الحرَمُ المَكىّ
(١) مكةُ المُكرمة
فلَمَّا حانَ وقْتُ الْعَشِيِّ رُحْنَا مِنهُ مُحْرِمينَ بعُمْرَة، فأَسرَيْنَا ليْلَتَنا تلك، فكانَ وُصولُنا مع الْفَجْرِ إِلى قَريبِ الْحَرمِ. فنَزَلْنَا مُرْتَقِبِينَ لانْتِشَارِ الضَّوْءِ، ودخَلْنا «مكَّةَ» — حَرَسها اللهُ — عَلَى باب العُمْرَةِ — في السَّاعَةِ الأُولَى مِنْ يَومِ الْخَميس الثالِثَ عشَر لِرَبيعِ الآخِرِ، وهُوَ الرَّابعُ منْ شَهْرِ أَغُشْتَ (أَغُسطُسَ). وكَان إِسرَاؤُنَا تلك اللَّيْلةَ والبَدْرُ قَدْ أَلْقَى عَلَى البَسِيطَةِ شُعَاعَهُ، واللَّيْلُ قدْ كَشَفَ عنَّا قِنَاعَهُ، والأَصْواتُ تَصُكُّ الآذانَ، بالتَّلبِيَةِ منْ كلِّ مكانٍ، والأَلْسِنةُ تَضِجُّ بالدُّعاءِ، وتَبْتَهِلُ إِلى اللهِ بالرَّغْبَاءِ (الضَّراعَةِ). فَتارَةً تَشتَدُّ فِي التَّلبِيَةِ، وآوِنَةً تَتَضرَّعُ بالأَدْعِيَةِ. فيا لَها لَيْلَةً كَانت في الحُسْنِ بَيضَةَ الدِّيك، فَهيَ عَرُوسُ لَيَالِى الْعُمْر.
(٢) حَرَمُ الكعْبَةِ
وهكَذَا بَلَغْنَا حرَمَ اللهِ العَظِيمَ، ومُبَوَّأَ الْخَلِيلِ «إِبْرَاهِيمَ»، فأَلْفَيْنَا الكَعْبَةَ: الْبَيْت الْحَرَامَ، عَرُوسًا مَجْلُوَّةً مَزْفُوفةً إِلى جَنَّةِ الرِّضوانِ، محفُوفَةً بوُفُودِ الرَّحْمنِ. فَطُفْنا طَوافَ الْقُدومِ، ثُمَّ صلَّيْنا بالْمقامِ الْكَرِيمِ، وتعَلَّقنَا بأَسْتار الْكَعْبةِ — عِنْدَ المُلْتَزَمِ — وهُوَ بيْنَ الْحَجَرِ الأَسْودِ والْباب. ودخَلْنا قُبَّةَ «زَمْزَمَ» وشَرِبْنا مِنْ مائِها. ثُمَّ سَعَيْنا بيْنَ الصَّفا والْمَرْوَةِ، ثُمَّ حلَقْنا وأَحْلَلْنا. فالْحَمْدُ للهِ الَّذِي كَرَّمَنا بالوِفادَةِ علَيْهِ، وهُو حَسْبُنا ونِعْمَ الْوَكِيلُ.
وكان نُزُولُنا فِيها بدارٍ قَريبَةٍ من الْحَرَمِ، ومِن بابِ السُّدَّةِ: أَحَدِ أَبْوابِهِ، في حُجْرةٍ كَثِيرةِ المَرَافقِ المَسْكَنِيَّةِ، مُشْرِفةٍ عَلَى الْحَرم وعَلَى الكَعبَةِ المُقَدَّسَةِ.
(٣) أَسْعَدُ الأَهِلَّة
اسْتَهلَّ هلالُ «جُمَادَى الأُولَى» وقد كَمَلَ لنا بمكَّةَ ثمانيةَ عشَرَ يومًا، فهِلالُ هذا الشهْرِ أَسْعَدُ هِلاَل اجتلتْهُ أَبْصَارُنَا، فيما سَلَفَ من أَعْمَارِنَا. طلع علينَا وقد تَبَوَّأْنا مَقعَدَ الْجِدارِ الكَريمَ، وحرمَ اللهِ العظيمَ، والقُبَّةَ التي فيها مَقامُ إِبراهيمَ، ومَبْعثَ الرسول، ومَهْبِطَ الرُّوحِ الأَمينِ: «جبريلَ» بالوحْي والتنزيل.
فأَلهَمَنا اللهُ شكرَ هذه المِنَّةِ، وعرَّفَنا قَدْرَ ما خصَّنَا به من نِعْمَة، وخَتَمَ لنا بالْقَبُولِ، وأَجْرَانَا عَلَى كريمِ عَوائِدِه، من الصُّنْعِ الجميل، ولَطيفِ التَّيْسِيرِ والتَّسْهِيلِ.
(٤) الأَرْكانُ الأَرْبعَة
البيتُ المُكَرَّمُ له أَربعةُ أَركانٍ، وهو قريبٌ من التربيعِ. وأَخبرني زعيمُ الشَّيبِيِّين الذين إِليهم سِدانَةُ الْبَيْتِ (خِدْمَتُهُ) أَنَّ ارْتفاعَه في الهواءِ، مِنَ الصَّفْح (الجانب) الذي يُقابلُ بابَ الصَّفَا — وَهو من الحجَرِ الأَسْودِ، إِلى الرُّكْن الْيَمانيِّ — تِسْعٌ وعِشرُونَ ذِراعًا، وَمِنْ سائرِ الجوانبِ ثَمانٍ وعِشرُونَ. وأَوَّلُ أَرْكانِه الركُنُ الذي فيهِ الْحَجَرُ الأَسْودُ، ومنْه ابْتداءُ الطَّوافِ، وَيتَقَهْقَرُ الطَّائِفُ عنْهُ لِيَمَسَّ الحَجَرَ جَمِيعَه ببَدنِهِ، والبَيْتُ المُكَرَّمُ عَنْ يَسارِهِ. وأوَّلُ ما يَلْقى بَعْدَهُ: الرُّكْنُ العراقِيُّ وهو ناظِرٌ إِلى جهةِ الشَّمالِ، ثم الرُّكنُ الشامِيُّ، وهوَ نَاظرٌ إِلى جهةِ الغَرْبِ، ثُمَّ الرُّكْنُ اليمانيُّ وهُوَ ناظِرٌ إِلى جهةِ الْجَنوبِ، ثم يعودُ إلى الرُّكْنِ الأَسْوَدِ، وهُو ناظِرٌ إِلى جهةِ الشَّرْقِ، وعنْدَ ذلك يُتِمُّ شَوْطًا واحدًا. وبابُ الْبَيْتِ الكَريمِ في الصَّفْحِ الَّذِي بين الرُّكْن العِراقِيِّ ورُكْنِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ. وهو قريبٌ من الحجر بعَشَرةِ أَشْبارٍ.
(٥) المُلْتَزَم
وذلك المَوْضِعُ — الذي بيْنَهُما مِن صَفْح البيْتِ — يُسَمَّى: «المُلْتَزَمَ»، وهو موضِعُ اسْتجابةِ الدُّعاءِ، والبابُ الكَريمُ مُرْتَفِعٌ عن الأَرْضِ بأَحَدَ عَشَرَ شِبْرًا ونِصِفِ شبرٍ، وهو فضَّةٌ مُذَهَّبَةٌ، بَديعُ الصنْعَةِ، رائقُ الصِّفة، يَسْتَوقِفُ الأَبصارَ حُسْنًا وخُشوعًا، لِلمَهابَةِ الَّتِي كَساها اللهُ بَيْتَهُ. وللباب نَقَّارَتانِ مِنَ الفِضَّةِ كَبِيرتانِ، يَتَعلَّقُ علَيْهِما قُفْلُ الْبابِ. وهُوَ ناظِرٌ لِلشَّرْقِ، وَسَعتُهُ ثَمانِيةُ أَشْبارٍ، وطُولُه ثلاثَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وغِلَظُ الحائِطِ الَّذِي يَنْطَوِي عليهِ الْبابُ خَمْسَةُ أَشْبَارِ.
