آثار مَكّة
(١) أَبوابُ مكةَ
«مَكَّةُ» هي بَلْدَةٌ قد وضعَها اللهُ — عزَّ وجَلَّ — بين جِبال مُحْدِقة بها، وهي بَطن وَادٍ مقدَّس، كبيرةٌ مستطيلةٌ، تَسعُ من الخلائق ما لا يحصيه إِلا الله.
ولها ثلاثةُ أَبواب:
أَولها باب «الْمَعْلَى»، ومنه يُخْرَجُ إِلى الجَبَّانة المُباركةِ، وهي بالموضعِ الذي يُعْرَف ﺑ«الحَجُونِ»، وعن يَسارِ المارِّ إِليها جبلٌ في أَعلاهُ ثَنِيَّةٌ عليها عَلَمٌ يُشْبهُ الْبُرْجَ، يُخْرَجُ منها إِلى طريقِ العُمْرةِ، وتِلك الثَّنِيَّةُ (الجبلُ) تسَمَّى «كَداءَ»، وهي التي عَنَى حَسَّانُ بنُ ثابتٍ — شاعرُ الرسول — بقولهِ في شعرهِ:
فقال النبيُّ ﷺ يومَ الفتحِ: «ادْخُلُوا من حيثُ قال حَسَّانٌ»، فدخلوا من تِلك الثَّنِيَّةِ.
وهذا الموضعُ — الذي يُعرفُ بالحَجُونِ — هو الذي عَناهُ «الحارثُ بنُ مُضَاض الجُرْهميُّ» بقوله:
(٢) مدافن «مَكَّةَ»
وبالجبانةِ المَذكورة مَدْفِنُ جماعةٍ من الصَّحابةِ والتابعينَ والأَولياءِ والصالحينَ، قد دُثِرَتْ مَشاهِدُهم المُباركةُ، وذهبتْ عن أَهل البلدِ أَسماؤُهم. وفيه المَوضعُ الذي صَلَب فيه «الحَجَّاجُ بنُ يوسَف» — جازاه اللهُ — جُثَّةَ «عبدِ اللهِ بن الزَّبَيْرِ».
(٣) مبايعةُ الجنِّ
وعن يمينِك — إِذا استقبلْتَ الجبانةَ المَذكورةَ — مسجدٌ في مَسِيلٍ بين جبلين، يُقالُ إِنَّه المَسجدُ الذي بايَعَتْ فيه الجِنُّ النبيَّ ﷺ. وعلى هذا البابِ طريقُ «الطائِفِ»، وطريقُ «العراقِ»، والصعودُ إلى «عرفات»، جَعلنا الله مِمَّن يَفوزُ بالموْقِفِ فيها. وهذا البابُ بين الشرقِ والشَّمالِ، وهو إِلى المَشْرُق أَمْيَلُ.
ثم بابُ (المَسفَلِ)، وهو إلى جهةِ الجنوبِ. وعليه طريقُ اليمن، ومنه كان دخولُ «خالدِ بنِ الوليدِ» رضيَ اللهُ عنهُ يومَ الفَتْحِ.
ثم بابُ (الزاهر)، ويُعْرَفُ أَيضًا ببابِ «العُمْرة»، وَهو غربيٌّ، وعليهِ طريقُ مدينةِ الرَّسولِ ﷺ، وطريقُ الشامِ، وطريقُ «جُدَّةَ»، ومنه يُتَوَجَّهُ إِلى التنْعيمِ، وهو أَقربُ ميقاتِ المُعْتَمِرينَ. يُخْرَجُ من الحرمِ إِليهِ عَلَى بابِ العُمْرَةِ، ولذلك أَيضًا يُسَمى هوَ بهذا الاسْم. والتَّنْعيمُ من البلْدَةِ عَلَى فَرْسَخٍ، وهو طريقٌ حَسَنٌ فَسِيحٌ، فيِهِ الآبارُ العذْبَةُ التي تُسَمَّى ﺑ«الشُّبَيْكَةِ».
وعنْدَما تخرُجُ من البلْدَةِ — بنحو مِيل — تَلْقى مَسجدًا بإِزائِه حجرٌ موْضوعٌ عَلَى الطريقِ كالمِصْطَبةِ، يَعْلوهُ حَجرٌ آخرُ مُسْنَدٌ، فيهِ نقْشٌ داثِرُ الرَّسْمِ، يقالُ إِنهُ المَوْضعُ الذي قَعدَ فيهِ النبيُّ مُسْتَرِيحًا عند مَجِيئهِ من العُمْرَةِ.
