَ لهمْ دينٌ سِوَى كلمةِ التَّوْحيدِ التي يَنْطِقون بها إِظْهارًا للإِسْلامِ. ووَراءَ ذلك — مِنْ مَذاهِبِهِمِ الفاسِدَةِ، وسِيَرهِم — ما لا يُرْضِي وَلا يَحِلُّ.
ورجالُهم ونساؤُهُم يتَصرَّفونَ عُرَاةً — إِلاَّ خِرَقًا يَسْتُرون بها بَعْضَ أَجْسادِهم — وأَكْثَرُهم لا يَسْتَتِرُونَ.
(٥) يومُ السَّفَر
وفي يوْم الاِثْنين: الخامسِ والعشرينَ لربِيعٍ الأَوَّلِ، ركِبْنَا المَرْكَبَ لِلْعُبورِ إِلَى «جُدَّةَ»، فأَقَمْنا يومنا ذلك بالمُرْسَى، لِرُكود الرِّيحِ ومغِيبِ النَّواتِيِّ (المَلاَّحِينَ). فلَمَّا كانَ صَبيحةُ يومِ الثُّلاثَاءِ، أَقْلَعْنا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ — عزَّ وجَلَّ — وَحُسْنِ عَوْنِه المَأْمُولِ، فكانَتْ مُدَّةُ المُقَامِ بِعَيْذَاب — حاشَى يومَ الاِثْنَين المَذكُور — ثلاثَةً وعِشْرينَ يوْمًا، مُحْتَسَبَةً عِنْدَ الله، لشَظَفِ الْعَيْشِ وسُوءِ الْحالِ، واخْتلالِ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ الأَغْذِيَةِ المُوافِقَةِ. وحَسْبُك مِن بَلَد كلُّ شَيءٍ فيهِ مَجْلُوبٌ حتَّى الْمَاءُ، فإِنَّهُ زُعاقٌ (مُرٌّ غَليظ لا يُطاقُ شُرْبُهُ)، والْعَطَشُ أَشْهَى إِلى النَفْسِ منهُ.
فَأَقَمْنا بَيْنَ هواءٍ يُذِيبُ الأَجْسَامَ، وماءٍ يَشْغَل الْمَعِدَةَ عن اشْتِهاءِ الطَّعام.
فَما ظَلَم من عَنَى هذه الْبَلْدةَ بِقَوْلِهِ: «ماءٌ زُعاقٌ، وجَوٌّ كُلُّهُ لَهَبُ».
(٦) سِجن العفاريت
فالْحُلُولُ بها من أَعْظَمِ المَكَارهِ التي حُفَّ بها السَّبِيلُ إِلى الْبَيْتِ الْعتِيقِ، زادَهُ اللهُ تَشرِيفًا وتكْرِيمًا، وأَعْظَمَ أُجُورَ الْحُجَّاجِ عَلَى ما يُكابِدُون، ولا سِيَّما في تِلْك الْبَلْدةِ الشَّقِيَّة، وقد لَهِجَ الناسُ بذِكر قبائحها حتَّى زعَمُوا أَن «سلَيمانَ بْنَ داوُدَ» — عَلَى نَبِيِّنَا وعلَيْهِ السَّلاَمُ — كان قدِ اتخَذها سِجْنًا للْعفارتَةِ (لِلْعَفارِيتِ). وهذه الأُسطُورةُ تُمثِّل ما يلْقَاهُ المُقيم فيها من مشَقَّةٍ وعَناءٍ.
(٧) بحْرُ فِرْعَوْن
وقد تَمادَى سَيْرُنا في البَحْرِ يومَ الثُّلاثَاءِ ويَوْمَ الأَرْبعاءِ بَعْدَهُ بريحٍ فاتِرَةِ الْمَهَبِّ، فلمَّا كان العِشَاءُ من لَيْلَة الخميسِ — ونَحن قد استَبْشَرْنا بِرُؤيةِ الطَّيْر المُحَلِّقةِ من بَرِّ الحِجازِ — لَمَعَ برْقٌ من جِهَة الْبرِّ، وهي جهَةُ الشَّرْقِ، ثُمَّ نَشَأَ نَوْءٌ أَظْلَم له الأُفُقُ إِلى أَن كَسا الْجَوِّ كُلَّهُ سَوَادًا.