(٦) داخل الحرم
وداخلُ البيتِ الكَريمِ مَفْروشٌ بالرُّخامِ المُجَزَّعِ (المُلَوَّنِ)، وحِيطانُهُ كلُّها رُخامٌ مُجَزَّعٌ، قد قامَ عَلَى ثلاثةِ أَعمدَةٍ من السَّاجِ مُفْرِطَةِ الطولِ (والسَّاجُ خَشَب أَسْوَدٌ مَتِينٌ لا تَكادُ الأَرْضُ تُبْلِيهِ، وشَجَرُه الْعَظِيم يَنْبُتُ في الْهِنْدِ)، وبين كلِّ عمودٍ وعمودٍ أَربعُ خَطًا. وهي عَلَى طول البيتِ، مُتَوسِّطَةٌ فيهِ. فأَحَدُ الأَعْمَدَةِ — وهو أَوَّلُها — يُقابِلُ نِصْفَ الصَّفْحِ الذي يَحُفُّ به الرُّكْنان الْيَمانِيّان، وبينهُ وبينَ الصَّفْحِ مقدارُ ثلاثِ خُطًا.
والْعَمُودُ الثَّالِثُ — وهو آخِرُها — يُقابِلُ الصَّفْحَ الذي يَحُفُّ بهِ الرُّكْنانِ الْعِراقيُّ والشَّامِيُّ.
ودائِرُ الْبَيْتِ كلُّه — من نِصْفِهِ الأَعْلَى — مَطْلِيٌّ بالفِضَّةِ المُذَهَّبَةِ الثَّخِينَة، يُخَيَّلُ للنَّاظِرِ إِليها أَنها صفيحةُ ذهب لِغلَظِها.
وهي تَحُفُّ بالْجَوانِبِ الأَرْبَعةِ، وتُمْسِكُ نِصْفَ الْجِدار الأَعْلَى.
وَسَقْفُ الْبَيْتِ مُجَلَّلٌ بكِساءٍ من الحرير المُلَوَّنِ.
(٧) أَسْتار الكعبة
وظاهِرُ الكَعْبَةِ كلِّها — من الأَربعةِ الْجَوانِبِ — مَكْسوٌّ بِسُتُورٍ من الحريرِ الأَخضرِ، وسَداها (خُيوطُها الْمُمْتَدَّةُ طُولًا) قُطْنٌ. وفي أَعلاها رسم بالحرير الأَحمرِ مكتوبٌ فيه الآيَةُ الْكَرِيمَةُ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وقد كُتِبَ اسم الإمامِ «الناصرِ لدينِ اللهِ» في سَعَةٍ مِقْدارُها ثَلاثَةُ أَذْرُعٍ، يطِيفُ بها كلِّها.
قد شُكِّل في هذهِ السُّتُورِ من الصَّنْعَةِ الغرِيبَةِ التي تَرَى فيها أَشْكالَ مَحارِيبَ رائِقَةً، وكتابَةً مقروءَةً مَرْسُومَةً بِذِكْر اللهِ — تعالى — وبالدُّعاءِ لِلنَّاصِرِ العَبَّاسِيِّ، الآمِرِ بإقامَتِها.
وكلُّ ذلك لا يُخالِفُ لَوْنَها.
(٨) بَدائِعُ النُّقْشِ
وعَدَدُ السُّتُورِ — منَ الجوانِبِ الأَرْبَعةِ — أَرْبَعَةٌ وَثَلاثُونَ سِتْرًا. وفي الصَّفْحَيْنِ الكَبِيرَيْنِ مِنْها ثَمانِيَةَ عشَرَ، وفي الصَّفَحَيْنِ الصَّغيريْنِ ستَّةَ عشَرَ. وله خمسةُ مَضاوٍ، ليَدْخُل منها الضَّوْءُ. وعليها زُجاجٌ عِراقِيٌّ بديعُ النَّقْشِ، أَحَدُها في وَسَطِ السقفِ. ومَعَ كلِّ رُكْنٍ مَضْوًى. وبين الأَعْمِدَةِ أَقْواسٌ من الفِضَّةِ عددُها ثَلاثَ عَشْرَة، وَإِحْداها مِنْ ذَهَبٍ.
(٩) باب الرحمة
وَأَوَّلُ ما يَلْقَى الدَّاخِلُ عَلَى الباب — عن يَساره — الرُّكْنُ الذي خارجَهُ الحَجَرُ الأَسْوَدُ. وفيه صُنْدُوقانِ، فيهما مصاحِفُ. وقد عَلاهُما في الرُّكْنِ بُوَيْبانِ (بابانِ صغيرانِ) من فِضَّةٍ، كأَنَّهُما طاقانِ مُلْصَقانِ بزاوِيةِ الركْن. وبينهما وبين الأَرْضِ أَزْيَدُ من قامَةٍ. وعن يمينهِ الركنُ العراقيُّ. وفيهِ بابٌ يُسَمَّى ﺑ«بابِ الرَّحْمَةِ»، يُصْعَدُ منهْ إِلى سَطْح البيتِ المُكَرَّمِ.
(١٠) مَقامُ «إِبراهيم»
وقد قام قَبْوٌ مُتَّصِلٌ بِأَعْلَى سَطْحِ البَيْتِ، داخِلَه الأَدراجُ، وفي أَوَّلِهِ البيتُ المُحتَوِي عَلَى المَقامِ الكريمِ. وفي سَعةِ صفْحَيْهِ قامتانِ. وهو مُحتوٍ عَلَى الرُّكنِ العراقيِّ بِنِصْفَيْنِ مِن كلِّ صَفْحٍ. وأَكْثَرُ هذا القبوِ مَكْسُوٌّ بثَوْب منَ الحرير المُلَوَّنِ، كأَنه قد لُفَّ فيهِ ثمَّ وُضعَ. وهذا المَقامُ الكريمُ الذي داخِلَ هذا القَبْو هو مَقامُ «إِبراهيمَ» (ﷺ). وهو حَجَرٌ مُغَشًّى بالفِضَّةِ، وارتفاعُه مقدارُ ثلاثةِ أَشْبارٍ، وَسَعتُه مِقْدارُ شِبْرَيْن، وأَعْلاهُ أَوْسعُ من أَسْفلِه. فكأَنهُ — وله التنزيهُ والْمَثلُ الأَعْلَى — كانونُ فَخَّارٍ كبيرٌ، أَوْسَطُه يَضِيقُ عَن أَسْفَلِهِ وعَنْ أَعْلاهُ. ولمُعاينَةِ البيْتِ الكريمِ هَوْلٌ يُذْهِلُ النُّفوسَ، ويُطِيشُ الأَفْئِدَةَ والعُقولَ، فلا تُبصِرُ إِلا لَحظاتٍ خاشِعةً، وَمَدامعَ باكِيةً، وأَلْسِنَةً — إِلى اللهِ — ضارِعَةً داعِيَةً.
•••
وَمَوْضِعُ المَقامِ الكريمِ هُوَ الذي يُصَلَّى خلْفَه، يُقابِلُ ما بيْنَ البابِ الكَريمِ والرُّكْنِ العِراقيِّ. وهُوَ إِلى الباب أَمْيَلُ بِكَثير. وعلَيْه قُبَّةُ خَشَبٍ — في مقدارِ القامةِ أَو أَزْيدُ — مركَّنَةٌ، بديعةُ النَّقْشِ. سَعتُها — من رُكْنِها الواحدِ إِلى الثانِي — أَرْبَعَةُ أَشْبارٍ. وقد نُصِبَتْ عَلَى المَوْضِع الذي كان فيهِ المَقامُ. وحولَه تَكْفيفٌ (إِطارٌ) من حجارةٍ عَلَى حَرْفٍ كالحوْضِ المُسْتَطِيل، في ارْتفاعِهِ نحوُ شِبْر، وطولِه خَمْسُ خُطًا، وَعَرْضِه ثلاثُ خُطًا.
(١١) مكان الحجر الأَسوَد
ومنَ الرُّكْنِ الذي فيهِ الحجرُ الأَسْوَدُ إِلى الرُّكْن العِراقيِّ أَرْبعَةٌ وخَمْسُونَ شِبرًا. ومنَ الحجر الأَسوَدِ إلى الأَرْضِ سِتَّةُ أَشْبارِ. فالطويل يَتَطاطَى لَهُ، والقصيرُ يتَطاوَلُ إليهِ.
(١٢) مَوْضِعُ الطوافِ
أَمَّا مِنَ الْخارجِ، فمِنَ الرُّكْنِ الأَسْوَد إِلى الرُّكْن العِراقيِّ أَرْبعونَ خُطْوَةً، وهيَ مئة وَعشْرُونَ شِبرًا. ومن ثَمَّ يكونُ الطَّوافُ.
