من جُدّة إِلى مَكّة
(١) صاحِبُ «جُدَّة»
وكَان نُزُولُنا فيها بِدارِ القَائِدِ: «عَلِيٍّ»، وهُو صاحبُ «جُدَّة» مِن قِبَل أَميرِ «مَكَّةَ». وقد حَلَلْنا صَرْحًا مِن تلك الصُّرُوحِ الْخُصوصِيَّةِ التي يَبْنُونَها في أَعالِى ديارِهم ويَخرُجون مِنها إِلى سُطوح يَبِيتُون فيها.
وعندَ احْتلالِنا «جُدَّة» عاهَدْنا اللهَ — سُرُورًا بِمَا أَنعَمَ اللهُ به منَ السَّلامَةِ — أَلاَّ يكونَ انْصِرافُنا عَلَى هذا البَحْرِ المَخُوفِ الهَائِل، إِلاَّ إِنْ طَرأَتْ عَليْنا ضَرُورَةٌ تَحُولُ بيْننَا وبينَ سِواهُ منَ الطُّرُق، واللهُ وَلِيُّ الِخِيرَةِ.
(٢) آثارُ «جُدَّة»
و«جُدَّة» هذهِ، قَرْيةٌ عَلَى ساحِل البَحْرِ، أَكْثَرُ بُيوتِها أخصَاصٌ. وفيهَا فنَادِقُ مَبْنِيَّةٌ بالْحِجَارَةِ والطِّينِ، وفي أَعلاها بُيوتٌ مِن الأَخصاصِ كالْغُرَفِ، ولها سُطُوحٌ يُسْتَراحُ فيها — بالَّليل — مِن أَذَى الْحَرِّ. وبهذِه الْقَرْيةِ آثارٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّها كانت مدينَةً قديمةً، وأَثَرُ سُورِها الْمُحْدِقِ بها باقٍ إِلى الْيَومِ.
وبها مَوضِعٌ فيهِ قُبَّةٌ مُشَيَّدَةٌ عَتيقَةٌ، يُذْكَرُ أَنهُ كَان مَنْزِلَ «حوَّاءَ» أُمِّ الْبَشَرِ — صلَّى اللهُ عليْها وسَلَّم — عِنْدَما تَوَجَّهَتْ إِلى «مكَّةَ» فَبُنِيَ ذلك الْمَبْنَى علَيهِ، تَشْهِيرًا لِبَرَكَتِه، وإِذاعَةً لفَضْلِه، واللهُ أَعْلَمُ.
(٣) أَهْل «جُدَّة»
وأَكْثَرُ سُكانِ هذهِ الْبَلْدةِ — معَ ما يَلِيها مِنَ الصَّحْراءِ والْجِبال — أَشرَافٌ. وهُم — مِنَ الْفَقْرِ وشَظَفِ الْعيْشِ — بِحالٍ يتَصَدَّعُ لهَا الْجَمَادُ إِشفَاقًا وحُزْنًا. ويَسْتَخْدِمونَ أَنْفُسَهُمْ في كلِّ مِهْنَةٍ منَ المِهَنِ، مِنْ إِكْراءِ جِمَالٍ — إِنْ كَان لهُمْ جِمَالٌ — أَو مَبيعِ لَبَنٍ أَو ماءٍ، إِلى غَيرِ ذلك مِنْ ثَمَرٍ يلْتَقِطُونَهُ، أَو حَطَبٍ يَحتَطِبُونَه. ورُبَّمَا شَارَكَتْهُمْ في هذه المِهنِ الْحَقيرةِ نِساؤُهُم الشرِيفَاتُ بأَنْفُسِهِنَّ. فسُبحانَهُ المُقَدِّرِ لِمَا يَشَاءُ.
(٤) آبار «جُدَّة»
وبِخَارجِ هذه البَلْدَةِ مَصانعُ قديمةٌ تدُلُّ عَلَى قِدَمِ اخْتِطاطِهَا وإِنشائها. ويُذْكَرُ أَنها كَانتْ مِن مُدُنِ الفُرْسِ. وبها جِبابٌ (آبار) مَنْقُورَةٌ في الْحَجَر الصَّلْدِ، يَتَّصِلُ بَعْضُها ببعْض، تفوتُ الإِحْصاءِ كَثْرَةً. وَهي داخِلَ الْبَلَدِ وَخارِجَهُ، حتى إِنهم يَزْعُمون أَن التي خارجَ الْبَلدِ ثَلاثُ مئة وسِتُّونَ جُبًّا، ومثْلَ ذلك داخِلَ البَلَدِ. وعايَنَّا نَحْنُ جُمْلَةً كَثيرَةً لا يأْخُذُها الإِحْصاءُ.