وهبَّتْ رِيحٌ شديدةٌ صرَفَتِ المَرْكَبَ عن طريقهِ، راجعًا وراءَهُ. وتَمادَى عُصوفُ الرِّياحِ، واشْتَدَّتْ حُلْكَةُ الظُّلْمةِ وَعَمَّت الآفاقَ، فلَمْ نَدْرِ الجِهةَ المَقصُودَة منها، إِلى أَنْ ظَهر بَعْضُ النُّجوم، فاستَدلَلْنا بها بعْضَ الاسْتِدْلالِ، وحَطَطْنا الْقِلْعَ إِلى أِسْفَل الصَّارِي. وأَقَمْنا لَيْلَتَنا تلكَ في هَوْل يُؤْذِنُ بالْيَأْسِ، وأَرانَا بَحْرُ فِرْعَوْنَ بعْض أَهْوالِه المَوْصُوفَةِ، إِلى أَن أَتَى اللهُ بالْفَرجِ مُقْتَرِنًا مع الصَّباحِ، فسَكَنَتِ الرِّيحُ، وأَقْشَعَ الغَيْمُ، وأَصْحَت السَّماءُ.
(٨) عائِقَةُ السُّفُنِ
ولاح لنا بَرُّ الحجاز — عَلَى بُعْدٍ — لا نُبْصِرُ منه إِلاَّ بعضَ جِبالِه، وهي شَرْقًا من «جُدَّةَ». زَعَمَ رُبَّانُ المَرْكَبِ — وهو الرائِسُ — أَنَّ بينَ تلك الجبالِ التي لاحَتْ لنا وبَرِّ «جُدَّة» يَوْمَيْنِ، واللهُ يُسَهِّلُ لنا كلَّ صَعْب ويُيَسِّرُ لنا كلَّ عَسيرٍ. فجرَيْنا يَوْمَنا ذلك — وهو يومُ الْخَمِيسِ — برِيحٍ رُخَاءٍ طَيِّبَةٍ، ثمَّ أَرْسَيْنَا عَشِيَّةً في جَزِيرةٍ صغيرة في الْبَحْرِ على مَقْرَة مِنَ الْبَرِّ؛ بعد أَنْ لقِينا شِعابًا كثيرةً يكْثُر فيها الماءُ ويَضْحَلُ (يَقلُّ)، فتخلَّلنا في أَثنائها على حَذَر وتَحَفُّظٍ. وكانَ الرُّبَّانُ بَصِيرًا بصَنْعَتِهِ حاذِقًا فيها، فخلَّصنا اللهُ منها حتى أَرْسَيْنَا بتلكَ الْجَزيرَةِ، ونَزَلْنَا إِليها، وبِتْنَا بها ليلةَ الجُمُعَةِ التاسعِ والعشرينَ لرَبيعٍ الأَوَّلِ. وأَصبَح الهواءُ راكدًا والرِّيحُ غيرَ متنَفِّسَةٍ إِلاَّ من الجهةِ التي لا تُوافِقُنَا، فأَقَمْنَأ بها يومَ الجُمُعَة. فلمَّا كان يومُ السَّبْتِ تنَفَّستِ الرِّيحُ بعضَ تنَفُّسٍ؛ فأَقْلَعْنَا — بذلك النَّفَسِ — نَسِيرُ سَيْرًا رُوَيْدًا، وسكَنَ البَحْرُ حتى خَيَّلَ لناظِرِهِ أَنه صَحْنُ زُجاج أَزْرَقُ، فأَقَمْنا على تلك الحالِ نرجو لطيفَ صُنْعِ اللهِ، عزَّ وجَلَّ. وهذه الجزيرةُ تُعْرَفُ بجزيرةِ «عائِقَةِ السُّفُنِ»، فعَصمَنا اللهُ من فَأْلِ اسْمِها المَذْمومِ، وللهِ الحَمْدُ والشُّكْر على ذلك.