(٤) قبر «أَبي لهبٍ»
ثمَّ بعْدَ هذا المَوْضعِ بِمِقدارٍ يَسِيرٍ، تَلْقى عَلَى قارِعَةِ الطريق — من جهةِ اليسارِ للمُتَوَجِّهِ إِلى العُمْرَةِ — قبْريْنِ، قد عَلْتُهما أَكْوامٌ من الصَّخْرِ عِظامٌ، يُقالُ: إِنهما قبْرَا «أَبي لهَبٍ» وامرأَتهِ، لَعنَهُما اللهُ، فما زَالَ الناسُ في القديمِ — إِلى هلُمَّ جرًّا — يَتَّخِذونَ رَجْمَهُما بالحجارةِ سُنَّةً، حتى علاهُما من ذلك جَبلانِ عظيمانِ.
(٥) مرافق الطريق
ثم تسيرُ منها بمِقدار مِيل وتَلْقَى «الزاهرِ»، وهو مُبْتَنًى على جانِبَي الطريقِ يحتوِي عَلَى دارٍ وبساتينَ. والجميعُ مِلْكُ أَحدِ المَكِّيِّينَ. وقد أَحدثَ في المَكانِ مَطاهِرَ وسِقايَةً لِلمُعْتَمرِينَ. وَعلى جانبِ الطريقِ مِصْطَبَةٌ مُستطيلةٌ تُصَفُّ عليها كِيزانُ الماءِ وَمراكِنُ ممْلوءَةٌ للوُضوءِ، وهي القَصارِي الصِّغارُ. وفي المَوْضِعِ بئرٌ عَذْبَةٌ تُمْلأُ منها المَطاهِرُ المَذكورةُ، فيَجِدُ المُعتَمِرونَ فيها مِرْفَقًا كبيرًا للطَّهورِ والوُضوءِ والشُّرْبِ. فصاحِبُها على سبيل معمورةٍ بالأَجرِ والثَّوابِ. وكَثيرٌ من الناس المُتَأَجِّرينَ (طُلاَّبِ الأَجْرِ منَ اللهِ) مَنْ يُعينُه على ما هوَ بِسَبيلهِ. وقيل إِنَّ له في ذلك فائدةً كبيرةً.
(٦) قصة «إبراهيمَ»
وعن جانِبَي الطَّريقِ في هذا المَوْضعِ جبالٌ أَرْبَعَةٌ، جبلانِ من هُنا وجبلانِ من هُنا، عليها أَعلامٌ من الحجارة، وذُكِرَ لنا أَنها الْجِبالُ المُباركة التي جعلَ «إِبراهيمُ» — عليهِ السَّلامُ — عليها أَجزاءَ الطيرِ، ثم دعاهُنَّ حَسْبَما حَكى الله — عزَّ وجلَّ — سؤَالَهُ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي المَوْتَى.
وحوْلَ تلك الجبالِ الأَربعةِ جبالٌ غيرُها.
وعند إجازَتِك «الزاهِرَ» تمرُّ بالوادي المَعروفِ ﺑ«ذي طُوًى» الذي ذُكِرَ أَنَّ النبيِّ ﷺ نَزَلَ فيهِ عند دخولهِ «مكةَ»، وكان ابنُ «عُمَرَ بنِ الْخَطَّاب» يَغْتَسِلُ فيهِ، وحينئذ يدْخُلُها.
وحولَهُ آبارٌ تُعْرَفُ بالشُّبَيْكَةِ، وفيهِ مَسجدٌ يقالُ إِنَّهُ مسجدُ «إِبراهيمَ»، فتأَمَّلْ بركَة هذا الطريقِ، ومجموعَ الآياتِ التي فيهِ، والآثارَ المُقَدَّسَةَ التي اكْتَنَفَتْهُ (أَحاطَت بِهِ).