وعجائِبُ المَوْضوعاتِ كَثيرَةٌ، فَسُبحانَ الْمُحِيطِ عِلْمًا بها.
(٥) مَذاهِبُ المُتَطرِّفينَ
وأَكْثَرُ هذه الْجِهاتِ وَسِوَاها فِرَقٌ وَشِيَعٌ، لا دينَ لهُمْ، قد تَفرَّقوا عَلَى مَذاهِبَ شَتَّى. وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ في الحاجِّ ما لا يُعْتَقَدُ في أَهْلِ الذِّمَّةِ، قدْ صَيَّرُوهُمْ منْ أَعْظمِ غَلاَّتهِم التي يَسْتَغِلُّونها: ينْتَهبونهم انتِهابًا، ويَنْتَحِلونَ الأَسبابَ لاغْتِصابِ ما بِأَيْدِيهم اغْتِصابًا، واسْتجلابِ ما يَمْلِكُون اسْتجلابًا. فالحاجُّ معهم لا يزالُ في غرامَةٍ ومَشَقَّة، إلى أَن يُيَسِّرَ اللهُ رُجُوعَهُ إِلى وَطنهِ.
(٦) فضلُ «صلاحِ الدِّينِ»
وَلَوْلا ما تلافي اللهُ به المُسْلمِينَ في هذه الْجِهَاتِ — ﺑ«صَلاحِ الدِّينِ» — لأَرْهَقَهُمُ الظُّلْمُ. فإِنهُ رفَعَ ضَرائبَ الْمُكُوس عن الحاجِّ، وجَعلَ — عِوَضَ ذلك — مَالًا وَطعَامًا، يأْمُرُ بتَوْصيلِهما إِلى «مُكْثِرٍ» أَميرِ «مكَّةَ». فَمتَى أَبْطأَتْ عَنهُمْ تلْك الْوَظيفَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ لهُمْ — مِن المَال والطَّعَامِ — عادَ هذا الأميرُ إِلى تَرْوِيعِ الحاجِّ وتَخْوِيفهِمْ وانْتِهابِ ما مَعَهُمْ بِسبَبِ الْمُكُوسِ.
وَاتَّفَقَ لَنا — من ذلك — أَنْ وَصَلْنَا «جُدَّة»، فأمْسَكْنَا بها خِلالَ ما خُوطِبَ «مُكْثِرٌ» الأَمِيرُ، فورَدَ أَمْرُهُ بِأَنْ يَضْمَنَ الْحاجُّ: بعْضُهُمْ بَعْضًا، ويَدخلوا إلى حَرَمِ اللهِ، فإِنْ ورَدَ المَالُ والطَّعَامُ اللَّذَانِ بِرَسْمِهِ مِنْ قِبَلِ «صَلاحِ الدِّينِ» وَإِلاَّ فهو لا يَتْرُكُ مالَهُ قِبَلَ الحاجِّ. هذا لَفْظُهُ وكلامُهُ، كأَنَّ حَرَمَ اللهِ ميراثٌ بيَدِهِ، مُحَلَّلٌ أَن يتقَاضَى أَجْرَهُ منَ الْحَاجِّ. فَسُبْحَانَ مُغَيِّر السُّنَنِ ومُبَدِّلِها.
وقَدْ جَعلَ لَهُ «صلاحُ الدِّينِ» — بَدَلًا لِتأْمين الْحَاجِّ — أَلْفَيْ دِينَار وأَلْفَيْ إِرْدَبٍّ من الْقَمْحِ، حَاشى إِقْطاعاتٍ أُقْطِعَها بِصعِيدِ مِصْرَ، وبِجِهة الْيَمَنِ بهذا الرَّسْم المَذكُورِ.
ولَوْلاَ مَغِيبُ هذا السُّلْطَانِ الْعَادِلِ: «صَلاَحِ الدِّين» بجهةِ الشَّام — في حُروبٍ لهُ هناكَ معَ الإِفْرِنْجِ — لما صَدَرَ عنْ أَمِيرِ «مَكَّةَ» — هذا — ما صَدَرَ مِنْ ظُلْمِ الْحَاجِّ.