وَموْضِعُ الطَّوافِ مَفْرُوشٌ بحجارَةٍ مَبْسُوطَةٍ، كأَنها الرُّخامُ حُسْنًا. منها سودٌ وسُمْرٌ وبيضٌ، قد أُلْصِقَ بعضُها إِلى بعضٍ. وَسائرُ الحرَمِ — معَ البلاطاتِ كلِّها — مَفْرُوشٌ برَمْل أَبيَضَ.
وَطوافُ النِّساءِ في آخرِ الْحِجارَةِ المَفْرُوشَةِ.
(١٣) نفائس الصنعةِ
ودَوْرُ الْجدار رُخامٌ كلُّه مُجَزَّعٌ بديعُ الإِلصاقِ، وفيه قُضبانٌ صُفرٌ مُذَهَّبةٌ، وُضِعَ منها في صَفحِهِ أَشكالٌ شِطْرَنجِيَّةٌ مُتداخلةٌ بعضُها عَلَى بعض، وهَيْئاتُ محاريبَ، فإِذا ضَربَتِ الشمسُ فيها لاحَ لها بصيصٌ ولأْلأ يُخيَّل للناظر إِليها أَنها ذَهبٌ يَرتمِي بالأَبصارِ شُعاعُه.
وداخل الْحِجْرِ بلاطٌ واسعٌ ينعطِفُ عليه الْحِجرُ كأَنه ثُلُثا دائرةٍ. وهو مَفروشٌ بالرُّخامِ المُجزَّعِ الْمُقَطَّعِ في دَوْرِ الكَفِّ إِلى دَورِ الدِّينارِ إِلى ما فَوقَ ذلك، ثم أُلصِقَ بانتِظامٍ بديعٍ، وتأْليفٍ مُعجِزِ الصَّنعةِ، غَريبِ الإِتقانِ، رائقِ الترصِيعِ والتَّجْزيعِ، رائعِ التركيبِ والرصْفِ، يُبْصِرُ الناظِرُ فيه من التَّعاريجِ والتَّقاطيع والخواتِمِ والأَشكالِ الشِّطْرَنجِيَّةِ وسِواها — على اختلافِ أَنواعِها وصِفاتِها — ما يُقيِّدُ بصرَه حُسنًا. فكأَنه يُجيلُه في أَزهارٍ مفروشةٍ مُختِلفاتِ الأَلوان. إِلى مَحاريبَ قد انعطف عليها الرُّخامُ انعطافَ القِسيّ (الأَقْواسِ)، وداخلَها هذه الأَشكالُ الموْصوفةُ والصنائعُ المذكُورةُ.
(١٤) أَثر الخليفة «الناصر»
مِمّا أَمرَ بعملِه عبدُ اللهِ وخليفَتُه أَبو العباسِ أحمدُ الناصرُ لدين اللهِ أَميرُ المُؤْمنينَ، وذلك في سنةِ ستٍّ وسبعينَ وخمسِ مئة.
(١٥) قبرُ «إسماعيل»
وفي صَحنِ الْحِجرِ بِمَقْرَبة من جِدارِ البيتِ الكريمِ قبرُ «إِسماعيلَ»، وعلامتُه رُخامةٌ خضراءُ مُستطيلةٌ قليلًا شكلَ مِحراب، تتَّصِلُ بها رُخامةٌ خضراءُ مُستديرةٌ. وكلتاهما غريبةُ المَنْظَرِ، فيهما نُكَتٌ تَنفتحُ عن لَونِها إِلى الصُّفرَةِ قليلًا كأَنها تجزيعٌ، وهي أَشبهُ الأَشياءِ بالنُّكَتِ التي تَبقَى في الْبُوتَقَةِ من حَلِّ الذهبِ فيها.
وإِلى جانبِه — مِمّا يلي الركن العراقي — قبرُ أُمِّه: «هاجَرَ» رضي الله عنها، وعلامتُه رُخامة خضراءُ، سَعتها مقدار شبر ونصفِ شبر. وقد احْتَوَى القَبْرانِ جسدَين مُكَرَّمَيْنِ نوَّرَهُما اللهُ. وبَيْنَ القَبريْن سَبْعَةُ أَشْبار.
(١٦) بئر «زمزم»
وقُبَّةُ بِئْرِ «زَمْزَمَ» تُقابلُ الركْنَ الأَسْوَدَ. وَتَنُّورُ البِئْرِ المُبارَكةِ (فَمُها) في وسط القبة. وعُمقُها إِحْدى عشْرَةَ قامةً حسْبَما ذَرَعْناهُ. وعُمْقُ الماءِ سَبْعُ قاماتٍ على ما يُذكَر. وبابُ القُبَّةِ ناظرٌ إِلى الشَّرْقِ. وتَلِي قبَّةَ بئرِ «زَمْزَمَ» من ورائِها قُبَّةُ الشَّرابِ، وهي المَنسوبةُ للعباس رضي الله عنه. والقبةُ العباسيةُ كانت سِقايةَ الحاجِّ، وهي حتى الآنَ يُبرَّد فيها ماءُ «زَمْزَمَ» ويُخرَجُ — مع الليل — لِسَقْيِ الحاجِّ في قِلال يُسمونَها الدَّوارِقَ، كلُّ دَوْرق منها ذُو مِقْبَضٍ واحدِ.
وتنُّورُ بئرِ «زَمْزَمَ» من رُخامٍ قد أُلصقَ بعضُهُ ببعْض إِلصاقًا لا تُحِيلُه الأَيَّامُ، وأُفْرِغَ في أَثْنائِهِ الرَّصاصُ. وكذلك داخِلَ التَّنُّورِ. وحَفَّت به من أَعمِدَةِ الرَّصاصِ المُلصَقةِ بهِ — إِبلاغًا في قُوَّةِ لَزِّه ورَصِّهِ — اثْنانِ وثلاثُونَ عمودًا قَدْ خَرَجتْ لها رُءُوسٌ قابضَةً عَلَى حافَةِ البِئْرِ، دائِرَةٌ بالتَّنُّورِ كلِّه.
وقَدِ استدارَتْ بداخل القُبَّةِ سِقايَةٌ سَعَتُها شِبْرٌ، وعُمْقُها نَحوُ شِبْرَيْنِ، وارْتفاعها عَن الأَرْضِ خَمْسةُ أَشْبار، تُمْلأُ ماءً للوُضوءِ. وحولَها مِصْطَبَةٌ دائرةٌ، يرتفعُ الناس إِلَيْها، ويتوضَّئُون عليها.
(١٧) استلام الحَجَر الأَسْود
والحجرُ الأَسْودُ المُباركُ مُلصَق في الرُّكْنِ النَّاظِر إِلى جهَةِ المَشْرِقِ، ولا يُدْرَى قَدرُ ما دخَل في الركن. وقيل: إِنه داخلٌ في الجِدارِ بمقدار ذِراعَين. وَسَعَتُه ثُلُثا شِبْر، وطولُه شبرٌ وعُقَدٌ. وفيهِ أَربعُ قِطَعٍ مُلصَقةٌ. وقد شُدَّت جوانِبُهُ بِصَفيحةِ فِضَّةٍ، يَلُوحُ بَصِيصُ بَياضِها على بَصِيصِ سَوادِ الحَجَر وَرَوْنَقِهِ الصَّقِيل. فيُبْصِرُ الرَّائي — من ذلك — منْظَرًا عَجيبُا، هو قَيْدُ الأَبصارِ.
وَللحَجرِ عندَ تَقْبِيلِهِ لُدُونَةٌ يتنعَّمُ بها الفَمُ، حتى يَودَّ الَّلاثِمُ أَلاَّ يُقلِعَ فَمُهُ عنه، وذلك من خَواصِّ العِنايَةِ الإِلهِيَّةِ.
نَفعنا اللهُ باستلامِه ومُصافَحَتِه، وأَوْفَدَ عليهِ كلَّ شَيِّق إِليْهِ.
(١٨) سَعَةُ الحَرَم
والمَسجدُ الحرامُ يُطيفُ بهِ ثَلاثُ بلاطَاتٍ على ثلاث سَوار من الرُّخامِ مُنْتَظِمَةٍ كأَنَّها بلاطٌ واحِدٌ. ذَرْعُها في الطُّولِ أَرْبَعُ مئة ذِراعٍ، وفي العَرْضِ ثَلاث مئة ذراعٍ. وما بين البلاطاتِ فَضاءٌ كبيرٌ. وكانَ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ صغيرًا. وقُبَّةُ «زَمْزَمَ» خارِجةٌ عنهُ.