(٧) بين الحِلِّ والحَرَم
وتُجِيزُ الوادِيَ إِلى مَضِيق تَخْرُجُ منهُ إِلى الأَعْلام التي وُضِعَتْ حَجْزًا بين الحلِّ والْحَرَمِ، فما داخِلَها إِلى «مكة» حرمٌ، وما خارِجها حِلٌّ. وهي كالأَبْراجِ مصفوفةٌ، كِبارٌ وصِغارٌ، واحدٌ بإِزاءِ آخرَ، عَلَى مَقْرَبَةٍ منهُ، تأخُذُ من أَعْلَى الجبلِ الذي يَعْتَرِضُ عن يمينِ الطريقِ في التَّوَجُّهِ إِلى العُمْرةِ، وتَشُقُّ الطرِيقَ إِلى أَعلَى الجبَلِ عن يسارِه، ومنهُ مِيقاتُ المُعتَمِرينَ، وفيها مساجدُ مَبنِيَّةٌ بالحجارة يُصلِّي المُعتَمرونَ فيها ويُحْرِمونَ منها.
ومسجدُ «عائشةَ» — رضيَ الله عنها — خارجَ هذه الأَعلامِ بمقدارٍ يسيرٍ. وإِليهِ يصلُ المالِكيُّونَ، ومنه يُحرْمونَ.
وأَمَّا الشافِعيُّونَ فيُحْرِمونَ من المَساجدِ التي حوْلَ الأَعلامِ المَذكُورةِ. وأَمامَ مسجدِ «عائشةَ» — رضيَ اللهُ عنها — مَسجِدٌ يُنسَبُ ﻟ«عَلِيِّ بنِ أَبي طالب» رضِيَ اللهُ عنه.
(٨) أَصنامُ الجاهليةِ
ومن عجيبِ ما عَرَض علَينا ببابِ «بني شَيْبَةَ» — هذا — عتَباتٌ من الحجارَةِ العِظامِ، كأَنها مَصاطِبُ صُفَّت أَمام الأَبوابِ الثَّلاثةِ المَنْسوبةِ لبني «شَيْبةَ» ذُكر لنَا أَنها الأَصنامُ التي كَانت «قُريْشٌ» تعبُدُها في جاهِليَّتِها — وكَبيرُها «هُبَلُ» بينَها — قد كُبَّتْ (قُلبَتْ) عَلَى وُجوهِها، تطؤُها الأَقدامُ، وتَمتِنُها بأَنعِلتِها العوامُّ، ولم تُغْنِ عن أَنفُسِها — فضْلًا عن عابِديها — شَيئًا.
فسُبحانَ المُنفَرِدِ بالوَحدانيَّةِ، لا إِلهَ سِواهُ.
والصَّحيحُ في أَمرِ تلك الحجارة أَن النَّبيَّ أَمرَ يوْمَ فتْح «مكَّةَ» بكَسرِ الأَصنامِ وإِحراقِها.
أَمَّا ذلك الذي نُقلَ إِلينا فهو غيرُ صَحيحٍ. وإِنَّما تلك التي عَلَى الباب حجارةٌ مَنقولةٌ، وقد شَبَّهَها القَومُ بِالأَصنامِ لِعِظَمها.
(٩) جبَلُ حِراءَ
ومن جِبَالِ مكَّةَ المَشهورَةِ — بعدَ جبل «أَبي قُبَيس» «جبلُ حِراءَ» وهو في الشرقِ عَلَى مِقدار فرْسخٍ أَو نحوهِ، مُشرِفٌ عَلَى «مِنًى»، مُرتفِعٌ في الهواءِ، عَالِي القُنَّةِ (رَأْسِ الْجَبَل).
وقَدْ كَان النَّبيُّ كَثيرًا ما يزُورُ هذا الجَبلَ ويَتَعَبَّدُ فيهِ.
وأَولُ آية نَزَلَتْ من القُرآنِ عَلَى النبيِّ، نَزَلتْ في ذلك الجبل، وهو آخذٌ منَ الغربِ إِلى الشَّمالِ. ووراءَ طَرَفهِ الشَّماليِّ جبَّانةُ «الْحَجُونِ» التي تقدَّم ذكْرُها. وسورُ «مكةَ» إِنَّما كان من جهةِ «المَعْلَى»، وهو مَدخَلٌ إلى البلَدِ. ومن جهةِ «المَسْفل»، وهوَ مدخلٌ أَيضًا إِليه، ومن جهة بابِ العُمْرَةِ.
وسائرُ الجوانبِ جِبالٌ لا يُحْتَاجُ معها إِلى سُور.
وسُورُها اليومَ مُنْهدِمٌ، إِلا آثارُهُ الباقيةُ، وأَبوابهُ القائمةُ.