(٧) قُطَّاعُ الطُّرُقِ
فأَحَقُّ بلادِ اللهِ بأَنْ يُطَهِّرَها السَّيْفُ ويَغْسِلَ أَرْجاسَها وأَدْنَاسَها — بالدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ في سبيلِ اللهِ — هذهِ الْبِلاَدُ الحِجَازِيَّةُ، لِما هُمْ عليهِ من فَكِّ عُرَا الإِسْلاَمِ، واسْتِحْلاَلِ أَمْوالِ الحَاجِّ ودِمَائِهم. وقد اتَّخَذُوهُ مَعيشَةَ حَرَامٍ، وجَعلُوهُ سببًا إِلى اسْتِلاَبِ الأَموال ونَهْبِها، ومُصادَرَةِ الحُجَّاجِ عليها، وضَرْبِ الذِّلَّةِ والْمَسْكَنِة عليهم. فَهُمْ يَعْتَبِرُونَ المُسْلِمِينَ كأَنَّهُمْ أَهلُ ذِمَّة لَدَيْهِمْ، ويَسْتَجْلِبُونَ أَموالَهُمْ — بِكلِّ حِيلَة وسبب — وَيَرْكَبُونَ طَرَائِقَ من الظُّلْم لم يُسْمَعْ بمِثْلِهَا.
ولا رَيْبَ أَنَّ هذا السُّلْطَانَ الْعادِلَ «صلاحَ الدِّينِ» الذي قد ذكَرْنَا سِيرَتَهُ ومَناقِبَهُ — لَوْ كَانَ لهُ أَعْوَانٌ علَى الحَقِّ لاسْتَطاعَ أَن يُنقِذَ المُسْلِمينَ بِجَمِيلِ نَظَرِهِ، ولَطِيف صُنْعِهِ.
(٨) مُكْثِرُ بْنُ عِيسَى
وَفِي عَشِيِّ يَوْمِ الثُّلاثاءِ الحادِى عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ كانَ انْفِصَالُنا مِنْ «جُدَّة»، بَعْدَ أَنْ ضَمِنَ الْحُجَّاجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَثبتَتْ أَسْماؤُهُمْ فِي زِمَامٍ عِنْدَ قَائِدِ «جُدَّةَ»: «علِيِّ بْنِ مُوَفَّقٍ»، حَسْبَما نَفَذَ إِلَيْهِ ذلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ صَاحِبِ «مَكَّة: مُكْثِرِ بْنِ عِيسَى».
وهذَا الرَّجُلُ «مُكْثِرٌ» مِنْ ذُرِّيَةِ «الْحَسَنِ بنِ علِيٍّ»، رِضْوانُ اللهِ علَيْهمَا؛ لكِنَّهُ مِمَّنْ يَعْمَلُ غَيْرَ صَالِحٍ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْل سَلَفِهِ الْكَريمِ.
(٩) مَحَلَّةُ الْقَرين
وأَسْرَيْنَا تِلك اللَّيلَةَ إِلى أَن وَصَلْنا «الْقَرينَ» مع طُلوعِ الشَّمْسِ. وهذا الْمَوْضِعُ هو مَنْزِلُ الْحَاجِّ ومَحَطُّ رحَالِهم، ومنهُ يُحْرِمُونَ، وَبِهِ يُرِيحُونَ الْيَوْمَ الذي يُصْبِحُونَهُ.
•••
فإِذا كان في عَشِيَّة، رفَعُوا وأَسْرَوْا لَيْلَتَهُم وصبَّحُوا الْحرَمَ الشَّرِيفَ، زادَهُ اللهُ تَشْرِيفًا وتَعْظِيمًا. والصَّادِرُون مِن الْحَجِّ يَنْزِلون بهِ أَيْضًا، وَيُسْرُون منهُ إِلى «جُدَّةَ»، وبهذا الْمَوضِعِ بئْرٌ عَذْبةٌ مَعِينَةٌ (قَرِيبَةُ الْمَاءِ)، والْحَاجُّ — بِسَبَبِها — لا يَحْتاجُون إِلى تَزَوُّدِ الْمَاءِ غَيْرَ لَيْلَةِ إِسْرائِهِمْ إِلَيْهِ.
فأَقَمْنَا بَياضَ يَوْم الأَرْبعاءِ، مُريحينَ بالْقَرِين.