(١٩) كعبة البيت
وفي مُقابلَةِ الرُّكْنِ الشَّامِيِّ رَأْسُ سارَيَةٍ ثابِتَةٍ في الأَرْضِ، منها كان حَدُّ الحرمِ أَوَّلًا. وبينَ رأْسِ الساريةِ وبين الرُّكْنِ الشاميِّ اثنتانِ وعشْرُونَ خُطوةً، والكَعبَةُ في وَسَط الحرم عَلَى استواءٍ من الجوانبِ الأَرْبعةِ، ما بينَ الشَّرْق والجنوب والشَّمال والغَرْبِ.
(٢٠) أَعمِدة الحرم
وعددُ سوارِيهِ الرُّخامِيَّةِ التي عَددْتُها بنَفْسِي أَرْبَعُ مئة سارِيَةٍ وَإِحْدى وَسَبعونَ ساريةً، حاشَى المَصنوعةَ من الْجِصِّ التي منها في دارِ النَّدْوَةِ — وَكانَتْ قَدْ زِيدتْ في الحَرَم — وهي داخلةٌ في البلاطِ الآخذِ من الغربِ إِلى الشمال.
(٢١) معاهد التعليم
ويقابِلُها المَقامُ مع الرُّكْنِ العراقيِّ. وفَضاؤُها مُتَّسِعٌ يُدْخَل من البلاطِ إِليهِ. ويتصلُ بجدارِ هذا البلاطِ كلِّهِ مَصاطِبُ تَحْتَ قِسِيِّ حَنايا (وَهيَ: أَبْنِيَةٌ مُنْحَنِيَةٌ كالأَقواسِ).
وفيها يجلِسُ النَّسَّاخونَ والمُقْرِئونَ وبعضُ أَهلِ صَنعةِ الْخِياطَةِ.
والحرَمُ مُحْدَقٌ بِحَلَقاتِ المُدَرِّسِينَ وأَهلِ العِلْمِ.
(٢٢) أَثر الخليفة «أَبي جعفر»
ولِلْمَهْدِيِّ «محمدِ بن أَبي جعفرِ المَنصورِ» العبَّاسِيِّ في توسعَةِ المَسجدِ الحرامِ، والتأَنُّقِ في بنائِه، آثارٌ كريمةٌ.
ووجدْتُ في الجهةِ — التي من الغربِ إِلى الشَّمالِ — مكْتوبًا في أَعْلَى جدار البلاطِ: «أَمَرَ عبدُ اللهِ محمدٌ المَهدِيُّ أَميرُ المؤمنينَ — أَصْلَحَهُ اللهُ — بتَوْسِعَةِ المَسجدِ الحرامِ، لحاجِّ بيتِ اللهِ وعُمَّارِه، في سنةِ سَبعٍ وسِتِّينَ ومئة».
(٢٣) طائفة من النقوش
وفي بابِ الكَعبةِ المُقَدَّسَةِ نَقْشٌ بالذَّهبِ، رائقُ الخطِّ، طويلُ الْحُرُوفِ، غلِيظُها. ويَكْتَنِفُ البابيْنِ الكَريمَيْنِ عِضادَةٌ غَليظَةٌ من الفِضَّةِ المُذَهَّبَةِ البَدِيعةِ النَّقْشِ، تَصْعَد إِلى العَتَبةِ المُبارَكةِ، وَتُشْرِفُ عليها، وتَسْتديرُ بجانِبَي البابيْنِ.
ويَعترِضُ أَيضًا بين البابيْنِ — عند إِغلاقهما — شِبْهُ العِضادَةِ الكَبيرةِ من الفِضةِ المُذَهَّبَةِ، هي بطُولِ البابيْنِ، متصلةٌ بالواحدِ منهما الذي عن يسارِ الداخلِ إِلى البيْتِ.
(٢٤) كُسوة الكعبة
وقد أَحاطَ بها — من أَسْفَلِها — تكفيف (إِطارٌ) مَبنِيُّ بالجِصِّ. في ارتفاعه أَزيدُ من شِبْرٍ. وفي سَعتهِ شِبرانِ، أَو أَزيدُ قليلًا. في داخِلهِ خَشبٌ غيرُ ظاهرٍ. وقد سُمِّرتْ فيهِ أَوتادُ حديد، في رُءُوسِها حَلَقاتُ حديد ظاهرةٌ، قَدْ أُدْخِلَ فيها مَرَسٌ (حَبْلٌ) من القِنَّبِ، غليظٌ مَفْتُولٌ. واسْتَدارَ بالْجَوانِبِ الأَرْبَعةِ، بعد أَنْ وُضع في أَذْيالِ السُّتورِ مَعاقِدُ، وأُدْخِلَ فيها ذلك الحبْلُ، وخُيِّطَ عليه بِخُيُوطٍ من القُطْنِ المَفْتُولةِ الوَثيقَةِ. ومُجْتَمَعُ السُّتُور في الأَرْكانِ الأَرْبعةِ مخِيطٌ إِلى أَزْيَدَ من قامة، ثُمَّ منها إِلى أَعْلاها تتَّصِلُ بِعُرًا من حديدٍ، تُدْخَل بَعضُها في بعْضٍ. واستَدار أَيْضًا بأَعْلاها — عَلَى جَوانِب السطح — تكفيفٌ ثانٍ، وُضِعَتْ فيهِ أَعالِى السُّتُور في حَلَقاتِ حديدٍ على تلك الصفةِ المذكورة. فجاءَتِ الكُسْوَةُ المُبارَكَةُ مَخِيطَةَ الأَعْلَى والأَسْفَلِ، وثيقةَ الأَزْرارِ، لا تُخْلَعُ إِلاَّ مِنْ عامٍ إِلَى عامٍ عندَ تَجديدها.
فسُبحانَ مَنْ خَلَّد لَها الشَّرَفَ إِلى يَوْم الْقِيامةِ.
(٢٥) سَدَنة البَيْتِ
وبابُ الكَعبةِ الكَريمُ يُفتَحُ كلَّ يوم اثنَينِ ويومِ جُمُعة، إِلا في رجبٍ، فإِنه يُفتَحُ في كلِّ يومٍ، وفَتحُهُ أَوَّلَ بُزُوغٍ الشمْسِ.
يُقْبِلُ سَدَنَةُ البيْت (خُدَّامهِ) الشَّيبِيُّونَ، فيُبادِرَ منهم من يَنقُلُ كُرسِيًّا كبيرًا شِبْهَ المِنْبَرِ الواسعِ، له تسعةُ أَدراج مُستطيلةٌ قد وُضعَت له قوائمُ من الْخَشَبِ مُتَطأْمِنةٌ (مُنْخَفِضَةٌ) مع الأَرضِ، لها أَربَعُ بَكَراتٍ كِبارٌ، مُصفَّحةٌ بالحديدِ لِمُباشَرَتِها الأَرضَ. يَجرِي الكُرسِيُّ عليها حتى يَصلَ إِلى البيْتِ الكَريمِ، فيقَعَ دَرَجُه الأَعلى مُتَّصِلًا بالعتَبةِ المُبارَكةِ من الباب. فيَصعَدُ زَعيمُ الشَّيْبِيِّينَ إِليه، وهو كَهلٌ جميلُ الهيْئةِ والشارَةِ، وبيَدِه مِفتاحُ القُفْلِ المُبارَكِ. ومعه من السَّدَنَة من يُمْسِكُ في يدِه سِترًا أَسوَدَ يَمُدُّ يدَيهِ به أَمامَ الباب، خِلالَ ما يَفتَحُهُ الزَّعيمُ الشَّيْبِيُّ. فإِذا فَتَحَ القُفلَ دَخَل البيْتَ وَحدَه وسَدَّ البابَ خَلفَه وأَقامَ قَدْرَ ما يَركَعُ رَكْعتَينِ. ثم يَدخُلُ الشَّيبِيُّونَ، ويَسُدُّونَ البابَ أَيضًا، ثم يُفتَحُ البابُ ويُبادِرُ النَّاسُ بالدُّخولِ.