(١٠) مَشاهِدُ «مَكَّة»
«مكةُ» — شَرَّفَها اللهُ — كلُّها مشهدٌ كريمٌ، كفاها شرفًا ما خَصَّها الله به من مَثَابةِ (مَكانِ) بيتِه العظيمِ، وما سبق لها منْ دعوة الخليل «إِبراهيمَ»، وأَنَّها حَرمُ اللهِ وأَمْنُهُ، وكفاها أَنَّها مَنْشَأُ النبيِّ الذي آثَرَهُ اللهُ بالتَّشْريفِ والتكْرِيمِ، وابتعثَهُ بالآيات والذِّكرِ الحكيمِ، فهيَ مبدأُ نُزُولِ الوحْيِ والتنزيلِ، وَأَولُ مَهبِطِ الرُّوح الأَمِينِ «جبريلَ»، وكانتْ مَثابةَ أَنبياءِ اللهِ ورُسُلهِ الأَكْرَمِينَ، وهي أَيْضًا مَسْقِطُ رُءوسِ جماعة من الصَّحابةِ القرشِيِّينَ المُهاجِرِينَ الذين جعلهم اللهُ مصابيحَ الدِّينِ ونُجومًا للمُهْتدِين. فمِنْ مشاهِدها التي عايَناها «قُبَّةُ الوحي»، وهي في دار «خَديجة» أُمِّ المُؤْمنينَ رضيَ اللهُ عنها، وفيها كان زواجُ النبي بها. وقبةٌ صغيرةٌ أَيْضًا في الدارِ المَذكورةِ، فيها كان مَولدُ «فاطمَة الزَّهراءِ» رضيَ اللهُ عنها، وفيها أَيْضًا وَلَدَتْ سَيِّدَيْ شبابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: «الحَسَنَ» و«الحُسَيْنَ» رضيَ اللهُ عنهما، وهذه المَواضعُ المُقدَّسةُ مُغْلَقةٌ مَصونَةٌ قد بُنِيَتْ بِناءً يَليقُ بِمِثلها.
(١١) مولد النبيِّ
ومنْ مَشاهِدِها الكريمةِ أَيضًا مَوْلِدُ النبيِّ، والتُرْبَةُ الطَّاهِرَةُ التي هي أَوَّلُ تُرْبةٍ مسَّتْ جِسمَهُ الطَّاهِرَ. بُنِيَ عليهِ مسجدٌ لم يُرَ أَحْفَلُ بِناءً منهُ، أَكْثَرُهُ ذَهَبٌ مُنَزَّلٌ بهِ. والمَوْضِعُ المُقدَّسُ الذي سَقَطَ فيهِ ﷺ ساعَةَ الوِلادَةِ السَّعِيدَةِ المُبارَكةِ التي جعلَها اللهُ رحمةً للأُمَّةِ أَجْمَعِينَ، مَحْفُوفٌ بالفِضَّةِ.
فَيا لَها تُرْبَةً شَرَّفَها اللهُ بأَنْ جعلها مَسْقِطَ أَطْهَرِ الأَجْسامِ، ومولدَ خَيْرِ الأَنامِ.
يُفْتَحُ هذا المَوضعُ المُباركُ فيَدْخُلُهُ الناسُ كافَّةً مُتَبَرِّكِينَ بهِ، في شهرِ ربيعٍ الأَوَّل ويومِ الإثنينِ منهُ، لأَنَّهُ كانَ شهرَ مولد النبيِّ، وفِي ذلك الْيَوْمِ وُلِدَ.
وتُفْتَحُ المواضعُ المقدسةُ كلُّها. وهو يومٌ مشهودٌ بمكة دائمًا.
(١٢) دار الخيزُران
ومن مَشاهدِها أَيْضًا «دارُ الخَيْزُرانِ»، وهي الدارُ التي كان النبيُّ ﷺ يَعْبُدُ اللهَ فيها سِرًّا مع الطَّائفةِ الكريمةِ المُبادِرَةِ للإِسلامِ من أَصحابِه، رضي اللهُ عنهم، حتى نَشَرَ الله الإِسلامَ منها على يَدَي الفاروقِ «عُمَرَ بنِ الخطابِ».
(١٣) آثار دارسة
ومنها دارُ «أَبي بكر الصِّدِّيقِ» رضيَ اللهُ عنه، وهي اليومَ دارسةُ الأَثَرِ. وَثَمَّ (هُناكَ) قبةٌ بين «الصَّفا» و«المَرْوَةِ» تُنْسَبُ ﻟ«عُمَر بن الخطابِ» رضي اللهُ عنهُ، وفي وَسَطِها بئْرٌ. ويقالُ إِنَّهُ كان يَجْلِسُ في هذه القبةِ للحُكْمِ.