(٩) ميناء أَبحر
استهلَّ هِلالُ ربيعٍ الآخِرِ — ليْلَةَ السَّبْتِ — ونَحْنُ بتلك الْجَزِيرَةِ. ولم يَظْهَرْ تلك اللَّيْلَةَ للأَبْصَارِ — بسببِ الغُيُوم والمَطَرِ — لكنَّهُ ظَهَر في اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ كبيرًا مُرْتَفِعًا، فَتَحَقَّقْنَا إهلالَ لَيْلَةِ السَّبْتِ.
وفي عَشِيِّ يَوْمِ الأَحَدِ أَرْسَيْنَا بِمُرْسًى يُعْرَفُ ﺑ«أَبْحر»— عَلَى بَعْضِ يَوْمٍ من «جُدَّةَ» وهُوَ من أَعْجَبِ المَرَاسى وَضْعًا. وذلك أَن خَلِيجًا مِنَ الْبَحْرِ يَدْخُل إِلى البَرِّ، والبَرُّ مُطِيفٌ بهِ من كِلْتَا حَافَتَيْهِ، فَتُرسِي المَراكِبُ منه في قَرارةٍ هادِئَةٍ.
فلمَّا كان سَحَرُ يومِ الإثْنَيْنِ بَعْدَهُ، أَقْلَعْنَا منهُ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ — تعالى — بريحٍ فاتِرَة، فلمَّا جَنَّ الليلُ أَرْسَيْنَا على مقرَبةٍ من «جُدَّة»، وهيَ بمَرْأَى الْعيْنِ مِنَّا. وحالَتِ الريحُ صبيحةَ يومِ الثُّلاثاءِ بيننا وبين دُخول مُرْسَاها، ودُخولُ هذه المراسى صعْبُ المَرامِ، بِسَبَبِ كَثْرة الشِّعاب والتفافِها.
(١٠) مُرْسَى «جُدَّة»
وفي ظُهرِ يَوم الثُّلاثاءِ كَان نُزُولنا ﺑ«جُدَّة» حامِدينَ الله — عزَّ وجَلَّ — وشَاكِرينَ عَلَى السَّلامَةِ والنَّجاةِ مِن هَوْلِ ما عايَنَّاهُ في تلك الثَّمانِيَةِ الأَيامِ طُولَ مُقامِنا عَلَى البَحْرِ.
وكَانَت أَهوالٌ شَتَّى، عصمَنا اللهُ منها بفَضْلِهِ وكَرمِه. فمِنْها ما كَان يطْرَأُ مِن البَحْر واخْتِلافِ رِياحِه وكَثْرة شِعابه المُعْتَرضةِ فيه. ومنْها ما كَان يطْرأُ من ضَعْفِ عُدَّةِ الْمَراكِب واختِلالِها واقتِصامِها (كَسْرِها) — المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ — عِنْدَ رَفعِ الشِّرَاعِ، أو حَطِّهِ، أَو جَذْبِ مِرْساةٍ مِن مَراسِيهِ. وربَّمَا جَنَح أَسَفَلُ المَرْكبِ لِشِعْبٍ مِن تلك الشِّعابِ — في أَثناءِ تَخَلُّلهِ — فنَسْمَعُ لَهُ هَدًّا وقَصْفًا يُؤْذِنانِ بالْيَأْسِ. فكُنَّا فيها نمُوتُ مِرارًا، ونَحيَا مِرارًا.
•••
والْحَمْدُ للهِ — عَلَى ما مَنَّ به منَ العِصْمَةِ، وتكَفَّلَ به من الوِقَاية والكِفَايةِ — حَمْدًا يَبلُغُ رضَاهُ، ويَسْتَهْدِي المَزيدَ مِن نُعْمَاهُ.