•••
وفي أَثناءِ مُحاوَلةِ فَتحِ البابِ الكَريم يَقُف النَّاسُ مُستَقبِلين إِياهُ بأَبصارِ خاشِعةٍ، وأَيدٍ مَبسوطَةٍ إِلى اللهِ ضَارعة. فإِذا انفَتحَ البابُ كَبَّرَ النَّاسُ وعَلا ضَجِيجُهُم، ونادَوْا بأَلسِنةٍ مُستَهِلَّة صائِحة: «اللهُمَّ افتَحْ لنَا أَبوابَ رَحمتِكَ ومَغفرتِكَ، يا أَرْحمَ الرَّاحِمينَ».
ثم دخلوا بِسَلامٍ آمِنينَ.
(٢٦) مُصَلَّى النَّبيَّ
وفي الصَّفْح (الجانِب) المُقابِلِ للدَّاخِلِ في الْحَرَمِ — الذي هو من الرُّكْن اليمانيِّ إِلى الركْنِ الشامِيِّ — خَمْسُ رُخاماتٍ مُنتَصِباتٍ طُولًا كأَنها أَبوابٌ، تَنتَهي إِلى مِقدارِ خمسةِ أَشبارٍ من الأَرضَ، وكلُّ واحدةٍ منها نحوُ القامةِ. الثلاثُ منها حُمْرٌ والاِثنتانِ خَضراوانِ. في كلِّ واحِدةٍ منها تجزيعُ بياضٍ لَمْ يُرَ أَحسنُ مَنظَرًا منهُ، كأَنهُ فيها تَنقيطٌ. فَتتَّصِلُ الحمراءُ بالركْنِ اليمانِيِّ، ثم تَلِيها الْخَضراءُ بخمسةِ أَشبارٍ، والمَوْضعُ الذي يُقابِلُها مُتَقَهْقِرًا عنها بِثلاثةِ أَذرُعٍ هو مصَلَّى النبيِّ ﷺ، فيَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى الصَّلاةِ فيهِ تَبَرُّكًا بهِ.
(٢٧) بدائع الرُّخام
وَيَتَّصِلُ بين الرُّخاماتِ المُلَوَّنَةِ رُخامٌ أَبْيَضُ صافِي اللَّوْنِ ناصِعُ البَياضِ، قد أَحدثَ الله عزَّ وجلَّ في أَصْلِ خِلْقَتِهِ أَشْكالًا غَريبةً مائِلةً إِلى الزُّرْقَةِ مُشَجَّرَةً مُغَصَّنَةً. وفي التي تَلِيها مِثلُ ذلك بِعَيْنِهِ من الأَشْكالِ كأَنَّها مَقْسُومَةٌ. فلو انْطَبَقَتا لعادَ كلُّ شَكلٍ يُصافِحُ شَكلَهُ. فكلُّ واحدةٍ شِقَّةُ الأَخْرَى — لا مَحالةَ — عِنْدَ ما نُشِرَتِ انْشَقَّتْ عَلَى تلك الأَشكالِ، فَوُضِعَتْ كلُّ واحِدَة بإِزاءِ أُخْتِها.
والفاصِلُ منها — بين كلِّ خَضْراءِ وحَمْراءَ — رُخامَتانِ، سَعَتُهُما خَمْسَةُ أَشْبارٍ. والأَشْكالُ فيها تَخْتَلِفُ هَيْئاتُها. وكلُّ أُخْتٍ منها بإِزاءِ أُخْتِها. وقد شَدَّتْ جوانِبَ هذه الرُّخاماتِ تَكافِيفُ (إِطاراتٌ)، غِلَظُها قَدْرُ إِصْبَعَيْنِ من الرُّخامِ المُجَزَّع، من الأَخْضَرِ والأَحْمَرِ المُنَقَّطَيْنِ، والأَبْيَضِ ذِي الخِيلان (جَمْعُ خالٍ، وهي: النُّقْطَةُ السَّوْداءُ)، كأَنَّها أَنابِيبُ مَخْروطَةٌ يَحارُ الوَهْمُ فيها.
(٢٨) خطيب الحرم
وبإِزاءِ المَقامِ الكريم تَرَى مِنْبَرَ الخطِيبِ، وهو على بكَرات أَربعٍ، ليَسْهُلَ تَحْرِيكُهُ علَيْها من مكانٍ إِلى آخرَ. فإِذا كان يوم الجُمُعَةِ، وقَرُبَ وَقتُ الصلاةِ، ضُمَّ المِنْبَرُ إِلى صَفْحِ الكَعْبَةِ الَّذي يُقابِلُ المَقامَ — وهو بين الرُّكْنِ الأَسودِ والْعِراقيِّ — فيُسْنَدُ المِنْبَرُ إِليهِ. ثُمَّ يُقْبِلُ الخطيبُ داخلًا على باب النَّبيِّ ﷺ، وهو يُقابِلُ المَقامَ، لابسًا ثَوْبَ سَوادٍ مرسُومًا بذَهب، ومُتعمِّمًا بِعِمامةٍ سوْداءَ مَرْسُومة أَيْضًا، وعليه طَيْلَسانٌ رَقِيقٌ.
كلُّ ذلك مِن أَكْسِيَةِ الخليفَةِ التي يُرْسِلُها إلى خُطَباءِ بلادِه. يَرْفُلُ فيها وعليهِ السَّكينَةُ والوَقارُ، يَتَهادى رُوَيْدًا بين رايَتَيْنِ سَوْداوَيْنِ يُمْسِكُهُما رَجُلانِ من قَوَمَةِ المُؤَذِّنينَ (الواقِفينَ للأَذانِ)، وبين يديْه — ساعِيًا — أَحدُ القَوَمَةِ، وفي يدهِ عُودٌ مَخْروطٌ أَحْمَرُ، قد رُبِطَ فِي رأْسِه حَبْلٌ — منَ الجلْدِ المَدْبوغِ المَفتولِ — رَقيقٌ طَويلٌ، في طَرفهِ عَذَبَةٌ صغيرةٌ ينفُضها بِيدِهِ في الهواءِ نَفْضًا، فَتَأْتي بِصَوْتٍ عالٍ، يُسْمَعُ مِنْ داخلِ الحرَمِ وخارِجِهِ، كأَنَّهُ إِيذانٌ بِوُصُولِ الخَطِيبِ. ولا يَزالُ في نفْضِها إِلى أَنْ يَقْرُبَ من المِنْبَرِ، ويُسَمُّونَها الفَرْقَعَةَ.
(٢٩) مقدِّمات الخُطْبة
فإِذا قَرُبَ الخَطِيبُ من المِنْبَرِ، عَرَّجَ إِلى الحجَر الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وَدَعا عندهُ، ثمَّ سَعى إِلى المِنْبَر، والمُؤَذِّنُ الزَّمْزَمِيُّ رئيسُ المُؤَذِّنينَ بالحرمِ الشَّريفِ ساعِيًا أَمامَهُ، لابِسًا ثِيابَ السَّوادِ أَيضًا، وعلَى عاتِقِه السَّيْفُ يُمْسِكُهُ بيدِهِ دُونَ تَقَلُّدٍ له. فعندَ صُعُودِهِ — في أَوَّلِ دَرَجَةٍ — قَلَّدَهُ المُؤَذِّنُ السَّيْفَ، ثمَّ ضَرَبَ بِنَعْلَةِ سَيْفِهِ (حَدِيدَة في أَسْفَلِ الْجراب)، ضَرْبةً أَسْمَعَ بها الحاضرِين، ثمَّ في الثَّانِيةِ، ثمَّ في الثَّالِثَةِ. فإِذا انتهى إِلى الدَّرَجَةِ العُلْيا ضَرَبَ ضَرْبًة رابعةً، وَوَقَفَ داعِيًا — مُسْتَقْبِلَ الكَعْبَةِ — بِدُعاءٍ خَفِيٍّ، ثمَّ التفَتَ — يَمْنَةً ويَسْرَةً — وقال: «السَّلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ»، فيَرُدُّ الناسُ عليهِ السلامَ.