والصحيحُ أَنَّها قُبَّةُ سِبْطِه: «عُمَرَ بنِ عبد العزيزِ»، وهِيَ بإِزاءِ دارِه المَنسوبةِ إِليهِ، وفيها كان يجلسُ للحُكْمَ أَيَّامَ تَولِّيهِ «مَكَّةَ».
ويقالُ: إِنَّ البِئْرَ كانت في القديمِ فيها، ولا بئْرَ فيها الآنَ؛ لأَنَّا دَخَلْناها فأَلْفيْناها مُسَطَّحَةً، وهي حَفِيلَةُ الصَّنْعَةِ (الصَّنْعَةُ فِيها كثيرة جَيِّدة).
(١٤) ذِكْرَياتٌ نَبَويَّة
وبِجهةِ «المَسْفَلِ»، وهو آخرُ البَلَدِ، مسجدٌ منسوبٌ لأَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ — رضيَ الله عنهُ — يَحُفُّ بهِ بُسْتانٌ حَسَنٌ، فيه النَّخِيلُ والرُّمَّانُ وشَجَرُ العُنَّابِ، وعايَنَّا فيهِ شجر الْحِنَّاءِ.
وأَمامَ المَسجدِ بيتٌ صغيرٌ فيهِ مِحرابٌ، يقالُ إِنهُ كان مُخْتَبَأً له مِنَ المُشْرِكينَ الطَّالِبِينَ له.
وعَلَى مَقْرَبة من دار «خديجةَ» رضي الله عنها، وفي الزُّقاقِ الذي به الدارُ المُكَرَّمةُ، مِصْطَبَةٌ فيها مُتَّكَأٌ يَقْصِدُ الناسُ إِليها ويُصَلُّونَ فيها، لأَنَّ النبيَّ ﷺ كان يُطِيلُ القُعُودَ في مَوْضِعِها.
(١٥) جبل ثوْر
ومِنَ الجبالِ التي فيها أَثَرٌ كريمٌ، ومشهدٌ عظيمٌ، الجبلُ المَعرُوفُ بجبل ثَوْر. وهو في الجهةِ الْيَمَنِيَّةِ، من «مكةَ»، عَلَى مِقدار فَرْسَخٍ، أَوْ أَزْيَدَ. وفيه الغارُ الذي آوَى إِليهِ النبيُّ ﷺ مع صاحِبِهِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهُ، حَسْبَما ذَكَرَ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيزِ، وخصَّ اللهُ نَبِيَّهُ فيهِ بآياتٍ بَيِّناتٍ. فمنها أَنَّهُ — ﷺ — دَخَل مع صاحِبِهِ عَلَى شِقٍّ فيه ثُلُثا شِبْر، وطُولُهُ ذِراعٌ، فلمَّا أَطمأَنَّا فيه أَمَرَ الله العَنْكَبُوتَ فاتخذتْ عليه بَيْتًا، والْحَمامَ فَصَنَعَتْ عليه عُشًّا، وفَرَّخَتْ فيهِ.
فانْتَهى المُشْركُونَ إِليهِ بدليلِ قَصَّاصٍ للأَثَر. فَوَقَف لهم على الغارِ. وقال: «ههُنا انقَطَعَ الأَثَرُ، فإِمَّا صُعِدَ بصاحِبِكم من ههُنا إِلى السماءِ، أَوْ غِيضَ بِهِ في الأَرْضِ».
ورأَوُا العَنْكَبُوتَ ناسِجةً عَلَى فَمِ الغار، والْحَمامَ مُفَرِّخَةً فيهِ. فقالوا: «ما دَخَلَ هنا أَحَدٌ».
فأَخذوا في الاِنصراف.
وعَلَى مَقْرَبةٍ من هذا الغارِ — في الْجَبلِ بعَينِهِ — عمودٌ مُنْقَطِعٌ من الجبل، قد قامَ شِبْهَ الذِّراعِ المُرْتَفِعَةِ بمقدارِ نِصْفِ القامةِ، وانْبَسَطَ له في أَعْلاهُ شِبْهُ الكَفِّ، خارجًا عن الذِّراعِ كأَنَّهُ القُبَّةُ المَبْسُوطَة بقدرةِ اللهِ، يستَظِلُّ تحتَها نحوُ العشرين رجلًا، وتُسَمَّى: قبةَ «جبريلَ».