(٣٠) دَعَواتُ الخطيب
ثمَّ يَقْعُدُ، ويُبَادِرُ المُؤَذِّنُونَ — بين يديهِ في المِنبرِ — بالأَذانِ عَلَى لِسانٍ واحدٍ. فإِذا فَرَغُوا قامَ لِلْخُطْبَةِ، فَذَكَّرَ ووعَظَ وخَشَّعَ فأَبْلَغَ، ثم جَلَس الْجِلْسَةَ الْخَطِيبِيَّةَ، وضَرَبَ بالسيفِ ضربةً خامسةً، ثم قامَ للخُطبةِ الثانيةِ، فأَكثَرَ بالصلاةِ عَلَى محمد ﷺ وعَلَى آلهِ، ورضي عن أَصحابِه، واختَصَّ الأَرْبَعَةَ الْخُلَفاءَ بالتَّسْمِيةِ، ودعا لِعَمَّي النبيِّ «حمزةَ» و«الْعَبَّاسِ» وﻟ«الْحَسَن» و«الْحُسَيْن»، وَوالَى الرِّضا عن جميعِهم، ثُمَّ دَعا لأُمَّهاتِ المُؤْمِنِين: زَوْجات النَّبيِّ، ورضي عن «فاطمةَ الزَّهْراءِ» وعن «خديجةَ الكُبْرى» بهذا اللَّفْظِ. ثمَّ دعا للخليفَةِ العَبَّاسِيِّ: «أَبي العباسِ أحمدَ الناصرِ»، ثمَّ لأَميرِ مكةَ «مُكْثِرِ بنِ عيسى»، ثمَّ لصلاحِ الدِّينِ «أَبي المُظَفَّرِ يوسُفَ بنِ أَيُّوبَ»، ولِوَلِيِّ عَهْدِهِ أَخِيهِ»: أَبِي بكر بنِ أَيُّوبَ».
(٣١) مكانة «صلاح الدين»
وعِنْدَ ذكرِ «صلاحِ الدينِ» بالدُّعاءِ تَخْفُقُ الأَلْسِنَةُ بالتَّأْمِينِ عليه من كلِّ مكانٍ.
«إِنَّهُ إِنَّما نَحْنُ وأَنْتَ مُتَقَلِّبُونَ في برَكَةِ الحاجِّ!»
فتأَمَّلْ هذا المَنْزِعَ الشَّريفَ، والمَقْصِدَ الكَريمَ. وإِحْسانُ اللهِ يتضاعُف إِلى من أَحْسنَ إلى عِبادِه، واعْتِناؤُهُ الكَريمُ مَوصولٌ لمَنْ جعلَ هَمَّهُ الاِعْتِناءَ بهم.
واللهُ عزَّ وَجلَّ كَفيلٌ بجزاءِ المُحْسنينَ.
(٣٢) الحفاوةُ بالخطيب
وفي أَثناءِ الخُطْبَةِ، تُرْكَزُ الرّايتانِ السَّوْداوانِ في أَوَّلِ درجةٍ من المِنْبَرِ، ويُمسكهُما رَجُلانِ من المُؤَذِّنينَ. وفي جانِبَيْ بابِ المِنْبَرِ حَلْقتانِ، تُلْقَى الرَّايتانِ فيهما مَرْكُوزَتَيْنِ.
فإِذا فَرَغَ من الصَّلاةِ خَرَج والرَّايتانِ عن يمينهِ وشمالِه، والفَرْقعةُ أَمامهُ عَلَى الصَّفةِ التي دخل عليها. كأَنَّ ذلك أَيضًا إيذانٌ بانصراف الخطيبِ، والفراغِ من الصَّلاةِ.
ثم أُعيدَ المِنبرُ إِلى مَوْضِعهِ بإِزاءِ المَقامِ.
(٣٣) طوافُ الأَميرِ
ولَيْلَةَ أَهَلَّ هِلالُ جُمادَى الأُولَى، بَكَرَ أَميرُ مَكةَ «مُكْثِرٌ» — في صَبِيحتِها — إِلى الْحَرَمِ الكَريمِ مع طُلوعِ الشمْسِ، وقُوَّادُه يَحُفُّونَ بهِ، والقُرَّاءُ يَقرءُون أَمامَهُ. فَدَخَلَ عَلَى بابِ النبيِّ ﷺ، ورِجالُه السُّودانُ — الذين يُعَرِّفُونهم بالْحَرَّابةِ — يطُوفُونَ أَمامَه، وبأَيْدِيهِم الْحِرابُ، وعليهِ السَّكينَةُ والْوقارُ. وكان لابِسًا ثَوْبَ بياضٍ، مُتَقَلِّدًا سيْفًا، مُتَعمَّمًا بِكُرْزِيَّةِ صوف بيْضاءَ رَقيقَةٍ. فلمَّا انتَهى بإِزاءِ المَقامِ الكريمِ، وَقفَ وَبُسِط لهُ وِطاءُ كَتَّانٍ، فصلّى رَكْعَتَيْنِ، ثم تَقَدَّمَ إلَى الْحجر الأَسْودِ فقبَّلَهُ، وشرَعَ في الطَّوافِ.
(٣٤) «في قبةِ «زمزَم
وقد علا قُبةَ «زَمْزَمَ» صبيٌّ — هو أَخو المُؤَذِّنِ الزَّمزمِيِّ — وهو أَوِّلُ المُؤَذِّنينَ أَذانًا، بهِ يَقتدُون، وله يَتبَعونَ. وقد لبِس هذا الصَّبيُّ أَفخَرَ ثيابِه وتعمَّم، فعنْدَما يُكْمِلُ الأَميرُ شَوطًا واحدًا ويَقْرُبُ من الْحجر، ينْدفعُ الصبيُّ في أَعلى القُبَّةِ — رافعًا صَوتَه بالدُّعاءِ — ويستَفتِحُهُ قائلًا: «صبَّحَ الله مَولانا الأَمير بسعادةٍ دائمةٍ، ونِعمةٍ شامِلة».
ويصِلُ ذلك بتَهنئةِ الشهرِ بكلامٍ مَسجوعٍ، حَفيلِ الدُّعاءِ والثَّناءِ. ثم يَختِمُ ذلك بثَلاثةِ أَبياتٍ — أَو أَربعةٍ — من الشِّعر، في مَدحِهِ ومَدحِ سَلفِهِ الكريمِ، وذِكْرِ سابقَةِ النُبوَّةِ، ثم يَسكُتُ. فإِذا أَظلَّ الركْنَ اليمانيَّ يُريدُ الحَجَرَ، اندفَع بدُعاءٍ آخرَ — عَلَى ذلك الأُسلوبِ — ووَصَلهُ بأَبياتٍ من الشِّعرِ، غيرِ الأَبياتِ الأُخَرِ — في ذلك المَعنَى بعَينِهِ — كأَنها مُنتزَعةٌ من قصائدَ مُدِح بها. وهكذا في السَّبْعةِ الأَشْواطِ، إِلى أَن يَفرُغَ منها، والقُرَّاءُ في أَثناءِ طَوافهِ أَمامهُ؛ فَيَنتظِمُ — من هذه الحالِ والأُبَّهةِ، وحُسْنِ صَوتِ ذلك الداعي، عَلَى صِغَرِهِ، لأَنه ابنُ إِحدَى عشْرةَ سَنةً أَو نحوِها، وحُسنِ الكلامِ الذي يُورِدُه نَثْرًا ونظمًا، وأَصواتِ القُرَّاءِ، وعُلوِّها بكتابِ اللهِ، عزَّ وجلَّ — مجموعٌ يُحرِّكُ النُّفوسَ ويَشْجُوها، ويَستَوكِفُ العُيونَ ويُبْكيها، تذكُّرًا لأَهلِ البيْتِ الذينَ أَذهَب اللهُ عنهم الرِّجسَ وطَهَّرَهم تَطهيرًا.
(٣٥) بعدَ الطوافِ
فإِذا فرَغ من الطَّوافِ رَكَع — عندَ المُلتَزَمِ — ركْعتيْن، ثم جاءَ وركَع خَلفَ المَقامِ أَيضًا، ثم وَلَّى مُنصرِفًا، وحَلْقتُه تَحُفُّ به. ولا يَظهرُ في الحَرمِ إِلا لمُسْتَهَلِّ هِلالٍ آخَرَ، هكذا دائمًا.
(٣٦) حِجارَة الحرم
والبيْتُ العَتيقُ مَبنِيٌّ بالحجارةِ الكِبارِ الصُّمِّ السُّمْرِ، قد رُصَّ بعضُها عَلَى بعضٍ، وأُلصِقتْ بالعَقْدِ الوَثيقِ إِلصاقًا لا تُحيلُه الأَيامُ، ولا تَفْصِمُهُ الأَزمانُ. ومن العجِيبِ أَنَّ قِطعةً انصدعتْ من الركْنِ اليمانيِّ، فسُمِّرتْ بِمَساميرَ فِضَّةٍ، وأُعيدتْ كأَحسنِ ما كانت علَيه، والمَساميرُ فيها ظاهرةٌ. ومن آياتِ البيْتِ العتيق أَنه قائمٌ — وسَط الحَرَمِ — كالبُرْجِ المُشَيَّدِ، وله التَّنزيهُ الأَعلَى.
(٣٧) حَمائمُ الحرَمِ
وحَمامُ الحَرمِ لا يُحصَى كَثرةً، وهُوَ من الأَمْنِ بحيْثُ يُضرَبُ بِهِ المَثَلُ.
ولا يخلو الحَرَمُ من الطَّائفينَ ساعةً من النَّهارِ، ولا وَقتًا منَ اللَّيْلِ.
وفي الصَّفْحِ — النَّاظرِ إِلى البيت العتيقِ من القبَّةِ — سَلاسلُ، فيها قَنادِيلُ من زُجاجٍ مُعَلَّقَةٌ، تُوقَدُ كُلَّ ليلَةٍ. وفي الصَّفح الذي عن يمينِه كذلكَ، وهوَ الناظِرُ إِلى الشَّمالِ. والجانِبُ الذي يقابِلُ الحجَرَ الأَسْوَدَ — من القبَّةِ — تَتَّصِلُ بِهِ مِصطبةٌ من الرُّخامِ دائرةٌ بالقبَّةِ، يجلسُ الناسُ فِيها مُعْتبرينَ بشَرفِ ذلك المَوْضِعِ، لأَنهُ أَشْرفُ مواضعِ الدُّنيا المَذكورة بشرفِ مَواضعِ الآخرَةِ. لأَنَّ الحجَرَ الأَسْودَ أَمامَكَ، والبابَ الكَرِيمَ مع البيتِ قُبالَتَكَ، والْمقامَ عن يَمِينكَ، وبابَ الصَّفا عن يَسارِكَ، وبئرَ «زَمْزَمَ» وَراءَ ظَهرِكَ، وناهِيكَ بهذا.
(٣٨) أَئمة الحرم
وللحَرم أَربعةُ أَئِمة سُنِّيَّةٍ، وإِمامٌ خامِسٌ لِفِرْقة تُسمَّى الزَّيْدِيَّة، وأَشرافُ هذِهِ البَلْدَةِ على مَذْهبِهمْ. وَهُمْ يَزيدُون في الأذانِ:" حَيَّ عَلَى خَيْرِ العَملِ «إِثْرَ قَوْل المُؤَذِّنِ: حَيَّ عَلَى الفَلاحِ». وَهُمْ رَوافِضُ.
ويُطيفُ بهذهِ المَواضعِ كلِّها — دائرَ البيتِ العتيق، وعلَى بُعْدٍ يسيرٍ منه — مَشاعيلُ تُوقَدُ في صِحافِ حديدٍ، فوقَ خُشُبٍ مَركُوزَةٍ. فيتَّقدُ الحرمُ الشَّريفُ كلُّهُ نُورًا، ويُوضَعُ الشَّمَعُ بَيْنَ أَيْدِي الأَئِمَّةِ في مَحارِيبِهِمْ.
(٣٩) بَعْد صلاة المَغرب
وفي أَثَرِ كلِّ صَلاةِ مغْرِب، يَقِفُ المُؤَذِّن الزَّمْزَمِيُّ في سطْحِ قُبَّة «زَمْزَمَ» ولَها مَطْلعٌ عَلَى أَدْراجٍ من عودٍ، في الجِهةِ التي تُقابِلُ باب الصَّفا — رافعًا صَوْتَهُ بالدُّعاءِ للإِمام العبَّاسِيِّ «أَحمدَ النَّاصِرِ لدينِ اللهِ»، ثُمَّ للأَميرِ «مُكْثِرٍ»، ثمَّ «لِصَلاحِ الدينِ»: أَميرِ الشَّامِ وجهاتِ مصرَ كلِّها واليَمَنِ، ذِي المَآثر الشَّهيرَةِ، والمَناقبِ الشَّرِيفةِ. فإِذا انْتَهى إِلى ذِكْرِهِ بالدُّعاءِ، ارتفَعَتْ أَصواتُ الطَّائِفِينَ بالتأمينِ، بأَلْسِنةٍ تُمِدُّها القلُوبُ الخالِصَةُ، والنِّيَّاتُ الصَّادقةُ، وتخْفُقُ الأَلْسِنةُ بِذلكَ خَفْقًا يُذِيبُ القلُوبَ خُشُوعًا، لِما وَهَبَ اللهُ لِهذا السُّلْطانِ العادِلِ من الثناءِ الجميل، وأَلْقَى عليهِ من مَحبَّةِ النَّاسِ. وعبادُ اللهِ شُهَداؤُه في أَرْضِهِ.
ثُمَّ يَصِلُ ذلكَ بِدُعاءِ لأُمراءِ اليَمَن — منْ جهةِ «صَلاحِ الدينِ» — ثُمَّ لِسائرِ المُسْلِمينَ والْحُجَّاجِ والمُسافرِينَ.
(٤٠) مُخلَّفات ثمينة
وفي القُبَّةِ العبَّاسِيَّةِ خِزانَةٌ تَحْتَوي على تابوت مَبْسُوط مُتَّسِعٍ، وفيه مُصْحَفُ أَحدِ الخلفاءِ الأَرْبعةِ أَصْحابِ الرَّسُولِ، وبِخَطِّ «زَيْدِ بنِ ثابِتٍ» — رَضِيَ اللهُ عَنهُ — مُنْتَسَخٌ سَنةَ ثَمانِيَ عَشْرَةَ مِنْ وَفاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. وَيَنْقُصُ منهُ ورَقاتٌ كَثيرَةٌ، وَهُوَ بين دَفَّتيْ خَشَبٍ، مُجَلَّدٌ بِمغاليقَ من صُفْرٍ (نُحاسٍ)، كَبيرُ الوَرَقات واسعُها.
وبإِزاءِ الحرمِ الشَّريفِ دِيارٌ كَثيرةٌ، لهَا أَبوابٌ يُخرَجُ مِنها إِليهِ، وناهيكَ بِهذا الجِوارِ الكريمِ. وحوْلَ الحرمِ أَيضًا دِيارٌ كَثيرَةٌ تُطِيفُ بهِ، لها مَناظرُ وسطُوحٌ يُخْرَجُ منها إلى سطْحِ الحرمِ فَيبِيتُ أَهلُها فيهِ، ويُبَرِّدُونَ ماءَهم في أَعالِي شُرُفاته.
فَهمْ — من النظرِ إِلى البيتِ العتيق دائمًا — في عبادة مُتَّصِلَة، واللهُ يَهْنِئُهُمْ ما خصَّهُمْ بهِ منْ مُجاوَرةِ بَيتِهِ الحرامِ.
(٤١) مساحة المَسجد الحرام
وأَلْفَيْتُ بِخَطِّ الفَقِيهِ الزاهدِ الوَرِعِ «أَبي جَعْفَر القُرْطُبيِّ»: أَنَّ ذرْعَ المَسجدِ الحرامِ في الطُّولِ والعَرْضِ ما أَثبَتُّهُ أَوَّلًا، وطولَ مَسْجِدِ رسولِ اللهِ ﷺ ثَلاثُ مئة ذِراعٍ، وعرضَهُ مِائَتانِ، وعددَ سَوارِيهِ (أَعْمِدَتِهِ) ثَلاثُ مئة، ومَناراتِه ثلاثٌ.
فيكونُ تَكْسيرُهُ (مَقاييسُهُ) أَربعَةً وعشرينَ مَرْجِعًا من المَراجعِ المَغْربيِة، وهيَ خَمْسُونَ ذراعًا في مِثْلِها.
(٤٢) بيت المَقدس
وطولُ مسجِدِ بيْتِ المَقْدِسِ — أَعادهُ اللهُ للإِسْلامِ — سَبْعُ مئة وثَمانُونَ ذراعًا، وعرضُهُ أَرْبَعُ مئة وخمسون ذراعًا، وسَواريهِ أَربع مئة وأَربَعَ عشرَةَ ساريةً، وقَنادِيلُهُ خَمْسُ مئة، وأَبوابُهُ خمسونَ بابًا.
(٤٣) أَبواب الحَرَم
وللحرمِ تسعةَ عشرَ بابًا أَكْثَرُها مُفَتَّحٌ عَلَى أَبواب كَثيرةٍ.
منها: «بابُ الصَّفا» يُفْتَحُ عَلَى خَمْسَةِ أَبواب، وكان يسمَّى قديمًا ببابِ بني مَخْزُوم. و«بابُ الصفا» أَكبرُ الأَبوابِ، وهو الذي يُخْرَجُ عليهِ إِلى السَّعْيِ. وكلُّ وافِدٍ إِلى مَكَّةَ — شَرَّفَها اللهُ — يَدْخُلُها بِعُمْرةٍ، فَيُسْتَحَبُّ له الدخولُ عَلَى بابِ بني شَيْبَةَ، ثمَّ يطوفُ سَبْعًا، ويَخْرُجُ علَى بابِ الصَّفا، ويجعلُ طَريقَهُ بينَ الأُسْطُوانَتَيْنِ الَّلَتَيْنِ أَمرَ المَهْدِيُّ — رَحِمَهُ اللهُ — بإقامتهما عَلَمًا لِطَريقِ رسول اللهِ ﷺ إِلى الصَّفا.
وعن يسارِ الساعي إِلى المَرْوَةِ سارِيتانِ خضراوانِ، عَلَى كلِّ واحِدَةٍ منهما لَوْحٌ قد وُضِعَ عَلَى رَأْسِ السَّارِيَةِ كالتَّاجِ، أَلْفَيْتُ فيهِ منقوشًا بِرَسْمٍ مُذَهَّبٍ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ.
وبَعْدَها: «أَمَرَ بِعمارَةِ هذا المِيلِ (العمود) عبدُ اللهِ وخليفتهُ، أَبُو مُحَمَّدِ المُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللهِ، أَميرُ المُؤْمنينَ، أَعزَّ اللهُ نَصْرَهُ، في سنةِ ثلاثٍ وَسَبْعِين وَخَمْسِ مئة».
(٤٤) بين «الصَّفا» و«المَرْوَة»
وبينَ الصَّفا والمِيلِ الأَول ثلاثٌ وتِسْعُون خُطْوَةً، ومن المِيل إِلى المِيلَيْنِ خَمْسٌ وسبعونَ خُطْوةً، وهي مسافَةُ الرَّمَل (الهَرْوَلَةِ) جائِيًا وذاهِبًا منَ الميلِ إلى المِيلَيْنِ ثمَّ منَ المِيلَيْن إِلى الميلِ. ومنَ المِيلين إِلى المَرْوَة ثَلاثُ مئة وخَمْسٌ وعشْرُونَ خُطْوَةً، فَجَمِيعُ خُطا السَّاعي من الصَّفا إِلى المَرْوَةِ أَرْبعُ مئة خُطْوَةٍ وثلاثٌ وتسعونَ خُطْوَةً. وأَدْراجُ المَرْوَةِ خَمْسَةٌ، وهي بِقَوْسٍ واحدٍ كبير، وسَعَتُها سَعَةُ الصَّفا سَبْعَ عشرةَ خُطْوَةً.
(٤٥) سُوق التجار
وما بينَ الصَّفا والمرْوَةِ سُوقٌ حَفِيلَةٌ بجميعِ الفَواكِهِ وغيرها من الْحُبُوبِ وسائِرِ المَبِيعاتِ الطَّعامِيَّةِ. والسَّاعُونَ لا يَكادونَ يخْلُصُونَ من كَثْرَةِ الزِّحامِ. وحوانيتُ الباعَةِ يمينًا وشِمالًا. وما لِلْبَلْدَةِ سُوقٌ مُنْتَظِمَةٌ سِواها إِلاَّ العطَّارِين والْبَزَّازينَ (تُجَّارَ الثيابِ والأَسْلِحة)؛ فَهُمْ عند بابِ بني شَيْبَةَ تحتَ السُّوقِ المَذكورةِ، وبِمَقْرَبةٍ تكادُ تَتَّصِلُ بها.
(٤٦) جبل أَبي قبيس
وعَلَى الْحرمِ الشَّريفِ جَبلُ «أَبي قُبَيْسِ»، وهو في الجهةِ الشَّرْقِيَّةِ يُقابِلُ رُكْنَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ. وفي أَعْلاهُ رِباطٌ مُبارَكٌ، فيهِ مَسْجدٌ، وعليهِ سَطْحٌ مُشْرِفٌ عَلَى البَلْدَةِ الطَّيِّبَةِ. وَمنهُ يَظْهرُ حُسنُها وَحُسنُ الحرَمِ واتِّساعُهُ، وَجمالُ الكَعبةِ المقَدَّسَةِ القائمَةِ وَسَطَهُ. وَفيهِ قبْرُ آدمَ صلَواتُ اللهِ عليهِ، وهو أَحدُ أَخْشَبَيْ مكَّةَ (جَبلَيْها)، والأَخْشَبُ الثَّاني: الجبَلُ المُتَّصِلُ بقُعَيْقِعانَ في الْجِهةِ الغرْبيَّةِ.
صَعِدْنا إِلى جَبلِ «أَبي قُبَيْسِ». وَصَلِّينا في المَسْجِدِ المُبارَكِ وفيهِ موْضعُ مَوْقِفِ النبيِّ ﷺ عنْدَ انْشِقاق القَمر لهُ بقُدْرَةِ اللهِ. والفَضْلُ بيدِ اللهِ، يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ، حتى الجماداتِ من مَخْلوقاتهِ.
(٤٧) أَثر «الخليفة المهدي»
وأَلْفَيْتُ مَنقوشًا عَلَى سارِيَةٍ خارِجَ بابِ الصَّفا، تُقابِلُ السَّارِيةَ الواحِدَة من اللتَيْنِ أُقيمتَا عَلَمًا لطريقِ النبيِّ إِلى الصفا داخل الحرمِ: «أَمرَ عبدُ الله محمدٌ المهْدِيُّ أَميرُ المؤْمنينَ — أَصْلَحه الله تعالى — بتَوْسِعَةِ المَسْجِدِ الحرامِ مِمّا يلِى بابَ الصَّفا; لتكُونَ الكَعبةُ في وَسَطِ المَسْجِدِ، في سنةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ ومئة».
«أَمرَ عبدُ اللهِ محمدٌ المَهْدِيُّ أَميرُ المؤْمنينَ — أَصْلحهُ الله — بتَوْسِعةِ البابِ الأَوْسَطِ الذي بيْنَ هاتيْنِ الأُسْطُوانَتَيِنِ، وهوَ طريقُ رسولِ اللهِ ﷺ إِلى الصَّفا».
«أَمرَ عبدُ اللهِ محمدٌ المهْدِيُّ أَميرُ المُؤْمنينَ — أَصْلَحهُ اللهُ — بصَرْفِ الوادِي إِلى مَجْراهُ وتَوْسِعَتِهِ كما كان عَلَى عهدِ إِبراهيمَ ﷺ».
وبالرِّحابِ التي حوْلَ المَسجِدِ الحرامِ لحاجِّ بيْتِ اللهِ وعُمَّارِه، وتحتَها أَيضًا، مَنقوشٌ ما تحْتَ الأَوَّلِ من ذِكْرِ تَوْسِعةِ الباب الأَوْسَطِ.
(٤٨) وادِي «إِبراهِيمَ»
وهذا الوادِي هوَ المَنسوبُ لإِبراهيمَ ﷺ. ومَجْراهُ عَلَى بابِ الصَّفا. وكانَ السَّيْلُ قد خالفَ مَجْراهُ، فأَصْبَح يأْتِي عَلَى المَسيل بين الصفا والمَروَةِ ويدخلُ الحرمَ، فكان مُدَّةَ امتلائِه بالأَمطار يُطافُ حوْل الكَعبة سَبحًا.
فأَمر «المهْدِيُّ» — رَحِمَهُ اللهُ — برَفعِ موَضع في أَعْلَى البلدِ يُسمى رَأْسَ الرَّدْمِ. فمتَى جاءَ السَّيْلُ عرَّجَ عن ذلك الرَّدْمِ إلى مَجْراهُ، واستمرَّ عَلَى بابِ «إِبراهيمَ» إِلى المَوْضعِ الذي يُسَمى (المسْفَلَةَ)، وَيخرُجُ عن البلدِ وَلا يجري الماءُ فيهِ إلا عنْدَ نزُول المَطَرِ الكَثيرِ. وهوَ الوادِي الذي عَنَى «إِبراهيمُ» ﷺ بقَوْلِهِ، حيثُ حَكَى اللهُ تبارَك وتعالى عنهُ: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
فَسُبحانَ مَن أَبْقَى له الآيات البيِّنَات.